خاتمة الجزأين الأول والثاني

وصف الجزء الأول مدى التعاون المُذهِل الذي يُمكن تحقيقه من خلال منظومة نشاط لا مركزي للإنتاج والتبادُل لا يهتمُّ فيها الأفراد بشيء إلا بما يَحدُث في الأسواق من بيع وشراء. جعَل التحليل الاقتصادي المُعاصر هذا الادِّعاء دقيقًا للغاية.1 على وجه التحديد، تُحقِّق الأسواق، التي تَفي بعددٍ من الشروط الأساسية، مبدأ «أمثلية باريتو»، الذي وفقًا له استُنْفِدَت جميع فُرَص جعل الأفراد أفضل حالًا دون الإضرار بالآخَرين. وأهم هذه الشروط هي:
  • وجود أعداد كبيرة من البائعين والمُشترين (بحيث لا يتمكَّن طرف واحد من التلاعُب بالسوق).

  • عدم وجود أوجه ترابُط مُتبادلة (تُعْرَف باسم «التأثيرات الخارجية») بين الأفراد إلا من خلال كونهم جميعًا مُشاركين في السوق؛ فتصرُّفات فردٍ لا تؤثر مباشَرةً على رفاهية آخر.

  • وجود معلومات كاملة مُتاحة لجميع الأطراف المعنية بخصوص جودة السِّلَع التي يتمُّ الاتِّجار فيها.

في الواقع، لا تُوجَد أسواق تَفي بدقة بجميع هذه الشروط؛ وإنما تُوجَد أسواق لا تُنتهك فيها الشروط انتهاكًا صارخًا على نحوٍ مبالَغ فيه ومن المُرجَّح أن يكون أداؤها فعَّالًا بدرجةٍ معقولة.2 أيضًا يُخبرنا التحليل الاقتصادي بالمواضِع التي يتعيَّن علينا البحث فيها عن علاماتٍ تُشير إلى احتمال فشل الأسواق في تنسيق النشاط بفعالية؛ كالحذر من الاحتكار، أو من تأثيرات خارجية مثل التلوث، أو من الظروف التي تَجعل بعض المشاركين يعرفون أكثر بكثيرٍ من غيرهم بشأن جودة السِّلَع المُتاجَر فيها (كما هي الحال في سوق السيارات المُستعمَلة). كما تَقترح النظرية طرقًا لبدء التعامُل مع هذه المشكلات؛ كمُحاوَلة تشجيع المزيد من المنافَسة حيثما أمكن، ومحاوَلة التأكُّد من أنَّ الملوِّثين يتحمَّلُون التكاليف الحقيقية للأضرار التي يتسبَّبُون فيها؛ ومحاولة التأكُّد من أن الباعة لديهم دافع لعدَم خداع المُشترين (من خلال فرض القوانين مثلًا).
في الآونة الأخيرة، قارَنَ واضعُو النظريات الاقتصادية مقارنةً منهجية بين مزايا الأسواق اللامركزية غير المثالية وبين مزايا الهياكل الإدارية المركزية (غير المثالية أيضًا) في التعامُل مع مختلف أنواع المهام. لذا، على سبيل المثال، حيثما تكون تكاليف فشل التنسيق عالية جدًّا، وتكاليف تبديد الموارد لتحقيق التنسيق مُنخفِضة نسبيًّا (كما في توجيه طائرة بأمان إلى وجهتها)، ربما تُشَكِّل الأسواق المُعرَّضة لتضارُب المعلومات مخاطر غير مقبولة نابعة من فشل النظام.3 تلك الاعتبارات تُفسِّر السببَ وراء اختيار الكثير من الدول الصناعية المُتقدِّمة تدخُّل الحكومة المركزية وتخطيطها في وقتِ الحرب؛ وهو اختيار لطالَما جعلها مُقيدة بهياكل بيروقراطية غير مُناسِبة للاستجابة لتحديات وقت السِّلم. كما بحث علماء الاقتصاد مخاطر العوَلَمة في عالمٍ تتطوَّر فيه أسواق مُشاركة المخاطر تطورًا لا يخلو من العيوب.4
ومع أن نظرية الأسواق التنافُسية والفعَّالة هي نظرية مثيرة للإعجاب، فإن بها ثغرتان رئيسيتان. الثغرة الأولى هي أن مبدأ أمثلية باريتو لا يَذكُر شيئًا عن المساواة؛ فإذا لم يكن بالإمكان تحسين أوضاع الفقراء دون الإضرار بالأغنياء، فإنَّ الأسواق التنافُسية لن تُساعدَهم في ذلك. في الواقع، يُشير تاريخ التنمية الاقتصادية الحديثة إلى أنه «يُمكن» أن يكون للفقراء والأغنياء مصلحة متبادَلة في التعامُل معًا،5 لكن من المُهم أن نتذكَّر أن الأسواق التنافُسية مَعنية باستِكشاف سبل تعزيز المصلحة المتبادَلة، وليس بإصلاح أوجه اختلال التوازُن بين السلطة والثروة القائمة مُسبقًا.

