الفصل الخامس عشر

الإقصاء: البطالة والفقر والمرض

العاطلون عن العمل

زرتُ مدينة كييف، عاصمة أوكرانيا، لأول مرة عام ١٩٩٥. كانت الدولة غارقةً في حالةٍ من الركود الاقتصادي العميق، لذا فوجئتُ برؤية دلائل على نشاطٍ كبير للبناء والتشييد. ولمسافة عدة كيلومترات على طول الطريق من المطار إلى وسط المدينة، كان يمكن رؤية أبراجٍ شاهقة غير مُكتمِلة، مُغطَّاة بسقَّالات وتُهيمِن عليها أوناش مُحلِّقة في الهواء. كانت توجد شاحنات وخلاطات إسمنت وأكوام من رمل البناء. وبعد أن اجتَزنا هذا الموقع الفسيح والمذهل لأعمال التشييد ببضع دقائق، أذهَلَني شيء غريب، فسألتُ مُضيفًا: «هل اليوم عطلة رسمية؟» هزَّ رأسه قائلًا: «أعرف فيمَ تُفكر. لا أحد يعمل هناك. لم يأتِ أحدٌ إلى هناك منذ بضع سنوات على الأقل.» وفجأة، تحوَّل هذا المشهد البانورامي العظيم للمباني والمركبات والمعدَّات التي بدَتْ شاهدًا على نشاطٍ محموم إلى رمزٍ كئيب للنقيض تمامًا؛ رمز لأزمة اقتصادية كارثية في أعمال التشييد لدرجة أنَّ أحدًا لم يُكلِّف نفسه عناء إزالة تلك المعدات التي كان يمكن إنقاذها من التلَف. لم يكن ثمَّة جدوى من إنقاذها إذا لم يكن يُوجَد عمل تؤدِّيه في مكانٍ آخر.

في هذا المشهد، كان العمَّال العاطلون — خلافًا للمُعدات غير المستعملة — مُتوارِين عن الأنظار. كانوا في منازلهم على الأرجح، إما فُصِلوا من وظائفهم أو يعملون فيما يُطلَق عليه على سبيل تلطيف الوصف «عمل قصير الأجل»، يُواسيهم بإمكانيةٍ نظرية لاستدعائهم في حالة ارتفاع الطلَب عليهم في وقتٍ قريب، وهو أمر مُستبعد. في المجتمعات الغربية الحديثة، كثيرٌ من ضحايا الركود الاقتصادي، مثل ضحايا الفقر أو المرَض، يكونون بالمثل غير واضحين، لكن هذا لا يَعني أنهم غير موجودين، أو أن عدَدَهم قليل. أحيانًا، يُصبحُون ظاهرين للعيان بطرُقٍ قد تبدو مُزعجة لأولئك الذين اعتادوا نشاط الأشخاص المَشغولين الذي يبدو منظمًا. وصف المؤرخ بيرس بريندون ما يُطلَق عليه «واحد من أكثر الأمثلة الصارخة على الإكراه الحكومي في تاريخ أمريكا»، حدث هذا أثناء فترة الكساد الكبير، عندما، في عام ١٩٣٢، «تجمَّع ٢٠ ألف مُحارِب قديم عاطل عن العمل، ممَّن شاركوا في الحرب العالَمية الأولى، في واشنطن العاصمة»:
بعدما جاءُوا إلى العاصمة من جميع أنحاء البلاد، زادت أعدادهم بسبب الدعاية المصاحبة … وضع المُحارِبُون القدامى خِيَمهم في أماكن مفتوحة أو احتلُّوا مبانيَ خاوية بالقُرب من مقر الحكومة. عسكر مُعظمُهم في السهول الطينية، التي كانت تعجُّ بالبعوض، في ضاحية أناكوستيا، المُكنَّاة باسم «هارد-لاك-أون-ذا-ريفر» (حظ سيئ على ضفاف النهر) … حافظوا على النظافة والملاءمة الصحية لهذا المكان قدْر الإمكان، فحفروا مراحيض … بل إنهم زرعوا حدائق صغيرة. والبعض أتوا بأُسَرهم. كانوا رجالًا مُحترمين ومنضبطين … [ولكن مع ذلك] أدى الشعور بالإحباط إلى المواجَهة.1
عندما احتلَّ المُحاربون القدامى عدة مبانٍ بالقُرب من مبنى الكابيتول كان من المُقرَّر هدمُها، قرَّر اللواء دوجلاس ماكارثر، رئيس أركان الجيش الذي اكتسب فيما بعدُ شهرة وسمعة سيئة في المحيط الهادئ وكوريا، أن «يَقصم ظهر» المتظاهرين. «وهكذا، في وقت مُتأخِّر من بعد ظهر يوم ٢٨ يوليو، تقدَّمت أربع كتائب من سلاح الفرسان، وستُّ دبابات حربية، وأربعُ كتائب من سلاح المُشاة بخوذهم الفولاذية وبحِرابٍ ثابتة ومدافع رشاشة، نحو شارع بنسلفانيا … أوسعوا الأشخاص المذعورين ضربًا بغُمُد سيوفهم. فجُرحَت أعدادٌ كبيرة.» أُخليَت المباني وأُضيئت شوارع الحي الفقير. دافعت الحكومة عن تصرُّفات ماكارثر مع أنَّ الأخير كان قد تجاوَزَ أوامرَه، كما فعل فيما بعد ما هو أكثر فظاعةً وخطورة أثناء الحرب الكورية. (كان قد أثار بالفعل انتقاداتٍ واسعة النطاق عندما ادَّعى أمام الصحافة أن المُحاربين القُدامى كان «يُحرِّكُهم جوهر الثورة».) مع أنه تُوجَد دلائل على أن كثيرين من أعضاء الحكومة، حتى الرئيس هوفر نفسه، انزعجُوا حقًّا من الأعداد المهولة للعاطلين عن العمل في فترة الكساد الكبير بأمريكا، أوضحت الأحداث أنَّ السلطات كانت تتوقَّع أن يبقى العاطلون مُتوارِين عن الأنظار. فكلَّما كانوا أكثر ظهورًا، زاد الشعور بالذُّعر الذي كان يُثيره وجودهم. كان هذا بمثابة إحساس بخرق منعٍ أعطى ميزة سياسية واقعية لأعمال مُصوِّرٍ مثل ووكر إيفانز، الذي سعى إلى إبراز ضحايا الكساد للعيان من بقية سكان أمريكا. في الواقع، دخل إيفانز في صراعٍ مع الجهة التي كان يعمل لحسابها؛ أي إدارة أمن المزارع، التي كان مشروعها الفوتوغرافي يهدف إلى إظهار إمكانية «مُستقبَل أفضل» لفقراء المناطق الريفية بأمريكا، وهي إمكانية بدا أن واقعية إيفانز الوثائقية الكئيبة تنفيها.2

أشاعت أزمة الكساد الكبير فكرة أن البطالة والانهيار الاقتصادي المَرحلي كانا سِمتَين مُحدَّدتَين للرأسمالية الصناعية، الجانب المظلم لحماسة الرأسمالية الأكيدة وإنتاجيتِها في أبهى صورها. أثار الكساد، الذي حدث بعد فترة وجيزة من سنوات رخاء عشرينيات القرن العشرين، الاعتقاد بأن الرأسمالية كانت، من بين جميع الأنظمة الاقتصادية، الأكثر عُرضةً بصورة استثنائية لدورات الازدِهار والركود، حيث لم يدعَم الأوقات الطيبة شيء أشد رسوخًا من التفاؤل، وغلَّف الأوقات العصيبة شعورٌ جماعيٌّ بالكآبة. لم يكن شارع وول ستريت، مركز الأسواق المالية، يُمثِّل أكثر من الكازينو الذي اختلطَت فيه نوبات التفاؤل والتشاؤم في مقامَراتٍ أقدمَ عليها الخبراء الماليُّون بأموال الآخرين وكذلك بحياتهم.

الازدهار والركود وتقسيم العمل

في الواقع، رغم أن الازدهار والركود في العالم المُعاصِر مُعتمدان، على نحوٍ مُقلِق، على حالةٍ من الثقة السريعة الزوال، فإن هذا ليس بجديدٍ ولا غريب على الرأسمالية الصناعية الحديثة. إنه أمر مُتأصِّل بعُمق في تقسيم العمل ذاته وهو يُمثل عنصر خطورة في المجتمعات الزراعية الصرفة وكذلك في المجتمعات الصناعية. ولكي نرى السبب، تخيَّل مُجتمعًا بسيطًا، لا يستخدِم المال، يواجه فيه المزارعون اختيارًا بين زراعة الغلال والقيام بواحدٍ من نشاطَين آخرين: إنتاج الْخُبْز أو تربية الماشية من أجل اللحوم والألبان. لكلا النشاطين سِمات تجعلهما مُعتمدَين على الثقة؛ ففي مجتمَع مُترسِّخ فيه تمامًا تقسيم العمل، سيزرع بعض المزارعين الغلال ويقايضونها مع الآخرين الذين يَخبزون الخبز أو يُربُّون الماشية؛ نظرًا لوجود مميزاتٍ في التخصُّص. لا يرغب الجميع في امتلاك فرنٍ أو يستطيعون إدارته بفعالية؛ ولا يمتلك الجميع المهارات أو المعدَّات المناسبة لتربية الماشية. قد نَفترِض أن كلًّا من الخبازين ومُربِّي الماشية سيحتاجون إلى الغلال لاستخدامها في إنتاجهم، من أجل تغذية الأفران أو الثيران، وكذلك ليأكلوا أثناء انتظارهم أن ترى منتجاتُهم النور. الفارق بينهما أن مُربِّي الماشية يَحتاجون إلى المزيد من الغلال، ويحتاجونها لوقتٍ أطول. يستطيع الخبازون أن يأخذوا الغلال ويعودوا بها إلى المانح بعد يومٍ أو أكثر على هيئة خبز؛ أما مربو الماشية فيأخذون الغلال ويعودون بها على هيئة لحمٍ أو لبن بعد عدة شهور. هذا يعني ضمنيًّا أنه في حين أن كِلا النشاطين، إنتاج الْخُبْزِ وتربية الماشية، يتطلَّب الثقة، فإنهما بحاجةٍ إليها بدرجاتٍ متفاوتة.

