الفصل العاشر

المدينة من أثينا القديمة إلى مانهاتن الحديثة

تميز المدن الكبرى

ما الذي يجعل المدن الكبرى هكذا؟ وتحديدًا، ما الذي يُعطي مدنًا معيَّنة في فترات مُعينة دفعةً إبداعية، وميزة ابتكارية، وقدرة على اجتذاب وتحفيز الأشخاص ذوي المواهب والأفكار؟ هنا، أيضًا، يُمثِّل الموقع الجغرافي والتوقيت الاعتبار الأهم؛ هكذا الأمر ببساطةٍ وغموضٍ في نفس الوقت. على الأرجح تُطرح أسئلة «لماذا هنا؟ لماذا الآن؟ لماذا ليس هناك؟ لماذا ليس في وقتٍ آخر؟» حول المدن أكثر مما تُطرَح حول أيِّ ظاهرة إنسانية أخرى. وبينما تَختلِف الإجابات التفصيلية، فثمَّة قاسم مشترك بين جميع الإجابات الأكثر إقناعًا. إذ تشير هذه الإجابات إلى سمة تتَّسم بها جميع المدن الكبرى تفوق المقاصد الخاصة بأي فردٍ داخلها، حتى أولئك الأكثر نفوذًا بها. أُعطيَت هذه السمة مُسمَّيات كثيرة؛ كالأجواء، والضجة، والشبكات، والفُرَص، والإيقاع. مهما كان ما قد يُحاول الناس التخطيط له في مدينةٍ ما (بداية من تخطيط شوارعها وحتى شبكة صرفها الصحي)، ليس بإمكان أحدٍ أن يأمُل واقعيًّا في التخطيط «لذلك». تضمُّ اللوحة الشهيرة المُسمَّاة «المدينة الفاضلة»، والمعروضة بالمعرض الوطني بإقليم ماركي في إيطاليا، أكثر الأبعاد، التي يُمكِن تخيُّلها، تناغمًا ولكن مع غيابٍ مُخيف للحياة.1 أشهر المدن المُخططة جيدًا في العالم — برازيليا، تشانديجارف، كانبرا، ميلتون كينيز — هي مرادف للجدارة وغياب الحيوية، وحتى مدينة سانت بطرسبرج فلم تكتسب سُمعة جذَّابة بعض الشيء إلا بمرور الزمن (وهو المنظور الوحيد الذي يُمكن أن تبدو من خلاله دسائس الأرستقراطيين الضَّجِرين خلَّاقة).2 كذلك أشار البحث الكمِّي الحديث إلى أن جانبًا مهمًّا من السبب في تفوق أوروبا على العالم العربي اقتصاديًّا في الألف سنة ما بين عامي ٨٠٠ و١٨٠٠ هو أنه كان لدى مُدنها حريةً أكبر في النمو بطرُقٍ عشوائية وغير مُخطط لها، وأقل خضوعًا لمطالب دولة مُتسلطة.3
حاول المؤرِّخ بيتر هول فهم القاسم المشترك بين العصور الذهبية لعددٍ من المدن؛ سواء كانت عصورًا ذهبية في الفن مثلما كانت مدينة أثينا تحت حكم بريكليس، أو فلورنسا في عصر النهضة، أو فيينا تحت حكم آل هابسبورج، أو عصور الابتكارات الصناعية الكبرى مثل مانشيستر أو جلاسكو في العصر الفيكتوري، أو لوس أنجلوس في فترة ما بعد الحرب. وما كتبه عن أثينا يَصْدُق على كثيرٍ من العصور الذهبية الأخرى:
حقَّقت أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد مكاسب هائلة من التوتُّرات الشخصية والاجتماعية التي أحدثتها لحظة فريدة من التطوُّر الاجتماعي؛ لحظة انتقال من مجتمع راكد، محافظ، أرستقراطي قائم على تملك الأراضي إلى مجتمع حضري قائم على التجارة مُنفتح على الموهبة. حلَّ المجتمع الجديد محلَّ المجتمع القديم؛ ولكن في الوقت نفسه وَرِث عنه الكثير من قيمه. ونجد ذلك النوع من المجتمع الانتقالي في لحظاتٍ مُعيَّنة أخرى من التاريخ الحضري، وفي جميع الحالات تقريبًا يكون على درجة عالية من الإبداع؛ إنه مجتمع لندن في العصر الإليزابيثي، ومجتمع باريس في القرن التاسع عشر، ومجتمع برلين في عصر جمهورية فايمار … ومع ذلك … لا يكون الإبداع مستقرًّا أبدًا في ظل ذلك النظام؛ فهو يحمل داخله بذور فنائه … يأتي التوتر بين مبدأ النظام ومبدأ الحرية بشيء رائع روعةً استثنائية، لكنه لا يدوم لأكثر من بضعة أعوام ذهبية، لأن التوتُّر سيُسفِر عن الانتصار، عادةً، وليس دائمًا، لقوى التغيير، وبحدوث ذلك سينضب ينبوع الإبداع.4
بتبسيطٍ أكبر، تتمثَّل العناصر المشتركة لمِثل هذا الإبداع في: (١) ثروة كافية تُعطي لأصحاب الأفكار الإبداعية أملًا في العثور على داعمين ماديين. (٢) عدد كبير من المهاجرين التوَّاقين لأن يتحدَّوا النظام القائم. (٣) عدد كبير بما يكفي من السكان ليحتوي على مقدارٍ كبير من المَوهبة، ولكن مع التركيز الكافي على نطاقها الجغرافي لإتاحة تكوين شبكاتٍ فعَّالة. تنطبق هذه العناصر على أثينا القديمة مثلما تنطبق على وادي السيليكون في يومنا هذا. ويُشدِّد هول مرارًا وتكرارًا على أهمية الشبكات التي تجمع أصحاب المواهب معًا، وتلفت انتباه المُمولين الداعمين إليهم (سواء كانوا تجَّار تُحَف فنية أو أصحاب رءوس أموال استثمارية)، ولكن في الوقت نفسه تُتيح لهم التحفيز الكافي من خلال التنوُّع، ومن خلال ما هو غير مُتوقَّع. يكتب هول، على سبيل المثال، عن باريس في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فيقول: «نظرًا لأن الفنانين كانوا مُتركِّزين جغرافيًّا في حي مونمارتر وحي مونبارناس، ونظرًا لأنهم كانوا يتبادلون بين هذين المركزين، ونظرًا لأنهم كانوا يُمضون الكثير من الوقت على المقاهي وفي الملاهي الليلية، ونظرًا لأنهم كانوا يعيشون ويعملون معًا على ضفاف النهر، كان هذا بجلاءٍ مجتمعًا متشابكًا تشابكًا كبيرًا.»5 ولكن كان من المهم بنفس القدر أن الرَّسَّامين لم يكونوا يقتصرون على الاختلاط برسامين مثلهم فقط؛ إذ إن حي مونمارتر «كان مُلتقى طليعة المدينة الريادية كلهم؛ حشد استثنائي من الفنانين والشعراء والكُتَّاب.»6 وحقيقة أن الشبكات تجعل الناس يختلطون معًا هي حقيقةٌ ذات أهمية بالِغة، ومن المُفارقات أن الشبكات الأكثر تعقيدًا قد لا تجعل الناس يختلطون بما يكفي. فالشبكات البدائية جدًّا وغير الفعَّالة تمنع أصحاب الأفكار من الاجتماع بعضهم ببعض؛ ولكن الشبكات التي يسهُل التنبؤ بها والتي تتَّسِم بالكفاءة تعني أن الأشخاص المُتشابهين يقضون الكثير من الوقت معًا، وربما تحظى القوانين الرسمية بالاحترام المُفرِط، ولا يُقْدِم أحدٌ على المفاجآت بدرجةٍ كافية. في نهاية الأمر، كانت أكثر الشبكات الاجتماعية فاعليةً في المجتمع الفرنسي في ذلك الوقت هي الأكاديميات والصالونات التي ثار الانطباعيُّون ومن جاءوا بعدهم على شكلياتها وقِلة إبداعها.
وحقيقة الأمر هي أنه يكاد يستحيل استهداف الإبداع مباشرةً. وكما يقول هول:
إن بعض النظريات الماركسية تُخطئ في أنها تَنسب درجة غير طبيعية تمامًا من المعرفة المُتأملة إلى الفنانين [من هذه الفترة]، وفي أنها تَنسب إليهم رغبة عميقة — بل وربما غير واعية — في تقويض أسُس النظام البرجوازي. في الواقع، لم يفعل الفنانون شيئًا كهذا؛ فقد كانوا يرسمون ما يَجدونه، ويُفسرونه من أجل حلِّ المشكلات ذات الطابع الفني البحت، المشكلات التي استحوذت عليهم. كانوا يَرسمون الناس، ويرسمون مجموعات من الأفراد معًا في المجتمع، ولكن كان هذا بسبب أنهم كانوا مُهتمِّين بلعبة تسليط الضوء عليهم، أو بمعضلات ترجمة أبعادهم الثلاثية على لوحةٍ قماشية مسطحة.7

