الفصل الثاني عشر

هل كل شيء خاضع للتسعير؟

الأسعار باعتبارها أدوات تنسيق

يجلس متداوِلُو الأسهم في مختلف أنحاء العالم أمام شاشات أجهزة الكمبيوتر ليستعرضوا عشرات، وأحيانًا مئات، الأرقام في آنٍ واحد. هذه الأرقام هي أسعار، وهي تُمثِّل المبالغ المالية التي من خلالها يكون المتداوِلُون الآخرون (المعروفون باسم «صانعي السوق») على استعدادٍ لتبادُلِ ما يُمثل حرفيًّا حصصهم في السيطرة على الشركات؛ أي حقوق المشاركة مع الآخرين في تحديد الكيفية التي يَنبغي أن تُدار بها هذه الشركات، وبالطبع تَقاضي جزءٍ من الأرباح الناتجة عن القيام بذلك. أحيانًا لا شيء يحدُث لوقتٍ طويل؛ فنادرًا ما تتغيَّر الأرقام، وتبقى ملامح الوجوه أمام شاشات أجهزة الكمبيوتر في حالةٍ من الوجوم. وأحيانًا تنتشر الأخبار عبر العالَم وكأنها نوبة تشنُّج إلكتروني؛ فتُعلن إحدى الشركات أن أرباحها انخفضت انخفاضًا غير متوقع؛ وتعلن شركة أخرى عن تجارب ناجحة لدواءٍ معجزة؛ ويبدي رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بعض الملاحظات الغامضة. وربما تبدو الأخبار غامضة؛ يعلن ستة أعضاء بمجلس الشيوخ أنهم سيُصوِّتون ضدَّ مقترح أوباما لخطة التأمين الصحي التي تُتيح لقطاع التأمين العام أن يَتنافس مع الشركات الخاصة، ولكن في غضون دقائق تبدأ أسعار أسهُم كبرى شركات التأمين الخاصة في الارتفاع، ومن ثَمَّ يولي شخصٌ ما اهتمامًا شديدًا بالأمر.1 تنقل الضغطات على أجهزة الماوس في آلاف أجهزة الكمبيوتر الأوامر من الأشخاص الذين سمعوا الخبر أولًا: أوامر الشراء، والبيع. الأسعار تتغيَّر، ويُدرك الآخرون الذين لم يَسمعُوا الخبر بعدُ أن شيئًا ما يحدُث. تجتاح موجة قوية من الأدرينالين؛ شكل من أشكال التسلية أكثر غموضًا من مصارعة الثيران أو مبارَزات المصارعين العامة لكنه — لمن يرُوق لهم ذلك النوع من التسلية — يبدو أنه لا يقلُّ عنها هوسًا. وبالتأكيد، المسألة عامة جدًّا؛ فربما يجلس المتداوِلون في طوكيو وتييرا دل فويجو في غرفٍ متباعِدة جدًّا، ووحدهم على الأرجح، ولكن من المرجَّح أن الأرقام التي ينظرون إليها واحدة؛ حتى وإن لم يكونوا متَّصلين بالموقع الإلكتروني نفسه. لا يُمكن أن يختلف سعرا السوق لأسهم شركة مايكروسوفت إلا بهامش ضئيل جدًّا؛ وإن حدث ذلك، فإن الحرَّاس الغامضين الذين يحرسون الفضاء السيبراني سيُسارِعُون بالتخلص من هذا الفارق ببيع الرخيص وشراء الثمين.

لا تتَّصف جميع الأسعار بكونها شديدة العلنيَّة. زُرِ الأسواق في مدينة مراكش، ودع عينك تتأمَّل لجزءٍ من الثانية سجادة معروضة. على الفور ستُوَجَّه إليك دعوة إلى مناقشة الأمر، بكلِّ ثقة، وربما احتساء كوبٍ من الشاي بالنعناع. سيُعْرَض عليك دومًا «سعر خاص». في هذه الحالة، لا يُوجَد خداع، ما دمت لا تَفترض أن سعرك الخاص سيكون دومًا سعرًا مُنخفضًا على نحوٍ خاص. سيكون سعرًا مُحددًا خصيصًا بحيث يتلاءم مع ما يُخمِّن البائع بشأن دافعك للشراء، وحنكتك، وميزانيتَك. ذلك يعني أحيانًا أنَّ السعر سيكون أعلى ممَّا قد يدفعه الآخرون؛ وأحيانًا يكون أقل، ولا سيما إذا كنتَ قادرًا على الإشارة بطريقةٍ مقنعة إلى حنكتك العالية أو إلى ميزانيتك المحدودة ودافعك الضعيف للشراء. إلا أنه سيكون سعرك أنت، وأنت وحدك، لأنه لا أحد لاحظ ما الذي تفاوضتَ عليه أنت وبائعك.

الأسعار التي يدفعها الناس مقابل الأغراض المتشابهة من الناحية الظاهرية قد تتنوَّع تنوعًا مذهلًا، وهو أمر لا تعمل الابتكارات الحديثة، مثل الحوسبة وشبكة الإنترنت، بالضرورة على منعه. في المرة التالية التي تستقل فيها طائرة، جرب أن تسأل الشخصين الجالسين إلى جوارك كم دفَعا ثمنًا لتذكرتَيهما. لعلَّك تَكتشِف بكل سهولة فروقًا تصِل إلى حدِّ عشرة أضعاف؛ فأحدهم اشترى تذكرةً قبل أشهر، وآخر يعود دون قضاء عطلة نهاية الأسبوع، وأحدهم يُسافِر بتذكرةٍ احتياطية. تستخدم شركات الطيران برامج مُتطورة للتفريق بين أسعار تذاكرها حسب مسار الرحلة، ونوع التذكرة، ويوم السفر أو يوم البيع. وعملاؤها يستخدمون بدورهم برامج متطوِّرة للمقارنة بين أسعار التذاكر لدى شركة طيران وأخرى. يُحاول كل بائع إغراء المُشترين لدفع أكبر مبلغ مُمكن، وكل مُشترٍ يريد المُفاضَلة بين مختلف البائعين حتى لا يدفع أكثر مما يَنبغي. إنها رقصة تانجو بلا توقُّف، تحكمها فقط أسرار فردية لكل بائع وحقيقة أنه ثمة بائعون منافسون في مكانٍ آخر، في حين أن الفرصة الحالية هي آنية وموجودة ها هنا.

يَعتمد كل من البائعين والمُشترين اعتمادًا متزايدًا على التكنولوجيا لمساعدتهم؛ إذ يتعرَّض جهاز الكمبيوتر الخاص بي لعمليات تجسُّس من برامج صغيرة (ملفات تعريف الارتباط) ينسخها البائعون، أصحاب المواقع الإلكترونية التي زُرتَها، على القُرص الصلب لجهازي. الآن، حين أعود إلى موقع شركة أمازون، تستقبلني قوائم توصيات من المُفترض أنها مصمَّمة خصيصًا بناءً على ذوقي الفريد في القراءة والمُطالعة بواسطة كمبيوتر مُتفهِّم بدرجة بالغة لاحتياجات صاحبه. ويستعين مُصنِّعُو السيارات باستراتيجياتٍ أدقَّ لاستهداف أشخاصٍ من المُرجح أن يكون لديهم رغبة أكثر من غيرهم في شراء سيارات؛ فبعض مصنعي السيارات لديهم صلات بمواقع تستعرض «المناسبات المهمة» وتوفر معلومات ودعمًا للأشخاص المتزوِّجين حديثًا، أو صاروا آباءً، أو أصبحوا مُطلقين، أو فقدوا عزيزًا؛ وذلك لأن أبحاث السوق أظهرت أن ٨٠٪ من هؤلاء الناس يشترون سيارة جديدة في غضون عام. («سيدة سميث، لقد شعرنا ببالغ الأسف لدى سماعنا لخبر وفاة زوجك. ونتساءل عما إذا كان الوقت المناسب قد حان للتفكير في استبدال سيارتك بسيارة أصغر حجمًا.») ولكن في إمكان العملاء بدورهم الاستجابة باستخدام التكنولوجيا؛ حيث يزورون مختلف المواقع للتحقُّق من الأسعار؛ ويُجرون أبحاثهم على نحو أشمل كلما كانت صفقة الشراء المزمَعة أغلى في الثمن. ولكن تظل صفقات الشراء أفعالًا فرديةً صرفة؛ فبدلًا من أن تتحوَّل السيدة سميث بعقلانية إلى منتج أرخص، قد تُخطِّط لتبديد المال من أجل شراء سيارة رياضية مكشوفة لم تكن تجرؤ مطلقًا على شرائها حينما كان زوجها العجوز البخيل على قيد الحياة.