بوسعنا أن نتخيَّل أن الحاجة إلى الثقة في هذا المجتمع هي في أغلب الوقت كامنة إلى حدٍّ ما. فالخبازون يُقدِّمُون الخبز مباشرةً في مقابل الغلال؛ ومربو الماشية يُقدِّمون اللحم واللبن مباشرةً في مقابل الغلال التي يَحتاجونها — كل واحدٍ يحصل على المُدخلات الضرورية للإنتاج المُستقبَلي بتوفير مخرجات الإنتاج في الماضي. لدى المواطنين المُقيمين، لا تُوجَد مشكلة؛ إنها مُقايَضة مباشرة. فالخبازون ومربو الماشية الشباب يبدءون نشاطًا تجاريًّا، وعلى الجانب الآخر، عليهم إقناع مُزارِعي الغلال أن يُقرِضوهم الغلال إلى أن يُنتجوا كميةً كافية من الخبز أو اللبن أو اللحم لتسديد الدين. لذا، يتطلَّب أن تُصبح مُربِّي ماشية ثقةً أكبر من أن تُصبح خبازًا، ولكن بطبيعة الحال لا بدَّ أن يتوافر إمدادٌ جاهز من الشباب المُستجدِّين لكِلا النشاطَين.

الآن، تخيَّل حدوث أزمة ثقة في هذا المجتمع البسيط. ربما تَنتشِر الإشاعات باحتمال حدوث عجزٍ في المحاصيل، وقد تُصبح الغلال شحيحة؛ ومن ثم لن يتمكَّن الخبَّازون ومربو الماشية من تسديد قيمة الغلال التي هم مدينون بها، مُفضِّلين تخزينها بدلًا من ذلك. أو قد تؤدِّي شائعات تتردَّد بوجود نزاعات عرقية نائية إلى جعل مُزارعي الأراضي الصالحة للزراعة (من القبيلة أ) يتشكَّكون فجأةً في جدارة الخبَّازين (من القبيلة ب) بالثِّقة ويُبدون العداء لمُربي الماشية (من القبيلة ﺟ). في هذه الأجواء الجديدة من التشكيك، قد يُحجم المزارعون عن إقراض غلالهم إلى الخبازين أو مربِّي الماشية.

إذا كانت الأزمة بسيطة نسبيًّا، فقد يكون الخبازون هم الأكثر تضررًا؛ نظرًا لأن مربِّي الماشية يستطيعون أن يعيشوا لبعض الوقت على مخزونهم من اللَّحم واللبن؛ بينما يملك الخبَّازون مخزونًا يكفي فقط لبضعة أيام. وفي أزمة أشدَّ وطئًا، قد يكون مربُّو الماشية الأكثر تضرُّرًا؛ لأن ماشيتهم ستموت أو ستُؤخَذ منهم بالقوة، لتسديد قروض الغلال السابقة التي تخلَّفوا عن سدادها لسببٍ واحد هو أن أحدًا لن يُقرضَهم أيَّ غلال في المستقبل. لن يمتلك الخبَّازون أيَّ غلالٍ أيضًا، لكن الديون المُستحقَّة عليهم ستكون أقلَّ وقد يكون بوسعِهم جمع شتات أنفسهم بسهولةٍ أكبر إذا مرَّت الأزمة. قد يُفكِّر كل من الخبَّازين ومُربِّي الماشية بأسًى؛ كم كان كل شيءٍ سيكون أيسَرَ لو أنهم التزموا فقط بزراعة الغلال (بل قد تتردَّد أصوات مُنذرةٌ مُنادية بالعودة إلى الاكتفاء الذاتي الدائم في المستقبل). في نهاية المطاف، ندرة الخبز واللحم واللبن ستجعل المزيد من الأشخاص المُغامِرين يُفكرون في العمل خبازين أو مُربِّين للماشية مرةً أخرى، وبعض المواطنين المُغامرين على استعدادٍ لإقراضهم الغلال من أجل المضي قُدُمًا. إلا أنه ستحدُث دورة من الازدهار والركود لا يدفعُها سوى تزايُد الثقة وتضاؤلها. ولا يلوح في الأفق مصنعٌ أو سُوق أوراق مالية.

هذا المثال يُبَسِّط بالطبع الكثير من العمليات الجارية في المجتمعات الصناعية الحديثة. نحن نَفترِض أن مُربِّي الماشية قد يتعرَّضون للإفلاس ويُصبحُون عاطلين عن العمل لأنَّ الآخرين لا يثِقون بمُربِّي الماشية. ولكن في المجتمعات الحديثة، من المُرجَّح بنفسِ القدْر أن مُشغِّلي الماكينات سيُصبحون عاطلين عن العمل؛ لأنَّ الآخَرين يتوقَّفُون عن الثقة في مديري الشئون المالية. أو قد تُؤدِّي أزمة الثقة في سوق العقارات إلى هبوطٍ في أسعار المنازل، وهو ما يَعني أن البنوك ستَجني مَبالغ أقلَّ من قروض الرهن العقاري؛ ومن ثَمَّ سيكون لديها رأس مال أقل لإقراضه للأعمال التجارية. ولذا، يُمكن أن تُفلِس شركة تصنع القمصان لمجرَّد أن بعض الأشخاص قد غيَّرُوا رأيهم بشأن الموثوقية في المنازل باعتبارها استثماراتٍ مستقبَلية. ونظرًا لتعدُّدية العلاقات القائمة على الثقة في العالم المُعاصر، فإن فشل علاقة ثقة معينة يمكن أن تؤذي أفرادًا لم يكونوا مُطلقًا جزءًا من تلك العلاقة من الأساس. ولكن بالرغم من بساطة المثال، فإنه يُبيِّن بوضوحٍ شديد أن حالات فقدان الثقة هي مُجازفة مُتأصِّلة في أي مجتمع قائم على تقسيم العمل، كلَّما تطلَّب ذلك التقسيم (كما هي الحال دائمًا في الأغلب) أن يعتمد بعض الأفراد على الثقة بالآخرين لكي يكونوا قادِرين على التخصُّص، وكلَّما كان تقسيم العمل أكثر تفصيلًا، زادت احتمالات انهيار شبكة الثقة التي تدعمه.

أحيانًا تُكتسب الثقة بسهولة بالغة، لكن المُحتالين يُسيئون استغلالها. قد يجد الطامحون إلى تربية الماشية أنَّ من السهل اقتراض كمياتٍ مهولة من الغلال استنادًا إلى مظهر مُتأنِّق وقبعة رُعاة بقر. أو ربما تُتَداول أسهم الشركات الناشئة عبر شبكة الإنترنت بأسعارٍ باهظة دون أي أرباحٍ مُستقبَلية (قوة سعر السهم مؤشِّر على السهولة التي يقترض بها ملاك الشركة الأموال). ومن ناحية أخرى، أحيانًا يكون اكتساب الثقة أمرًا بالغ الصعوبة، ولا يستطيع الأشخاص الذين يتَّصفون بالنزاهة والكفاءة توفير أسباب عيشهم أو حتى قد يفقدون مَورد رزقهم الذي كانوا قد اكتسبوه من قبل. وفي مطلع القرن الحادي والعشرين، كما هي الحال في ثلاثينيَّات القرن العشرين، ربما نظنُّ أن اللَّوم يقع بالأساس على أسواق الأوراق المالية، نظرًا لأنه في أواخر التسعينيَّات من القرن العشرين، وفي السنوات الأولى من الألفية الجديدة، كما هي في عشرينيات القرن العشرين، تسبَّبت الأسواق المالية في تضخُّم حالة الازدهار بطريقةٍ أجَّلت وبالغت في حدوث الركود التالي. تزيد أسواق الأوراق المالية المخاطر، عن طريق كفاءتها الشديدة في الجمع بين المُقترِضين والمُقرضين، وروَّاد الأعمال والمستثمرين، وأصحاب الأفكار والعائلات التي تملك المُدَّخرات. لم تُستحدَث بعدُ طريقة، ولن يحدث ذلك على الإطلاق، تمنحنا فُرصًا أكثر للاستثمار من أجل مستقبلنا دون أن تقدِّم لنا المزيد من الفُرَص للتعرُّض للغشِّ والاحتيال عن طريق استغلال الآخرين لرغبتنا العارمة في أن نُصبح أثرياء. ولكن كما ينبغي أن يُعلمنا هذا المثال، حالات ازدهار وانهيار أسواق الأوراق المالية هي مجرد مظهرٍ حديث من مظاهر دورات الثقة، ودورات الثقة، كما رأينا في الفصل الثامن، هي مشكلة لها جذور أقدم بكثير.