ومثلما لا يستطيع أحد التخطيط لثورةٍ فنية، فلا أحد يُخطط أيضًا لشبكاتٍ تجعلها مُمكنة. وإنما هي نتيجة الانتماءات المختلفة التي تُحرِّك الأشخاص العاديين في اختياراتهم بخصوص أماكن العيش والعمل. ففي كل مرةٍ يَنتقِل أحدُهم، فإنه يُغير البيئة التي يتركها ويُضفي سمةً جديدة على البيئة التي ينضمُّ إليها، دون قصدٍ منه أو بالضرورة حتى دون وعي. لطالما كان الأشخاص الأكثر ابتكارًا أحرارًا، يسعون بلا كلَلٍ وراء الفُرَص عبر الزمان والمكان. قبل أكثر من قرنَين من الزمان، وصَفَ آدم سميث مَيل الفنانين والمُبتكِرين إلى البحث بعضهم عن بعض، وإلى الاحتشاد في البلدات والمدن. وعلى الرغم من أن التقارُب المكاني أجبرَهم على التنافُس، فإنه مكَّنهم أيضًا من التعلُّم بعضهم من بعض، والمكاسب التي حقَّقوها من التعلُّم تفوق عادةً الخسائر التي تكبَّدوها من المنافسة. ولكن في مجتمعٍ زراعي بالدرجة الأولى، كان يُوجَد حدٌّ طبيعي لعملية الاحتشاد هذه؛ لأن الجزء الأكبر من عمل الأفراد كان مربوطًا بالأرض، التي لا يُمكنها أن تنتقل. وحتى روَّاد الأعمال الذين لا يهدئون لا يُمكنهم التنقُّل بعيدًا عن الآخرين وعن أنشطتهم. ربما كان الحدَّادون في حاجةٍ إلى حدَّادين آخرين، ولكنهم كانوا في حاجةٍ أكثر إلى الخيول.

وعندما انتقل الناس بالفعل للعيش في المدن، تشكَّل حيزُهم المادي بأكمله بناءً على تجاذُبهم الاختياري بلا قيود، كما يصِف المؤرِّخ روبرت هيوز في سردِه عن مدينة برشلونة في العصور الوسطى:
كان العمل كلُّه يُنْجَز يدويًّا حتى نهاية القرن الثامن عشر، وكانت جميع الورش صغيرة. أحيانًا كانت تحتلُّ نصف الشارع. وعادةً ما كانت تتألَّف من رجُلٍ ماهر واحد، «صاحب الصنعة»، و«متدرِّب» أو اثنين يتعلَّمان منه. تكتَّلت هذه الحجرات الصغيرة. وخلق التعاطف الفطري بين عمَّال نفس المهنة «روح مدينة» برشلونة المُعقَّدة والمتينة، مثلما حدَث مع مدن أخرى في العصور الوسطى. فالمُتشابهون يجتمعون معًا؛ إذ يتعيَّن مشاركة الأدوات؛ وإذا كنتَ بحاجةٍ إلى شراء لوحٍ خشبي أو لفافة شرائط سريعًا، فمن المنطقي أن تكون بالقُرب من النجَّارين أو المُنجِّدين الآخرين. تعيَّن على الصبَّاغين الوجود بالقُرب من الماء الجاري، وكان صنَّاع الأحذية يميلون إلى تأسيس المتاجر بالقُرب من الدبَّاغين، والعكس صحيح. أراد الزبون التمتُّع بالقُدرة على مقارنة التسوُّق بين حِرفييِّن مُتعدِّدين في المكان نفسه، بدلًا من أن يطوف سائر أنحاء المدينة. وكان يُقال — وهذا القول فيه جزء من الحقيقة — إنه كان بوسع كفيفٍ أن يتلمَّس طريقه عبر الحي القُوطي عن طريق الرائحة والصوت، فيَعرف مكانه عن طريق صوت كشط المناشير أو قعقعة المطارق على شرائط صانع البراميل، أو الرائحة النتنة للجلد المدبوغ، أو رائحة القشِّ الطازج المُنبعثة من عُشب الإسبرتو في ورش صانعي الأحذية القماشية أو رائحة أدخنة الكير. كانت هذه الأصوات والروائح تقوم مقام لافتات الشوارع، وكان تَركُّز العمَّال المُتشابهين في الأماكن نفسها يُمكنهم أيضًا من الحفاظ على المنافسة.8

لم يشرع أحدٌ في مدينة برشلونة في العصور الوسطى في خلق «روح المدينة» هذه، وكذلك لم يشرع أحد في وضع نظام شاعري وحسِّي للافتات الشوارع؛ بل فعلوا أمورًا أخرى، لا سيما بهدف المحاولة وكسب لقمة العيش، وظهرت «روح المدينة» نتيجةً لقراراتهم غير المُنسَّقة. فكل شخصٍ أسَّس ورشة عمل غيَّر المشهد لدى الآخرين، أحيانًا إيجابيًّا، وأحيانًا أخرى سلبيًّا. وضع علماء الاقتصاد اسمًا للتأثيرات غير المقصودة عادةً التي يؤثر بها الأفراد بعضهم على بعض، والتي تُسفر عن بعض أكثر جوانب الحياة المعاصرة غموضًا، وإثارة، وإزعاجًا، في بعض الأحيان، في المجتمعات الجماهيرية. إنها تُسمَّى «التأثيرات الخارجية»، وهي ما تَغْفل عنه الرؤية الضيقة.