كيف يمكن لأنظمة الأسعار — المحددة بهذه الطريقة التي تبدو فوضوية — أن تنجز الصنيع الفذ المتمثِّل في التنسيق بين جميع الأنشطة المختلفة التي تسهم في الحياة الاقتصادية الحديثة؟ يشتمل نشاط بسيط نسبيًّا كتصنيع القمصان على مراحل كثيرة، كما رأينا في الفصل الأول، ولا أحد يتولى المسئولية الكاملة للتأكد من أن هذه المراحل المختلفة متَّصلة فيما بينها. الأسعار هي البنود التي تتشكَّل على أساسها الروابط بين كل مرحلة من مراحل السلسلة؛ فالمُزارع يَبيع قطنه إلى التاجر بسعر، والتاجر يبيع القطن إلى المصنع من أجل الغزل والنسيج بسعرٍ آخر. ولا شكَّ أن التفاوض في كل مرحلة سيكون شاقًّا، وقد يخرج أحد الطرفين من الصفقة بمُعظَم المكاسب، ولكن كِلا الطرفين سيكون مُقتنعًا بأنه يُبلي أفضل، ولو جزئيًّا، مما قد يفعل بتعامله مع شخصٍ آخر. وكلما سنَحَ له المزيد من الفُرَص البديلة، صار موقفه التفاوضي أقوى؛ فربما يَبيع التاجر إلى المصنع بسعرٍ أعلى كثيرًا مما دفع إلى المُزارع، ومن غير المُرجَّح أن يفعل ذلك لو كان في مقدور المزارع أن يتفاوض مع تُجَّار منافسين آخرين. ذلك هو أحد الأسباب التي تُفسِّر سبب تركُّز قدْرٍ كبير من الفقر على مستوى العالَم في المناطق الريفية، حيث يكون لدى المُزارعين عدد محدود من المنافذ البديلة لما يُنتجونه.

وحقيقة أن الفُرَص المتزايدة تقوي موقفَك التفاوضي تُفسِّر كيف تَستجيب الأسعار لعملية العرض والطلب. هل تُوجد كمية أكبر ممَّا يَنبغي من البطاطس في السوق اليوم؟ يستطيع الزبائن أن يتسوَّقُوا بحرصٍ أكبر وأن يعرضوا أسعارًا أقل، مُدركين أنه إذا رفَضَ أحد البائعين السِّعر، فلا بدَّ أنه يُوجَد دومًا باعة آخرون قد يقبلون به. هل يوجَد نقص في الفواكه الطازجة؟ حينئذ، تكون اليدُ العُليا للبائعين، لأنه يُوجَد كثيرون يرغبون في الشراء وبإمكان البائع دومًا أن يُحاول رفع الأسعار إلى الحد الأقصى. هذه التقلُّبات في الأسعار لا تتعلَّق بمجرد تحويل الأموال النقدية مِن المُشترين إلى البائعين أو العكس، كما لو كان السوق عبارةً عن قُرعة متواصِلة. إذ تُشير هذه التقلُّبات أيضًا إلى أولئك الذين يرسلون المُؤَن إلى أفضل موضع يُمكنهم إرسالها إليه. وعندما يحدُث نقص في المحاصيل في إحدى المناطق، تؤدِّي الأسعار المرتفعة دور عامل جذبٍ للغرباء، مما يُؤدِّي إلى التصدِّي لارتفاع الأسعار ولكن يؤدِّي أيضًا — وهو الأهم — إلى نقل المُؤَن إلى الأماكن التي تُعاني من العجز.

يتوقَّف ردُّ الفعل السليم للحفاظ على التوازن، بالطبع، على الغرباء الذين لديهم قدرة على الوصول إلى الأماكن التي تتوافر فيها الفُرَص. ليست كل الأسواق مفتوحة. عندما تكون إمكانية الوصول محدودةً والأسواق خاضعة لسيطرة مُحتكر أو بضعة أشخاص من الداخل (ربما يعملون معًا فيما يُعرَف باتحادٍ احتكاري بين المُنتِجين)، حينئذٍ قد تتعرَّض قدرة الأسعار على لعِب دورٍ تنسيقي مُفيد لخطرٍ جسيم. سيستغلُّ المُحتكر عادةً غياب أي موردٍ بديل ليرفع الأسعار. لن يَرفعها بلا حد؛ لأنه في النهاية قد يخسر جميع زبائنه، الذين قد يُقرِّرُون الامتناع عن شراء ما يبيعه. لكنه سيكون على استعدادٍ للتضحية ببعض زبائنه لكسب المزيد من الأموال من أولئك الذين يستمرُّون في التعامُل معه. حقيقة أنه يفعل ذلك تجعل العملاء المَفقودين لا يستطيعون الوصول إلى هذه السِّلَع. ربما كانوا على استعدادٍ لشراء السلع بسِعر كان يعكس التكلفة التي تحمَّلَها المُحتكر لإنتاجها أو تدبيرها، إلا أن إحجامه عن توريدها بهذا السعر يؤدِّي إلى ضياع فرصة إجراء تبادُل تجاري مُربح للطرفين. هذا مثال على ما يُطلِق عليه علماء الاقتصاد «إخفاق السوق»، وهي حالة تتحدَّد فيها الأسعار عن طريق أسواقٍ لم تَعُد تُرسِل الإشارات التي تجعل التبادل الفعَّال بين الغرباء مُمكنًا. توفر اضطرابات كهذه — وهي أكثر شيوعًا في الأسواق المُجزَّأة للدول النامية عنها في المجتمعات الصناعية الثرية — الأساسَ الفِكريَّ اللازم لوضع سياساتٍ تُقيِّد الاحتكارات، والأسواق المفتوحة، وتُشجِّع التجارة. مثل هذه السياسات لا يحظى بشعبيةٍ كبيرة لدى المُحتكرين المُفترَضين، وغالبًا يصعُب تفعيلها وتنفيذها، ولكن جميع البلدان تقريبًا تزعم أنها تُولي اهتمامًا جديًّا لهذا الأمر.

عندما تُوجَد منافسة بين المُشترين والبائعين المتنافِسين (بحيث يكون لدى كلٍّ منهم فرصة اختيار الشركاء الذين يتعامل معهم)، وعندما يكون البائعون والمشترون مُطلعين بدرجةٍ معقولة على الفُرَص التي يُواجهونها، وعندما لا يكون للتعامُلات بين شخصين آثار خطيرة على أيِّ شخصٍ آخر، تكون الرؤية الضيقة في أكثر حالاتها تأثيرًا وفعالية. لا تنسجم معًا أجزاء عملية التنسيق المُعقَّدة لإنتاج القمصان على مستوى العالَم إلا بواسطة الانتهازية المُتواصِلة من المُشترين والبائعين، الذين يسعى كلٌّ منهم وراء فُرَص إبرام صفقةٍ أفضل قليلًا. عندما يُقرِّر المُستهلكون أنه يرُوق لهم تصميم مُعين أكثر من آخر، ينتهز البائعون الفرصة لرفع الأسعار. ويبحثون بدَورهم عن المزيد من المُورِّدين ليستفيدوا من الأسعار الأكثر ملاءمة، ممَّا يقود صانعي القماش والخيوط والأزرار إلى توجيه جهودهم في اتجاه التصميم الأكثر رواجًا. لا أحدَ يُحاول أن يجعل المنظومة بأكملها تُلبِّي الطلب؛ ولكن هذا بالضبط ما تفعله. وأي شخصٍ يَعتزم التفكير في مَسيرةٍ مهنية بمجال تصنيع القمصان يستطيع أن يُجري تقييمًا حصيفًا للفرَص المُرتقَبة بإلقاء نظرةٍ على أسعار القمصان، وأسعار جميع الأشياء اللازمة لتصنيعها، وتقدير ما إذا كان الهامش بين السِّعرَين يُتيح أي مساحةٍ لالتقاط الأنفاس. إذا ارتفعَت أسعار القمصان على نحوٍ أكثر من أسعار القماش، والخيوط والأزرار، فقد يُقرِّر عدد قليل جدًّا من صنَّاع القمصان المُحتملين أن يحاولوا سدَّ تلك الفجوة. تبقى المسيرة المهنية في مجال تصنيع القمصان ضربًا من المقامرة؛ إلا أنها مقامرة تتحدَّد احتمالاتها بناءً على أسعار القمصان ومكوِّناتها على نحوٍ أفضل من أي معلومات أخرى بإمكان أي أحدٍ أن يستقِيَها بعقلانية.

