الفصل الثامن عشر

الخاتمة: ما مدى هشاشة التجربة الكبرى؟

أصدقاء خفيُّون وأعداء كامنون

بينما تقرأ هذه الكلمات، ثمة شخص لم تُقابلْه أبدًا يعمل بجهدٍ بالنيابة عنك. من شِبه المؤكَّد أن كثيرين يَعملون من أجلك؛ فثمَّة مُزارع هِندي يقود الثيران عبر أرضه حتى يتمكَّن من زراعة القطن الذي سيُصبح القميص الذي ستَشتريه في وقتٍ ما من العام المقبل؛ وثمة مزارع برازيلي يحصد حبوب القهوة التي ستَستخدمها في وجبة إفطارك الشهر المقبل؛ وموظف حكومي يُخطط تحسينات الطريق بالقُرب من ذلك التقاطع الخطير الذي تمرُّ به في طريقك إلى العمل؛ وكيميائي يُخَلِّق جزيئاتٍ لعلاج المرَض الذي ما زلتَ لا تُدرك أنك مُصاب به. هؤلاء الأشخاص لا يعرفونك، وليسوا بحاجة إلى ذلك، مع أن حياتك وصحتك ورفاهيتك تعتمد عليهم. إنَّ لديك من الأسباب ما يدعوك إلى الشعور بالامتنان للروابط الوثيقة التي تربطهم بك.

ومن المُحتمَل أيضًا، في هذه اللحظة نفسها، أن شخصًا لم تقابله من قبلُ يُخطط بجدٍّ لقَتلِك. وما لم تكن شخصية عامة ومشهورة، فقد لا تكون الهدف المُحدَّد لمقاصده الإجرامية، التي قد تكون موجَّهة ببساطة نحو إحداث خسائر عشوائية. ولكن من بعض النواحي هذا الأمر يجعل الاحتمال مُثيرًا للقلق أكثر؛ حيث يَصعُب عليك أكثر معرفة كيفية اتخاذ احتياطات، ومن الذي يجِب أن تحذَر منه، وما الذي يجب تجنُّبه. من المُرجَّح أن يتشكَّل لديك بدلًا من ذلك شكٌّ منهجيٌّ تجاه الغرباء، الأمر الذي قد يكون تحديدًا هو مقصد قاتلك المُحتمَل. ومنذ الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، شهد المجتمع الأمريكي على وجه الخصوص تشكُّكًا في الغرباء — خاصة ذوي الملامح الشرق أوسطية والعقيدة الإسلامية — اشتدَّ بدرجةٍ ملحوظة.

ربما يكون ما يبعث على الذهول أن احتمال أن تؤثر عليك هذه المخاطر مباشرةً «أقل» بكثيرٍ من التفاعلات غير المتعمَّدة العديدة بينك وبين ملايين من الغرباء الآخرين في جميع أنحاء العالم، الذين لا يتصرَّفُون بوعيٍ لنفعك أو ضرِّك. أهم المخاطر المباشرة هي الأمراض المُعدية. فعلى مرِّ التاريخ، شكلت الأمراض المعدية تهديدًا أكبر بكثيرٍ من أعمال العنف، وعلى الرغم من وجود المضادات الحيوية والطب الحديث، فإن هذا يظلُّ صحيحًا إلى حدٍّ كبير في يومنا هذا. وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، سُجِّل ما يقرُب من ٥٧ مليون حالة وفاة في جميع أنحاء العالم في عام ٢٠٠٢، وهو عام نموذجي بدرجةٍ معقولة. ومن بين هذه الحالات، كان يُوجَد ما يقرُب من ١١ مليون حالة وفاة بسبب الأمراض المُعدية أو الطُّفيلية. وهذا أقل بقليلٍ من ٢٠ في المائة.1 وتسبَّبت الحروب وأعمال العنف في مقتل حوالي ثلاثة أرباع مليون شخص؛ بنسبةٍ أكثر بقليلٍ من ١ في المائة. وحتى في فترات النزاع الكبرى، نادرًا ما تنافسَت الحروب مع الأمراض باعتبارها مُسبِّبات للوفاة؛ ربما تكون جائحة الإنفلونزا عام ١٩١٨ قد تسبَّبت في مقتل أكثر من ٥٠ مليون شخص في جميع أنحاء العالم، وهو عدد يفوق بكثيرٍ الذين كانوا قد ماتوا في سنوات الحرب الأربعة المُرعبة السابقة عليها. وكما رأينا في الفصل الثالث، مع كل ما يَعرضه التليفزيون علينا من مشاهد عنف عبر العالم، فإن متوسط خطر العنف الذي يواجهه سكان العالم اليوم يكاد يكون أقلَّ على نحوٍ شِبه مؤكَّد من أي وقتٍ مضى في تاريخنا.2

إلى جانب استحداث الأمراض المعدية ونقلها، أيضًا يستهلك الغرباء في شتَّى أنحاء العالم الموارد الشحيحة، ويلوثون الأنهار والجو، ويزيلون الأحراج على منحدَرات التلال، ويُحدِثون تكدُّسًا في المدن والأراضي الزراعية الشحيحة، ويَستنزفُون مستودعات المياه الجوفية أو يُسمِّمُونها، وينشرون المُخلفات البلاستيكية في الريف ويستنزفون احتياطيات الطاقة. إنهم لا يُسدِّدون التكلفة الكاملة لهذا الضرر المُتعمَّد اليوم؛ إذ يتركونك أنت والآخرين تدفعون جزءًا من التكلفة غدًا، أو العام المقبل، أو حتى بعد عقودٍ من الآن. وليس من المنطقي أن تستاء منهم لأنهم يتصرفون هكذا؛ لأنه من شِبه المؤكد أنك أنت نفسك تفعل الكثير من هذه الأشياء، أو تدفع لأشخاصٍ آخرين ليفعلوا ذلك. ولكن عندما تُواجه هذه القائمة المُقلقة للأضرار التي يُلحِقها بك الغرباء، قد تميل إلى الاعتقاد بأن مخاطر العنف ضئيلة نسبيًّا. ربما ينشر «الإنسان العاقل»، ذلك القرد الخجول سفَّاك الدماء، الوباء والتلوُّث على نطاقٍ عالمي، ولكن يبدو على الأقل أن غرائزه العنيفة قد رُوِّضَت على نحوٍ ناجح.