تتجاهَل الرؤية الضيقة بعض التأثيرات الخارجية لأننا لا نُوليها القدْر الكافي من الاهتمام، مع أنه في إمكاننا التنبُّؤ بها. فمن المتوقَّع بالتأكيد أن تُصاب حركة المرور بالشلل التام عند مداخل المدن الكبيرة أثناء ساعات الذروة صباحًا ومساءً. فكلُّ سائقٍ يعلم أنه يُعطل السيارات الموجودة خلفه؛ ولكنه لا يرى داعيًا لترك سيارته أمام بيته ليُفسح حارات الطريق بقدْر ضئيل لمنفعة الجميع. إنه يهتمُّ بالتعطيلات التي يُسببها الآخرون له، لكنه لا يهتم كفايةً بتلك التي يُلْحِقُها بالآخرين. ومن المؤكد تمامًا أنه لو كان لدى كلِّ مَصنع مُطلق الحرية في ضخِّ الدخان المُنبعث منه في الهواء، لصار جوُّ المدينة غير صالح للتنفُّس، لأنه لن يرغب صاحب مصنع في أن يُحجِم عن إطلاق الدخان من أجل صالح الآخرين فحسْب. إن التنبؤ بهذه التأثيرات الخارجية وتقييدها، باللين والإقناع أو بالإكراه أو بكليهما، هو المهمة اليومية للحياة السياسية. إنها مهمة تعتمِد (كما سنرى في فصول لاحقة) على جعل رؤية مؤسَّساتنا السياسية تستوعب ما تتجاهَلُه الرؤية الضيقة لكل مواطنٍ منفردًا.

ولكن ثمة أنواع أخرى من التأثيرات الخارجية المُهمَلة لأنه يصعب للغاية علينا التنبُّؤ بها، بسبب اعتمادها على خصوصيات الطريقة التي يتفاعَل بها الأفراد وقدرات اكتشافها بالصدفة والشرارة المتبادلة التي يُحدثونها فيما بينهم. يزخَر تاريخ التخطيط العمراني بأمثلةٍ على مدنٍ عملت بكدٍّ لمحو بعض أوضح مُسبِّبات المِحَن المادية؛ ولكن ثبت عجزُها عن التخفيف من حدة الملل والإجرام والعنف. أوضحت جاين جاكوبز في كتابها بعنوان «موت وحياة المدن الأمريكية الكبرى» أن أمورًا مثل الأمان المادي في الشوارع لم تكن نتيجةَ نظام الشرطة الرسمية بقدْر ما كانت نتيجةً ثانوية غير مقصودة «للفوضى الواضحة» لرصيف المشاة، الذي شبَّهته برقصة:

شارع هدسون [حيث يوجد منزلها بحيِّ جرينتش فليدج بنيويورك] على امتدادِه هو مشهد يومي لرقصةِ باليه متداخلة على رصيف المُشاة. أخرُج إلى الشارع لأول مرة بعد الساعة الثامنة صباحًا بقليلٍ حين أُخْرِجُ سلة القمامة، وهي بالتأكيد مُهمَّة مُملَّة؛ ولكنَّني أستمتع بنصيبي منها، أستمتِع بالضجيج الضئيل الذي أُحْدِثه، بينما تسير أفواج طلاب المدارس الثانوية في مُنتصَف الرصيف وهم يُلقون بأغلفة الحلوى على الأرض. (كيف يأكلون كل هذه الكمية الكبيرة من الحلوى في وقتٍ مُبكِّر جدًّا من الصباح؟)

وبينما أكنس هذه الأغلفة، أشاهد طقوس الصباح الأخرى؛ السيد هالبرت يفكُّ عربة الغسيل من سلاسلها ويدفعها نحو باب القبو، وصهر جو كورناكيا يرصُّ صناديق المعلَّبات الفارغة، والحلاق يُخْرِج الكراسي القابلة للطي على الرصيف أمام محله، والسيد جولدشتاين يرصُّ لفائف السلك التي تُعلن عن فتح أبواب متجر خردواته، وزوجة مُشرِف السكن تضع ابنها السمين ذا الثلاثة أعوام على دَرَجِ مدخل البناية ومعه لعبة آلَة المَنْدُولِين المُوسِيقِية، وهو موقع ممتاز يتعلَّم منه اللغة الإنجليزية التي لا تستطيع أمُّه تحدُّثها. الآن، يتَّجِه أطفال المرحلة الابتدائية، الذين يقصدون سانت لوك جنوبًا، ويتَّجِه الأطفال الذين يقصدون سانت فيرونيكا غربًا، والأطفال الذين يقصدون بي إس ٤١ شرقًا. يخرج من الأطراف فوجان جديدان؛ حيث يخرج من الأبواب والشوارع الجانبية نساءٌ ورجالٌ مُهندَمُون بل ومتأنِّقون يحملون حقائب. يقصد معُظم هؤلاء الحافلات ومحطات مترو الأنفاق، وبعضُهم يتلكَّأ عند حواف الأرصفة، ليُوقِف سيارة أُجرة ظهرت بأعجوبةٍ في اللحظة المناسبة، فسيارات الأجرة تُمثِّل جزءًا من طقوسٍ صباحية أوسع نطاقًا؛ إذ بعد أن أخذت ركَّابًا من وسط المدينة إلى وسط منطقة المال والأعمال، هي الآن تجلب سكان مركز المدينة إلى قلب المدينة. وفي الوقت نفسه، يظهر عدد من النساء بالملابس المنزلية وحين تلتقِي إحداهن بالأخرى يتوقَّفْن لبرهة لتبادُل أحاديث عابرة سريعة يتخلَّلها إما ضحكات أو صيحات سُخط مُشترَك، ولا شيء وسَط بينهما أبدًا فيما يبدو. لقد حان الوقت لأُسرع أنا نفسي إلى العمل أيضًا، فأتبادل طقوس الوداع مع السيد لوفارو، بائع الفاكهة قصير القامة، السمين، ذي المئزرة البيضاء والذي يقف أمام باب متجرِه عند نهاية الشارع تقريبًا، بذراعَين مَعقودتين، وقدمين راسختين، يبدو راسخًا كالأرض نفسها. يُومئ أحدنا للآخر برأسه، ويرمق كلانا الشارع ذهابًا وإيابًا في عجالة، ثم نعود لينظر كلٌّ منَّا إلى الآخر ونبتسم، لقد فعلنا هذا في صباح أيامٍ كثيرة على مدار أكثر من عشر سنوات، وكلانا يُدرِك ما يَعنيه هذا الأمر: كل شيء على ما يرام.9
على الرغم من أن عذوبة وصف جاكوبز قد توحي بالعكس، فإن سردها ليس إعادة صياغة لحياة قروية خيالية غُرسَت في سياق مدني، بما في ذلك النظير المدني المُعاصِر للحدَّاد والقس. كلا؛ فالمدن مختلفة عن القرى والبلدات الصغيرة؛ تحديدًا لأن الشوارع تَمتلئ بالغرباء. ولكن حتى وسط الغرباء يُمكن أن نجد الثقة، وحتى الأشخاص الذين يعرف بعضهم بعضًا بحاجةٍ إلى الثقة لتُساعدَهم على التعامُل مع الغرباء الكثيرين الذين يُحيطون بهم. وكما تذكرنا جاكوبز:
تكوَّنت الثقة في شوارع المدينة بمرور الوقت من الكثير والكثير من تعاملات الجمهور البسيطة فوق الأرصفة. إنها تنشأ من توقف الناس في الحانات لتناول الجعة، والحصول على نصيحةٍ من البقال وإسداء النصيحة إلى بائع الصحف، ومقارنة الآراء مع الزبائن الآخرين الواقفين في المَخبَز وإلقاء التحية على الصبيَّين اللذَين يَتناولان المشروب الغازي عند درَج مدخل البناية، وهما يُحدِّقان في الفتيات أثناء انتظارهما نداء تناول الغداء، وتحذير الأطفال، والمعرفة بوجود فُرصة عمل من رجل بيع الأجهزة والمعدات، واقتراض دولار من الصيدلاني، وإبداء الإعجاب بالمولود حديثًا وإظهار التعاطُف حين يَبهت لون المعطف. والعادات تتباين؛ ففي بعض الأحياء يتبادل الناس الآراء بشأن كلابهم؛ وفي أحياء أخرى يتبادلون الآراء بشأن أصحاب العقارات التي يَسكُنون فيها. وأغلبها تافِهٌ تمامًا ظاهريًّا؛ ولكن الحصيلة ليست تافهة على الإطلاق.10

