الفصل التاسع

كان لدَيها تقريبًا ما يكفي من العُشبة التي كانت قلِقة بشأنها. وبعد أن تردَّدت بعض الوقت وتمتمت في نفسها، قرَّرت أن تشرع بصناعة الدهان بقدْر ما لدَيها من مُكوِّناته، وأن تحضِر المزيد يوم غد. كانت مُهمةً فوضوية، وظلَّ ذهنها يشردُ بعيدًا عن الدقة اللازمة؛ وأوقعت كومةً من مقابض الفئوس وكانت لا تُطيق صبرًا أن تجمعها ثانية ومن ثمَّ أمضت عدة ساعات تتعثَّر فيها وتصدِم أصابعَ قدمِها فيها وتسبُّ بكلماتٍ تعلَّمتها من استماعها إلى السُّيَّاس، وكذلك من الصيادين، الذين اتَّسمَت مفرداتهم بأنها أكثر بهجة. وحدث في مرة أنها كانت تقفز في الأرجاء على قدَمٍ واحدة وتصيح بالنعوت حين تعثَّرت قدمُها الأخرى كذلك من تحتها بفعل انقضاضٍ خلفي غادرٍ من سريةٍ جديدة من الخشب المتدحرج، فسقطت وعضَّت لسانها. فهذَّبها هذا بما يكفي حتى إنها أنهت المهمةَ من دون حوادثَ أخرى.

حدَّقت إيرين في الفوضى الدهنية السيئة المنظر في الحوض المسطَّح قليلًا أمامها وفكَّرت في نفسها: «ماذا أفعل الآن؟ أُشعِل نارًا وأقفز فيها؟ إن المدافئ الوحيدة الكبيرة بما يكفي تُوجد في حُجَرٍ مطروقة بكثرة في القلعة. ربما ليست فكرة إشعال نار بالسيئة في نهاية المطاف؛ لكن سيتعيَّن عليَّ أن أكون بعيدةً بما يكفي حتى لا يأتيَ أحدهم بحثًا عن مصدر الدخان.»

في تلك الأثناء كان لديها من دهان كينيت ما يكفي لأن تدهن به كلتا يديها، فأوقدت نارًا صغيرة في منتصف أرضية السقيفة (من مقابض الفئوس المكسورة) ووضعت كلتا يديها، وهي ترتعش بعض الشيء، في قلبها؛ ولم يحدث شيء. وفي اليوم التالي ذهبت تجلِب المزيد من الأعشاب.

وقرَّرت في الحال أنه سيتعيَّن عليها أن تغادرَ المدينة لتُجرِّب أن تُوقد نارًا؛ وقرَّرت بنفس السرعة أن عليها أن تصطحب تالات. فكيشا ستكون أسوأ من مجرد إزعاج لها في مثل هذه الظروف؛ فعلى الأقل ستجد كيشا أن النار سببٌ كافٍ لأن تُقطِّع الزمام أو أن تكسِر عنقها في محاولة مذعورة منها لأن تفرَّ عائدة إلى المدينة.

لكن تيكا لم تحبِّذ هذه الخطة على الإطلاق. كانت تيكا على استعدادٍ لأن تتقبل فكرةَ أن إيرين فارسة ماهرة، وقد يُسمَح لها بأن تُغادر المدينة وحيدةً بضعَ ساعات على مُهرتها؛ لكن أن تذهب ليلًا برفقة ذلك الفحل الوحشي، لم تكن تيكا على استعداد للتفكير في مثل هذه الفكرة. في بادئ الأمر صرَّحت أن تالات كان بالِغ الضَّعف ولا يستطيع أن يذهبَ في رحلةٍ كهذه؛ وحين حاولت إيرين مُنزعجةً أن تُقنعها بعكس ذلك، غيَّرت تيكا حجَّتها وقالت إنه خطر عليها ولا يُمكن الثقة في قدرة إيرين على التحكُّم فيه. كانت إيرين على وشْك أن تنفجر باكيةً من الغضب، وبعد بضعة أسابيع (في تلك الأثناء كانت قد أعدَّت كميات كبيرة من دهان كينيت وكادت تحرق شعرها بالنار وهي تُحاول أن تختبِر فاعليته على أجزاء صغيرة وعديدة من جسدها)، تعيَّن على تيكا أن تُدرك أن أمر الرحلة كان أكثرَ من مجرَّد نزوة.

فقالت في الأخير كرهًا: «يُمكنكِ الذهاب إذا ما سمح والدكِ. فتالات لا يزال جواده، وله الحق في أن يُقرِّر ما سيكون عليه مُستقبله. أنا … أظن أنه سيكون فخورًا بما فعلتِ معه.»