وعلى المدى الطويل، ربما تكون تلك ترضية ضعيفة الأثر؛ وذلك لأنه إذا كان بإمكان البعض أن يُقدِّموا لنا الكثير من الخير دون أن يتمنَّوا لنا خيرًا، فإن بإمكان آخرين كثيرين أن يُلحِقُوا بنا أذًى شديدًا دون أن يتمنَّوا لنا شرًّا. ولا يزال يُوجَد قدْر كبير من عدم التيقُّن حول مقدار الاحترار العالمي بالتحديد الذي حدث في العقود الأخيرة نتيجة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن النشاط البشري، وحول العواقب المُحتمَلة إذا استمرَّ ذلك النشاط في مساره الحالي. لكن أفضل التخمينات الحالية يُشير إلى أن تغيُّر المناخ من المُرجَّح أن يجعل الضغوط القائمة على موارد مثل المياه أسوأ بكثيرٍ في العقود القادمة.3 بل إن الأمر الأخطر هو أن العديد من الضغوط ذاتها الناجمة عن المرض والتدهور البيئي قد تتسبَّب في إثارة صراعٍ عنيف. تُوجَد طريقتان أساسيَّتان يُحتمَل أن يحدُث بهما هذا. أولًا: من خلال التعطيل العام الذي طال أرزاق الناس بسبب الظروف البيئية المتدهورة وتضاؤل الموارد الطبيعية، والإحباط الذي أصاب هؤلاء الناس، وخيبة أملِهم في الطرُق السِّلمية لتحقيق الازدهار. ثانيًا: من خلال التوتُّرات العرقية التي تنشأ عندما تُهاجر الجماعات هربًا من ضغوط الندرة البيئية.4 وقد تؤدِّي هذه الصراعات بدَورها إلى تعطيل المؤسَّسات التي قد تكون قادرة على إدارة الموارد البيئية بطريقة فعالة ومُستدامة بدرجة معقولة؛ ولا يُمكن لأحد أن يتوقع سياساتٍ حكيمةً أو بعيدة النظر من أجل الحفاظ على المياه من مُجتمع يُعاني من ويلات حربٍ أهلية. على سبيل المثال، أدَّت صراعات الحصول على المياه إلى تدهورٍ شديد في العلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة. حوالي ٤٠ في المائة من استخدام إسرائيل للمياه الجوفية يعتمد على مُستودعات المياه الجوفية التي تقع بالأساس تحت الضفة الغربية،5 ومن الواضح بشكلٍ مؤسِف أن حالة التوتُّر الحالية لا تترك فرصةً للتوصُّل إلى اتفاقٍ عادل وفعَّال بشأن الحفاظ على المياه وتشاركها في المستقبل.

في الوقت نفسه، تؤثر التكنولوجيا على احتمال وقوع عُنف في المستقبل بطريقتَين رئيسيَّتَين؛ أولًا: أتاح الانتشار العالمي لوسائل تكنولوجيا الاتصالات — التليفزيون والإنترنت، هذان السلاحان العظيمان للتشتيت الشامل للانتباه — لأولئك الذين يستخدمون العنف في الكفاح من أجل الموارد الشحيحة جمهورًا عريضًا لحَملاتهم، بالإضافة إلى معلوماتٍ أفضل بكثيرٍ حول الأهداف الأكثر عرضةً للخطر. هذه الوسائل التكنولوجية لا تُغيِّر ما يربحه أولئك الذين يستخدمون العُنف بحرصٍ شديد وفعالية وحسب؛ وإنما تُوفر أيضًا مسرحَ أحداثٍ مُثيرًا على نحوٍ مُغرٍ؛ سردًا مُقنعًا على نحوٍ جذاب، لمن هم على استعدادٍ لمواجهة خطر الموت من أجل تحقيق غاياتٍ عنيفة. لقد حَوَّل المجتمع الحديث، جزئيًّا، مُيول العنف البشري إلى الداخل، حتى أصبح، كما رأينا في الفصل الثالث، عدد الأشخاص الذين ينتحرون اليوم أكثر من عدد الأشخاص الذين يَلقُون حتفهم على أيدي الآخرين؛ قرابة مليون شخص على مستوى العالم ينتحرون كل عام. والغالبية العظمى من أُناسٍ يقدمون على هذه الفعلة وهم في حالة من الوحدة والاكتئاب وغياب الأصدقاء من حولهم. ربما يكون من حُسن الطالع أنَّ آثار الاكتئاب المُدمرة للقدرة على الاستبصار والتخطيط تَعني أن قلَّةً من هؤلاء الأشخاص سيكونون قادرين على وضعِ قرارهم بالانتحار في صورة نهاية عسكرية أو سياسية دقيقة. ولكن ليس كل شخص يَنتحِر يُعاني من الاكتئاب. فالبعض يعاني من الفصام السريري، في حين يبدو أن البعض الآخر ممَّن لم يَخضعُوا للتشخيص الرسمي يعتقدون أن المكافأة على فعلتهم ستكون التمجيد، سواء في جنَّات النعيم الحقيقية أو في الجنات الافتراضية على المواقع الإلكترونية والقنوات التليفزيونية. ومع انتشار وسائل التواصُل الحديثة حول العالَم، لا ينبغي أن نشعُر بالمفاجأة إذا استسلمَت أعداد مُتزايدة من المخدوعين، الذين قد يكونون من المحسوبين على الأقلية اليائسة، لإغراء الانتحار الدراماتيكي أمام كاميرات التليفزيون العالمية.