الروائح الكريهة والنفايات

تزخر المدن بالمؤثرات الخارجية، وجميعها ليس مُحفزًا جدًّا على الإبداع، ولا شاعريًّا جدًّا، كما وصف روبرت هيوز لافتات الشوارع بأنها على هيئة أصوات وروائح. فمن وقتٍ لآخر، عصفت أوبئة مثل الكوليرا أو الطاعون بمدينة برشلونة في العصور الوسطى، كحال جميع المدن الكُبرى أثناء تلك الفترة. كانت مدينة فلورنسا في أروع صورها قد صمَدَت في القرن الخامس عشر أمام هجمةٍ من هجمات الطاعون أسفرَت عن انخفاض تعداد سكانها بما يربو على الثلث.11 لم يَقصِد أحد أن يُعديَ الآخرين بالجرثومة؛ بل لم يعرف أحدٌ ما الذي تسبَّب في هذه الأوبئة حتى وقتٍ مُتأخِّر من القرن التاسع عشر. إحدى أشهر الخرائط لمدينة لندن هي تلك التي رسمها الطبيب البشري دكتور جون سنو في فترة تفشِّي وباء الكوليرا عام ١٨٥٤، والذي لاحظ الطريقة التي تجمَّعت بها حالات الإصابة جغرافيًّا حول مضخَّة مياه مُعيَّنة في حي سوهو. قادت نتائجه السلطات إلى إغلاق مضخَّة المياه، وربما عجَّل بذلك بالقضاء على الوباء، رغم أن هذا لم يَحدُث إلا بعد وفاة أكثر من خمسمائة شخص.12

لطالما كان التخلُّص من مياه الصرف الصحي مُشكلةً تُواجه الإنسانية منذ بدء عصر الزراعة ونمَط الحياة المُستقرة قبل نحو عشرة آلاف سنة. كانت الحلول غير الوافية لتلك المشكلة تعني أن المدن الكبيرة صارت مُستنقَعاتٍ للأمراض، رغم أنها كانت أيضًا بوتقة الإبداع في مجتمعاتها. وفي أوائل القرن الثامن عشر، كان الأطفال الرُّضَّع في لندن يموتون أثناء عامهم الأول بنسبة تراوحت بين ٣٥ و٤٠ بالمائة؛ وهي نسبة أعلى كثيرًا من تلك الموجودة بالمناطق الريفية المُحيطة، كما أنها نسبة كانت ستكون غير مقبولة على الإطلاق لنا اليوم. وكان انبعاث الروائح الكريهة وانتشار القذارة بمثابة إحدى حقائق الحياة في المدن الكبيرة، ولم تُعتَبَر البيئة الحضرية النظيفة هدفًا يتطلَّع المواطنون إليه بصورةٍ واقعية إلا بعد حلول القرن التاسع عشر وظهور أول شبكة صرف صحي واسعة النطاق. ولفتَت مدينة أثينا القديمة الأنظار إلى التناقُض بين فخامة الأكروبول وقذارة شوارعها السَّكنية، إلا أن تلك القذارة ما كانت ستُصبح ملحوظة إلا لعينٍ عصرية جدًّا.

اقتبس خورخي لويس بورخيس، في مقاله بعنوان «الكاتب الأرجنتيني والعادات» مقولة لإدوارد جيبون مفادها أن «في كِتاب العرب الأعظم، القرآن، لا يُوجَد ذِكر للجِمال؛ وأعتقد أنه لو كان ثمَّة أي شكٍّ على الإطلاق في صحة القرآن، فإن عدم وجود ذِكر للجِمال سيكون كافيًا لإثبات أنه كتاب عربي. لقد كتبه محمد، ومحمد، باعتباره عربيًّا، لم يكن يعرف أن الجِمال كانت مُقتصِرة على العرب وحدَهم؛ فقد كانت تُمثِّل له جزءًا من الواقع، ولم يكن لديه أي سبب لإبرازها، في حين أن أوَّل شيء قد يفعله مُزَوِّر، أو سائح، أو منادٍ بالقومية العربية أنه سيذكر الجِمال.»13 وكما هو معلوم، كان بورخيس (وجيبون أيضًا) مخطئًا بشأن الجِمال، التي تواتَرَ ذكرها في القرآن. إلا أنه من النادر قطعًا عند قراءة أدب بلزاك أو ديكنز أو أي عمل لمؤرِّخ روائي معاصر آخر عن الحياة في المدن الكبيرة القذرة في الماضي أن تجد أيَّ إشارة إلى روائحها المُقزِّزة. هذا ليس لأن الرائحة لم تكن ذات أهمية لسكان المدن؛ فقد كانت موضوعًا ثريًّا للتعليقات والاهتمامات اليومية، بل والمُثير للدهشة أنه كان موضوعًا للبحث العلمي أيضًا (كما وصف كِتاب آلان كوربن بعنوان «الرائحة الكريهة والعطرة» على نحوٍ شاعري).14 ولكن عندما أراد الروائيُّون توسيع مدارك قُرَّائهم، كانوا يُركزون على نواحٍ من حياة المدينة لم يُلاحظها الناس أو على الأرجح لم يُقدِّروها؛ وليس على تلك النواحي التي يعرفها الجميع. ولكي نستشعر الرائحة النتنة لمدينة باريس في القرن الثامن عشر وتخترق أنوفنا، علينا أن نعود إلى عمل كاتب معاصر، ألا وهو باتريك زوسكيند:
في الفترة التي نتحدَّث عنها، خيمت على المدن رائحة نَتِنة لا يكاد يتصوَّرها أحد منَّا نحن رجال ونساء العصر الحديث. كانت رائحة البراز النتنة تنبعث من الشوارع، ورائحة البول البغيضة من الأفنية، ورائحة الخشب العطن وفضلات الفئران من آبار السلالم، ورائحة الكرنب الفاسد ودهن الخرفان من المطابخ، ورائحة الملاءات القذرة وحواشي الأسرَّة العطنة من غرف النوم، والرائحة النفَّاذة من المراحيض المُتنقِّلة. وكانت رائحة الكبريت تنبعث من المداخن، ورائحة المواد الكاوية القلوية من المدابغ، ورائحة الدماء المُتخثِّرة من المسالخ. وتَنبعِث من الناس رائحة العرق والملابس غير المغسولة؛ ومن أفواههم رائحة الأسنان المُسوَّسة، ومن بطونهم رائحة البصل، ومن أجسادهم، إن كانوا كبارًا في السن، كانت تنبعث رائحة الجبن العَفِن واللبن الحامض والأورام. وكانت تنبعث من الأنهار رائحة آسِنة، ومن الأسواق ومن الكنائس رائحة نتنة، وكانت رائحة الصنان تنبعث من أسفل الكباري وفي داخل القصور. كانت رائحة نتنة تنبعث من الفلاحين وكذلك القساوسة، ومن المتدرب على الحرفة في الورشة مثلما تنبعث من زوجة مُعلِّم الحرفة، وهي الرائحة ذاتها التي كانت تنبعث من الطبقة الأرستقراطية بأكملها، وحتى الملك نفسه كانت له رائحة نتنة مثل رائحة أسدٍ كريه الرائحة، وكان للملكة رائحة مثل رائحة عنزة عجوز، صيفًا وشتاءً. وذلك لأنه في القرن الثامن عشر، لم يكن يوجد أي شيء يعوق البكتيريا المُنشغلة بالتحلُّل، ومن ثَمَّ لم يكن ثمة أي نشاط بشري، سواء أكان بنَّاءً أم هدامًا، ولم يكن أي مظهر من مظاهر الحياة النامية أو المتداعية يخلو من رائحة نتنة. وبالطبع، كانت الرائحة النتنة أخبث ما تكون في مدينة باريس؛ ذلك لأن باريس كانت أكبر مدينة في فرنسا.15
والرائحة، مثل بعض أنواع الأمراض، تَنتقِل عبر الهواء وبذلك كانت تختصر المسافة بين الأغنياء والفقراء، وهي مسافة كانت أكبر بكثيرٍ مما هي عليه اليوم قياسًا بالمعايير التقليدية، كالدخل مثلًا. وحتى أواخر القرن الثامن عشر، كان أطفال الأغنياء عُرضة للإصابة بالأمراض مثل أطفال الفقراء تمامًا؛ لم تكن المؤثِّرات الخارجية تكترث بالثروة أو الطبقة الاجتماعية.16 أما في العالم المُعاصر، فالأثرياء أقلُّ عُرضة للإصابة بالأمراض مقارنة بالفقراء في كل مكان تقريبًا على سطح الأرض. والسبب في هذا التغير أنه يوجَد فهم أفضل لطبيعة انتقال الأمراض وفي أغلب المجتمعات تُوجَد رغبة سياسية أكبر لتنظيم حياة المدينة بحيث تأخذ هذا الفهم في الاعتبار. وبالاستعانة بهذه المعرفة، وجد الأثرياء سُبُلًا لإقصاء أنفسهم بعيدًا عن مُخلفات نمَط حياتهم، سواء كان هذا ينطوي على التخلُّص من النفايات أو الانتقال إلى الضواحي. وفي كل مدينة بالعالَم، يُصدِّر الأثرياء نفاياتهم وينقلونها بعيدًا إلى مسافةٍ آمنة بينما يظلُّ الفقراء مُحاطين بها. وكما أشار أحد الكتَّاب المُتخصِّصين في شئون البيئة، «في المدن الفقيرة ولا سيما أحيائها السكنية الفقيرة، تمسُّ المشكلات البيئية وترًا حساسًا على الصعيد الداخلي. وعادةً يُعتبر نقص إمدادات المياه للمنازل من ناحية رفاهية السكان أهم من تلوُّث مجاري المياه. وغالبًا ما يكون تلوث الهواء في المطبخ أسوأ بكثير من تلوثه في الخارج.»17