عرفت إيرين كم تكلَّفت تيكا لتقول هذا، فتبدَّد غضبها وشعرت بالخِزي من نفسها.

«أما بشأن الرحلة نفسها … فأنا لا أُحبِّذها. فهي ليست رحلة ملائمة» — وهنا ارتسمت على زاويَتَي فم تيكا الحزين بسمة — «لكنك ستظلِّين غير اعتيادية، كما كانت أُمكِ، وكانت ترتحِل وحيدةً حسبما شاءت، ولم يُحاول أبوكِ قَطُّ أن يمنعها. أنتِ امرأة ناضجة، وقد اجتزتِ مرحلة الحاجة إلى مُربيةٍ لتُقوِّم خططك. فإن قال والدكِ إن بإمكانكِ الذهاب … لا بأس إذن.»

غادرت إيرين وشرعت تتدبَّر أفضلَ طريقةٍ تُفاتح بها والدها في الأمر. كانت قد عرفت أنه سيتعيَّن عليها أن تَطلُب إذنه في مرحلةٍ ما، لكنها أرادت أن تربح تيكا إلى جانبها أولًا، وكانت قد أساءت تقديرَ مدى الرُّعب الذي ستجده تيكا، التي تخاف من الخيول، في جواد حربٍ مثل تالات، حتى ولو كان جوادَ حربٍ عجوزًا وسهلَ المِراس ومُعادًا تأهيلُه. ولم يكن سلوك إيرين نفسِها تجاه تالات سلوكًا عقلانيًّا طَوال سنوات.

أخذت إيرين تُفكِّر طَوال أيامٍ بعد أن انسحبت تيكا من الصراع؛ لكنها لم تكن تفكِّر وحسب بشأنِ الطريقة التي تُفاتح بها والدها في الأمر، بل فكَّرت أيضًا بشأنِ ما كانت تنبري له تحديدًا. أن تختبِر خصائصَ اكتشافها في صدِّ النار. بهدف قتل التنانين. هل أرادت فعلًا أن تقتُل التنانين؟ أجل. ولماذا؟ لم تُحِر جوابًا لحظةً. ثم قالت في نفسها إن السبب هو أن تفعل شيئًا ما. أن تفعل شيئًا بطريقةٍ أفضل من أي أحدٍ آخر يفعله.

لحِقت بوالدها ذات يومٍ على الإفطار، بين الوزراء ومشاكلهم التكتيكية والمُستشارين ومشاكلهم الاستراتيجية. أشرق وجهُ والدِها حين رآها، وسجَّلت خجِلةً ملاحظةً في عقلها مُفادها أن تأتيَ إليه تَكرارًا؛ لم يكن والدها قَطُّ من الرجال الذين يستطيعون مشاركةَ الأطفال في ألعابهم، لكنَّها ربما تكون قد لاحظت من قبلُ كيف كان ينظر إليها بحزن. لكنها كانت الآن تُدرك، وربما للمرة الأولى، حقيقةَ ذلك الحزن، إنه الحرَج الذي يجده والدٌ مُحب لابنته لأنه لم يكن يعرف كيف يتحدَّث إليها، وليس لأنها مصدرُ خِزي له بسبب حالها أو بسببِ ما تستطيع وما لا تستطيع فعله.

ابتسمت له إيرين، وقدَّم لها هو كوبًا من المالاك، ودفع نحوها بصينية الكعك ومربى الساها. قالت إيرين من بين الفتات في فمها: «أبي، أتعرف أني كنتُ أمتطي تالات؟»

فنظر إليها بتمعُّن. كان هورنمار قد أبلَغه هذه المعلومة قبل بضعة أشهر، مُضيفًا أن تالات كان يزداد وهنًا وكان يُحتضَر قبل أن تتولَّاه إيرين. وكان أرلبيث قد تمنَّى أن تُبلِغه هي نفسها بالأمر؛ أما المخاوف التي راودت تيكا فلم تخطر بباله.

فأجابها: «أجل. وعاجلًا أو آجلًا كنتُ سأخمِّن أن ثمَّة أمرًا ما حين توقفتِ عن إلحاحكِ عليَّ بأن تتخلَّصي من كيشا وأن نجد لكِ جوادًا حقيقيًّا.»

بداعي التأدُّب تورَّد وجه إيرين خجلًا. وقالت: «لقد … مرَّ وقت طويل على ذلك. لم أكن أفكِّر بشأنِ ما كنتُ أفعله في بادئ الأمر.»