أساس فهم كيف يُمكن للأسعار أن تلعب دورها التنسيقي المُذهل هو الفكرة التي مفادها أن الأسعار تُلخِّص معلوماتٍ مُهمة عن المستقبل بطريقةٍ يسهل الوصول إليها وتفسيرها. تُقدِّم لنا أسعار القمصان بعض المعلومات عن مدى تقدير المُشترين لفرصة اقتناء قميص. وتُقدِّم لنا أسعار القماش والخيوط والأزرار بعض المعلومات عن مدى وضع مُصنِّعي هذه الأغراض في اعتبارهم للمَشقَّة والتكلفة والعمل الدءوب اللازم لتصنيعها. إذا وُجدَ هامش بين الاثنين، فهذا يُخبرنا بأنَّ ثمة أرضية مشتركة بين مالكي القمصان وصنَّاعها للوصول إلى تسويةٍ تخدُم مصالح كلا الجانبَين. تؤتي الرؤية الضيقة ثمارها، حينما تفعل، بتجميع قطع أحجية شاسعة من التسويات الثنائية التي، بنهجٍ تدريجي غير مُلهَم، تجعلنا جميعًا في حال أفضل كثيرًا ممَّا لو اضطرَّ كلٌّ منَّا إلى تجميع مكوِّنات حياته بمفرده.

الأسعار تُؤدي دور استطلاعات رأي

ما قد يبدو غامضًا هو كيف تستطيع الأسعار أن تُلخِّص المعلومات بهذه الطريقة. ما المسار الذي يتَّبِعه سعر، يتغيَّر استجابةً لتقلبات الكثير من قرارات البيع والشراء الفردية، ليتمكَّن من تجسيد معلوماتٍ حول أي شيءٍ مُثير بأيِّ شكلٍ من الأشكال؟

لكي ترى كيف يحدُث ذلك، زُر موقع أسواق أيوا الإلكترونية2 في الأسابيع السابقة على انتخابات رئاسية أمريكية. وهو عبارة عن موقعٍ تُديره كلية هنري بي تيبي لإدارة الأعمال بجامعة أيوا بهدف تداوُل العقود المالية (الأسهم). ولكن على خلاف مُعظَم العقود المالية، كتلك التي تُتدَاول في بورصة نيويورك، تُقدِّم عقود كثيرة هنا مدفوعاتٍ نقدية تعتمد على شيءٍ آخر غير أداء الشركات. في هذه الحالة، يُمكنك شراء عقدٍ يعود بفائدة قيمتها دولار واحد إذا فاز المرشَّح الجمهوري بالانتخابات الرئاسية، ولا شيء خلاف ذلك (توجد عقود مشابهة مُتاحة للمرشَّح الديمقراطي، ولأي مرشحين مُستقلين قد يخوضون الانتخابات). يُعرف هذا باسم عقد «الفائز يربح كل شيء»، خلافًا للعقود الأخرى التي ربما تعود بمجموعة مبالغ مختلِفة لنتائج مختلفة. ومع اقتراب الانتخابات، راقِب سعر تداول السهم؛ تجد أنه يرتفع مع تحسُّن تخمينات المتداولين باحتمالية فوز المُرشَّح وينخفض مع تراجعها. ما سبب ذلك؟ افترض أن السعر الحالي خمسين سنتًا. أي متداوِل يظنُّ أن لدى المرشح الجمهوري فرصةً مرتفعة للفوز سيشتري الأسهم، بينما سيبيعها من يظنُّ أن الفرصة أقل للفوز. وإذا كانت احتمالية الفوز أكثر من احتمالية الخسارة، سيَرتفع السعر حتى تتساوَى كفَّتَا المتفائلين والمتشائمين. وإذا جاءت الأخبار تُرجِّح فوز المرشح الجمهوري، سيرتفع السعر الذي استقرُّوا عنده. ومن ثم، فإنَّ سعر السهم يُمثِّل محور تقديرات المُتداولين (في الواقع ما يطلق عليه خبراء الإحصاء وسيطًا)3 لاحتمال الفوز. كان السعر يتوقَّع مُصيبًا فوز الديمقراطيين قبل شهرَين من انتخابات نوفمبر ٢٠٠٠ — وأقول مصيبًا، لأن «الفوز» عُرِّف بأنه جنيُ العدد الأكبر من أصوات الناخبين، وهو إنجاز حقَّقه المرشح آل جور حتى وإن لم يكن هذا كافيًا ليُمكنه من دخول البيت الأبيض.

وكما هي الحال مع عقد «الفائز يَربح كل شيء»، الذي يُمثِّل سعره تخمينًا لاحتمال الفوز، يمكنك أيضًا تداول عقودٍ تعود بفائدةٍ قيمتها عدد من السنتات يكافئ نسبة المرشح من التصويت الشعبي. ستُتداوَل هذه العقود بسعرٍ يُكافئ أفضل التخمينات الجماعية للمتداولين بشأن نسبة الأصوات. هذه بالضبط نفس المعلومات التي تسعى استطلاعات الرأي التقليدية لاكتشافها، ويَمتلك موقع أسواق أيوا الإلكترونية سجلًا إيجابيًّا للتوقُّع من شأن أغلب مُنظِّمي استطلاعات الرأي أن يغبطوه. فقبل ثلاثة أشهر من انتخابات عامي ١٩٩٢ و١٩٩٦ كانت الأسواق تتوقَّع نسبة بيل كلينتون من التصويت الشعبي في نطاق نُقطتَين مئويَّتَين من النتيجة النهائية. وفي انتخابات ٢٠٠٨، كانت الأسواق قد توقَّعت فوزًا بنسبة أربع نقاطٍ مئوية تقريبًا لصالح المُرشَّح الديمقراطي طوال أغلب العامَين السابقين على فوز باراك أوباما في النهاية بهامش سبع نقاط تقريبًا. أظهرت أيضًا أسواق أخرى، تُتيح تداول مبالغ مالية أكبر من الحدِّ الأقصى الذي تُتيحه أسواق أيوا الإلكترونية، مثل موقع إنتريد، أداءً مُبهرًا في التوقُّعات السياسية. في الواقع، الأمر ليس مُستغربًا؛ فاستطلاع الرأي يجمع معلوماتٍ حول نوايا التصويت لألفٍ أو ألفَي شخص، ليس لديهم دافع مُحدَّد يجعلهم يخبرون منظمي الاستطلاع بالحقيقة بخصوص نواياهم. بينما تجمع الأسواق الإلكترونية معلوماتٍ حول توقعات أكبر عدد من المُتداوِلين الراغبين في المشاركة، وهم ليس لديهم دافع مالي لقول الحقيقة فحسْب، وإنما لجمع المعلومات من أكبر عددٍ مُمكن من المصادر الأخرى.

وتُقدِّم مواقع أخرى على شبكة الإنترنت مجموعةً أكثر تنوُّعًا من الأحداث المُستقبلية للتكهُّن بشأنها. فموقع نيوزفيوتشرز4 هو موقع فرنسي/أمريكي يُجري مُراهنات على مراحل مختلفة من الحرب على الإرهاب، ونتائج سباق طواف فرنسا والسوبر بول، واحتمال أن مشروع سيتي «البحث عن ذكاء خارج الأرض» سيَكتشِف في المُستقبل رسائل من كائناتٍ فضائية، وأن علماء الآثار سيَكتشفُون قبر كليوبترا، ووضع أبحاث الاستنساخ البشَري، والحياة العاطفية للمشاهير من أمثال جنيفر لوبيز وبريتني سبيرز، وغيرها من الموضوعات الأخرى التي لها قدْر أكبر أو أقل من الأهمية العالمية. وفي كل حالة، تُوجَد عقود «الفائز يربح كل شيء»، مُحدَّدة حول حدثٍ مُعين، وبتتبُّع سعر السهم، يُمكنك أن تسجل بدقة ارتفاع ثِقَة المتداولين وانخفاضها في أن الحدث سيقع على النحو المُبيَّن. وموقع إنتريد5 هو موقع أيرلندي يوفر فرصة الرهان على مجموعة كبيرة من الأحداث بحصصٍ أكبر بكثير. يُقدِّم موقع بورصة هوليوود للأوراق المالية (The Hollywood Stock Exchange)6 عقودًا ذات نوعية مختلفة قليلًا؛ فهيَ بالأساس مراهَنات على إيرادات شباك التذاكر لأفلام مُعيَّنة، وقيمة عقد واحدٍ بالدولار تُمثِّل عددَ ملايين الدولارات التي سيُحقِّقها الفيلم المعني في شَهرِه الأول بدور العرض السينمائي. إذا حقَّق الفيلم ٥٠ مليون دولار، يُستردُّ السهم بقيمة خمسين دولارًا. وأي شخص لديه معلومة تُشير إلى أن السعر الحالي مُقدَّر بقيمةٍ أقلَّ مما يَنبغي يُمكنه توقُّع جنْي المال بشراء عقود؛ وأي شخصٍ يظنُّ أنه سعر مُبالغ فيه يُنصَح ببيعها. وعندما تتساوى كفَّتا المتفائلين والمتشائمين، يبقى السعر ثابتًا. هكذا، وكما هي الحال في أسواقٍ أخرى، يُمثِّل السعر في أي وقتٍ أفضل تخمين جماعي، من ناحية أنَّ عدد الأشخاص الذين يعتقدُون أن السعر بخسٌ يكافئ عدد الأشخاص الذي يعتقدون أنه سِعر مُبالغ فيه.