ومع ذلك ففي خضمِّ عملية تنظيف مدنهم، حَسَّن أثرياء العالم، بوجهٍ عام، بيئة الفقراء. ولقد فعلوا ذلك في أكثر الأحيان بدافع المصلحة الشخصية؛ إلا أن قيمة هذا الإنجاز لا تقلُّ بسبب ذلك. حتى في بعض أفقر مدن العالم، لدى حديثي الولادة فُرصة للبقاء على قيد الحياة بعد عامهم الأول أفضل ممَّا كانت عليه لأيِّ طفلٍ في أي مكان قبل قرنٍ مضى. كان معدَّل وَفَيات الرُّضَّع في إيطاليا قُبيل الحرب العالمية الثانية مرتفعًا بنفس قدْر ارتفاع المعدَّلات في أوغندا اليوم، رغم أن إيطاليا آنذاك كانت أكثر ثراءً، بكل المقاييس المتاحة، ممَّا وصلت إليه أوغندا حتى الآن. يرجع هذا التحسُّن العالَمي جزئيًّا إلى انتشار المعرفة بشأن ما يمكن أن يفعله الأفراد من إجراءات لمكافحة الأمراض؛ مثل غلْيِ الماء، واستخدام محلول معالجة الجفاف في حالات الإسهال، وما إلى ذلك. ومرجع ذلك جزئيًّا إلى حملات التطعيم والتوعية بالصحة العامة لمكافحة أمراض مثل الجدري والملاريا والسل، مع أننا بدأنا نُدرك أن انتصاراتنا السابقة المُذهلة على هذه الأمراض لن تكون دائمة. إذ تُطَوِّر الكائنات العضوية التي تنجو من عملية الانقراض التامِّ مناعةً ضدَّ الأدوية التي نَستخدِمها لمكافحتها. وسيَقتضي الأمر منَّا مواصَلةَ البحث عن المزيد من الأدوية المُتطوِّرة لمكافحة بكتيريا وفيروسات الطبيعة، في حرب عصابات تطوُّرية لا يَسعُنا سوى أن نأمُل كبحَها لا الانتصار فيها.

ومع ذلك، فإلى حدٍّ بعيد، يرجع سبب تحسُّن احتمالات بقاء الأطفال على قيد الحياة إلى مبادرات التخلُّص من النفايات في المدن ومعالجتها. لقد أدرك المَيسورون ماديًّا ومن لهم صِلة بذوي الشأن السياسي أن بيئتهم الحضرية لا يلزم أن تكون على نفس القدْر من القذارة والخطورة الذي كان مقبولًا عالميًّا في الماضي. لقد نسَّقُوا من أجل المطالبة بإنشاء شبكات صرفٍ صحي بحيث لم تَعُد الفضلات البشرية تُلقى مباشرةً في الأنهار. ووجدوا طرُقًا مختلفة للتخلُّص من النفايات المنزلية المعتادة، لا سيما الأغلفة والعلَب، العضوية وغير العضوية، التي تُغلف بها المواد الغذائية والاستهلاكية. وفي أيامنا هذه، تخضع المدن كلها على اختلاف مساحاتها لعملية تحوُّلٍ ليلية تبدأ في وقتٍ لا يتجاوز الساعات الأولى من الفجر، إلا أن الأساليب تختلف حول العالَم باختلاف المدن. وأينما يُوجَد نقص في الموارد أو التنظيم العام، كما في مدينة كالكتا، فإن التحوُّل يأتي على هيئة مبادَرات فردية من جامعي الخردة والسمكرية وجامعي الرَّوث وجامعي الورق والكلاب والأبقار والقائمين على إعادة تدوير أي شيءٍ وكل شيء، الذين يظهرون بمجرد أن يسمح لهم ضوء الشفق بتصنيف مُخلفات الأثرياء المُعربِدين من الليلة السابقة.