روَّجت ثلاثينيات القرن العشرين، بظروفها الاقتصادية الفظيعة وأحداثها السياسية المُروِّعة التي أثارتها، لفكرة أن الرأسمالية الصناعية الحديثة كانت غير مُستقرَّة على نحوٍ غير مألوف. أيضًا روَّجت تجربة الكساد الكبير لفكرة أن مهمة الحكومات الحديثة كانت تتمثل في التدخُّل للسيطرة على حالة عدم الاستقرار هذه. هذه فكرة جذابة ومنطقية، ولكنَّها تتَّسم بالخطورة أيضًا. الرأسمالية الصناعية الحديثة غير مُستقرَّة بالفعل، غير أنَّ هذا ليس أمرًا استثنائيًّا في تاريخنا ولا يَرجع إلى أسبابٍ غير مَسبوقة تاريخيًّا. فالأسواق زاخرة بالفعل بمُتفائلين جذَّابين (ناهيك عن المُحتالين الخالصين) يسعون إلى الاستفادة من ثقتنا، ولكن كذلك هو حال الحكومات والأحزاب السياسية. آراؤنا السياسية ليست أقلَّ اعتمادًا على التواصُل الشفهي ولا تأثُّرًا بسلوك القطيع من آرائنا المُتعلِّقة بالاستثمار، بل إنها أحيانًا ما تَزيد عنها؛ إذ قَلَّما يُطلَب منَّا دعم آرائنا بأموالنا. الخبراء أيضًا يتَّسمُون بأنهم سريعو التأثُّر، كما رأينا في الفصل الثامن؛ فبينما صحيح أنه عادةً يكون مِن المُمكن أن يُصبح المستثمرون المُحنَّكون سذَّجًا على نحوٍ غريب تحت تأثير حماسة السوق، كذلك يُمكن أن يُصبح مسئولو التنظيم الرقابي. في نهاية الأمر، كان المُشتهِر بالحذر آلان جرينسبان، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي بالولايات المتحدة والمسئول الاقتصادي الأكثر نفوذًا في العالم، والذي حذَّر عام ١٩٩٦ من «الوفرة اللاعقلانية» لأسواق الأوراق المالية وفي غُضون عام، بعدما أغفل تحذيره هو شخصيًّا، هو من كان يقترح أن المُستويات الاستثنائية لأسعار الأسهم كان يُبرِّرها تغيير جذري في طبيعة الاقتصاد الأمريكي؛ وهو ما يُماثل بعض الشيء ما كان عالِم الاقتصاد إيرفينج فيشر قد قاله بتفاخُر عام ١٩٢٩ أنَّ «أسعار الأسهم قد وصلت إلى ما يبدو أشبه بحالة استقرار مُرتفِع دائمة.» لذلك فإن الدرس المُستفاد هو أنه من المؤكَّد أن تقسيم العمل الاقتصادي يترُكنا عُرضة لدورات الازدهار والانهيار. إلا أن الأمر نفسه ينطبق على تقسيم العمل بين المواطنين، والساسة الذين يَنتخبونهم، ومسئولي التنظيم الرقابي الذين يُعينُهم هؤلاء الساسة. فقط إذا كُنَّا واعِين للطريقة التي تُعطى وتُكتسَب بها الثقة في مختلف المجالات التي تُشكِّل المجتمع الحديث، سنكون قادرين على الاستعانة بالمؤسسات التي تظلُّ فيها الثقة قائمة لعلاج القصور في المؤسسات التي تداعت فيها الثقة.

في عامٍ كان فيه أداء الاقتصاد العالمي جيدًا نسبيًّا (كما كان الحال قبل اندلاع الأزمة المالية في عام ٢٠٠٧)، من المُحتمَل أنه يوجد ٣٠ مليون شخصٍ في الدول الصناعية وحدَها مُسجَّلين ضمن العاطلين؛ وهو ما يُعادل تقريبًا تعداد سكان كندا أو المغرب. في عامٍ سيِّئ، ربما يربو العدد على ضعف ذلك الرقم، ولو أن جميعهم وقفوا في صفٍّ واحد للحصول على إعانات البطالة، فربما يمتدُّ الصف من نيويورك إلى لاس فيجاس أو من لندن إلى موسكو. إنهم، في الواقع، مُتفرِّقُون وغير واضحين نسبيًّا. كثيرون منهم — وأعدادهم أكبر نسبيًّا في السنوات العجاف — يُشبهون الخبَّازين ومُربِّي الماشية في مثالنا السابق. إنهم أشخاص كان دورهم في تقسيم العمل قائمًا على أساس الثقة التي تبخَّرت الآن، وسيتعيَّن عليهم جمع شتات أنفسهم والبدء من جديد، ربما في الدور نفسه بمجرد أن تمرَّ العاصفة، وربما في دورٍ جديد. ولكن الضغوط الواقعة عليهم، في أثناء ذلك، شديدة؛ لأن البطالة لا تعني فقط فقدان الدخل، وإنما أيضًا فقدان الثقة في النفس والشعور بالانتماء. على نحوٍ أقل إزعاجًا، يتنقَّل بعض العاطلين بين الوظائف (على نفس النحو الذي ينتظر به بعض ركاب السكة الحديد على المحطة بين مواعيد القطارات)، ومع ذلك، فإنَّ بعضهم عاطلٌ لسببٍ مختلف؛ فالعمل الوحيد الذي يُمكنهم القيام به هو عمل غير مُنتِج ومُرهِق للغاية؛ لدرجة أنه من الأفضل الانسحاب تمامًا. وهذا النوع الأخير من البطالة يَحدُث قطعًا في العالَم الصناعي، ويُمكن أن ينجم بدون قصدٍ عن أنظمة الضرائب والإعانات التي تُعاقِب الأشخاص بقطع الإعانات عنهم ما إن يبدءوا في كسبِ ولو حتَّى أجر صغير. ولكن دول العالم النامي، ولا سيما في مناطقها الريفية، هي التي يكون فيها هذا النوع من البطالة مُزمنًا، وميئوسًا منه، وواضحًا في كل مكان.

الفقر وجزُر المعلومات

كوفيلار قرية صغيرة في السهل القاحل الواقع وسط ولاية تاميل نادو بجنوب الهند. بعد تساقُط الأمطار، يزرع السكان حقولَ نبات السورجم والدخن في الأرض التي صارت رطبةً حديثًا، ولكن في موسم الجفاف تكون الأرض عبارةً عن غبارٍ ذي لونٍ أحمر مائل إلى البُنِّي. تتكوَّن القرية من حوالي ثلاثين منزلًا، بعضها مبنيٌّ بالطين، وبعضها بالإسمنت، تجتمع في غير نظامٍ حول معبدٍ ذي برج مُرتفِع على شكل شِبه مُنحرف مُزدان بتماثيل لآلهة هندية، يقِف مُلقيًا بظلاله البديعة أمام سماء المساء. والمعبد، رغم أنه مُتهالك ونادرًا ما يزوره أحد، في حالةٍ جيدة على نحوٍ غير اعتيادي حتى بمقاييس جنوب الهند؛ ولكن من نواحٍ أخرى عديدة، هذه القرية والقرى المجاورة لها تَختلِف قليلًا عن غيرها من ملايين القرى الأخرى في دول العالَم النامي. يُوجَد سوء تغذية شديد بين سكانها؛ ولا تزال الأمراض التي يُمكن الوقاية منها مثل شلل الأطفال تحصد ضحايا؛ وعدد قليل من الأطفال يلتحقُون بالمدارس. ويقضي الكثيرون ساعاتٍ طويلة بلا حراك، في حالة خمول، في أيِّ مكانٍ ظليل يُمكنهم العثور عليه؛ إنهم عاطلون عن العمل.

وهذا لا يعني أنه ليس لديهم ما يفعلونه؛ فأغلب النساء ما زلن يَستيقظن في الرابعة صباحًا لكنس الدار وإعداد الإفطار لأزواجهن والانتفاع بالساعات التي يكون فيها الجوُّ باردًا قبيل الفجر وبعدَه في جلب الماء والحطب، بالسير غالبًا عدة كيلومترات وفوق رءوسهن مجموعة من الفروع أو وعاء مُتمايل حول خصورهن. قد لا يخلدن إلى النوم قبل الساعة ١١ مساءً أو منتصف الليل، ومُعظمهن تشتكين من أن الإرهاق أصبح وضعًا دائمًا في حياتهن. يستيقظ الرجال الأكثر قوةً وشبابًا في السادسة ويُغادِرون قريتهم في السابعة في رحلة البحث عن عمل. أولئك الذين يملكون درَّاجات محظوظون، أما من لا يَملكون دراجة، مثل النساء اللاتي تمنعهن الأعراف الاجتماعية من الركوب بمُفردهن، فيقتصر بحثهم عن العمل على مسافةٍ قصيرة يُمكن اجتيازها سيرًا على الأقدام.

هذا النوع من العمل موجود. قرية مانيبورام، على بُعدِ نحو اثنَي عشر كيلومترًا، هي مكان مُزدحِم وصاخب في منطقة خضراء تُروَى بمياه نهر كافيري الكبير.3 تشغَل حقول الأرز والموز وقصب السكر المساحة المتاحة، وفي المناطق المُشبَّعة بالماء، يُحصد الخيزران، ليُنْسَج في حصائر. يُوفِّر إعداد الخيزران وتجفيفه عملًا للكثيرين، لا سيَّما للنساء والأطفال، ومع ذلك يعمل الرجال في ذلك أيضًا أثناء الأوقات العجاف. يشتكي التجَّار، الذين يتولَّون التحضيرات، ويُوصِّلُون حزم الخيزران المحصود إلى العمال ويجمعون النتاج المُجفَّف، من أنه يصعُب إيجاد العدد الذي يريدونه من العمال. لماذا إذن لا يزال العمَّال الذين يعيشون على بُعد اثنَي عشر كيلومترًا فقط عاطلين؟

ليس من المعقول أن يأخذ التجار الخيزران إلى العُمال؛ فالخيزران المحصود حديثًا ثقيل الوزن، ومليء بالرطوبة، وتكلفة نقله باهظة. أما الخيزران المُعالَج فجافٌّ وخفيف الوزن، لذا من المنطقي أن تجري عملية المُعالجة بالقُرب من مكان زراعة الخيزران وأن تجري عملية النقل فيما بعد. إذن، لماذا لا يأتي العُمال إلى حقول الخيزران؟ قد تبدو اثنا عشر كيلومترًا مسافةً ليست بعيدة لزائرٍ أجنبي معه سيارة؛ ولكنها رحلة شاقة وطويلة لعامل يُعاني من سوء التغذية ويجب عليه السير تحت أشعة الشمس الحارقة بلا ضمانٍ للعثور على عملٍ في النهاية (من يقطعون الرحلة بالفعل يَجدون فرصة عمل ثلاثة أرباع الوقت، وهم الأشخاص المتفائلون، الذين يتمتَّعون بصِلاتٍ جيدة). عندما لا يتوفَّر لديك إلَّا القليل من الطعام في المقام الأول، يجِب أن تحتفظ بطاقتك المحدودة بدلًا من المُقامَرة بها في مغامرات محفوفة بالمخاطر.