الثغرة الثانية هي أن النظرية لا تذكُر شيئًا عما يجعل الأفراد يقبلون أن يَثقُوا بأولئك الذين هم مُضطرُّون للتعامُل معهم. ومن المُسَلَّم به أنه حين يعقد الناس صفقاتٍ ويُحرِّرُون عقودًا بينهم وبين الآخرين، فإن هذه الصفقات ستُحترَم وهذه العقود ستُنفَّذ. تُعد حقيقة أنه يبدو أنَّ الأفراد في مجتمعات السوق العصرية يثقُون بالفعل بعضهم في بعض بدرجةٍ كافية، أغلب الوقت، على الأقل من أجل إنجاز أعمالٍ تجارية معًا، هي سبب مُهم وراء استطاعة هذه المجتمعات تحقيق إنجازات التعاون اللامركزي تلك. إلا أنها حقيقة تستلزم بدَورها تفسيرًا خاصًّا بها. لماذا نَعتقِد أنه يمكن عادةً الوثوق بالغرباء؟ كان هذا هو موضوع الجزء الثاني.

يُمثِّل الفصل بين الاهتمام بالأسُس النفسية والثقافية للحياة الاقتصادية والاهتمام بعواقب التفاعُل الاقتصادي سِمةً تتفرَّد بها الاقتصاديَّات المهنية أثناء النِّصف الثاني من القرن العشرين، وليست طابعًا أصيلًا للموضوع. ومن المعروف أنَّ آدم سميث كتب بالفعل عن كلٍّ من «نظرية المشاعر الأخلاقية» و«ثروة الأمم»،6 وتتمثَّل مهمة الاقتصاد في إعادة اكتشاف الروابط الوثيقة بين هذه الموضوعات، على حدِّ وصف كتاب لبيتر دوجيرتي.7 ركَّز الجزء الثاني من كتابنا هذا على مجموعةٍ فرعية من الأسئلة الكثيرة التي كانت موضعَ استجلاء الأعمال المكتوبة في هذا المجال، وتحديدًا، لماذا يرغب الناس في الثقة بالغرباء، وما الذي يحدُث حين تتزعزَع هذه الثقة. إنَّ الصعوبة التي يُواجهُها الناس للثقة في جودة السِّلَع التي يَعرضها شركاؤهم التجاريُّون هي موضوع عددٍ كبير من المطبوعات في المجال الذي صار معروفًا باسم «اقتصاديات المعلومات»،8 وحقيقة أن هذا قد يمنع بعض الأسواق من العمل بشكلٍ جيد، أو حتى من الوجود من الأساس، كانت موضوعَ مقالٍ شهير عن سوق السيارات المُستعمَلة (بعنوان «سوق الليمون») كتبه جورج أكرلوف.9 كانت وجهة نظر أكرلوف أنه حين يَبيع بعض التجار سلعًا ذات جودةٍ مُتدنية، سيُبالغ المُشترُون في حذَرِهم لدرجةٍ يَعجز معها حتى بائعو السِّلَع ذات الجودة العالية عن الحصول على سعرٍ معقول ما لم يتسنَّ لهم إيجاد طريقة ذات مصداقية للدلالة على جودة ما يَبيعُونه.
لقد كُتب الكثير عن التساؤل بشأن ما إذا كان من الممكن للناس أن يكونوا أكثر استعدادًا للوثوق بعضهم ببعض إذا كانوا يتعامَلُون بعضهم مع بعض على نحوٍ مُتكرِّر، بحيث يحدُث التعاون في الوقت الحالي على أمل تحفيز التعاون في المستقبَل. لقد خَلُصَت هذه المطبوعات إلى أنَّ ذلك التفاعل المُتكرِّر قد يُساعد بالفعل في بناء الثقة إذا كان مُتواترًا إلى حدٍّ معقول (أي، إذا ما كان المُستقبل مهمًّا بما يَكفي مقارنةً بالحاضر)، وإذا كان الأفراد قادرين على أن يُلاحظوا بدرجةٍ كافية من الموثوقية الكيفية التي تَصرَّف بها الآخرون، وإذا كانت تكلفة التخلِّي عن تعاون الآخرين باهظةً بما يَكفي مقارنةً بالمكاسب