قد تظنُّ من هذا المثال أن التأثيرات الخارجية لأحدهم هي فرص للآخر، بحيث يمكن الاعتماد على الانتهازية اللامتناهية للرؤية الضيقة لشخصٍ ما لتوضيح ما تغفل عنه الرؤية الضيقة لشخصٍ آخر. ولكن كما تعلَّمنا من دروس التاريخ، كانت هذه الانتهازية ثمرة للبؤس؛ فوحدَه المجتمع الذي يتألَّف من الفقراء والمُهمَّشين للغاية هو الذي يمكن أن يُلقي بعبء عملية التخلُّص من النفايات بأكملها على عاتق المبادَرات الفردية. في مدينة لندن في العصر الفيكتوري، كان جامعُو براز الكلاب، الذي كان يُباع من أجل استخدامه في دبغ الجلود، مُجبورين بسبب المنافَسة المتزايدة على البحث في وقتٍ أبكر كلَّ صباح وبكدٍّ أكبر، حتى ينهار أضعفُهم وأكبرهم سنًّا ويخرج من المنافسة تمامًا. وفي كتابه الكلاسيكي، «العمل في لندن وفقراء لندن»، الذي نُشر عام ١٨٦١، ميَّزهم هنري مايهيو عن «جامعي العظام وجامعي الأسمال البالية الذين هم بالفعل نفس الأشخاص … وجامعي أعقاب السجائر والأخشاب القديمة … والجرَّافين ونابشي الوحل والباحثين في المجاري … والزبَّالين وغوَّاصي مجاري الصرف الصحي، وكنَّاسي الشوارع والنبَّاشين في القمامة.»18 وكما يوحي تصنيفه، كانت تُوجَد جوانب في تقسيم العمل ببريطانيا في العصر الفيكتوري أكثر تفصيلًا ممَّا هو عليه اليوم، وكان مايهيو هو مؤرِّخها المثالي (كان دقيقًا للغاية، فأفرَد عدة صفحاتٍ لمناقشة مزايا التقديرات المُتنافِسة قبل أن يستخلص أنه لا بدَّ وأن كمية روث الخيول المخلَّفة في لندن بأكملها كانت تتراوح بين سبعمائة طنٍّ وألف طن في اليوم الواحد). أجرى مايهيو مقابلة مع «سيدة عجوز فقيرة عبارة عن كومة من الخِرَق البالية والأوساخ المُمدَّدة على قشٍّ قذِر في رُكنٍ بشقَّتها.» وقال: «أدهشني أنني وجدتُ هذه المخلوقة البائسة، سيدة «راقية»، بدرجة مُعيَّنة؛ فقد كانت تجيد القراءة والكتابة، وتتحدَّث بطريقة صحيحة، وبدا أنها سيدة تتمتَّع بفطرةٍ سليمة، رغم أنها تحطَّمت بسبب العوَز والعجز والشيخوخة.» ووصفت له تجارب جمع «فضلات الكلاب» بلغةٍ تُظْهِر الفهم الدقيق جدًّا لقوانين العرْض والطلَب:
إذا جمعنا سطلًا واحدًا في اليوم، بوسعنا العَيش عيشةً جيدة للغاية؛ ولكن يُمكننا أن نفعل ما هو أكثر من ذلك؛ لأنه لم يكن يُوجَد كثيرون يعملون في المجال آنذاك، وكانت فضلات الكلاب أسهلَ في جمعها. من جانبي، لا يُمكنُني تخمين من أين أتى كل هؤلاء الناس في السنوات الأخيرة؛ يبدو أن العالم يزداد سوءًا أكثر فأكثر كل يوم. لقد خفضوا سعر فضلات الكلاب، هذا أكيد؛ ولكن يجِب على الفقراء أن يفعلوا شيئًا، فلا يُمكن أن يموتوا جوعًا في حين أن ثمَّة شيء يمكن القيام به. عجبًا، قبل أقلِّ من خمس أو سبع سنوات، كان سعر السطل الواحد ما بين ٣ شلنات و٦ بنسات و٤ شلنات، ويُمكن بيع أي كمية يُمكنك الحصول عليها؛ لكن الآن لا يمكنك الحصول إلا على شلن واحد وفي بعض الأماكن شلن واحد وبنسين للسطل الواحد، وكما قلتُ من قبل، يُوجَد عددٌ كبير جدًّا الآن يعمل في المجال، لدرجة أنه لا يتبقى الكثير لسيدة عجوز فقيرة مثلي لتعثُر عليه.19

لقد دفعَت المدن التي تعتمد على المبادرات الفردية وحدَها للتخلص من النفايات تكلفةً بشرية كبيرة.

العمل المدني والبيئة الحضرية

اليوم في المجتمعات الغنية، لحُسن الحظ، لا يُترَك كل شيء للمبادرات الفردية. فثمة عمل جماعي، عادةً تتولى الدولة تنظيمه، ولكن كثيرًا ما تستغلُّ المهاجرين الذين يَسعدون بالعمل. فنادرًا ما يلتقي زوَّار المعالم السياحية المُعاصرين في مدينة فلورنسا بفِرَق الكنَّاسين الصامتين — معظمهم من الإثيوبيِّين والصوماليين — الذين يُنظِّفُون ترَفَ النهضة من القاذورات التي تراكمت في شوارع المدينة بحلول الساعة الرابعة صباحًا. (لقد رأيتهم بنفسي حين بِتُّ ليلةً بلا فندق بسبب فشلٍ في تنظيم رحلة السفر). وفي مدينة مكسيكو سيتي، الأحياء السكنية مُقسَّمة بين جماعاتٍ خاصة، غالبًا من العصابات الإجرامية، تُدافع عن مناطقها بإصرارٍ شديد وأحيانًا عنيف، نظرًا لأنه وسط القمامة توجَد الكثير من الأشياء القيمة المُبعثرة، وكلٌّ منها على حدة يُعتبر شيئًا لا يستدعي الملاحظة ولكن حين تجتمع معًا تساوي ذهبًا. التخلُّص من النفايات يمكن أن يكون مشروعًا تجاريًّا مُربحًا. علَّق مايهيو نفسه على مدينة لندن في العصر الفيكتوري بقوله: «جُمِعت كميات من الوحل والتراب بأيدي عددٍ من الأفراد المُنفرِدين؛ أي أن كل فردٍ من الكنَّاسين والنباشين في القمامة كان يعمل لحسابه الخاص، ولا شكَّ أنه لم يكن بمقدور «رجل واحد» أن يجمع ثروةً بهذه الوسيلة، بينما إذا جُمِعَت العظام والأسمال وحتى روث الكلاب «على النطاق الواسع»، أي بواسطة عدد من الجامعين الأفراد الذين يعملون لصالح «رئيس» واحد، فحتى جمع أحقر النفايات من المدينة الكبيرة قد يصير مصدرًا لثروات عظيمة.»

إلا أنه أيضًا مشروع يزدهِر بادخار المتاعب للمستقبل. إحدى السمات المُميِّزة لتزايد الثراء أن الناس يُصَدِّرون ملوثاتهم إلى أماكن أبعد. المسافات التي يُمكن أن تُنقل إليها هذه الآثار محدودة بمساحة الأرض، لذا لن تعود سياسة تصدير المُلوِّثات، التي تتبعها البلدان المُتمتعة بالرخاء اليوم مُمكِنةَ التطبيق في عالم الغد الأكثر تمتُّعًا بالرخاء.