بعبارة أخرى، يُمكن لرجلٍ جائع أن يكون منافسًا لا يُستهان به؛ ولكنَّ رجلًا جائعًا مُضطرًّا إلى السير لمسافةٍ طويلة أولًا ليس بمُنافِس على الإطلاق. النتيجة هي أن سوق العمل المُزدهِرة نسبيًّا في قرية مانيبورام ذات تأثيرٍ ضئيل على حياة من يعيشون في كوفيلار. قد لا يَفصل بين هاتَين القريتَين سوى بضعة كيلومترات فقط، ولكنهما من الناحية الاقتصادية تُمثِّلان عالَمين مُختلفَين.

كيف يتسنَّى لنا فهم السبب في أن العالَم يستبعد بعض مواطنيه الذين يُحتمل أن يكونوا مُنتجين بهذه الطريقة؟ الإجابة تكمُن في أنواع الاتصال التي يَحظى بها أفراد من المواطنين مع غيرهم داخل مُجتمعهم. كان مُعظَم تاريخ العشرة آلاف سنة الأخيرة، كما رأينا في فصولٍ سابقة، يدور حول كون الأفراد يميلون أكثر إلى الغرباء ويعتبرون أنفسهم أقربَ لهم؛ سواء كانوا أقربَ مكانيًّا، حين سقطت الحواجز التي تعوق الحركة، أو أقرب في مجال المعرفة (يُمكن لشخصَين من مكانين مختلفين على جانبي المعمورة أن يعرف أحدهما عن الآخر ما يكفي للدخول في صفقةٍ بملايين الدولارات بثقةٍ تُعادل ثقتهما لو كان لا يفصل بينهما سوى عبور الشارع). ولكن، كلما صار تقسيم العمل الحديث أكثر تطورًا، زادت مخاطرة مواجهتنا بشدة لحدوده. قد يشعر شخصٌ ما بارتياحٍ تجاه إقراض المال لموظف مَصرفي أجنبي لم يلتقِ به من قبل مطلقًا، ولكنه يتردَّد في إقراض المال إلى جاره الذي يسكن في الشقة المُجاوِرة له. من هو، وما سجلُّ أدائه السابق مع أموال الآخَرين؟ الرجل الذي يسكن بجواره ليس بعيدًا عنه من الناحية المكانية، ولكن فيما يتعلَّق بقُدرته على الوثوق به، فإنه يعيش على جزيرة معلومات.

كل قرية في دولةٍ فقيرة عبارة عن جزيرة معلومات. وهذا يُفسِّر لنا كثيرًا السبب وراء أن عقودًا من المساعَدات الأجنبية، ناهيك عن تدفُّقات ضخمة لرءوس الأموال الخاصة من دولٍ غنية إلى دول فقيرة، كان تأثيرُها على الفقر في دول العالم النامِي أقل بكثيرٍ مما كان يأمُلُه المُتفائلون حول الاندماج العالَمي. يظلُّ المُستثمرون مُتردِّدين تجاه الاستثمار في مجتمعات يَعرفون عنها القليل، ولأسبابٍ وجيهة؛ نظرًا لأنهم حين يستثمرون، فإنهم عادةً يتخذون خيارات حمقاء. وقد يبدأ جهل المستثمرين من أماكن قريبة للغاية منهم. لذلك لا يستطيع أهالي قرية كوفيلار جمع أموال لأعمالٍ تجارية أو مدارس؛ والبعض لا يستطيع جمع الأموال حتى لشراء دراجات. يظلُّون مَحصُورين في العمل الزراعي الذي يجعلهم في حالةٍ من الجوع والضعف. وهذا الجوع والضعف يجعلُهم أقلَّ قدرةً على إثارة إعجاب الغرباء بقدرتهم على الاستفادة من موارد الاستثمار استفادةً جيدة، أو حتَّى بأهليتهم للثقة للقيام بمهمَّة بسيطة لكنها شاقَّة مثل فلاحة الأرض.

حتى في الدول الغنية، قد تكون الأحياء المنفصلة بمثابة جزُر للمعلومات. في حي ساوث سايد بشيكاغو، كما يَسرد عالِم الاجتماع سودهير ألادي فينكاتيش، تستمر البطالة والفقر والجريمة في حين أنَّ الرخاء والنشاط على بُعد بضعِ بنايات.4 لكن ذلك لا يعني أنَّ كل ما يتعيَّن على الشخص فعله هو التحرُّك. فمع أن حَيَّك قد يبدو مُهلهلًا، إذا ابتعدت عنه ستفقد الروابط القليلة التي تحميك مما هو أسوأ؛ فلن يعود لديك أحد ليضمَنَك، وتصبح متجولًا مجهول الهوية في عالَمٍ تُمثِّل فيه الهوية كل شيء.
لا يَفشل المجتمع الحديث في بناء جُسورٍ تصِل بين جزُر المعلومات وحسب؛ بل يُمكن، بطرُق خفية وأحيانًا مدمِّرة، أن يُضعف تلك الجُسور الموجودة بالفعل. الطريقة التي يفعل بها ذلك تكون من خلال عمليةٍ تُعرَف باسم «التوافُق المتجانس»، الذي لم تكتسب أهميته في تفسير استمرار الفقر والإقصاء اعترافًا لائقًا إلا بصورةٍ تدريجية.5 رأينا في الفصل الرابع عشر أن بعض أهم مؤسسات المجتمع، مثل الشركات، هي تلك التي توجه المعلومات بين أفرادها بطريقةٍ أكثر فاعلية مما هو مُمكن من خلال المؤسسات المجهولة نسبيًّا للسوق. ينطبق أمر مُشابه على القرى في عالم الدول النامية؛ فبين سكانها، الفقراء والأثرياء، أسرار أقل بكثير مما هو ممكن في المدن أو القرى السكنية الشائعة في أجزاءٍ من العالَم الغني. مما لا شكَّ فيه أن المعلومات تتدفَّق بحرية داخل القرى أكثر ممَّا تتدفَّق فيما بينها. ربما يعرف مسئول البنك بالضبط من يُمكن الوثوق به بين سكان قريته لتسديد قرض، ولكنه قد يتحيَّر تمامًا عندما يُطلب منه إصدار نفس الحكم على قرية تبعُد بضع كيلومترات، وقد لا يعرف حتى من يُمكنه أن يثِق في أن يطلُب منه النصيحة.

إذا كانت المؤسسات، مثل الشركات والقرى، عبارة عن قنوات فعَّالة للمعلومات، فمن المهم أن تعرف من ينتمي إلى نفس المؤسسات التي تنتمي أنت إليها. فالأشخاص الذين يمكنهم بفعالية استغلال المعلومات التي لديهم هم أيضًا الأشخاص الذين يُمكنُهم نقل هذه المعلومات بفعالية إلى الأعضاء الآخرين. هذه نقطة بسيطة ولكنها ذات عواقب شديدة. يرجع ذلك إلى أنه مع تحسين المجتمع الحديث للسهولة التي يستطيع بها الأفراد السفر، أو البحث عن وظائف، أو اختيار أماكن للعيش بها، أو البحث عن شركاء حياةٍ مناسبين للزواج أو شركاء عمل تجاري، بدأت العُضوية بأهم مؤسَّسات المجتمع تُرتِّب نفسها في تسلسلٍ هرَمي للمهارات التي حلَّت بازديادٍ محل التسلسُل الهرمي القديم للمولد. ينتقل الأفراد الموهوبون من قُراهم ليختلطوا بغيرهم من الأفراد الموهوبين في المدن. ويتزوَّج أصحاب الدخول المُرتفعة من أصحاب الدخول المرتفعة الآخرين. ويترك العمال الموهوبون، المُحبَطون بسبب القيود التي تَفرضُها منظَّمة كبيرة، تلك المنظمةَ ليُنشئوا شركاتٍ ناشئة مع زملاء موهوبين مثلهم. ويبيع الآباء غير الراضين عن مستوى التعليم الذي يتلقَّاه أولادهم منازلهم للانتقال إلى منطقة تعليمية مُموَّلة على نحوٍ أفضل (لأنها أكثر ازدهارًا). عادةً ما يكون هذا الطموح المُتواصِل للموهوبين مصدر الكثير من الإبداع، إلا أن له تداعياتٍ على من يتركونهم خلفهم. على سبيل المثال: في السنوات الأخيرة أُشير إليه باعتباره مصدر التغييرات المُهمة في بنية الأعمال التجارية بالدول الغنية. في حين أنَّ (للتعبير عن الحقائق بصورةٍ ساخرة قليلًا) المثال النموذجي للشركات الأمريكية في خمسينيات القرن العشرين ربما كان شركة جنرال موتورز، وهي شركة الأفراد أصحاب المهارات الرفيعة المستوى وكذلك المُتدنِّية، كان المثال النموذجي للشركات في أواخر القرن العشرين هو شركة مايكروسوفت (التي تُوظِّف بالأساس أصحاب المهارات الرفيعة المستوى) وماكدونالدز (التي تُوظِّف بالأساس أصحاب المهارات المُتدنِّية المستوى). وحقيقة أنه من المُستبعَد أن يعمل أصحاب المهارات الرفيعة وأصحاب المهارات المُتدنِّية في نفس الشركات هي حقيقة مُهمة، ويرجع ذلك تحديدًا إلى الطريقة التي تتدفَّق بها المعلومات في داخل الشركات على نحوٍ أكثر فعالية من تدفُّقها فيما بينها.