فابتسم أرلبيث. «أودُّ بالتأكيد أن أراكِ على صهوته.»

ابتلعت إيرين الطعام الذي كان في فمها. «تريد ذلك … حقًّا؟»

«أريد ذلك حقًّا.»

أضافت في تردُّد: «عما قريب؟»

فقال بنبرة جادة: «كما يحلو لكِ، أيتها الأميرة إيرين.»

فأومأت إيرين في صمت.

«غدًا إذن.»

أومأت ثانيةً، وأمسكت بكعكة أخرى ونظرت إليها.

حيث لم تُظهِر إيرين أيَّ إشارة على أنها ستكسِر الصمت، قال أرلبيث: «لقد خمَّنتُ أن ثمَّة غايةً ما من انضمامكِ إليَّ على الإفطار، غاية تتجاوز إخباركِ لي بشأن شيءٍ ظلَّ يحدُث طَوال سنوات من دون أن تُكدِّريني به. هل لتالات علاقةٌ أكبرَ بهذا، ربما؟»

رفعت عينَيها إليه مذهولة.

«نحن الملوك نكتسب قدرةً مُعينة على إدراك المواضيع المطروحة أمامنا. ما الأمر إذن؟»

«أرغب في أن أمتطيَ تالات إلى خارج المدينة. رحلة ليومٍ واحد … وسأبيت بالخارج. ثم سأعود في اليوم التالي.» كانت الآن تأسف لتناولها الكعكة؛ فقد جعلت فمَها جافًّا.

«آه. أوصيكِ أن تتَّجِهي شرقًا أو جنوبًا؛ يمكنكِ أن تتبعي نهر تسا، فسيُمدُّكِ بالماء كما سيمنع عنكِ أن تَضلِّي الطريق.»

«النهر؟ أجل. لقد فكَّرت … فكَّرت في هذا الأمر بالفعل.» كانت أصابعها تُفتِّت ما بقي من الكعكة إلى قِطَع صغيرة.

«أحسنتِ. أظنُّ أنك خطَّطت للذهاب عما قريب، أليس كذلك؟»

«أنا … بلى. تقصد أنك ستسمَح لي؟»

«أسمح لكِ؟ بالطبع. ثمَّة القليل من الأخطار التي يُمكن أن تُسبِّب لكِ الأذى في حدود مسيرة يومٍ من هنا.» ثم تصلَّبت ملامحه لحظةً عابرة. كان ثمَّة وقت — قبل فقدان التاج — كان يُستَلُّ فيه سيفٌ بدافع الغضب في حدود أميالٍ كثيرة من المدينة، وكان السيف يرتدُّ في الهواء فتلتوي يدُ صاحبه عنه ويسقط السيف على الأرض. «تالات سيعتني بكِ. لقد اعتنى بي عناية فائقة.»

«أجل. سيعتني بي.» ثم وقفت إيرين ونظرت إلى الفوضى في طبقها وحوله ونظرت إلى والدها. وقالت: «شكرًا لك.»

فابتسم لها. «سأراكِ غدًا. بعد الزوال.»

أومأت إليه برأسها وابتسمت ابتسامة اختلطت فيها المشاعر، ثم ولَّت. وأتى أحد الخدم ليرفع طبقها ويمسح الفتات.

•••

ذهبت إيرين إلى مَرعى تالات في ساعةٍ مبكِّرة من صباح اليوم التالي. ومشَّطته حتى آلمَتْها ذراعاها، واستمتع تالات بكل دقيقةٍ من ذلك؛ إذ كان يفضِّل أن يحظى بالاهتمام حتى على تناول الطعام.

ربما كان يجدُر بها أن تضع له لجامًا. كانت قد أصلحت القَطْع في زمام لجامِه القديم ليلة أمس، وقد أحضرته معها اليوم. لكنها حين عرضت أمامه الشيء — وهو الذي كان يلبَسه بحماسٍ قبل عامَين، علمًا منه بأن ذلك كان يعني أنه سيُمتَطى ثانيةً — نظر إليه ثم إليها في ارتباك واضح ومشاعرَ جريحة. احتملَ أن ترفع القضيب إلى فمه وتمرِّر الأربطة فوق أذنيه، لكنه وقف ورأسه يتدلَّى من الحزن.

فقالت إيرين: «لا بأس» ونزعت عنه الشيءَ مجددًا، وألقت به على الأرض والتقطت قطعة صغيرة من القماش المُبطَّن تبدو كالسَّرج ووضعتها على ظهره. لوى تالات رأسَه يَمنة ويَسرة وعضَّ على أهداب سترتها، ورمقها بعينِه ليرى إن كانت غاضبة حقًّا. وحين لم تبعِد وجهَه عنها اطمئنَّ وانتظر مُتأنِّيًا فيما أخذت تُعدِّل الصِدارة الملكية كما يروقها.