ثانيًا: تَقَدُّم التكنولوجيا العسكرية — إذا كان «التقدم» هو الكلمة المناسبة في هذا الموضع — يعني أن لدى أولئك الذين يَميلون إلى العنف طرقًا مُدمرة بشكلٍ متزايد للإيقاع بضحاياهم. وبعض الأشخاص الذين اعتادوا استخدام قبضة اليد يمكنهم الآن استخدام السكاكين؛ وبعض أولئك الذين كانوا مُعتادين على استخدام السكاكين يُمكنهم الآن استخدام البنادق؛ وبعض أولئك الذين كانوا معتادين على استخدام البنادق يمكنهم الآن استخدام القنابل. ومما لا يُمكن إنكاره، أن بعض التهديدات الإرهابية العالية التقنية تبدو مُبالغًا فيها. من المُستبعد، على سبيل المثال، أن الإرهاب البيولوجي سيتسبَّب في نسبةٍ ولو ضئيلة من الوفيات التي تحدُث روتينيًّا بسبب الأمراض المُعدية التي تخترعها الطبيعة، دون أيِّ نية خبيثة، من خلال التجارب العشوائية في ملايين من مُختبراتها؛ ومع ذلك فالخوف المتولِّد من الإرهاب البيولوجي لا يَتناسب على الأرجح مع أي إصاباتٍ سوف يتسبب فيها. الأمر الأقل وضوحًا هو ما إذا كان من المُحتمَل أن تصل الأسلحة النووية إلى أيدي الإرهابيين القادرين والعازمين على نقلها إلى مدن العالَم الصناعي. فهي تُمثل مصدرًا مُغريًا للعملة الصعبة ومصدر نفوذ في صالح تلك الدول المالكة لها، وسيكون من الحماقة المُراهَنة على بقائها لفترةٍ طويلة في أمان. لكن ربما تُشكل التكنولوجيا المتطورة تهديدًا أقل من الأسلحة التقليدية القياسية ذات الانتشار الثابت وغير المفاجئ حول العالم والتي ستُتيح نطاقًا أكبر بكثيرٍ لأي عمل غاضب أو عدواني أو انتقامي منفرد. إن عالَمًا يُمكن فيه لأي فعلٍ غاضب من شخص أن يدمر أو يُرهب مبنًى سكنيًّا، أو شارعًا، أو حيًّا بأكمله سيتعذَّر فيه التقارُب مع الغرباء، الأمر الذي يُمثل جوهر الحياة الحديثة. وحتى إن كانت أعمال الغضب هذه نادرة على أرض الواقع، وحتى إن ساد الرُّعب في كل شارع؛ فالعالم الذي يستطيع فيه كل مواطن مقاومة مطالِب الشرطة والمحاكم والهيئات الضريبية بأسلحةٍ تُضاهي أسلحة الدولة سيكون عالمًا تعجز فيه المؤسسات المدنية كما نعرفها عن أداء مُهمتها.

لذلك، ربما يكون الطابع الذي حدَّد شكل الدول بصفةٍ أساسية على مدى القرون القليلة الماضية — أي احتكارها للسلطة القسرية داخل منطقةٍ مُستقرة — يواجه الآن تحدِّيًا خطيرًا. ربما لا يبدو هذا أكثر من تطوُّرٍ منطقي للمجتمع الحديث — فالاحتكارات تواجه تحديات من المنافسين الأصغر والأكثر فطنة في كل مكان، من الاتصالات السلكية واللاسلكية وحتى أسواق الصلب ومجالات المعلومات والأفكار — ولكن سيكون له عواقب مقلقة أكثر. إن التوريد الأسهل والأكثر تنافسية للأسلحة يفرض عوامل خارجية أكثر خطورةً على الآخرين من توريدٍ أسهل لوسائل الاتصال أو الصلب. كما أن من شأنه أن يُحِدَّ من قدرة الدولة على موازنة التبادُل بين الأسواق من خلال سلطة زيادة الضرائب وتنظيم عمل الأسواق. لن يتأسَّف الجميع لهذا التقييد. لكنَّ البنية التحتية للمجتمع الحديث، التي نعتقد أنه يُمكننا ازدراؤها؛ لأنها مألوفة جدًّا لدرجة أننا لا نكاد نُدرك وجودها، ستَنهار من دون القدرة القسرية للدولة الحديثة.