المُتحقِّقة من الغشِّ والخداع.10 ومن اللافت أن قدْرًا من التشكيك في شخصية الناس ودوافعهم يُمكن أن يُفيد بالفعل (في ظلِّ الظروف المناسبة). يَمتلك حتى الأشخاص معدومو الضمير دافعًا لحُسن التصرُّف إذا ما رغبوا في جعل الآخرين يُصدِّقُون أنهم في الواقع ليسوا مَعدومي الضمير في النهاية. بعبارة أخرى، لديهم الدافع «لبناء سُمعة»، حتى إذا كانت هذه السُّمعة مُختلَقة وليست مُتأصِّلة في شخصياتهم.11 وعلى النقيض من ذلك، لا يَمتلك أولئك المعروف عنهم قطعًا بأنهم غير جديرين بالثِّقة مثل هذا الدافع. نمتلك الآن فهمًا أوضح بشأن متى يُمكن للتنافُس على العملاء أن يُشجِّع سلوكًا جديرًا بالثقة من خلال الحاجة إلى اكتساب سُمعةٍ حسنة، ومتى يكون من المُحتمَل أن تنشأ حاجةٌ إلى تقنينٍ رسمي.12
لفت هذا البحث الأنظار إلى أهمية توقُّعات الآخَرين في تحفيز السلوكيات الجديرة بالثقة. باختصار، يُمكن لثقافات الثقة والتخوين أن تصيرَ ذاتيةَ التعزيز.13 لقد خضعت هذه الأفكار للاستِكشاف على المُستويَين النظري والتجريبي في السنوات الأخيرة، وحاولَت مطبوعاتٌ كثيرة عن «رأس المال الاجتماعي» أن تُفسِّر الأداء السياسي والاقتصادي لمُجتمَعات بأكملها من ناحية مثول ثقافات الثقة أو غيابها.14
أثبتَت الأدلَّة المأخوذة من الدراسات التحليلية للعمل وكذلك النتائج التجريبية أنَّ الدوافع البشرية تَختلف منهجيًّا عن الحسابات الصِّرفة للمصلحة الشخصية التي مثَّلت الفرضية العملية السائدة لأغلب الأبحاث في مجال الاقتصاد. أولًا: أبرزت التجارب التي أجراها إرنست فيهر وآخرون بكلِّ وضوحٍ أن التبادُلية قد تؤثر تأثيرًا قويًّا على السلوك حتى حين لا يتوقع الناس التعامُل بعضهم مع بعض في المُستقبل.15 ثانيًا: بَيَّن التحليل المُقارَن الدقيق لأُسَرٍ بها زوجة أب أو زوج أم وآباء بيولوجيون أن الناس يتصرَّفون على نحوٍ منهجي بطريقة أقل أنانيةً تجاه من تجمعُهم بهم روابط جينية وثيقة.16 تُحاول تلك النوعية من الأبحاث أن تتوخَّي الحرص في ضبط المُتغيِّرات الأخرى من أجل عزل تأثير دوافع الأفراد، إلا أن دراسات أخرى تفحص الطبيعة المتغيرة للسلوك بين المجتمَعات، والتي تؤدِّي فيها الدوافع الشخصية والتوقُّعات بشأن السلوكيات المُحتمَلة للآخرين أدوارًا يَصعُب تمييزها. ويبدو أن ثمَّة قدْرٍ كبير من التبايُن بين المجتمعات في مدى نجاحها في حث استعدادها للثِّقة في مصداقية الآخَرين.17 يُبرز هذا الطريقة التي يُمكن أن تتعامل بها المجتمعات مع طابع يَبرز من تفاعلات فردية لا حصر لها، دون أن يقصد أي فردٍ تلك النتيجة.18 ومن بين الكتب التي تستخدِم فكرة «الصورة الكبرى» هذه — بروز النظام — لفهم عملية التنمية الاقتصادية يأتي (بالتأكيد) كتاب آدم سميث «ثروة الأمم»؛ وكذلك أعمال حديثة العهد لكلٍّ من إريك بينهوكر، وويليام بيرنشتاين، ورونالد فيندلي، وكيفن أورورك.19

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