هذه الأسواق هي أسواقٌ مالية بحتة، بمعنى أنها تَشتمل على تحويل الأموال بين المُشاركين في ظلِّ ظروفٍ مُحدَّدة بدقة، ولكن لا توجَد سلع حقيقية يتبدَّل مالكوها. يشتمل عدد كبير من الأسواق، بالطبع، على نقل سلعٍ حقيقية أو أداء خدمات حقيقية. هنا ما تفعله الأسعار أنها تُجسِّد معلوماتٍ حول القيمة التي تُمثِّلها السلع أو الخدمات للمُتداولين. وأحيانًا يكون الغرَض الإجمالي من الأسواق هو استخلاص المعلومات لضمان أن السلع أو الخدمات تُمرَّر إلى المتداولين الذين يُقدِّرونها بأكبر قدر. في السنوات الأخيرة، صار دور الأسعار في الكشف عن المعلومات ملحوظًا بشكلٍ خاص في حالة المزادات.

المزادات

لقد استُخْدِمَت المزادات لوقتٍ طويل ولبَيع أشياء كثيرة؛ فنحن نعرف أن العبيد كانوا يُعرَضُون في المزادات في عصور الرومان، وكانت زهور التوليب تُعرَض في المزادات في القرن السابع عشر بهولندا، في حين أن قائمة الأصناف الموجودة على موقع إيباي تمتدُّ لتشملَ كلَّ شيءٍ بداية من «التُّحَف والأعمال الفنية» وصولًا إلى «لعبة اليويو». ويحكي المؤرخ إدوارد جيبون كيف عُرِضت الإمبراطورية الرومانية بأكملها في مزادٍ أقامَه أفراد الحرَس الإمبراطوري بعد اغتيالهم الإمبراطور برتيناكس عام ١٩٣ ميلاديًّا، نظرًا لأنهم كانوا يخشون قيام خلَفِه المُتوقَّع، سولبيشيانوس بذلك؛ ومن ثم «ربما لا يحصلون على سعرٍ مُنصِف مقابل سلعة قَيِّمة للغاية كهذه»:
هذا العرض الشائن … وصل إلى مسامع ديدوس يوليانوس، عضو مجلس شيوخ ثري … فأسرع العجوز المُتعجرِف إلى المعسكر الإمبراطوري، حيث كان لا يزال سولبيشيانوس في تحالُفٍ مع الحرس، وبدأ يُزايد عليه من أسفل الحصن. أجرى مبعوثون مُخلصون التفاوض الحقير، وتنقَّلُوا بالتناوب من مُرشَّح إلى آخر، وأطلعوا كلَّ واحدٍ منهم على عرْض منافسه. كان سولبيشيانوس قد وعد بالفعل بهبةٍ قدرُها خمسة آلاف درهم (أكثر من مائة وستين جنيهًا) لكلِّ جندي؛ في حين رفع يوليان على الفور، مُتحمسًا لنيل الجائزة، قيمة الهبة إلى مبلغ ستة آلاف ومائتين وخمسين درهمًا، أو ما يَربو على مائتي جنيه إسترليني. فُتحت أبواب المعسكر فورًا على مصراعَيها أمام المشتري؛ ونُصِّب إمبراطورًا، وأدَّى له الجنود، الذين حافظوا على إنسانيتهم بالقدر الذي جعلهم يَشترطُون عليه أن يعفو ويصفح عن منافسه سولبيشيانوس، يمينَ الولاء.7

يبدأ المزاد بمطالبة المشارِكين بتحديد أسعارهم، أو على الأقل أن يُظهِروا استعدادهم لدفع الأسعار التي يُعلن عنها منظم المزاد، أو بأيِّ آلية أخرى كالساعة مثلًا. ويُمكنهم فعل ذلك على الملأ، أو في ظرفٍ مُغلق، أو بعدة طرُق أخرى. وعادةً ما يكون الناس حذِرين بشأن ما يقولون، على الأقل أكثر من الحال التي يبدو أن ديدوس يوليانوس كان عليها (رغم أن جيبون يسجل أنه بعد أن حُمِل إلى القصر الإمبراطوري في موكب، «أمضى ليلةً مُؤرِّقة»). إنهم يخشون، وغالبًا ما يكونون مُصيبين، من أنه كلما بدَوا أحرص على شراء شيء ما، كان لزامًا عليهم أن يُسدِّدُوا مبالغ أكثر (في المزادات، بخلاف الأسواق المعتادة، لا يتحدَّد السعر الذي فعليًّا يتداوَل به الناس إلا بعد أن يكونوا قد كشفوا عن استعدادهم للدفع؛ لكنه يُعَدَّل طبقًا للعطاءات المُقدَّمة). ولذا، من المُحتمل أن يكون لدى مُقدِّمي العطاءات أسباب قوية للتصنُّع. ومع ذلك، تنجح المزادات المصمَّمة جيدًّا في اكتشاف ما يكفي بشأن مدى تقدير الناس الفِعلي للسِّلَع لتمنحها إلى أكثر من يقدرونها؛ وهي رؤية طبَّقها الحرس الإمبراطوري تطبيقًا مُربحًا. ربما يفعلون ذلك من خلال مجموعة من الأدوات. إحداها هي جعل الفائز يدفع الثمن الذي عرَضَه ثاني أعلى مُزايد (بحيث يعرف الناس أن الثمن الذي يدفعونه لن يعتمد على ما يقولونه بأنفسهم). وثمة أداة أخرى هي بكلِّ بساطة تشجيع المُزايدين على المُواصلة حتى يَنسحِب الجميع من السباق ما عدا شخصًا واحدًا. لا يتعيَّن على آخِر شخص يبقى الإفصاحُ عن القيمة الحقيقية التي يُحدِّدها بخصوص سعر الغرض المعروض في المزاد، ما دام يعلن عن قيمةٍ أكبر من القيمة التي كان أي شخصٍ آخر على استعدادٍ للإعلان عنها.

بالطبع، قد نشكُّ فيما إذا كان بإمكان المزادات أن تُقارن فعلًا بين القيمة الحقيقية التي يُحدِّدها مختلف الأشخاص للأغراض المعروضة للبيع. وقد أقول في نفسي إنَّ المُزايد الثري الذي يشتري اللوحة الفنية الأصلية القديمة لا يُقدرها أكثر منِّي حقًّا. كل ما في الأمر أنه أغنى؛ والمال أقلُّ أهميةً لديه. ولكن حقيقة أنه أغنى تعني أنه يستطيع تحمُّل تَكلفة المزيد من «كل شيء» أكثر ممَّا أستطيع. ولا يزال صحيحًا أنه، مقارنةً بي، يُقَدِّر قيمة إنفاق أمواله على اللوحات الفنية القديمة أكثر من إنفاقها على صفقةٍ منافِسةٍ أخرى. وبهذا المعنى المحدود يمنح المزاد اللوحة للشخص المناسِب. لم يكن هدف المزاد معالجة الاختلال الذي يجعله أغنى منِّي، وإنما يضمن أن تذهب اللوحة إلى أكثر شخصٍ يرغب في إنفاق ماله على ذلك الغرَض تحديدًا، مع أخذ الاختلال القائم الذي يَمنح البعض أموالًا أكثر من البعض الآخر في الاعتبار.

fig5
شكل ١٢-١: على مر العصور، كانت المزادات تُستخدم لبيع كل شيء تقريبًا، بما في ذلك البشر. ها هما نوعان من المزادات البشرية. بالأعلى، مزاد لبيع العبيد في ريتشموند، فرجينيا (مأخوذة من مجلة «أخبار لندن المصورة» لعام ١٨٥٦). بالأسفل، فرقة راقصات بانز بيبول تُباع بصالة مزادات سوذبي عام ١٩٨٠ إلى مُشترٍ مجهول مقابل ٣ آلاف جنيه إسترليني. (سيمون داك/جيتي إيميدجز/أرشيف هالتون.)