لذلك، سيَعتمِد استمرار التجربة الكبرى فترةً طويلة بعد العشرة آلاف سنة الأولى لها على الإجابات عن ثلاثة أسئلة رئيسية:
  • أولًا: هل تستطيع الدول أن تبقى جهات احتكار قسرية داخل حدودها الإقليمية؟

  • ثانيًا: هل يُمكنها أن تجمع بين الانفتاح والمرونة اللازِمَين للمجتمعات الصناعية الحديثة إلى جانب الثقة في الغرباء التي أُرسيت قواعدها بشقِّ الأنفس على مدى القرون السابقة؟

  • ثالثًا: هل يُمكنها أن تُوجِد فيما بينها طرقًا لخلق نسخةٍ مناظِرة من الثقة في الغرباء، التي تسعى إلى خَلقِها بين مواطنيها؟

السؤال الأول يُعادل التساؤل عما إذا كان بوسع الدولة حماية الناس من التهديدات الخارجية بشكلٍ أفضل من أيِّ مؤسَّسةٍ أخرى. أما السؤال الثاني فيُعادل التساؤل عما إذا كان بوسع الدول حماية مواطنيها بعضهم من بعض. والسؤال الثالث يُعادل التساؤل عما إذا كانت الدول قادِرةً على حماية أنفسها بعضها من بعض على نحوٍ يكفي للتعاون بدلًا من العَيش في خوف.

بقاء الدولة

تعتمد جميع الجهات الاحتكارية في بقائها إما على بعض المزايا التكنولوجية على منافسيها أو على الامتيازات الموروثة والمُستمدَّة من تكوين علاقة خاصة مع الدولة. ولا يُمكن للدولة نفسها أن تَعتمِد بالطبع على مثل هذه الامتيازات الموروثة. لذا، فإن بقاءَها سيَعتمِد على ما إذا كانت ستستمر في التمتُّع بميزاتٍ تنظيمية جوهرية على المؤسَّسات الأخرى التي يُمكنها ممارسة القسر، مثل المنظمات الإرهابية، أو الطوائف الدينية، أو حتى مجرد المواطنين المُنعزلين الذين يَملكون أسلحةً ثقيلة في الساحات الخلفية لمنازلهم. ربما يكون من المُثير للدهشة (في عصرٍ تُحْدِث فيه الوسائل التكنولوجية الجديدة تحوُّلًا في المنظمات في العديد من مجالات الحياة)، أن التفوق التنظيمي المستمر للدولة القومية يبدو مُرجحًا في المستقبل المنظور.

ما السبب؟ لا يزال تطوير التكنولوجيا العسكرية الفعَّالة يتطلَّب السيطرة على الإقليم. يمكن لجماعةٍ إرهابية تعمل في إطار شبكة من الخلايا أن تصنع قنابل بسيطة أو تُطوِّر أسلحة كيميائية أو بيولوجية، لكنَّ هذه أدوات لا تُميِّز ولا يُمكن استخدامها للدفاع عن النفس أو كوسيلةٍ للسعي إلى المُساومة المنهجية لغايات سياسية. لا تَستطيع جماعة كهذه أن تُوجِّه قوة تدميرية هائلة إلى هدفٍ دقيق على بُعدِ مسافة مُعينة — وهو الشرط الضروري للتفاوض العسكري الموثوق به مع دولةٍ قومية مُسلَّحة تسليحًا قويًّا — ما لم تُسيطر على إقليمٍ خاص بها. ولا جدوى لمنظَّمة حتى من امتلاك مخزونات مُقرصَنة من اليورانيوم المُستخدَم في تصنيع الأسلحة ما لم تتمكَّن من تطويره دون عائقٍ إلى سلاح، وإخفاء السلاح لحمايته من هجوم استباقي، ثُمَّ إرساله إلى هدفه. كل هذا يتطلَّب أن تفرض المنظمة سيطرتها بلا منازع على مساحة كبيرة من الأرض. ولكن لفرض السيطرة على إقليمٍ ما، لا يكفي أن تكون المنظمة غنية أو تمتلك مهاراتٍ تكنولوجية فائقة. بل تحتاج أيضًا إلى أشخاصٍ لحراسة حدودها، وإدارة بنيتِها الداخلية وأنشطتها، وحمايتها من التخريب. ويحتاج هؤلاء الأشخاص إلى مكانٍ يعيشون فيه، ويَحتاجون إلى البِنية التحتية للحياة — المدارس والمستشفيات والأنشطة الترفيهية — والتي يجِب على المنظمة إما أن تَعتمِد على الدولة لتقديمها أو أن تُوفِّرها بنفسها. أيُّ مُنظَّمة يُمكنها توفير هذه الأشياء بنفسها هي بالفعل تعمل على نطاقٍ من الطموح والقسر الداخلي الذي يجعلها دولة، من ناحية جميع عناصرها الأساسية، والدول لن تكون صالحة أبدًا للبقاء في بيئةٍ مُعادية ما لم يكن لديها عددٌ كبير من السكان (الدول الصغيرة مثل موناكو أو ليختنشتاين صامدة لأنها ليسَت في بيئاتٍ مُعادية). باختصار، يحتاج الدفاع إلى مساحة كبيرة من الأرض؛ وإدارة الأرض تحتاج إلى عددٍ كبير من الناس؛ لذا فيما يتعلَّق بالدفاع لا تزال تُوجَد ميزة حقيقية للمساحة الكبيرة. ثمة سؤال مطروح؛ وهو عن الحجم الذي لا بدَّ أن تكون عليه الدولة الصالحة للبقاء، وربما تتراجَع الحدود الدُّنيا لأحجام الدول الصالحة للبقاء في العالَم الحديث (مثلما ارتفعت وانخفضَت في مراحل مختلفة من التاريخ).6 تخضع هذه الحدود الدنيا أيضًا لمفاوضاتٍ دامية ومُطوَّلة، مع فتراتٍ من الجمود يُمكن خلالها أن تُحْتَل مناطق من قِبَل جماعات ميليشيات عسكرية قادِرة على مقاومة مطالب الحكومة المركزية، ولكنها غير قادرة على إنشاء دولة خاصة بها تعمل بشكلٍ صحيح، كما هو الحال في مناطق بسريلانكا كانت تحتلُّها في السابق حركة تحرير نمور التاميل إيلام أو تلك المناطق في كولومبيا التي ما زالت تحتلُّها القوات المسلحة الثورية الكولومبية.7 ولكن من المُستبعَد أن تكون الحدود الدنيا للقدرة على البقاء قد تراجعت كثيرًا إلى حدِّ خلْق أي بديل جدير بالثقة لشيء يُشبه جدًّا الدول كما نعرفها اليوم.