التوافق المتجانس

كيف يحدُث هذا؟ تُلقي النظريات الحديثة عن التوافق المتجانس ضوءًا مُهمًّا على العملية، في سياقاتٍ متنوعة تشمل أسواق العمل، والتعليم، والسلوك الجنسي، والأسواق المالية. ثمَّة رؤية أساسية مُستقاة من هذه النظريات هي أنَّ إنتاجية كلِّ شخص — القيمة التي تعود عليه أو على الآخرين بسبب ما يُنتجه — لا تعتمد فقط على موهبته ومجهوده وإنما أيضًا على موهبة ومجهود من يعمل معهم. هذه رؤية من شأن أغلب الأشخاص، الذين يعملون في منظَّمات كبيرة ويَحلمون بمدى الإنتاجية التي قد يكونون عليها لو لم يعُقْهم زملاؤهم أصحاب المستوى المُتدنِّي، أن يتفقوا معها اتفاقًا كاملًا (من المُحتمَل أن زملاءهم ينتابهم نفس الشعور بشأنهم). وهي تعني ضمنيًّا أن الأفراد يفرضون تأثيراتٍ خارجية لبعضهم على بعض في الشركات، كما يفعلون في المدن؛ كما رأينا في الفصل العاشر (تُمثِّل المدن، في نهاية الأمر، قنوات معلومات، تمامًا كالشركات). ووجود هذه التأثيرات الخارجية يُنبِّهنا إلى احتمال وجود بعض الآثار المَرَضيَّة على مستوى المجتمع ككل.

لهذه النظريات نتيجة مؤثرة تتمثَّل في أنه لو كان بوسع الأفراد أن يَختارُوا زملاءهم في العمل، فمن المُرجَّح أن تكون النتيجة أكثر ضررًا لذوي المهارة المُتدنية من الضرَر الذي كان سيحدُث لو كان الأفراد مُجبَرين على العمل مع من كان من قبيل الصدفة (أو المولد أو التقاليد أو التاريخ الأسري) أحد جيرانهم. في الحقيقة، الاختيار الحر يقود إلى التصنيف، الذي وفقًا له يُرافق ذوو الموهبة أمثالهم من ذوي الموهبة ويُرافق الباقون أمثالهم أيضًا. ونتيجةً لذلك، فإن أصحاب المهارة المُتدنية منحوسون مرَّتين؛ أولًا: جرَّاء مهارتهم المُتدنية. وثانيًا: جرَّاء المهارة المُتدنية لأولئك الذين هم مُضطرُّون إلى العمل معهم.6 ثمة نتيجة أخرى هي أنَّ لدى أصحاب المهارة الرفيعة المستوى حافزًا أكبر للاستثمار في جعل أنفسهم أكثر إنتاجية؛ لأن قيمة ذلك الاستثمار لن تتضاءل بالإنتاجية المنخفضة للأشخاص الذين هم مُضطرُّون إلى العمل معهم.
ويجدُر بنا أن نُلقي نظرة عن كثب على كيفية حدوث ذلك. افترض نسخةً مُتطرِّفة من النظرية تقول إن إنتاجية الشخص تَعتمِد على زملائه. لنُسمِّها نظرية «الحلقة الأضعف» في الإنتاج؛ إنتاجية الفريق بأكمله تعتمد على موهبةٍ وجهود أضعف عضوٍ في الفريق. (أطلقَ عالم الاقتصاد مايكل كريمر على هذه اسم نظرية «الحلقة الدائرية» للإنتاج، تيمُّنًا بحلقة مانع التسريب المطاطي الذي تسبب تلفُه في انفجار مكوك الفضاء «تشالنجر» أثناء إطلاقه عام ١٩٨٦، مما يُجسِّد اعتماد مُعدَّة ضخمة وغالية الثمن على عمل مُكوِّنٍ واحد بسيط.)7 لنفترض فِرَقًا تتكوَّن مبدئيًّا من مزيجٍ عشوائي من أشخاصٍ موهوبين وغير موهوبين، وأن من خلال قليل من الاستثمار يُمكن تحسين مستوى مهارات أيِّ شخصٍ بالتدريب المناسب. في كل فريق، من المنطقي تركيز الاستثمار على الشخص الأقل موهبة؛ لأن ذلك الشخص هو أضعف حلقةٍ وافتقاره إلى الموهبة يُضعِف الفريق ككل. لذا، يتبيَّن أن الاعتناء بالفئات المحرومة، في المجتمع بأسره، يُعدُّ رهانًا جيدًا للآخرين.

والآن، لنفترِض أن بإمكان الناس اختيار زملائهم. بالطبع، الجميع يريد أن يكون له زملاء موهوبون، لذا بطريقة ما لا بدَّ أن تُوجَد آلية لتوزيع هؤلاء الأشخاص. لنفترض أن الآلية أشبه بمزاد علني. وليس بالضرورة أن يكون مزادًا بالمعنى الحرفي للكلمة؛ فمن الممكن أن يؤتي ثماره من خلال سوق العمل أو سوق العقارات، التي يدفع فيها الأفراد (أو الشركات التي يُمثلونها) مقابل ميزة الحصول على زملاء موهوبين أو جيران ناجحين. من السهل أن ترى أن أولئك الموهوبين والناجِحين سيكونون على استعدادٍ لعرْض سعرٍ أعلى في هذا المزاد، لأن من سيوظفونهم سيكونون أكثر إنتاجية مما لو عمِلوا مع مُزايدين أقل موهبة. بناءً عليه، سيتوافق الموهوبون مع أمثالهم من الموهوبين.

هيا نتأمَّل تأثير هذا على حوافز الاستثمار في جعل الناس أكثر إنتاجية، من خلال التعليم أو التدريب في موقع العمل. مع ذلك سيظلُّ صحيحًا أنه، داخل أي فريق عمل، من المنطقي تركيز الاستثمار على الأقل موهبة (بسبب تأثير «الحلقة الأضعف»). إلا أن المجموعات الموهوبة أكثر ستشهد عائدًا أعلى على استثمارها من المجموعات الأقل موهبة؛ لأن كلَّ شخصٍ مُتعلم حديثًا سيعمل مع زملاء أكثر موهبة. من المُرجَّح أن تكون النتيجة ظهور مناطق منعزلة لأصحاب الموهبة الأقل، ذات معدلاتٍ منخفضة للاستثمار والنمو، وأحياء لأصحاب الموهبة ذات معدَّلات مُرتفعة للاستثمار والنمو.

يُوجَد تشابُهٌ مُفيد مع الاستثمار في تقنيات الاتصال السريع بالإنترنت. شعَر كثيرون، ممَّن ثَبَّتوا خدمات الاتصال السريع بالإنترنت التي تُعلِن عن سرعات تحميلٍ بعديد من وحدات الميجابايت في الثانية، بخيبة أملٍ عند اكتشاف أن سرعات تحميلهم الفِعلية هي نسبة ضئيلة من هذا المُعدَّل؛ فسرعة التحميل لأي شخصٍ تتحدَّد بناءً على أبطأ سرعة متاحة في الوصلة بين المصدر وأجهزة الكمبيوتر المقصودة. وبالتبعية من المنطقي تركيز الاستثمار داخل أيِّ شبكة على الاتصال الأبطأ. ولكن الشبكة ذات الاتصالات الأسرع في المتوسط ستشهد تحسُّنًا أكبر في مرَّات التحميل لأيِّ استثمارٍ من الاستثمارات. وهذا يُفسِّر تأثير كرة الثلج لتقنيات الاتصال السريع بالإنترنت؛ فهي لا تستحقُّ عناء النفقات حين لا يمتلكها أيُّ أحدٍ آخر، ولكن كلما زاد عدد الأشخاص الذين يَمتلكُونها، صارت قيمتها أكبر. تنشأ هذه التأثيرات — أحيانًا يُطلَق عليها «التأثيرات الخارجية للشبكة» — حينما تربط التقنيات بين الناس، سواء بتقنية النطاق العريض، أو بالتليفون، أو بالحصان والعربة على طريقٍ ترابي. بعبارة بسيطة: يَستلزم الاتصال طرفَين، ولا قِيمة للاتصال إذا لم يُوجَد أحد تتَّصل به. تتحمَّل عُزلة المواطنين على مستوى العالَم الناتجة عن سوء الاتصال، بطريقةٍ أو أخرى، مسئولية قَدْرٍ كبير من الركود الاقتصادي المُستمر في خِضمِّ وفرة عالَمية، مُفسِدة حياة مليارات البشر حول العالم.