في السنوات الأخيرة، ازداد استخدام المزادات لاتخاذ عددٍ من القرارات التي كانت اللجان الحكومية تتَّخذها دون تدخُّلِ أيِّ شكلٍ من آليات التسعير على الإطلاق. جمَعَ مزادٌ لتراخيص البث الإذاعي للجيل الثالث من الهواتف المحمولة بالمملكة المُتحدة في مارس وأبريل عام ٢٠٠٠ مبلغًا إجماليًّا مُذهلًا بلغ ٢٢٫٥ مليار جنيه؛ وهذا من أجل امتياز (حق الإذاعة باستخدام جزءٍ مُعيَّن من الطيف الكهرومغناطيسي) كان يُمنَح مجَّانًا لهيئات البث الإذاعي وشركات الاتصالات على السواء. مبدئيًّا، يبدو هذا خبرًا سارًّا؛ إذ تذهب التراخيص إلى تلك الشركات التي بإمكانها استغلالها على أفضل نحو، وتُحقِّق الأصول العامة إيراداتٍ للدولة بدلًا من تحقيق أرباح غير مُستحَقَّة لحَمَلة أسهم الشركة. مع ذلك، عمليًّا، خفَّف من الخبر السار قلقٌ متزايدٌ من أن الشركات المَعنية ربما تكون قد دفعت أكثر مما ينبغي، وربما تكون قد عانت من مشكلةٍ معروفة باسم «لعنة الفائز». في مثال اللوحة الفنية المذكور آنفًا، افترضْنا أنَّ المشترين أرادُوا اللَّوحة لمُتعتِهم الخاصة فحسْب، لذا من أجل تقدير المبلغ الذي كان عليهم المُزايدة به كان لزامًا عليهم مراجعة تفضيلاتهم الشخصية. في الواقع، حتى في المزادات الفنية، لا يهتمُّ مُشترون كثيرون بمُتعتهم الشخصية من اقتناء غرضٍ ما فحسب وإنما يهتمُّون أيضًا بمقدار ما قد يأتي به الغرَض من مالٍ في السوق مُستقبَلًا. هذه ليست مسألةً شخصية وإنما حقيقة موضوعية (رغم أنها لا تزال مجهولة). في مزادات تراخيص نطاق البث، تكون الفوارق بين الشركات ضئيلةً مقارنةً بعدَم التيقُّن الذي تُواجهُه جميع الشركات بشأن إلى أي مدًى ستكون أسواق الجيل الثالث من الهواتف المحمولة مُربحة. وفي ظلِّ هذه الظروف، ثمَّة خطر حقيقي هو أن المزاد قد لا يَمنح الأشياء المعروضة للبيع إلى أولئك الذين يُقدِّرونها على أفضل وجهٍ وإنما ببساطة إلى أولئك الأكثر تفاؤلًا بجموح.

«إليك خبر سيِّئ؛ لقد ربحتَ المزاد!» عادةً ما يقودك اكتشاف أنك كنتَ أعظم المُتفائلين إلى التساؤل عمَّا يعرفه الآخرون ولا تَعرفُه أنت. إنه سؤال ربما يكون ديدوس يوليانوس قد طرحَهُ على نفسه. وصف عالم الاقتصاد بول كليمبرر فوز يوليانوس بمزاد الإمبراطورية الرومانية بأنه «حالة أولى ومُحزِنة من لعنة الفائز!» لأنه حكم لمدة شهرَين فقط قبل الإطاحة به وإعدامه على يد سيبتيموس سيفيروس.8 وعلى نحوٍ أقل عُنفًا، شهدت شركات الاتصالات التي فازت بالتراخيص في مزاد نطاق البث الإذاعي الأوروبي تراجُع تصنيفها الائتماني، وانخفاض أسعار أسهمها، ومغادَرة بعض المديرين التنفيذيين لديها إلى تقاعُدٍ مُريح ولكن بالإكراه. لن يذرف قرَّاء كثيرون الدمع على يوليانوس، وبالمِثل سيشعُر كثيرون بأن مديري الشركات الكبرى يتقاضَون أجورًا ضخمة جدًّا لكيلا يكونوا مُتفائلين بجموح، وأنهم لا يستحقُّون قدرًا كبيرًا من التعاطُف على معاناتهم من لعنة الفائز. إلا أن هذه الأمثلة تُشير إلى سؤال بخصوص مزايا النظام الذي يَمنح الغنائم بانتظام إلى المتفائلين: هل هذا مُتوافِق مع الدور الذي تؤديه الأسعار باعتبارها أداة لتلخيص ونقل المعلومات الموثوقة عن المستقبل؟

في الواقع، هذه طريقة مُضللة لطرح السؤال. تميل المزادات، مثل الأسواق المعتادة (حين تعمل بسلاسة) إلى منح السِّلَع إلى أولئك الأشخاص الذين يرغبون رغبة عارمة في امتلاكها، دون طرح أسئلةٍ عما إذا كانت قوة هذه الرغبة متأصِّلة أم ناشئة عن تفاؤلٍ أحمق. سوف تستقر أسعار أيِّ صفقة، كما رأينا آنفًا، عند مستوًى يوازن بين تقديرات المُزايدين الأكثر تفاؤلًا وتقديرات الأكثر تشاؤمًا. وحقيقة أن المُزايدين سينتهي بهم الحال إلى امتلاك السلع التي كانوا يشعرون حيالها بأقصى قدْرٍ من التفاؤل (مقارنة بالسلع الأخرى) هي ما يَمنح المتفائلين وكذلك المُتشائمين أفضل دافع لتجنُّب التقديرات الخاطئة العارضة. أنت تدفع ثمن تفاؤلك بالالتزام بامتلاك السِّلَع التي كُنتَ متفائلًا جدًّا حيالها. وحتى لجان التحقيق الأكثر استنارةً يَنقُصها الحِرص البالِغ على الدافع نحو بلوغ حكمٍ جَماعي منطقي. كما سنرى في الفصل الخامس عشر، توجَد أسباب قوية لقَول إنَّ بإمكان الأسواق أن تَعكِس، بل وحتى تضخِّم، نوباتٍ جماعية من التفاؤل المُفرط أو التشاؤم المفرط في المجتمع الحديث. الأمر اللافت للنظر بشأن أسعار السوق هو قُدرتها على أن تعكس تقديرات الأفراد بأي درجة؛ فإذا كانت هذه التقديرات حمقاء، فلا شيء بإمكانه أن يمنع أسعار السوق الناتجة من أن تكون حمقاء أيضًا.

مع ذلك، لن تُواصل المزادات اجتذاب المشاركين لو لم يَفُز فيها سوى الأحمق. وأغلب الذين يُشاركون في المزادات يَعرفون بشأن لعنة الفائز ويُعدِّلون سلوكياتهم في المزايدة ليَضعُوا هذا الأمر في الاعتبار. وهذا يجعلهم مُتحفِّظين، وكلَّما زاد عدم التيقُّن حيال ما يَشترُونه، زادت درجة تحفُّظهم (وهي نزعة وُثِّقَت جيدًا في الدراسات المَعنية بالمَزادات التي تكون فيها مبالغ كبيرة من المال على المحك، لا سيما مزادات حقوق التنقيب عن البترول).9 والسلوك المُتحفِّظ للمُشترين يعني عوائد أقل للبائعين، الذين لدَيهم، بذلك، سبب وجيه للكشف عن أكبر قدْرٍ مُمكِن من المعلومات بشأن ما يَبيعونه وإيجاد طرُق لجعل تلك المعلومات جديرةً بالثقة بقدْر الإمكان. وليس من السهل دومًا أن تُقنع المُشترين المُتشكِّكين بأن معلوماتك جديرة بالثِّقة، إلا أنَّ النظام العبقري للتقييم الذي كان موقع إيباي الرائد في تطبيقه (والآن تستخدمه مواقع إلكترونية كثيرة أخرى) كان سببًا مُهمًّا للنجاح الباهر الذي حقَّقته هذه الشركة المُتخصِّصة في المزادات على شبكة الإنترنت. إذ يضع المشترون والبائعون تقييماتٍ بعضهم لبعض، وكذلك تعليقات، ويستخدمها البائعون والمُشترون الآخرون ليُقرِّروا ما إذا كان بإمكانهم أن يَثقُوا في شخصٍ لم يَلتقُوا به مُطلقًا أم لا. كما ستكشف جولة سريعة في موقع إيباي، تتلقَّى نسبة مُرتفِعة من البائعين تقييماتٍ من المُشترين أكثر من ٩٩٪ منها إيجابية. جميع المزادات المُصمَّمة جيدًا لا تعتمد فقط على الثقة، وإنما أيضًا على نشرها؛ لقد توصَّل موقع إيباي إلى آلية مؤسسية رائعة لنشر الثقة عبر نطاقٍ واسع وشاسع من مجتمع مُستخدمي الإنترنت.