وأتى أرلبيث قبل أن تتوقَّع قدومَه. وكان تالات قد شعر بتوتُّرها بمجرد أن امتطت ظهره، لكنه رفع حالتها المعنوية فعدَّل مزاجها ثانية، وذلك بأن تصرَّف على سجيته، وكانا يتمايلان خببًا حول عدة أشجار قصيرة حين لاحظت أرلبيث يقف على الجانب الآخر من المجرى المائي الذي يمرُّ عبْر المرج. فخاضا الماءَ ثم توقَّفا، وحيَّاها أرلبيث تحيةَ الجندي لمليكته، فتورَّدت خجلًا.

وأومأ باتجاه رأس تالات العاري من اللجام. وقال: «لستُ واثقًا أن هذه ستكون فكرةً جيدة مع جواد آخر، لكن معه …» ثم أمسك عن الكلام وبدا أنه يُفكِّر، فحبست إيرين أنفاسها خشيةَ أن يسألها كيف بدأ الأمر؛ ذلك أنها لم تكن قد قرَّرت بعدُ ما تقوله له. ولم يقُل سوى: «يمكن أن يكون مفيدًا ألا يكون ثمَّة زمامٌ للتحكم؛ لكني لستُ واثقًا من أن أفضل جيادنا حتى يرقى إلى هذا المستوى من التدريب.» ثم وقعَتْ عينُه على قدَمَيها. «تلك طريقةٌ بارعة جدًّا لامتطاء الجياد، أن تَلفِّي ساقَيك حول بطنه، لكن الطعنة الأولى التي ستأتيكِ ستوقعك عن السَّرج فورًا.»

فأجابته إيرين بشجاعة: «معظم الوقت لسنا في معركة، ويمكن للمرء أن يصنع سَرجًا مخصصًا للحرب بِقَرَبوسَين مُرتفعَين.»

ضحِك أرلبيث وجزمت إيرين أنهما اجتازا الاختبار. «أرى أنه يروقه أسلوبكِ الجديد.»

ابتسمت إيرين. «التقِطِ اللجامَ وأرِه إيَّاه.»

وفعل أرلبيث، فأرخى تالات أُذنَيه للوراء وأشاح برأسه. لكن حين ألقاه أرلبيث من يده، لفَت تالات رأسَه ودسَّ أنفَه في صدر سيِّدِه القديم، فداعَبَه أرلبيث وتمتم بشيءٍ لم تسمعه إيرين.

•••

ولم يرُق تالات الدهانُ المُضاد للنار على الإطلاق. إذ أخذ يقفز ويحاول التسلُّل والانزلاق بعيدًا عن المُتناول، ويضطرب أنفه وينخُر، ويقبع قليلًا حين حاولت أن تدهنه به. قالت له في استياء: «رائحتُه كالأعشاب! وعلى الأرجح سيكون مُفيدًا لجِلدك؛ إنه تمامًا مثل الزيت الذي يضعه هورنمار عليك ليجعلك تبدو لامعًا.»

واستمرَّ تالات في التملُّص، فقالت إيرين من بين أسنانها المطبقة: «سأربطك إن لم تُحسن التصرُّف.» لكن بعد عدة أيامٍ من مُطاردته حول مرعاه خطوة بخطوة ومرة بمرة، أيقن تالات أن سيدتَهُ الجديدة جادة؛ وفي المرة التالية التي حملته فيها على الركض تجاه السور، عوضًا عن أن يُراوغها ثانيةً، وقف ثابتًا وترك مصيره يلحق به.

انطلقا في رحلة اليوم الواحد بعد أسبوعَين من اليوم الذي رآهما فيه أرلبيث يعملان معًا، وفي غضون ذلك الوقت، كان تالات قد سمح لإيرين أن تدهن دهانها الأصفر على جسده كلِّه، وكان مُمهِلًا لها في بعض الأحيان أكثرَ من غيرها. وقد علَّقت إيرين آمالها أن تكون الليلة دافئة؛ حيث إن اللفافة التي بدت أنها دِثار وكانت معلَّقة خلف سَرجها كانت في واقع الأمر قربةً أسطوانية من دهان كينيت.