وهذا لا يعني أن التكنولوجيا وحدَها هي الحل لمشكلات الفقراء المعزولين مثل أهالي قرية كوفيلار. فقرية كوفيلار ليست معزولة ماديًّا عن العالم. فسكَّانها يخرجون إلى العالم؛ العاملون في مجال التنمية، وموظفو الحكومة، والتجار المُرتحِلون (الذين يُوازِنون الأواني والأوعية على نحوٍ غير مستقر على درَّاجاتهم في شكلٍ يُشبه خلية النحل) يعودون جميعًا إلى القرية. يأتي المسافرون في رحلةٍ دينية من وقتٍ لآخر لأداء طقس البوجا في المعبد، الذي كان يُمثِّل وجهةً شهيرة للحج في السنوات السابقة. يأتي موظفُو البنوك لتقديم القروض إلى أولئك المُزارعين الذين يُمكن أن يَعِدوا بمصداقيةٍ بالسداد. ولكن رغم هذه الاتصالات، لا يزال المُرابون في القرية يقومون بنشاطهم المُعتاد بأسعار فائدةٍ تفوق كثيرًا تلك التي تفرضها البنوك في المدن. يترك عددٌ كبير جدًّا من الأطفال المدرسة بعد عامٍ أو عامين من الدراسة غير المُجدية، وبالكاد يستطيعون توقيع أسمائهم. وربما يتعذَّر على أولئك الذين يُواصلُون تعليمهم، في مدرسةٍ عادةً لا يدخل المُعلِّم الوحيد فيها الفصل، إيجاد أي عمل أفضل مردودًا من العمل الشاق بالحقول. ويُمكن رؤية الأطفال الصغار جالسين أمام أكواخهم بمظهرٍ لَزِجٍ ينمُّ عن سوء التغذية؛ ويَعرج ضحايا شلل الأطفال بأرجُلٍ نحيفة جدًّا. تَمتلك القرية الكثير من الإمكانيات، ولكنها غير مُطوَّرة. وأولئك الذين قد يُساعدون القرية على التطوُّر لا يُمكنهم الوثوق في أهلها بالقدْر الكافي لجعل الجهد يبدو يستحقُّ العناء، وأهلُها يَفتقرون إلى الخبرة والثقة بالنفس لإبراز أنفسهم كمُشاركين جديرين بالثقة في طقوس العالم الخارجي الشاقة. وفي وسط عالَم مُترابط كما لم يَحدُث من قبل في التاريخ، تظلُّ كوفيلار جزيرةَ معلومات كشأن مئات الآلاف من القُرى في جميع أنحاء الهند وملايين القرى في مختلف أنحاء العالم.

المرض والإقصاء

قد يشعُر أيضًا بعض المواطنين الأثرياء في الدول الغنية وكأنهم جزُرٌ وسط بحرٍ غامض، معزولون عن ميثاق الثقة الذي يَحفظ غالبية مواطنيهم. تُشير التقديرات في أي سنة إلى أن نحو ١٥ مليون شخص أمريكي يُعانون من الاكتئاب السريري، مع أنَّ أقل من نصف هذا العدد يتلقَّى العلاج. في عام ٢٠٠٦، انتحر أكثر من ٣٣ ألف شخصٍ أمريكي (حسب الإحصائيات الرسمية)، مما يجعلُه ثالث أكثر الأسباب شيوعًا للوفاة بين الشباب، وأقل شيوعًا بنسبة ضئيلة فقط من جرائم القتل؛ ومن المُرجَّح أن نسبةً كبيرة من الوفيات المُصنفة على أنها حوادث (وبخاصةٍ حوادث السيارات) كانت أيضًا حوادثَ انتحار. وعلى صعيد العالم أجمع، يَنتحِر حوالي مليون شخص سنويًّا، وظلَّ المُعدَّل في ارتفاع مُطَّرد في نصف القرن الذي احتُفِظ فيه بسجلات قابلة للمقارنة على الصعيد الدولي.8 وسبب الانتحار غامض. وعلى صعيدٍ فردي، عادةً ما يكون مرتبطًا بضائقةٍ اقتصادية؛ إذ تَرتفِع معدَّلات الانتحار عادةً في فترات الركود وتَنخفِض في فترات الازدهار (على سبيل المثال، انخفضت المعدلات في أمريكيا سنويًّا من عام ١٩٩٤ حتى عام ١٩٩٩، رغم أنها لم تُبدِ أي نمَطٍ واضح بدءًا من عام ٢٠٠٠ فصاعدًا). ومع ذلك، ليست الدول الفقيرة بالضرورة أكثر عُرضة للانتحار من الدول الغنية؛ فدول أمريكا اللاتينية لديها معدَّلات انتحارٍ أقل بكثير من الولايات المتحدة وكندا، والدول اللاتينية في جنوب أوروبا (إيطاليا وإسبانيا والبرتغال) لديها معدَّلات انتحار أقل بكثيرٍ من النمسا وألمانيا وسويسرا. تُوجَد بعض التناقُضات المُذهِلة الأخرى في معدَّل الانتحار. ينتحر الرجال أكثر من النساء بأربعة أضعاف، رغم أن النساء يُحاوِلن الانتحار أكثر. ومُعدَّل انتحار الذكور في هولندا ٤٠٪ فقط من مُعدَّل الانتحار في جارتها بلجيكا. والمعدَّلات في النرويج والسويد والدنمارك متوسطة فقط وفقًا للمعايير العالَمية (على النقيض من الاعتقاد الشائع والانطباع الذي عملت أعمال إبسن وستريندبرج وبرجمان باجتهادٍ على تركه)، إلا أن في فنلندا يبلغ معدَّل انتحار الذكور تقريبًا ضعف معدَّلات تلك الدول. وعلى النقيض من الاعتقاد الشائع أيضًا، مُعدَّل الانتحار بين الأمريكيين الأصليين في الولايات المتحدة أقل قليلًا من معدَّل الانتحار بين البيض، في حين أن مُعدَّل انتحار السُّود أقل من نصف مُعدَّل انتحار البيض. في أوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفييتي السابق وصل الانتحار إلى نِسَبٍ وبائية، حيث إن أكثر من رجلٍ واحد من كل ألفَي رجل يَنتحِر سنويًّا في روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وكازاخستان ولاتفيا والمجر وليتوانيا.

لا يُحتمل إطلاقًا أن تُفسِّر نظريةٌ اقتصادية على نحوٍ مُقنِعٍ السببَ في استسلام شخصٍ بعينه دونًا عن آخر للاكتئاب أو الانتحار؛ فالاكتئاب مرض، له أسبابٌ عُضوية وكذلك إدراكية. إلا أن علاج الاكتئاب هو ظاهرة اقتصادية، تستهلك موارد اقتصادية هائلة. تستجيب كلٌّ من الحالات المُبْلَغ عنها وطبيعة الاكتئاب، مثل غيره من الأمراض النفسية وغير النفسية، إلى المُحفزات الاقتصادية وتتشكَّل بناءً على القيود الاقتصادية. وأغلب الاختيارات الصعبة في مجال الطب، المُتعلقة بتحديد المبلغ المُخصَّص لإنفاقه لعلاج الفرد وأوجه إنفاق هذا المبلغ بالضبط، يتخذها أشخاص أصحاء بالنيابة عن المرضى. ذلك يعني أنهم يتصرَّفُون بناءً على أولويات الشخص السليم. وهذا، رغم أنه يبدو مُزعجًا، أمر حتمي ومرغوب فيه بوجهٍ عام. ولكن النتيجة هي زيادة العُزلة التي يشعُر بها المرضى أنفسهم.

يُقرِّر الأصحاء بالنيابة عن المرضى بطريقتَين أساسيَّتين؛ الأول: يقرر الأشخاص الأصحاء المبلغ الذي يُنفَق على رعاية المريض، بدلًا من إنفاقه على أمورٍ أخرى. وعادةً ما يتَّخذ المرضى أنفسهم تلك القرارات، قبل أن يَصيروا مرضى. قد أختار بين مستويات مختلفة من التأمين الصحي، بعضها اليوم مُكلِّف أكثر ولكنه يمنحني مزايا أكثر سخاءً إذا مرضت. عندما يُصيبني المرض، قد أندم على أنني لم أكن أكثر سخاءً في اختياري للبرنامج التأميني، ولكن ذلك لا يدلُّ على أن اختياري كان اختيارًا أحمق. ينبغي لنا جميعًا أن ندَّخِر لأوقات الشدة، ولكن ينبغي أيضًا أن نَستمتِع بأوقات الرخاء بدون توقُّع معرفة توقيت أو مدى تكرار أوقات الشدة. ستَعتمِد اختياراتنا للتأمين الصحي على مدى عِظَم المخاطر التي نَعتقِدها، وكذلك على مقدار ما نحتاج إلى ادِّخاره من أجل دفع ثمنها. ولكن مهما كان تحلِّينا بالحكمة في اتخاذ هذه القرارات، فعندما نقع فريسة للمرض نتوصَّل إلى معرفة أمر لم نكن نعرفه من قبل، أمر يجعلنا غرباء قليلًا عن الشخص السليم الذي كنَّا عليه في السابق.

ومع ذلك، كثيرًا ما يأخُذ بعض الأشخاص الأصحاء في المجتمع قراراتٍ متعلقة بتخصيص الموارد للمرضى. قد يرجع سبب هذا إلى وجود خدمة تأمين صحي وطنية في الدولة المَعنية، كما يُوجَد في المملكة المتحدة؛ ويُمكننا أن نُفكِّر في هذا باعتباره اختيارًا للتمتُّع بتأمينٍ صحي جماعي، ذي أقساط تأمين تُدفع إجباريًّا من خلال النظام الضريبي. أو لعلَّه بسبب أن بعض الأفراد لم يُؤمِّنوا على أنفسهم (سواء كان هذا بسبب الجهل أو الفقر أو بالاختيار بمحض الإرادة) ويفتقرون إلى الموارد لتمويل علاجهم. أغلب المجتمعات الحديثة غير راغبة في التعايُش مع تداعيات ترك الأشخاص غير المُؤمَّن عليهم يَتدبَّرون أمورهم تمامًا بأنفسهم. تُوجَد مستشفيات عامة، وإن كانت مُزدحمة ولا تحظى بالتمويل الكافي، في الكثير من الدول التي لا تملك خدماتٍ صحية وطنية هكذا. وبدلًا من ذلك، ربما يُوجِّه الأشخاص الأصحَّاء الموارد لصالح المرضى؛ لأنهم لديهم مصلحة شخصية مباشرة في مصائرهم. كما رأينا في الفصل العاشر يُحْدِث المرضى تأثيراتٍ خارجية مُهمَّة على الآخرين، لا سيما من خلال الأمراض المُعدية، لا يستطيع أي مجتمع حديث أن يتحمَّل تكلفة تجاهلها.