هل كل شيء معروض للبيع؟

لقد أسفرت الحياة الاقتصادية المُعاصرة عن استخدام الأسعار المُعلَنة في التعامُلات بين الأفراد بنسبةٍ أكبر بكثيرٍ مما كانت عليه بين أجدادنا. وهذا ناشئ من الحقيقة التي لا جدال عليها والتي مفادُها أن تقسيم العمل قد صار أكثر شمولًا وتطورًا، ويَشتمل على تعاملاتٍ أكثر بين الغرباء. عندما تتعامَل مع غرباء، عليك أن تكون حذِرًا على نحوٍ خاصٍّ بشأن مسكِ الدفاتر. مما لا شكَّ فيه أن أنظمة الحسابات مهمَّة للبشر أصحاب التفكير المنطقي الرمزي المنهجي الذين تطوَّرُوا بحيث صاروا يتعاملون مع تقسيمٍ مُعقَّد للعمل، كما رأينا في الفصل الثاني والثالث. أيضًا يؤمِن البعض (مع أنَّ هذا أقرب إلى التخمين) بأن تعامُلاتٍ أكثر ممَّا كان في الماضي تَجري على أساس شروط تبادُلية صريحة حتى بين أشخاصٍ يَعرفُ بعضهم بعضًا، باعتبارها جزءًا من صفقةٍ وتتضمَّن فهمًا واضحًا بشأن الجودة والكمية من جانب كلا طرفي التبادل. على النقيض من الإجراءات المُتَّخذة من جانبٍ واحد، التي تظلُّ فيها الإجراءات التي يتَّخذها طرفٌ آخر في المُستقبَل مُبهَمة أو غامضة، يُمكن القول إنَّ هذه الصفقات الصريحة أعادَت الأسعار إلى عالَم العلاقات المألوفة. اعتبر بعضُ الناس هذا الاتجاه الأخير نتيجةً مُؤسِفة للاستخدام الأوسع انتشارًا للأسعار المُعلَنة، باعتبارها طابعًا تجاريًّا مؤسِفًا للحياة العصرية. إذا صِرنا جميعًا، على حدِّ وصف أوسكار وايلد الشهير للمُتشائمين، أُناسًا نعرف «سعر كلِّ شيءٍ وقيمة لا شيء»، إذن الأسواق الحديثة هي مؤسَّسات ذات حسابٍ مبتذَل تجتاح إرثًا معقَّدًا من تبادل الهدايا القائم على الثقة والتقدير المتبادل.

مهما يكن ما نشعُر به تجاه الأسواق الحديثة، فمن المهم ألا نُبالِغ بشأن درجة العفوية في التعامُلات بين أجدادنا. ادَّعى عالم الأنثروبولوجيا مارسيل موس في كتابه «الهدية» أن ما أطلق عليه هدايا «المجتمعات القديمة» هي «من الناحية النظرية اختيارية، ولكنها في الواقع تُعطى وتُرد إجباريًّا.» وأن تبادُل الهدايا شكَّل الآلية الرئيسية لتداول السلع في تلك المجتمعات.10 إن كان الأمر كذلك، قد يتصوَّر المرء أن في هذه المجتمعات كان من المُمكن تحديد الأسعار بناءً على المعاملات كما هي الحال في المجتمعات السوقية، حتى ولو كانت أسعارًا غير مُعَبَّرٍ عنها على هيئة أموال (ستة خراف مقابل بقرة واحدة). قد تكون المُقايضات واضحةً بسهولة تامَّة، لا تقلُّ عن نتاج صفقات الوساطة، حتى وإن جاءت تحت وصف هدايا. ويُمكنك القول بأنها حساب مُبتذَل يَليق بتلك الفترة. بكلِّ بساطةٍ قد يكون الانطباع بأن الأسعار قد صارت أكثر أهميةً للعلاقات المألوفة في العالَم المُعاصر راجعًا ببساطة إلى عجزنا في الوقت الراهن عن التحلِّي بالواقعية حيال طبيعة العلاقات في المجتمعات التقليدية.

لكن، ادَّعى موس، في الواقع، أنَّ الهدايا كانت تختلف عن المعاملات النقدية اختلافًا مُهمًّا. بمعنى أنه لم يكن يتمُّ تحديد، بالكامل أو حتى من الأساس، طبيعة الالتزام المُترتِّب على تلقِّي الهدية بناءً على طبيعة السِّلَع المُستلَمة؛ وإنما كانت ترجع بدرجةٍ كبيرة إلى المكانة الاجتماعية النسبية، وإلى غيرها من الصِّلات الاجتماعية والعاطفية بين المانح والمُتلقِّي. أحيانًا، بدا أنه يؤمن بأن تعقيد هذه العلاقات كان تحت تهديدٍ من معاملات السوق، وأنَّ المجتمعات الحديثة ستصِل إلى مرحلة «من التعاقُد الفردي البحت، من الأسواق حيث يُتداوَل المال، من البيع السليم، والأهم من ذلك، من مفهوم السعر المحسوب بعملة ذات وزن ومختومة بقيمتها.» وفي أحيانٍ أخرى، ابتهج بحقيقة أن «جانبًا كبيرًا من أخلاقنا وحياتنا نفسها لا تزال تتخلَّله نفس أجواء عصر الهدايا، حيث يَمتزج الالتزام والتحرُّر. ولحُسن الحظ، لا يزال كلُّ شيءٍ غير مُصنَّف بالكامل حسب البيع والشراء. ما زالت الأشياء تمتلك قيمة معنوية وكذلك قيمة تُشترى بالمال.»

نظرًا إلى أنه يترتَّب على الهدايا التزامات مُتبادَلة، فليس من الواضح كيف أفلتت من اعتبارها شيئًا يُشترى بالمال. ولكن يبدو أنها صارت جزءًا من استراتيجية التبادلية في المجتمعات التي وصفها موس بأن الارتشاء فيها ينبغي أن يكون مُستترًا، أو على الأقل أن يكون أكثر غموضًا. لقد أوضحت ناتلي زيمون ديفيز في كتابها «الهدايا في فرنسا في القرن السادس عشر»11 أن مفاهيمَ مُتعدِّدة مُتعلِّقة بمنح الهدايا قد تعايشت لقرون؛ فقد تَخَفَّت قواعد التبادلية المُعقَّدة تحت عباءة مُثُلٍ أنبل من «قِيَم بلا مقابل ولا تُعنى بحسابات» وسخاء كانت مكافأته الوحيدة هي امتنان المُتلقِّي. ربما لا يكون الأفراد أقل (ولا أكثر) أنانية من أحفادهم المُعاصِرين، ولكن بِلُغة صفقاتهم كانت المصالح أكثر ضمنيةً من الالتزامات والروابط. ويتبيَّن من هذا المنظور، أن ما يجعل الصفقات ذات الأسعار المُعلَنة مُختلِفة عن غيرها من الصفقات ليس الدافع وراءها، ولا فسادها في حدِّ ذاته، وإنما الافتقار إلى الغموض الذي من خلاله يتفشَّى الفساد. يُشبه بيعُ سلعة إعطاءَها إلى شخصٍ ما، وفي الوقت نفسه تذكيره بالدَّين الذي يدين لك به، وهو دين (هكذا يُقْصَد ضمنيًّا) كان يتعيَّن على الأفراد الراشدين والأذكياء أن يكونوا واعِين به دون الحاجة إلى تذكيرٍ، ولعلَّهم يستاءون من لفتِ انتباههم إليه بطريقةٍ مبتذَلة للغاية.

ربما كانت الهدايا طريقةً أكثر لطفًا ورُقيًّا من التبادُل التجاري لإتمام تبادُل اقتصادي. لذلك، مثل الكثير من الفنون الراقية والرفيعة، أعطت أفضلية لأصحاب الامتيازات الأرستقراطية جعلت إتقانها أسهل. كما تُوضِّح دراسة ديفيز بجلاء، كان من الممكن أحيانًا أن يتخلَّى الأثرياء وأصحاب الامتيازات عن صفقةٍ كبيرة، ولكن نادرًا ما كانوا يتخلَّون عن التحكُّم الفعلي في الموارد المهمة. كتبت ديفيز تقول: «فتحت الهدايا قنوات تواصُل عبر حدود المكانة الاجتماعية والثقافة. لقد عبَّرت عن التبادلية، التي اتَّسمت بالتوتُّر الشديد رغم صدقها، بين أطراف غير متكافئين في المرتبة الاجتماعية والاقتصادية.» ليست ديفيز بحاجة إلى أن تُضيف أن الهدايا لم تفعل شيئًا لتغيير تلك المرتبة. كانت الشروط، التي وفقًا لها كانت تُتبادَل الهدايا، أقل شفافيةً من الأسعار النقدية؛ لأنه لم يكن لأولئك الذين استفادوا من المرتبة الاجتماعية مصلحة من السماح للآخرين بمعرفة الكيفية التي كانت فوائدها تُوزَّع بها.