بقاء الثقة داخل الدول القومية

ومع ذلك، هل تستطيع الدول القومية الاستمرار في ضمان ثقتنا بالغرباء؟ كما أشار رايموند تشاندلر، قد يكون حُكم بلدٍ أسهل من حكم مدينة. ثمة مُستقبَل يُمكن تخيله تستطيع فيه الدول القومية أن تَحميَ حدودها من الغزو؛ لكنها عاجزة عن وقف الاختراقات؛ حيث يكون الناس في مأمنٍ من الجيوش الأجنبية ولكنهم يعيشون في حالة رُعبٍ من جيرانهم بالداخل؛ وتُصبح رحلة الذهاب إلى متجر البقالة مغامرةً خطيرة تجعل الأدرينالين يتدفَّق في العروق كما كان حتمًا حال رحلة الصيد لأسلافنا في العصر الحجري القديم.

إحدى نقاط قوة مؤسَّسات بناء الثقة لدَينا، كما وصفناها في الفصول الأولى من هذا الكتاب، تتمثَّل في مدى اللامركزية التي تتَّسم بها. نحن أنفسنا نُمثِّل الشرطة الحقيقية؛ وأولئك الذين يَرتدون زيًّا رسميًّا هم فحسب القوات الخاصة، ويَلعبون دورًا حاسمًا ولكنه ضئيل في الإشراف على مليارات التفاعلات اليومية بين الغرباء في عالَمنا الحديث. في الغالب تتألَّف العوائق أمام السلوك العنيف أو الانتهازي من العادات التي تُتَعَلَّم في وقتٍ مبكر من الحياة، وتؤدَّى بلا تفكير تقريبًا أمام جمهورٍ من أشخاص آخرين هم بالأحرى مثلنا. وبينما يجعلهم هذا عرضة لاختلالاتٍ متكررة وصغيرة — هي مادة عدد لا يحصى من القصص التي يهتمُّ بها البشر في الصحف المحلية والتقارير التلفزيونية — فنادرًا ما تحدُث الاختلالات الكبرى. فحتى أزمة مالية خطيرة مثل تلك التي اندلعت في عام ٢٠٠٧ لا تمسُّ معظم التفاعلات اليومية للحياة الحديثة؛ إذ وفقًا للمعايير التاريخية طويلة الأمد تُعدُّ الأزمات المالية اختلالاتٍ طفيفة؛ لأنَّ كل ما قد تجلبه في أعقابها هو مآسٍ فردية لا حصر لها. يرجع ذلك إلى أن النظام لا يملك مركز قيادة حقيقيًّا؛ ومن ثَمَّ لا يملك نقطة ضعف واحدة. يتطلَّب تعطيل مؤسَّسات بناء الثقة في المجتمع الحديث إخضاع العديد منها لهجومٍ مباشر، كما في وقتِ الحرب. تهدف بعض المنظمات الإرهابية إلى فعل ذلك تقريبًا، لتُولِّد — من خلال هجمات دقيقة على أهداف مرئية زاخرة بالرموز — الشعورَ بالضعف الذي يتَّسم به مُجتمع يُعاني من ويلات الحرب. يتوقَّف مدى إمكانية تحقيقها للنجاح على حقيقة أنه حتى النظام اللامركزي يَمتلك مراكز رمزية مُعينة، يضرُّ إلحاق الضرر بها استعدادنا للثِّقة في مواطنينا.8 لن يكون السبب في ذلك أن أي هدفٍ فردي (حتى، على سبيل المثال، عاصمة) يُمثِّل في حدِّ ذاته أهميةً بالغة لعمل مؤسسات الثقة لدينا.
لقد كرَّس الباحثون جهدًا كبيرًا في السنوات الأخيرة لدراسة الخصائص التي تجعل الشبكات (مثل شبكات الحاسب الآلي، أو الطاقة، أو النقل) قويةً في مواجهة الأعطال.9 وقد شدَّدُوا على أهمية البنية التي تسمح لبعض حلقات الربط داخل الشبكة بالقيام بوظائف حلقاتٍ أخرى قد تتعطَّل بسبب حادثٍ أو عيب في التصميم. تعمل بعض الشبكات بكفاءةٍ في ظل الظروف العادية من خلال بِنية مُصمَّمة حول مراكز تربط بين العديد من حلقات الربط المُختلفة. على سبيل المثال، تسمح المطارات الكبرى بالقيام برحلاتٍ معقدة، عبر شبكة نقلٍ جوي من الممكن إجراؤها من خلال رابطٍ واحد أو اثنين فقط؛ فبالطيران عبر شيكاغو، يمكنك الوصول إلى وجهاتٍ عديدة مع التوقُّف مرة واحدة فقط. لو كان يُوجَد عدد قليل جدًّا من هذه المراكز، يُمكن للشبكة أن تتعطَّل تعطُّلًا كبيرًا عندما يحدُث خلَل في أحد هذه المراكز. وكلما زاد عدد المراكز، زادت قوة الشبكة في مواجهة التعطُّل (إذ يُمكنك إعادة التوجيه خلال مركزٍ آخر). ولكن التكلفة زائدة عن الحاجة؛ أي تكلفة بناء حلقات ربط أكثر مما تَحتاج عادةً.