الحقيقة الحتمية هي أن نمط الحياة المريح الذي يطمح بحقٍّ إليه المواطنون المُعاصرون يُخلِّف النفايات. وثمة أمران فقط يُمكن فعلهما بالنفايات؛ الأول هو تحويلها إلى شيءٍ غير ضار، أو حتى نافع، كما يحدُث حين نطلُب من حلفائنا من البكتريا أن تُحلِّل برازنا إلى مركبَّات تزيد من خصوبة التربة، أو حين يُكرِّس نباشو القمامة طاقاتهم للعثور على تلك الأشياء المُهمَلة التي لها استخدامات بديلة. الحل الثاني هو إرسال هذه النفايات بعيدًا إلى مكان نأمُل أن نكون قادرين فيه على تجاهلها في المستقبل المنظور (يُطلِق علماء البيئة على هذه الأماكن «مصارف النفايات»). ولكن مع توسُّع استغلال البشرية لكوكب الأرض وموارده أثناء القرن الماضي، أدركْنا أن ثمة تراجُعٍ متزايد في عدد الأماكن التي من المُحتمَل أن نتجاهل فيها نفاياتنا بصورةٍ آمنة. وقبل خمسينيات القرن العشرين وانتشار الدخان الضبابي الكبير في الجزء الحضري من مدينة لندن وغيرها من المدن الصناعية الكبرى، كنَّا نتعامل مع الغلاف الجوي باعتباره مصرفًا للنفايات، وأسفر اكتشاف أنَّ الدخان الأسود لم يَبرح المدينة وإنما ظلَّ مُتشبِّثًا بسمائها عن ردِّ فعلٍ سياسي منهجي وناجح إلى حدٍّ كبير؛ إذ صار هواء لندن وباريس ونيويورك اليوم أنظف مما كان عليه قبل خمسين عامًا. لقد أدركنا منذ ذلك الحين أن مركَّبات ثاني أكسيد الكربون والكلوروفلوروكربون (الانبعاثات التي تُسبِّب الاحترار العالمي واستنزاف طبقة الأوزون) ليست أقلَّ سمية لأن تأثيرها أبطأ بكثير وأبعد نطاقًا. وأحيانًا تزيد جهودنا نحو إعادة التدوير من الضغط الواقع على غلافنا الجوي، باعتباره مصرَفًا للتخلُّص من النفايات، مثلما يحدُث حين نستخدِم الطاقة لإذابة القوارير الزجاجية، وبذلك نحافظ على الأفنية الخلفية لمنازلنا على حساب ضخِّ المزيد من ثاني أكسيد الكربون في الهواء.

وبديلًا لتنظيم الحياة الجماعية لجعل نفاياتنا أقلَّ خطورة (أما بإحلالها عُضويًّا أو بإزالتها إلى مسافة «آمنة»)، أظهر لنا التاريخ البشري حلًّا واحدًا فقط. يأتي هذا الحلُّ من عِلم الأحياء، وهو حلٌّ صعْب في هذا الصدد، ألا وهو تطوُّر المقاومة. مع احتشاد البشر بأعدادٍ غفيرة في القُرى والبلدات والمدن، فقط أولئك الذين حظوا بقدرٍ من المقاومة ضدَّ البيئة السامَّة هم من ظلوا على قيد الحياة وبلغوا مرحلة الخصوبة وأورثوا تلك المقاوَمة إلى الجيل التالي. في كتابه «الأسلحة والجراثيم والفولاذ»، سعى جارِد دايموند إلى تفسير إحدى أبرز سِمات اللقاء بين المُستوطنين الأوروبيين والأمريكيين الأصليين في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ فمع أنَّ الأوروبيين كانوا يتَّسمُون بالوحشية، كانت أعداد الأمريكيِّين الأصليِّين الذين قتلهم الأوروبيُّون أقلَّ بكثيرٍ من الأعداد التي تُوفِّيَت إثر الإصابة بأمراضٍ أوروبية لم يكن لديهم أي مناعة منها.20 وبدورهم واجهَ الأوروبيون بعض الأمراض الأمريكية الجديدة، إلا أنَّ أعدادًا أقل بكثيرٍ منهم توفيت نتيجة لها. ويرجع السبب، كما يُشير دايموند، إلى أن تربية الماشية كانت أكثر شيوعًا في الأوساط الزراعية بأوروبا، وهكذا اعتاد الأوروبيُّون منذ آلاف السنين على العيش وسط الماشية والأغنام والخنازير والخيول؛ ومن ثَمَّ التشارُك في جراثيمها (في حين لم يكن الأمريكيُّون الأصليُّون يفعلون ذلك). ولا بدَّ أن شيئًا مُشابهًا كان يَنطبِق على حالة الجراثيم التي تناقَلَها البشر فيما بينهم، وانتقلَت إليهم من الفئران. كانت حصيلة الوفيات المُروِّعة في مُدن القرون الوسطى جزءًا من عمليةٍ جعلت المواطنين الأوروبيِّين لآلاف السنوات حامِلين أقوياءَ الاحتمال للجراثيم التي ثبت فيما بعدُ أنها فتَّاكة بالأمريكيِّين الأصليِّين أكثر من أي سلاحٍ مقصود.
وكما أوضحت لنا أدلة دايموند بشأن الماشية، لا يَتناقل البشر التأثيرات الخارجية فيما بينهم في المدن وحدَها. حدثت بعض الأزمات البيئية العالَمية صنيعة الإنسان في مناطق ريفية على بُعدِ أميالٍ عديدة من المدن، مثل أزمة جفاف بحر آرال المذكورة في الفصل الثاني. لقد كتب عالِما الاقتصاد البيئي جاري ليبيكاب وزينب هانسن عن كارثةٍ أخرى من صُنع الإنسان، ألا وهي أزمة قصعة الغبار التي حدثت في ثلاثينيات القرن العشرين بمنطقة السهول الكبرى بأمريكا، والتي وصَفَها جون ستاينبيك في رواية «عناقيد الغضب» وصفًا نابضًا بالحياة: «في الصباح، خيَّم الغبار على الأجواء كضبابٍ يُحيط بالمكان، وكان قُرص الشمس شديد الحمرة كدماء يانعة سُفكَت لتوِّها. وطوال اليوم أخذت السماء تصبُّ الغبار صبًّا، وفي اليوم التالي استمرَّ يَنصب. بدا وكأن دثارًا مُسطَّحًا غطَّى الأرض. استقرَّ فوق الذرة، وتراكم فوق رءوس أعمدة السياج، وتراكَم فوق الأسلاك؛ واستقرَّ فوق الأسطح، وغطَّى الأعشاب والأشجار.»21 لقد بيَّن ليبيكاب وهانسن أن الأزمة ظهرت نتيجةً لتقسيم الأراضي في السهول إلى قِطَع صغيرة جدًّا غير مُجدية من الناحية الاقتصادية. كانت النتيجة أن المزارعين استعانُوا بمُمارَساتٍ زراعية مُفرطة أسهمَت في حدوث تعريةٍ شديدة بسبب الرياح، وتسبَّبت في بوار الأرض، وعجزت عن إضفاء تنوُّعٍ على المراعي. كانت أكثر من مائتي ألف مزرعة في منطقة السهول الكبرى قد فعَلَت ما بوسعها للبقاء لكن دون جدوى. لم يرغب أيٌّ منها في الإسهام في تآكُل التربة، ولم يكن بوسع أيٍّ منها بمُفردها إيقاف حرْثِ الأعشاب الأصلية وتقليص حجم جزيئات التربة جراء الحرث المُفرِط الذي جعل الأرض ضعيفةً أمام الرياح بمجرد أن بدأت فترة الجفاف في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين. إلا أن النتيجة كانت مُروِّعة: «بدأت عاصفة غبار في مايو ١٩٣٤ بولاية مونتانا وانتشرت جنوبًا، حاملةً حوالي ٣٥٠ مليون طن من التربة باتجاه الساحل الشرقي. وخلال عاصفةٍ هبَّت في ٧ فبراير ١٩٣٧، هبط ٣٤٫٢ طنًّا من التربة على كلِّ ميلٍ مربع في مدينة أميس بولاية آيوا، و١٤٫٩ طنًّا في مدينة ماركيت ولاية ميشيجان، و١٠ أطنان عبر القارة في ولاية نيوهامشير. [قُدر] أن في عام ١٩٣٥ وحده جُرف ٨٥٠ مليون طن من سطح التربة بعيدًا من ٤٫٣ مليون فدان في السهول الجنوبية.» قاوَمَ الساسة المحليون الأمر الوحيد الذي كان من شأنه أن يُساعِد في هذا المقام، ألا وهو دمج المزارع في كياناتٍ أكبر يُمكن أن تكون قادرةً على استخدام ممارساتٍ بيئية أسلم، وكان هذا بدافع تعلُّقٍ عاطفي مشترك بفكرة مزرعة الأسرة الصغيرة والخوف من احتمال فقد أصوات الناخبين. وحين حدث هذا الدمج في النهاية، مرَّت بالسهول فترات جفاف مُتعاقبة في خمسينيات وسبعينيات القرن العشرين، دون حدوث أي عواقب بيئية كارثية مماثلة لما حدَثَ من قَبل.