لنفترض صحة أن المعاملات، حتى بين من يعرفون بعضهم بعضًا معرفة جيدة، قد صارت أكثر شفافيةً وخضوعًا للأسعار المُعلَنة في العالَم المعاصر مما كانت عليه في زمن أسلافنا. لماذا يمكن أن يكون هذا قد حدث؟ يُمكن أن يكون أحد الأسباب هو أن عادات الاستدلال المنهجي ومسك الدفاتر التي نحتاجها لتنظيم التعاملات مع الغرباء قد طُبِّقَت أيضًا على تعاملاتنا مع أولئك الذين نعرفهم جيدًا. وبمجرَّد أن تتطوَّر مجموعة من العادات النفسية في أحد مناحي الحياة تُوجَد فيه حاجة مُلحَّة إليها، يُمكِن تطبيقها بقدرٍ أقل بكثيرٍ من العناء والجهد على مناحٍ أخرى كانت فيها الحاجة في السابق إلى تلك العادات أقلَّ إلحاحًا.

ربما يكون ثمة سبب آخر هو أن حقوق المِلكية قد صارت مُحدَّدة على نحوٍ أوضح مما كانت عليه في الماضي. رأينا في الفصل الخامس أن أيَّ تقسيمٍ ناجح واسع النطاق للعمل يتطلَّب درجةً من التوافُق حول ملكية الأفراد (من يمتلك ماذا)، ولا سيما بشأن من الذي يخوَّل إليه أحقية تقديم سلعٍ وخدمات في مُبادلة. وربما يُجَسَّد هذا التوافُق في نظامٍ قانوني رسمي، مثل سجلٍّ لسندات ملكية الأراضي، ومجموعة مُلائمة من القوانين الضابطة لمُمارَسة هذه الأحقية، ونظام إنفاذ يُتيح للناس ممارسة حقوقهم. أو ربما يتَّخذ التوافُق شكلًا أقلَّ رسمية، بشرط ألا يعتبرَه المُضطرُّون إلى استخدامه أقلَّ موثوقية. فكلما زاد عدَم التيقُّن في حقك في السِّلَع التي تعرض تقديمها لي غدًا، قلَّت قُدرتي على الوثوق بوعدك لردِّ الجميل الذي تُطالبني به اليوم.

لقد صارت بعض أنواع حقوق الملكية أوضح وذات طابعٍ أكثر رسمية مما كانت عليه في العصور القديمة والوسطى، رغم أن هذا ينطبق بشكلٍ خاص على المجتمعات الغربية الصناعية. ففي روما القديمة، لم يكن يُوجَد نظام للأحقية في الأراضي الحضرية. كان الأفراد يبنون منازلهم في أي مكان يُمكنهم أن يضعوا يدَهم عليه دون تحمُّل عواقب. والشيء نفسه ينطبق على المناطق العشوائية الفقيرة في الكثير من مدن الدول الفقيرة في يومِنا هذا، مع أن، من الناحية العملية، تتأثَّر بشدة قُدرة الناس على وضْع اليد على الأراضي والبناء عليها، حتى في المناطق العشوائية الفقيرة، بالقيود القانونية وكذلك غير القانونية. كانت أراضٍ زراعية كثيرة في أوروبا الغربية أثناء القرون الوسطى تُدار أيضًا بطرُقٍ منحت للأفراد حقوقًا أقلَّ وضوحًا مما حصلوا عليه بعد ذلك من حركة «تسييج الأراضي». ذلك لا يعني أنه لم يكن لدى الأفراد أيُّ ممتلكاتٍ خاصة؛ على العكس، تألَّف نظام الحقول المفتوحة الإنجليزي، على حدِّ تعبير ديردري مكلوسكي، من «قِطَع مُتفرِّقة خاضعة لتنظيمٍ جماعي ولكن يَمتلكُها أفراد.»12 تألَّفت الأراضي المشاع الفعلية من مراعٍ كانت غير صالحة للزراعة ويُمكن استخدامها للرعي فقط. إلا أن التنظيم الجماعي، وكذلك تكرار النزاعات بسبب قِطَع الأراضي المُجزأة والمُتفرِّقة، كان يعني أن الأفراد كان لديهم سيطرة محدودة على الاستخدامات التي يُمكن تخصيص أراضيهم لها. الأمر المُهم لما نحن بصددِه، أنهم تحمَّلُوا تكاليف أقلَّ وجَنَوا فوائد أقلَّ من استخدام الأراضي بأكثر طريقة مُثمِرة.

يتَّسم إنشاء حقوق ملكية واضحة بالأهمية القصوى في أي حالة تكون فيها الموارد التي تُمْتَلَك حقوقها ذات قيمة (وهي طريقة أخرى لقول إنها موارد شحيحة). وذلك لأنه بخلاف ذلك ستُتَّخذ قرارات ويُضطلَع بأنشطة، تُؤثِّر على هذه الموارد — بالاستنزاف أو الإفساد — دون أن تُوضَع قيمتها في الاعتبار على النحو الواجب. رأينا في الفصل الحادي عشر أن المناطق الشحيحة الموارد المائية بالجزء الغربي من الولايات المتحدة هي التي نشأت فيها أكثر النظم شمولًا فيما يتعلَّق بحقوق ملكية الموارد المائية في القرن الماضي. في جميع أنحاء العالم، صارت أحقية تملُّك الأراضي أكثر منهجيةً في المناطق التي تُعاني من أعلى عجزٍ في الإمدادات بالمقارنة باحتياجات الناس من الغذاء والإسكان. ذلك هو أهم سبب وراء بقاء الكثير من الأراضي مشاعًا في أنحاءٍ كثيرة من أفريقيا؛ لأن أنحاء كثيرة من أفريقيا لا تُعاني من ندرة الأراضي، وإنما من ندرة الأفراد القادِرين على العمل في تلك الأراضي. وأينما كانت ثمَّة ضرورة لاعتبار موردٍ ما ذا قيمة، بدلًا من اعتباره مخزونًا غير محدود، سيكون من المهم أن يتمتَّع أحدٌ ما بحقوقٍ واضحة في ذلك المورد؛ وإلا ستغفل الرؤية الضيقة لجميع الأطراف المَعنية عن تعهُّد هذا المورد. ولكن حين يكون النظام البيئي في العالَم آخذًا في التغير، ربما تستغرق نظم حقوق الملكية وقتًا طويلًا للتكيُّف مع الحقائق الجديدة. بعض الموارد البيئية لكوكب الأرض — كغلافها الجوي مثلًا — ليس لها ملاك فرديُّون يتحدَّثون نيابةً عنها، ويجب أن تعتمد على الضمير الجماعي لنا جميعًا.