تتمثَّل الطريقة الثانية التي يتَّخِذ بها الأصحاء قرارات بالنيابة عن المرضى في تقديم المَشورة فيما يتعلَّق بالكيفية التي ينبغي بها إنفاق ميزانيات الصحة. قد تكون هذه مسألة تقديم المشورة إلى شخصٍ مريضٍ بشأن الاختيار من بين العلاجات المتنوعة المتاحة، مع أخذ الموارد التي يَملكُها في الاعتبار. أو قد تكون مسألة تقديم المشورة إلى الممول — أي شركة تأمين، أو مُستشفى، أو هيئة عامة — بخصوص تحديد المريض ومدى مرضه. في الواقع، عادةً ما يكون الأمر عبارةً عن مزيج من المسألتين في الوقت نفسه. وفي أيٍّ من الحالتَين، يجب ألا يتَّخِذ القرار شخصٌ سليم، وإنما شخص ذو مهاراتٍ طبية مناسبة. قد يكون المريض نفسه بحاجةٍ إلى المشورة ليس فقط لأنه غير خبير، وإنما لأن مرضه يعوق قدرته على الحُكم السليم. ولكن حتى المريض ذو الحكم السليم سيَحتاج إلى مشورةٍ من شخصٍ ذي خبرة ومعرفة عِلمية. وفي مواجهة الأمراض الخطيرة، التي فيها يكون المريض في انتظار الموت، يحتاج المريض إلى الشعور بالثقة في مفهوم الإنسانية وليس فقط في خبرة فريق مُستشاريه الطبيين.

وهكذا يكون لدى المريض شخص يتَّخذ قرارات بالنيابة عنه، قرارات ليس لها تداعيات مُهمة على حالته الصحية فحسب، وإنما على الموارد المتاحة لعلاج الآخرين (في كلِّ مرة يوصي طبيب بإجراء عملية عاجلة لمريض، يتعيَّن على المرضى الآخرين أن يبقَوا مدة أطول قليلًا على قائمة انتظار الجرَّاح). يثق المريض في الطبيب كي يتصرَّف بالنيابة عنه، وقسَم أبقراط الطبي الذي أدَّاه الطبيب هو بالضبط التزامٌ رسمي لفعل ذلك. ولكن (مع أن قسَم أبقراط لا ينصُّ على هذا صراحةً، ويشعُر أطباء كثيرون بعدم الارتياح بشدةٍ عند مجرد مناقشة هذه الحقيقة المُحرِجة حول توجُّهِهم المهني) جميع الاستشارات الطبية تقريبًا تُدار بالنيابة عن جهةٍ مُموِّلة ما، مؤسَّسة اقتصادية ما، وكذلك بالنيابة عن المريض نفسه. ويجِب ألا يُبالِغ الطبيب في حالة المريض لمجرد أن يَظفر له بعلاجٍ أسرع، على الرغم من أن المنطق السليم والإنسانية البسيطة عادةً ما يقودان الأطباء إلى أن يُحْسِنوا الظن بالمريض. قد يصف الأطباء عقارًا أو يُوصُون بإجراء عملية، ولكنَّهم يفعلون ذلك من مُنطلق معرفة قواعد المؤسَّسة التي يُمثِّلونها، القواعد التي تُحدِّد أولويات تخصيص الموارد. متى تكون عملية استئصال أورام ثانوية إهدارًا للموارد التي يُمكن أن تُنقذ حياة مريض آخر في مرحلة أقل تقدُّمًا من السرطان؟ متى تكون جراحة التجميل أداة مساعدة ضرورية للتعافي بعد التعرُّض لحادثةٍ تسبَّبت في تشوُّه وليست مجرَّد طريقة لإخفاء علامات الشيخوخة؟ متى يكون استخدام عقار فياجرا مناسبًا؟ ليست القرارات الطبية قائمة على مجرَّد التشخيص؛ بل هي قرارات اقتصادية بكل معنى الكلمة.

الاختلالات الحتمية لتفويض اتخاذ القرار

حظيت التداعيات الاقتصادية للسماح لشخص آخر أن يتخذ القرارات نيابةً عنك بالدراسة في طائفة متنوعة من السياقات في السنوات الأخيرة، بدايةً من العلاقات بين الرؤساء والعمال حتى العلاقة بين الساسة والناخبين، ومن الطريقة التي يتَّخِذ فيها المُزارعون القرارات، حتى الطريقة التي تُخصِّص بها الحكومات المساعدات الأجنبية. يصف ما أصبح يعرف الآن باسم «مشكلة المُوكِّل والوكيل» الطرُق العديدة التي يستطيع بها الشخص الذي يحتاج إلى إنجاز أمرٍ ما (المعروف هنا بالمُوكِّل) أن يُحفِّز وكيله (طبيبه مثلًا) ليتصرَّف على نحوٍ يتَّفق مع مصالحه بقدْر الإمكان.9 أهم الحوافز في المجال الطبي نادرًا ما تكون مجرَّد حوافز مادية؛ فقد يهتمُّ الأطباء بالمال، ولكنهم نادرًا ما يهتمُّون بالمال وحدَه. فهم يهتمُّون أيضًا بمرضاهم، وبدورهم بصفتِهم علماء موضوعيِّين، وباحترام زملائهم في المهنة — التعرض للشطب من نقابة الأطباء بسبب الإهمال الطبي صفعة تُكلف الطبيب أكثر بكثير من مجرد فقدان الدخل. ولكن يُمكن للحوافز الاقتصادية أن تؤتي ثمارها من خلال التلاعُب بالتقدير أيضًا. فالنظام الذي يُمكن فيه مُقاضاة الطبيب بسبب فشل عملية جراحية ولكن لا يُمكن مُقاضاته بسبب إجراء عمليةٍ جراحية لم تكن ضرورية سيؤدي حتمًا إلى زيادة العمليات الجراحية غير الضرورية. والخوف من تحمُّل المسئولية يُمكن أن يؤتي ثماره حتى من خلال قنوات غير مباشرة بقدْرٍ أكبر. حسب إحدى دراسات الحالة الطبية، «أحد الأسباب التي تجعل الأطباء يُودِعون المرضى في المستشفى هو ببساطة جعْلهم يستريحون ويتلقَّون الرعاية … [لكن] في المستشفى يسهل على الأطباء (ما لم يتوقَّفُوا ويُفكروا في الأمر) القيام بإجراءاتٍ غير ضرورية لمجرد أن وسائل القيام بها متاحة بيُسر تام.»10 أحيانًا، يكون الضغط في الاتجاه الآخر؛ يُمكن أن يكون من الصعب الحصول على إذنٍ لدخول المستشفى على الإطلاق لبعض الحالات، لا سيما في الحالات التي يكون فيها التشخيص صعبًا؛ كما هو الحال في الأمراض النفسية. والنتيجة مُتناقِضة؛ علاج أكثر من اللازم لبعض الحالات، وأقل من اللازم لحالاتٍ أخرى، ووقتٌ غير كافٍ في المستشفى مقرونًا بتدخُّل أكثر من اللازم بتكنولوجيا عالية أثناء الوجود هناك.

أكَّدت دراسات حالة كثيرة مُتعلِّقة بالمجال الطبي أن الضغوط الاقتصادية تصوغ الطريقة التي يُفكر بها الأطباء حيال مرضاهم، ومدى تأثير هذه الضغوط على الثِّقة. تُوجَد سِمتان للطب تجعلان هذا التوتُّر شديدًا بشكلٍ خاص. إحداهما أن الأطباء مُجبَرون على أن يكونوا في خدمة سيدَين؛ مرضاهم وأولئك الذين يُسدِّدون فواتير مرضاهم. في الكثير من الدول الصناعية، تزداد تكاليف الرعاية الصحية زيادةً مهولة، نظرًا لأن التكنولوجيا تتطوَّر، والتوقعات تزداد، واستُبْدِلَت الأمراض الرخيصة التكلفة نسبيًّا الخاصة بالفقراء بالأمراض المزمنة الباهظة التكلفة الخاصة بالموسرين. تمثَّلت الاستجابة، من جانب كل من الهيئات العامة وشركات التأمين الخاصة، في تقليص الميزانيات، وطلب تبرير أوضحَ لكلِّ تدخُّل طبي، ومطالبة الأطباء بلعب دور مُديري الموارد بطرُق أوضح كثيرًا مما اعتادوا عليه. في الولايات المتحدة الأمريكية، حدث هذا بصفةٍ عامة من خلال ما يُعرَف باسم «الرعاية المُدارة»، التي من خلالها تُطالب شركات التأمين المُستشفيات بالتفاوض على أنظمة العلاج الصريحة معها قبل حتى بدء مثل هذا العلاج، بدلًا من مجرَّد استرداد المصروفات الطبية بعد الخضوع للعلاج. ورغم أن تلك الضغوط حتمية في بعض جوانبها، فإنَّ كثيرين من الأطباء لا يَجدونها صعبةً وحسب، وإنما لها نتائج عكسية أيضًا. فهي يُمكن أن تُقوِّض علاقة الثِّقة التي تُمثِّل محور العلاقة العلاجية بين الطبيب والمريض في المقام الأول.