وأوضحت لنا هذه الحوادث، ومنها ظهور الأوبئة البَشِعة بأوروبا في العصور الوسطى، ما يحدُث حين تَفشل مؤسَّساتنا السياسية في مواجهة التحديات السامَّة الناشئة عن نمَط حياة متزايد الثراء. ترى وجهة نظر أن تاريخنا مُشجِّع؛ لأن تلك المؤسَّسات السياسية قد تمكَّنت أخيرًا من التعامُل مع كلِّ تحدٍّ من التحديات البيئية الجديدة؛ فالتراجع المُستمر لمعدَّل وفَيات الرُّضَّع في مختلف أنحاء العالَم هو ردٌّ مُقنع على المتشائمين الذين يعتقدون أنه لا يُوجَد على الإطلاق أي تقدُّم مُحرَز على مرِّ التاريخ. حتى مدينة أثينا القديمة، بمنازلها الضيقة وشوارعها الكريهة الرائحة، استطاعت أن تُقدِّم لسكانها (الذكور، البالغين، الأحرار) إلهامَ صرح الأكروبول، الذي شُيِّد بعملٍ سياسيٍّ مُتضافِر وبتكلفة باهظة. في أواخر القرن التاسع عشر، استطاعت مدنٌ مثل لندن وباريس وبرلين بانتظامٍ بناء الأنفاق ومجاري الصرْف الصحي وشبكات المياه التي أتاحَت لقِطاعٍ سكاني، أكبر من أيٍّ وقتٍ مضى، العيشَ معًا دون الاختناق من نفاياته.

وترى وجهة نظرٍ أخرى أن تاريخنا يزخَر بالتحذيرات؛ فلَطالما استجابت مؤسَّساتنا السياسية بتراخٍ، وتحت ضغط الكوارث الرهيبة، وفي ظلِّ انحيازٍ إلى التهديدات العاجلة والجلية والمُؤثِّرة تأثيرًا عميقًا. ونظرًا لأن الأثرياء وذوي النفوذ السياسي أصبحوا أكثر درايةً وتنظيمًا، تحسَّن تدريجيًّا احتواء هذه التهديدات. رُوِّضَت التأثيرات الخارجية المتوقعة تدريجيًّا. إلا أن ثمة تهديدات لم يحِن وقتها بعد، فهي غير مرئية ولا يمكن التنبؤ بها ولا تزال بعيدةً وباقية دون معالجة. وربما يخلق قطاع سكاني عالمي، أكبر وأكثر ثراءً وأكثر ابتكارًا من الناحية الصناعية، هذه التهديدات على نحوٍ أسرع مما ستُتيحه الرؤية الضيقة للأفراد للتصدي لها.

إدارة المدن

كتب رايموند تشاندلر ذات مرة عن قوة المنظمات الإجرامية ونفوذها الواسع النطاق مُعلقًا إنه في العالم المعاصر «تستطيع العصابات أن تحكُم أممًا بل ومدنًا تقريبًا.»22 ملاحظته هي إقرار بأنه حتى أصحاب النفوذ الكبير ظاهريًّا، المُستقَى من قُدرتهم على إيقاع الأذى بلا رادع، يستحيل عليهم تنظيم المدن بتعقيداتها الهائلة على النحو الذي يُرضيهم. يتفاعل سكَّان المدن فيما بينهم بطرُقٍ لم يتوقَّعها أحد، بل ولم يتوقَّعوها هم أنفسهم. لطالَما كانت السلطات المُتحفِّظة — الطبقات الأرستقراطية والكنائس والنقابات العمالية — قلقةً من المدن، معتبرةً إيَّاها أماكن فاسدة ليس فقط لأن الفاسدين يختارون العيش فيها، وإنما أيضًا لأن سلوك الناس يتغيَّر حين يأتون إلى المدينة. في المدينة، يُجرِّب الأفراد ويخترعون؛ ويُعيدون تشكيل كلِّ شيءٍ بدايةً من أيديولوجياتهم السياسية، وعلاقاتهم بشركاء حياتهم، وهوياتهم الجنسية والموسيقى التي تُؤثِّر فيهم، وصولًا إلى العمليات الصناعية التي يعملون بها. لقد أعرب آخرون عن إعجابهم بالمدن لهذا السبب عينه، ويرى كُتَّاب مثل بلزاك أن فساد المدينة واستخفافها بالأعراف — السهولة التي يستطيع بها الناس تغيير جلودهم — هي نفسها السِّمات التي تَهَبُها الطاقة والحياة.

لو أن العالَم بأكمله أصبح مدينةً شاسعة، لصار تاريخ المدن القائمة مَدعاةً لتفاؤلٍ عظيم بمستقبل البشرية. غالبًا ما اتَّسمت المدن بالعنف وانتشار الأوبئة والتلوُّث والقُبح المادي؛ إلا أنها كانت شاهدةً كذلك على بعضٍ من أروع قدرات الإبداع البشري، ليس فقط على مستوى الاختراعات التكنولوجية وإنما أيضًا على مستوى التنظيم السياسي والاجتماعي. وعلى عكسِ بعضِ الدول القومية وبعض الحضارات، لم تُدمِّر المدن نفسها. ولكن يرجع إلى أن لدى المدن صِمام أمانٍ متمثِّلًا في البيئة الطبيعية المُحيطة بها. فلقد استطاعت المدن أن تعيش على حساب الموارد الخاصة بمناطقها النائية — طعامها ومائها وطاقتها — وتُصدِّر بدورها لها نفاياتها. ولكن على الرغم من كل هذا الحديث الدائر عن أن تكنولوجيا المعلومات جمعت البشرية كلها وجهًا لوجهٍ في حيٍّ واحدٍ شاسع، فإنَّ العالَم ككلٍّ ليس مدينة، لسببٍ بسيط هو أنه لا يملك منطقةً نائية. ويتعيَّن عليه أن يبحث عن موارده، ويتعيَّن عليه أن يتخلَّص من نفاياته. ولكي يفعل ذلك، عليه أن يبدأ فيتحمَّل مسئولية كِلا الأمرَين على النحو الواجب. وخلال أغلب فترات التاريخ الإنساني، بخَسَت المدن قيمة الموارد التي استخدمتها واستهانت بتكلفة النفايات التي خلَّفَتها. استفادت المدن من الرؤية الضيقة أكثر بكثيرٍ ممَّا تأذَّت منها. لذا، يُلقي الفصل الحادي عشر نظرةً على أحد هذه الموارد ويَستكشِف ما المقصود بتحمُّل مسئولية استخدامه على النحو الواجب. هذا المورد هو مورد يعتقِد الكثيرون في المجتمعات الحضرية الثرية أنه مجَّاني. إنه الماء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