انطلقا قبل أن يستحيل الفجر نهارًا، وحمَلَتْه إيرين على الإسراع باعتدال، حتى تتبقى لهما عدة ساعات من النهار حين ينصِبان مُخيَّمهما. وكان ثمَّة طريقٌ صغير بحذاء النهر، وكان واسعًا بما يكفي ليسَع حصانًا، لكنه أضيقُ من أن يسَع عربة، وسلكا هذا الطريق؛ إذ أرادت إيرين أن تكون قريبةً من كميةٍ كبيرة من الماء حين تُجري تجربتها؛ وتمثَّلت ميزة إضافية في أنها لن تَضلَّ طريقها.

نصبت إيرين مُخيَّمها بعد الظهيرة بمدةٍ قصيرة. وحلَّت الربطة التي بدت كالفراش وأزالت أولًا السترةَ والسروالَ المصنوعين من الجلد اللذين كانت قد صنعتهما لنفسها ونقعتهما في وعاء مسطَّح به الدهان الأصفر طَوال الأسبوعَين المُنصرمَين. كانت قد حاولت أمس أن تُضرم النار في بِزَّتها، لكن النار انطفأت من فورها حين لامست الكمَّ الدُّهني، مع أنها كانت نارًا قوية كنار الشعلة. ولم يكن ارتداء تلك البزَّةِ مُريحًا؛ إذ كانت زلِقةً كثيرًا وقذرة، وبينما كانت تربط شعرها وتَدسُّه في خوذة دهنية، فكَّرت في فزعٍ في مسألة الاغتسال من الدهان لاحقًا.

أوقدت نارًا كبيرة، ثمَّ لطَّخت وجهها بالكينيت، وأخيرًا ارتدت قفازها. ووقفت إلى جوار ألسنة اللهب التي كانت تستعر فوق رأسها الآن، وسمِعت قلبها ينبِض بسرعةٍ كبيرة. وتسلَّلت إلى داخل النار كسبَّاح نافر يدخُل إلى ماءٍ بارد؛ اليد أولًا ثم القدم. ثم أخذت شهيقًا عميقًا، وتمنَّت أن تكون أهدابها دُهنية بما يكفي، وخطت مباشرةً إلى داخل النار.

وأتى تالات إلى حافة النار وأخذ يصهل بقلق.

كانت النار دافئةً على نحوٍ لطيف؛ على نحو «سائغ». مسَّت النار وجهها ويديها برفق بهيج دون أن تُؤذيها؛ وزمزمت في أذنها؛ ولفلفت لهيبها حولها كذراعَي مُحبٍّ.

قفزت إيرين إلى خارج النار وشهقت.

ثم التفتت ثانية ونظرت إلى النار. أجل، كانت نارًا حقيقية؛ كانت تستعر في عدم اكتراث، وإن كانت قد بعثرتها بقدمَيها اللَّتَين كانت تلبَس فيهما حذاءً طويلَ الرقبة.

ودسَّ تالات أنفَه قلقًا في رقبتها. فقالت: «حان دورك. وكم يَخفى عليك.»

وكم خفي عليه بالفعل؛ فقد كان هذا الجزء هو أكثر ما يُقلقها. لم يكن تالات ليسيرَ إلى داخل نارٍ مُتَّقدة ويقف فيها حتى تُخبره أن يخرج. ولأغراض قتل التنانين في المستقبل وحيث إن التنانين كانت صغيرة الحجم نوعًا ما، كانت إيرين قد عرفت أن بإمكان تالات أن ينجوَ من نيران التنانين بحماية صدره وسيقانه وبطنه وحسب. لكنها تُفضِّل أن تعرف الآن — وأن تدَع تالات يعرف أيضًا — أن المادة الصفراء التي يعترِض عليها لها استخدام مهم.

ومدَّت يدها تتحسَّس أهدابها فاطمأنت لما وجدت أنها لا تزال موجودة. كان تالات ينفُث فيها من القلق — وأدركت وهي مشوَّشة أن رائحتها تبدو، بصورة غريبة، كرائحة الحريق — وحين أخذت في يدها مَسحةً من الكينيت نجح في مُراوغتها حتى إنها ظنَّت للحظةٍ مشئومة أنها قد تُضطر إلى العودة إلى الديار سيرًا. لكنه أخيرًا سمح لها أن تقترب منه، وبعد أن صار معظم نصفه الأمامي أصفرَ ولامعًا، سمح لها أن تقوده إلى النار.

ووقف بلا حَراك حين التقطت جزعًا مُشتعلًا وسارت به نحوه. ولم يزل واقفًا حين قرَّبت الغصن أمامه وسمحت لشيءٍ من اللهب أن يلمِس ركبته.

كان الكينيت يُجدي نفعًا مع الجياد أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