من المُرجَّح أن تَحدث من حينٍ لآخر اعتداءات مُؤذية على مراكز مُجتمعنا في المستقبل المنظور. وربما تجعل التكنولوجيا والانتشار العالَمي للأسلحة بعض هذه الاعتداءات مُميتًا بشكل مذهل. وبقدر ما نحن مرتبطون بالآخرين كما لم يحدث من قبل في تاريخنا، فإننا جميعًا نواجه مثل هذه التهديدات من اتجاهاتٍ أكثر تنوعًا. ولكن لطالما مثَّلت تلك الاعتداءات خطرًا على حياة الإنسان، ويَمتلك المجتمع الحديث، بطرُقٍ عدة، عددًا أقل من المراكز التي لا يمكن الاستغناء عنها مُقارنة بالماضي. كان للمُجتمعات الأوروبية في العصور الوسطى ملوك جسَّدوا السُّلطة والشرعية في شخصِهم وكان يُمكن أن يُؤدِّي اغتيالهم إلى إراقة دماءٍ على نطاقٍ واسع. وتستثمر مُعظم المجتمعات الحديثة السلطة والشرعية في الرؤساء أو أصحاب المناصِب المُكافئة الذين يُمكن استبدالهم بنُوَّاب الرؤساء في أيِّ لحظةٍ دون حدوث انهيار اجتماعي كبير. لا تتمُّ هذه الانتقالات بسلاسةٍ دائمًا؛ فربما يبدو القادة المُستقلون ذوو الشخصيات الساحرة وكأنما لا بديل عنهم، وربما يُحاول آخرون طواعيةً جعل أنفسهم هكذا بمُمارسة مُتعمَّدة لسياسةٍ ذات طابع شخصي (عندما اغتيلَت رئيسة الوزراء الهندية أنديرا غاندي عام ١٩٨٤ على يد حارسٍ شخصي لها كان يَنتمي لطائفة السيخ، قُتل الآلاف في أعمال عُنف عرقية بين الهندوس والسيخ). ولكن المجتمع الحديث قائم، مع ذلك، على الافتراض المُشترك الذي مَفاده أن الأفراد يُسهمون بدرجةٍ أقل في الثقة الاجتماعية من الأدوار التي يَلعبونها. لو لم يكن الأمر كذلك، لتعيَّن علينا أن نعرف الكثير عن عددٍ كبير جدًّا من الأفراد حتى نتمكَّن من أن نثق في أيٍّ منهم.

ينطبق هذا على أصحاب المناصب السياسية، كما ينطبق أيضًا على المستوى المتواضع للتفاعل الفردي. في مجتمعٍ حديث يؤدي دوره بسلاسة، يمكنك أن تثق بي لأتعامَل معك بعقلانيةٍ ليس بسبب طباعي وسِماتي الشخصية (التي لا تعرِف عنها سوى القليل ولا تهتمُّ بها كثيرًا)، ولا لأنك تعتنق نفس ديانتي أو تُشاركني نفس الآراء السياسية (التي قد تُنفِّرُك منِّي)، ولا لأنك تعرف عائلتي، ولكن ببساطةٍ بسبب المساحة الاجتماعية التي نتشاركها. وإن كان مُقدَّرًا لهذه المساحة الاجتماعية أن تتغلَّب على التحدِّيات المُستقبلية، فإنه يلزم بناؤها من خلال مؤسسات (بما في ذلك أنظمة التعليم) لا تُميز بين جميع سِمات الأفراد باستثناء تلك السِّمات الضرورية للغاية لتفاعلاتها. باختصار، يتطلَّب الأمر درجةً من الحياد. يجِب أن يتأكَّد أفراد أيِّ قبيلةٍ أو دين أو عائلة أو جنسية أو مجموعةٍ عرقية من أنهم حين يلتقون بغُرباء، فمن الآمن التعامُل معهم. ومن هذا المُنطلق، يلزم أن يكون التعليم علمانيًّا ومُتعدِّد الأعراق وليبراليًّا، وهو تحدٍّ لا يزال يتعين على أنظمة التعليم في العديد من البلدان مواجهته بشكلٍ صحيح.

في الواقع، لقد تعرَّض الطابع العلماني للتعليم لهجومٍ مُتزايد في بعض البلدان التي ترغب في أن ترى المدارس وقد استُعيدَت لتكون وقفًا على القِيَم المجتمعية والدينية. بصرْف النظر عن مزايا نقل مجموعاتٍ مُعينة من القيم المجتمعية والدينية إلى أبنائك، فإنه يتعيَّن على المدارس في القرن الحادي والعشرين قبل كل شيءٍ تعليم الأطفال المهارة الأساسية التي لا غِنى عنها لبقاء البشرية؛ ألا وهي كيفية العيش بسلامٍ وبطريقة تعود بالنفع مع أشخاصٍ يختلفون عنهم من حيث المجتمع المحلي والديانة. لا حاجة لمنع الوعي بالدِّين والعِرق داخل غرفة الدراسة، ولكن يجِب أن تكون غرفة الدراسة مكانًا تتعلَّم فيه المجموعات العرقية كيفية التلاقي والاختلاط بدلًا من القتال.