إنَّ بيع وشراء أي شيء، سواء كان أرضًا أو حبوبًا أو عقودًا مالية، يستلزم أن يمتلك الفرد البائع مجموعةً واضحةً من الحقوق في الغرض المعني، «بما في ذلك حق التنازل عن تلك الحقوق لشخص آخر.» لعلَّ من الصحيح أنه توجَد الآن أشياء في عالَمنا تتمتَّع بهذه الحقوق المُحدَّدة حولها أكثر ممَّا كان عليه الحال في العصور الوسطى، إلا أنه سيكون من التضليل كثيرًا أن نُشير إلى هذا باعتبار أنه كان تقدُّمًا مُستمرًّا. ثمَّة أشياء كثيرة أُقدِّرها ولكن ليس لديَّ حق التنازل عنها إلى شخصٍ آخر، بدايةً من الحق في حريتي الخاصة، التي صارت إمكانية التنازل عنها غير شرعية منذ إلغاء الرِّق. وذلك يستتبِعُه القول بأنه توجَد أشياء كثيرة أُقدِّرها وليس لها ثمن؛ لأنَّ وجود ثمنٍ يُوحي بالتنازل نظير مقابلٍ مُحدَّد. أحيانًا يعتمد هذا القيد على حق التنازُل على توافُقٍ اجتماعي، كما هي الحال مع الرق (تَوافُق لم يكن قائمًا في الولايات المتحدة إلا بعدَ اندلاع حربٍ أهلية وحشية). وأحيانًا يَعتمِد على ما لا يُمكن وصفُهُ إلا بأنه فشل اجتماعي كارثي. كتب عالِم الاقتصاد هيرناندو دي سوتو عن التناقُض المذهل في أنَّ كثيرين من الفقراء في دول العالم النامي في الواقع «يَمتلكون» أصولًا ذات قيمةٍ عالية جدًّا، ابتداءً من منازل مبنية في أحياء حضرية.13 إلَّا أنَّ ملكيَّتهم غير رسميةٍ تمامًا، وغير مُعترَف بها من جانب أيِّ أنظمة قانونية، وهي حقيقة تجعل من المُستحيل عليهم أن يستخدموا هذه الأصول ضمانةً لقروض؛ ومن ثَمَّ زيادة رأس المال الذي يُمكن استخدامه لتحقيق غاياتٍ مُثمِرة والمساعَدة في انتشال المُلَّاك الصوريِّين من فقرِهم الاجتماعي المفروض عليهم. بعبارةٍ أخرى، بغياب حقِّ التنازل، قد يَبقى المُلَّاك، رغم وجود المِلكية، بلا حول ولا قوة، غير قادِرين على الاستفادة من حقوق التبادُل التي هيَ من صميم التقسيم الحديث للعمل.
كثيرًا ما تخضع الحدود الفاصِلة بين ما له سِعر وما ليس له سِعر للاختبار. ها هي حالة مُذهِلة تصفُها جنيفر جان:
في سبتمبر من عام ١٩٩٩، عرض شخص كُلْيَتَه اليُمنى للبيع على موقع إيباي، وهو موقع مزادات على شبكة الإنترنت. ففي أمريكا؛ حيث يُوجَد أكثر من ٤٧ ألف مريض في انتظار عمليات زراعة الكُلى، وحيث تضاعف تقريبًا مُتوسِّط عدد المُنتظِرين لإجراء هذه العمَلية بين عامَي ١٩٨٨ و١٩٩٦، أثار هذا اهتمامًا بالغًا. كانت المُزايَدة قد وصلت إلى ٥٫٨ ملايين دولار قبل إغلاقها من قِبَل مُديري موقع إيباي لأن البيع من شأنه أن ينتهك قانون زراعة الأعضاء الوطني الأمريكي، الصادر عام ١٩٨٤، والذي يَحظُر بيع أعضاء الجسم البشري. والقانون في حدِّ ذاته لا يتعرَّض لسبب المنع، إلا أنَّ اللغة المُستخدَمة أثناء جلسات استماع الكونجرس لا تدع مجالًا للشك فيما يتعلَّق بدافع المُناصِرين للقانون: «لو … عُرِضت أعضاء الأشخاص الأحياء للبيع والشراء، أظنُّ أن هذا سيُمثِّل انحطاطًا كبيرًا للإنسانية … هذه «السوق الحرة» لبيع أعضاء الأفراد تنطوي على انتهاكٍ للأخلاق ولا يُمكن تبريرُها من الناحية الأخلاقية.» في الحقيقة، يبدو أن الشعور بالاشمئزاز الأخلاقي الذي يَنتابُنا من فكرة بيع عضو من أجسادنا هو شعور شِبه عالمي. لقد شجعت منظمة الأمم المتَّحدة، ومِن بعدها الاتحاد الأوروبي، الدول الأعضاء ووجَّهتها إلى حظر بيع الأعضاء البشرية. ولقد فسَّرت منظمة الصحة العالمية الإعلان العالَمي لحقوق الإنسان بأنه يَحظُر بيع الأعضاء البشرية.14
من المهم ملاحظة أن ما يَعتبره الكثيرون مُسيئًا فيما يتعلَّق ببيع الأعضاء البشرية ليس بالضرورة حقيقة أنَّ شخصًا سينقل أعضاءه إلى شخصٍ آخر. فنِسبة كبيرة من الكُلى المزروعة تأتي من مُتبرِّعين أحياء، أغلبهم من أقارب المُتلقِّي. وعادةً ما نُثني على كرم هؤلاء المُتبرِّعين. ولكن ما يَستاء منه البعض هو فكرة التبرُّع بأعضاء الجسم كجزء من صفقة واضحة، أي صفقة مُقابلَ ثمن. (عادةً ما يُعَبَّر عن ردود فعلٍ مشابهة نحو عمليات الحمل البديل، والاتجار بالجنس، والتبرُّع — في بعض الدول — بالدم مقابل المال.)15 قد يكون الأمر أنَّ الناس تُساوِرُهم أيضًا الشكوك حيال حدوث صفقةٍ سرية من نوعٍ ما في الحالات الأغرب التي يتبرع فيها شخص غريب بالكُلى بدون مقابل؛ لدرجة العداء الصريح لدوافع مثل تلك التبرُّعات التي لا يُمكن فيها إثبات إجراء مثل تلك الصفقات، كما كتبت لاريسا ماكفاركهار في مجلة «نيويوركر» عام ٢٠٠٩. غير أن التطمينات تأتي من مجال الطب النفسي:
في عام ١٩٦٧، بدأت دراسة مُمتدَّة على مُتبرِّعين أحياء بالكُلى من غير الأقارب، بهدف مساعَدة مراكز زراعة الأعضاء على وضع سياساتٍ لهؤلاء الأفراد المُدهشين. أخضعت الدراسة المتبرِّعين لمقابلاتٍ تَشتمل على التداعي الحُرِّ وتفسير الأحلام واختبارات رورشاخ واختبارات إدراك الموضوع. وحين نُشرَت الدراسة عام ١٩٧١، وُجِدت أدلَّة على وجود مازوشية بدائية لدى المُتبرِّعين وتُشكِّل ردَّ فعلٍ تجاه السادية المُبكِّرة، وصراع مثلية جنسية، ورمزية خاصة بالحمل، وعقدة حسد القضيب. ولكنها زعمت أن المُتبرِّعين لم يَختلفوا في ذلك عن باقي البشرية، وأنه بعد إجراء العملية، ذَكَر كلُّ مُتبرِّع أنه شعر بشعورٍ عميق ومُتزايِد من تقدير الذات؛ شعور «بأنه فعل شيئًا مفيدًا وطبيعيًّا دون أي شعور بالندَم.»16

وكما ذكرت لاريسا ماكفاركهار، يُتوفَّى في الولايات المتَّحدة الأمريكية حوالي تسعة أشخاص يوميًّا وهم يَنتظرُون إجراء عملية زراعة كُلى. إنَّ الشعور بالاشمئزاز الذي ينتاب البعض نحو الاتِّجار الصريح بالأعضاء البشرية هو شعور قوي، وحظْر هذا الاتِّجار يُساعدُهم في الحِفاظ على الوعي بتكامل الجسد البشري. ولكن ذلك الوعي بتكامُل الجسد البشري له تكلفة.

وسواء كنَّا مُحقِّين أو لا في وضع حدودٍ فاصِلة بين صفقات السوق والتعاملات السرية أو القائمة على الهدايا حينما نفعل ذلك؛ فالحقيقة أنَّ هذه الحدود موجودة بالفعل ولطالَما كانت كذلك. حتى لو كنَّا نُسجِّل بحرصٍ تعامُلاتنا مع الغرباء، فإنه توجد مناحٍ أخرى كثيرة من الحياة الاجتماعية تكون فيها تعاملاتنا تبادُلية على نحوٍ أقل وضوحًا، وفي إطار صفقة أقل علنية. أحيانًا يرجع هذا إلى أننا مقيدون بدوافع القرابة والتزاماتها، كما هو الحال داخل إطار أُسَري. وأحيانًا، يرجع هذا إلى أننا نتصرَّف بدافع رغبتنا في المشاركة في نشاط تطوعي وجماعي، كما هو الحال في النَّوادي أو داخل إطار علاقات الصداقة والمجتمع المحلي. وأحيانًا يرجع ذلك إلى أن العادة أو العفوية أكثر قبولًا لدَينا من الحسابات، وهي رفاهية لا يُسبِّب لنا الانغماس فيها ضررًا حقيقيًّا.

ولكن أحيانًا يرجع هذا إلى أنه، بصرف النَّظر عن كلِّ الإنجازات الاستثنائية للأسواق في الكثير من الأنشطة الأساسية للحياة العَصرية، تُوجَد مؤسَّسات أخرى كثيرة يُمكنها أداء إنجازاتٍ تنسيقية عظيمة تُنافِس إنجازات الأسواق. لعلَّ أبرز هذه المؤسَّسات هي الشركة العصرية. الكثير من الأفراد يَلتحقُون بشركاتٍ كجزءٍ من صفقة واضحة، عادةً ما تَشتمِل على وعدٍ بتقاضي راتبٍ مقابل الوعد بأداء عمل. ولكن بمجرَّد أن يدخلوا الشركات، تخضع القرارات اليومية التي يتَّخذونها إلى منطقٍ مختلف تمامًا عن المنطق الصريح للأسواق. إنه منطق التسلسل الهرَمي الإداري، الذي يُمارِس فيه الناس سلطةً تقديرية ويُصدرون التعليمات ويلتزمون بها، ولا يَنطوي إلا قليل منها على تَشابُهٍ مع الصفقات الواضحة التي يُمكِن تمييزها عن طريق الأسعار. في الفصل الثالث عشر، سنَستكشِف ما يُمكن أن تفعله الشركات، ولماذا تزداد حجمًا وأهمية في الحياة العصرية، وأين تقع الحدود الفاصِلة بينها وبين الأسواق. حقيقة أن الشركات تلعب دورًا مِحوريًّا في تقسيم العمل الحديث تُنبِّهُنا إلى بعضٍ من الأشياء الكثيرة التي لا تستطيع الأسواق فعلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