السمة الثانية في المجال الطبي التي تَزيد من حدَّة التوتر هي أن بعض العلاجات فقط لها تأثير فوري يُمكن التحقُّق منه. ويصعب التحقق من مدى ملاءمة تلك العلاجات، التي قد لا تقلُّ أهمية، لحالةٍ بعينها لنيل رضا شركة التأمين أو مدير المستشفى. بيَّن عالِما الاقتصاد بينجت هولمستروم وبول ميلجروم أنه عندما يُجْبَر الوكلاء الذين يعملون لدى الموكلين على الاختيار بين المهام التي يسهل التحقُّق من نتائجها والمهام المُهمة ولكن يصعب التحقُّق من نتائجها، فإنهم لا يُقلِّلون من اختيار المهام التي يصعُب التحقُّق منها وحسْب، وإنما قد يَبذُلون جهدًا أكبر من اللازم في المهام السهلة!11 حسب المصطلحات الطبية، هذا يعني أن قدرًا أكثر من اللازم من العقاقير يُقابله قدر أقل من اللازم من أي شيءٍ آخر تقريبًا. لقد وصفت تانيا لورمان، عالمة الأنثروبولوجيا، هذه العملية في بحثٍ بالجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين. إجراء أبحاث على فعالية العلاج النفسي أصعبُ من إجراء أبحاثٍ على فعالية العلاجات الدوائية. وإجراء أبحاث على الأثر طويل المدى للعلاجات الدوائية أصعب من إجرائها على قدرة العلاجات الدوائية على توفير راحةٍ فورية من الأعراض المرَضية. ومن الأصعب إبراز قيمة العلاج داخل المستشفى بما يفوق أثره على إحداث استقرار في حالة الأفراد الذين يُعانون من أزمة. لذا تأثير ضغوط تقليص ميزانية الرعاية الطبية بأمريكا على الطب النفسي يفوق بكثير تأثيرها على فروع الطب الأخرى، ويُوجَد داخل مجال الطب النفسي توجُّهٌ حادٌّ للابتعاد عن المداوة القائمة على «العلاج بالمحادثة»، والاتجاه نحو تدخُّلات علاجية قائمة على العقاقير.12
وممَّا لا شكَّ فيه أن بعض نوعيات العلاج بالمحادثة تكون غير فعَّالة، والبعض الآخر ربما يستمر لوقتٍ أطول مما تَضمنُه فعاليته العلاجية. ومع ذلك، ثمة أدلة مُتزايدة على أن العلاجات القائمة على العقاقير تكون أكثر فعالية عند مزجِها بالعلاج النفسي مما لو كانت وحدَها. حتى في إطار المُصطَلحات الضيقة النطاق لتقليل مدة المُكوث بالمستشفى، غالبًا ما كان لضغوط الرعاية المدارة نتائج عكسية، وذلك من خلال تشجيع بعض المستشفيات على إلقاء حالاتها الإشكالية على عاتق البعض الآخر بطريقةٍ لها نتائج عكسية جماعية على الجميع. ربما يتوقَّف المرضى النفسيون أو مرضى الاكتئاب، الذين يخرجون بسرعةٍ أكثر من اللازم من أحد المستشفيات، عن تناول أدويتهم ويجدون أنفسهم سريعًا في غرفة طوارئ مستشفى آخر بالمدينة نفسها؛ فهم يتنقلون من مستشفى إلى آخر، وغالبًا يُعالجهم أطباء غير مُطلعين على حالتهم المرضية، وفي النهاية يتطلَّب الأمر مدةً أطول للعلاج بالمُستشفى مما لو أنهم كانوا قد مكثوا لفترةٍ أطول في المستشفى الأول. الأسوأ من ذلك، حسبما تصِف لورمان الموقف، أن ولاياتٍ ومناطق بأكملها تتنافس في لعبة تمرير الطرود:
إحدى العواقب المروِّعة للمرض النفسي هي الطريقة التي يُلقي بها أحيانًا إداريون حكوميون مسئولية المرضى على عاتق ولاياتٍ أخرى. ففي جنوب كاليفورنيا، قد يأتي المرضى إلى غُرَف طوارئ مُستشفيات الأمراض النفسية ويوضحون أنهم كانوا بولاية مينيسوتا أو إلينوي وذهبوا إلى محطة الأتوبيس واشترى لهم رجلٌ لطيف من إدارة الصحة النفسية تذكرة أتوبيس إلى سان دييجو، التي ظنُّوا أنه سيروق لهم زيارتها.13
يمكن للضغوط الاقتصادية أن تؤثر على طبيعة المرَض ذاته. تقول لورمان:
لدى خبرائنا في مجال الصحة النفسية، وكذلك بقيَّتنا، توقعاتٌ فيما يختصُّ بالمرضى النفسيين، ونحن نُضفي طابعًا صناعيًّا على تلك التوقعات بطرُق واضحة وغامضة يمكنها أن تقود الناس إلى مُحاكاة الأعراض التي نظنُّ أنها ينبغي أن تكون لديهم. إذا أراد جندي بلا مأوًى من قُدامى المُحاربين أن يُمضيَ ليلته في فراشٍ دافئ، فإنه يستطيع تعلُّم الكلمات والإيماءات التي ستُقنع الطبيب النفسي المناوب بالسماح له بدخول المُستشفى. وإذا كانت امرأة تتلقى إعانة عجز شهريًّا بناءً على تشخيص طبيبها النفسي، فستعرف كيف تتجنَّب قطع هذه الإعانة … يتعلم المرضى النفسيون لعب الأدوار التي صمَّمها لهم مُجتمعنا.14

وحسبما توضح بقية دراسة لورمان على نحوٍ يبعث على الأسى، فإن حقيقة أن بعض المرضى النفسيين يتعلَّمون لعب الأدوار التي نُحدِّدها لهم لا تجعلهم أقل مرضًا.

الإقصاء والعمل الجماعي

قد يجد كلٌّ من العاطلين والفقراء وأصحاب الأمراض الخطيرة، بطرُق مختلفة، أنفسهم منبوذين من ميثاق الثقة الذي ينجح في الغالب في الحفاظ على ذلك الصرح المُبهرج، وأعني بذلك المجتمع الإنساني الحديث. لم يخطط أحد للأمر على هذا النحو، ولكن ذلك لا يُقلل من دوافع اعتبار النتيجة غير مقبولة. صحيح أنه لا ينبغي السخرية من العملية؛ ففي أغلب الحالات، أن تكون عاطلًا أو فقيرًا أو مريضًا اليوم أقل فظاعةً ممَّا كان عليه الأمر قبل مائتي أو ألفي أو عشرين ألف عام مضت.15 الروايات ذات الطابع الرومانسي عن الفقر في المناطق الريفية أثناء العصور الوسطى، أو الادِّعاءات بأن المرضى النفسيين أرواح مُبدعة وكان من شأنهم أن يتلقَّوا التبجيل باعتبارهم قدِّيسين في أيام ما قبل اختراع الأدوية النفسية والعلاج في المُستشفيات، هي في معظمها أوهام تُضفي بريقًا على المُعاناة الكئيبة لمُعظَم حالات الفقر والمرض النفسي، ناهيك عن الوحشية التي غالبًا ما تعاملَت بها العصور المُبكرة مع تُعَساء الحظ في تلك العصور (على سبيل المثال، حرْق النساء المريضات نفسيًّا بوصفهن ساحِرات).16 والروايات عن الحياة المُريحة والمبهجة لمجتمَعات الصيد والجمع هي بالمثل روايات مُضلِّلة؛ فإلى جانب الأدلة على العنف التي ناقشناها في الفصل الثالث، تكشف الهياكل العظمية لأفراد مجتمع الصيد وجمع الثمار من شمال وجنوب أمريكا أن أكثر من نصفهم كانوا يُعانون من خرَّاجات كانت حتمًا تُسبِّب ألمًا لا يُطاق في تلك العصور قبل اختراع الأسبرين بوقتٍ طويل.17 ورغم ذلك، لا يزال الواقع أنه في حين أن ميثاق الثقة يؤتي ثماره — وإن لم يكن بشكلٍ كامل — على كثير من مواطني المجتمع الحديث على نحوٍ أفضل بكثيرٍ مما تصوَّره أجدادنا، فإنه يؤتي ثماره عشوائيًّا على المنبوذين، إن حدث ذلك. وبقدْر ما تحسَّنت ظروف المنبوذين مقارنةً بالعصور السابقة، فإن ذلك يُعزى في معظمه إلى جهدٍ مقصود لإجراء جماعي. لقد سعَت المجتمعات الحديثة، عبر الإكراه أو الإقناع، إلى العمل في مجموعاتٍ بُغيةَ تعديل نتائج تقسيم العمل غير المنسق، ولحُسن الحظ أن ذلك التقسيم للعمل جعل من الأيسر تحمل تكاليف فعل ذلك، بزيادة الرخاء الشامل. هذا الإجراء الجماعي هو ما يُمكننا أن نطلق عليه عِلم السياسة، بالمعنى الواسع جدًّا للمصطلح.

إذا عجز مجتمع، لا يُوجَد فيه شخص واحد يتولى المسئولية، ويتَّسِم بالرؤية الضيقة ويعتمد على شبكةٍ واهية من الثقة، عن حماية بيئته أو الاعتناء بالمنبوذين داخلها، فما الذي يمكن توقُّعه من الإجراء الجماعي؟ كيف يستطيع الإجراء الجماعي تعويض نقاط ضعف تقسيم العمل؟ هذا سيكون موضوع الجزء الرابع من هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