لنأخذ، تحديدًا، مثالًا دارت حوله مُناقشات عديدة في فرنسا، التي أعيش فيها؛ حيث صدر قانون عام ٢٠٠٤ يحظر ارتداء رموزٍ «واضحة» للهوية الدينية في المدارس العامة. تُوجَد بعض المشاكل الواضحة في هذا القانون. ركَّزت النقاشات العامَّة على التمييز العرقي الضِّمني في بند «الوضوح»؛ فمن الأسهل كثيرًا اعتبار الصلبان، مثلًا، أقل وضوحًا بصورةٍ ملائمة من معظم الرموز الإسلامية. كذلك كانت تُوجَد مَخاوف من أن القانون قد يشجع الآباء المُتديِّنين على إخراج أولادهم من المدارس العامة، الأمر الذي من شأنه دون شكٍّ أن يؤدِّي إلى نتائج عكسية من وجهة نظر الداعين إلى الاندماج العرقي. ما لم يُذْكَر بما يكفي أن الغرض من التعليم العلماني لا ينبغي أن يكون التظاهر بعدَم وجود اختلافات دينية، وإنما تدريب الناس على التعايش مع هذه الاختلافات. وهذا يتطلَّب خلق بيئةٍ آمنة للجميع لا تكون فيها هذه الاختلافات عائقًا أمام التفاعل السِّلمي والمُثمر. لا يبدو أن بيئةً كهذه تواجه تهديدًا من الحجاب الإسلامي. لا يُمكِن قول نفس الشيء عن النقاب، الذي يُمثِّل حاجزًا أمام التعرُّف على الوجه الذي يقوم عليه التفاعُل البشري والذي نَستخدمُه للإشارة إلى رغبتنا في معاملة الغرباء كأصدقاء اعتباريِّين. لكن هذه ليست مشكلة في المدارس وليست أكثر من ظاهرةٍ هامشية في فرنسا ككل. في عام ٢٠٠٩، ترتدي أقل من ٤٠٠ امرأة في فرنسا النقاب، وفقًا لصحيفة «ليبراسيون» الفرنسية،10 لذا، لا يبدو مُحتملًا أن يُقوِّض هذا الدولة العلمانية. مما لا شكَّ فيه أن ثمة الكثير من الجدل الدائر حول مثل هذه القضايا، وحول قدرِ هُويتِنا العرقية التي يُمكننا أن نُظهرها بشكلٍ شرعي في الأماكن العامة، وحول مدى احتمالية أن تؤتي نُظُم التعليم العلمانية ثمارها. لكن حاجتنا إلى نجاحها بطريقةٍ أو بأخرى هي من الآثار المُترتِّبة شبه الحتمية للاختلاط بالغرباء الذي لا رجعة فيه في العالَم الحديث؛ فقد فات الآن أوان فصل البيض عن العِجَّة وإعادته إلى قشرته مرة أخرى.

سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن منظومة مؤسَّسات بناء الثقة، التي تتَّسم باللامركزية بالدرجة الكافية لتكون قوية في مواجهة الخلل، ستكون دائمًا مُحايدة بما يَكفي لإشاعة الثقة بالغرباء. في الواقع، من علامات المؤسسات اللامركزية أن يكون بوسع أولئك الراغبين في استخدامها لأهدافٍ فردية وجماعية أن يُحاوِلوا دائمًا فعل ذلك. يُمكننا أن نكون على يقينٍ من أن بعض البلدان ستشهد فتراتٍ من العنف العرقي والتشكُّك، الأمر الذي سيُؤدِّي إلى تشويه سُمعة مؤسَّساتها، مما سيُحْدِث ضررًا قد يستغرق سنواتٍ أو عقودًا لإصلاحه. هذا يُشكل خطرًا على وجه الخصوص في البلدان الواقعة في بيئاتٍ هشة قد تتعرَّض لاختفاء قاعدة الموارد التي تعتمد عليها لتحقيق أي مظهرٍ من مظاهر الازدهار الذي كانت تتمتَّع به في الماضي. إذا ارتفعت درجات الحرارة العالمية ارتفاعًا كبيرًا في العقود القادمة، ربما تُصبح أجزاء كبيرة من أفريقيا غير صالحة للعيش، ومن المُرجَّح أن تؤدي صعوبات دمج سكانها في مناطق أخرى أكثر أمانًا من العالَم إلى تأجيج صراعاتٍ عرقية واسعة النطاق. من الصعب معرفة مدى احتمالية حدوث انهياراتٍ كارثية في نظام المجتمعات الحديثة. لكن الأمر المؤكد هو أنه لا يُمكن لأي بلدٍ أن يأمُل في العيش بسلامٍ وازدهار ما لم يجِد طرقًا للتوفيق بين مواطنيه وتعزيز الثقة المتبادَلة بينهم. وحتى هذا في حدِّ ذاته ليس سوى جزءٍ من المُهمة. فلا يزال يتعيَّن على البلدان التي نجحت في مواجهة تحدياتها الداخلية أن تتعلم كيف تثق بعضها ببعض.

الثقة فيما بين الدول القومية

شهد العقد الأخير من القرن العشرين الانهيار السياسي والاقتصادي لإحدى القوتين العُظميَين اللتَين أبقَتا على الحرب الباردة، وعلى انتشار المؤسسات الديمقراطية في العديد من البلدان التي لم تكن تتمتَّع بها من قبل (لا سيما في وسط وشرق أوروبا)، وابتكار العديد من مؤسسات التعاون الجديدة بين الدول القومية (من المحكمة الجنائية الدولية وحتى منظمة التجارة العالمية)، والتوقيع على المُعاهَدات الدولية بشأن قضايا مثل السيطرة على الاحترار العالمي، والدور البارز والنشيط للأمم المتحدة. لو كان من المُمكن قياس الثقة بين الدول بناءً على تزايُد الاتفاقات، لكان المُستقبل مُشرقًا بالتأكيد.

ومع ذلك، كما هو معروف، كانت السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين مُحبطة بطرُقٍ لا حصر لها للمتفائلين. من قبيل المفارقة أن ما تمتَّعت به الولايات المتحدة في مطلع القرن من هيمنةٍ عسكرية غير مسبوقة في التاريخ على العالَم أجمع ولم تُضاهِها في أي جزءٍ من العالم سوى هيمنة الإمبراطورية الرومانية قبل ألفَي عام، جعل من الصعب عليها تحقيق غاياتها الخاصة. فالثقة تنمو بشكلٍ طبيعي بين ذئبَين أكثر من أن تنمو بين ذئب وغنم، ولا يُمكن لأي قدْرٍ من التأكيد الصادق من جانب الذئب لطمأنة الأغنام أن يُغيِّر هذه الحقيقة الكئيبة. بالطبع، لو كانت الولايات المتحدة قادرة على العمل بدرجةٍ معقولة من الحكمة بدون ثقة الدول الأخرى، ربما ما كان هذا سيُمثِّل أهميةً كبيرة. أوحى غزو أمريكا للعراق عام ٢٠٠٣ بأن هذه كانت وجهة نظر أمريكية مؤثرة، أو على الأقل وجهة نظر كانت إدارة بوش على استعدادٍ للمُراهَنة بقدرٍ كبير عليها. لم يَعتقِد الكثير من الأمريكيِّين أن تعاون البلدان الأخرى لا يهمُّ فحسب؛ بل بدا أيضًا أنهم يَعتقدون أن الولايات المتحدة ستُؤدِّي دور شُرطي العالَم بفطنةٍ وحكمة في المستقبَل المنظور.

لقد اتَّضح أن هذا خطأ فادح؛ فالولايات المتحدة ستَحتاج إلى التعاون الكامل والمُتحمِّس من جانب الدول الأخرى إذا أرادت الحفاظ على ازدهارها وحُرياتها. هذه ليسَت مجرد مسألة اعتماد أمريكا على احتياطات الطاقة الأجنبية والسِّلَع المستوردة الأخرى، بل وعلى حركة البضائع والأفكار الأمريكية حول العالَم أيضًا. كما أن المسألة تتعلق أيضًا بالحاجة إلى تعاون الدول الأخرى، ولا سيما القوَّتان العُظميان الناشئتان الصين والهند، لحلِّ المشكلات التي تُمثِّل فيها العوامل الخارجية أهمية كبرى على الصعيد العالَمي، لا سيما فيما يخص حماية البيئة. إن الهيمنة العسكرية الأمريكية وحدَها لن تُقنع الصين والهند بالتعاون في السيطرة على الاحتباس الحراري؛ بل قد تجعل التعاون أصعب. والأهم من ذلك كله، أنه إذا كان الأمريكيُّون كأفراد موجودين وجودًا ماديًّا في بقية أنحاء العالم، فسيكونون بحاجة إلى حمايةٍ مادية هناك، سواء كان وجودهم بصفتهم ضيوفًا أو رجال شرطة. حتى رجال الشرطة بحاجةٍ إلى التحرُّك بأريحية بين الغرباء، وهم أيضًا يَعتمدون اعتمادًا كبيرًا على التعاون التطوُّعي، في مُعظَم الأحيان، من جانب المجتمَعات التي يَنتقلُون إليها. ومع ذلك، وفقًا للمفارقة القديمة التي وصفها هيجل، كلما كان الشرطي أكثر نفوذًا، كان من الأصعب عليه أن يَمتلك القَبول الطوعي الذي تقوم عليه الممارسة الخلاقة لسلطته.

كما أظهرت حرب العراق، يُمكن للهيمنة العسكرية الأمريكية أن تعمل ضدَّ مصالحها الشخصية بطريقةٍ ثانية؛ لأن الضوابط السياسية الداخلية البحتة ليست قوية بما يكفي لمنع ممارسة تلك الهيمنة بطُرُقٍ مُتهوِّرة تُلحق الهزيمة بالذات. معرفة أن العدوان العسكري ينطوي على خطرٍ كبير بوقوع ضحايا هي أفضل رادعٍ ضد ممارسة ذلك العدوان. هذا ينطبق (كما رأينا) على مجموعات قردة الشمبانزي المُغِيرة، وينطبق علينا أيضًا، نحن أقاربهم البيولوجيين. بدون مثل هذه المخاطر، تكون الحروب العدوانية، التي تُشَن لأسبابٍ مقبولة ظاهريًّا ولكنها حمقاء في جوهرها، أمرًا لا مفرَّ منه في نهاية المطاف. إن الاعتماد على الضوابط الأخلاقية ليس كافيًا؛ لأننا رأينا أيضًا أن الحرب تستند إلى أعمالٍ بطولية غيرية مُثيرة للإعجاب حقًّا وهي مصدر إلهام لها؛ حتى عندما تكون الحرب عدوانية وينقصها الحكمة. حتى الحروب العدوانية تُشن بحماسةٍ أخلاقية. وليست الضوابط السياسية البحتة كافية. عادة ما تَعتمِد القرارات المتعلقة بأعمال الحرب على معلوماتٍ استخبارية يستحيل على المواطنين التحقُّق منها، كما اتضح في الجدَل الدائر في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة حول ما إذا كان العراق يمتلك أسلحة دمار شامل. هذا يعني أن القادة السياسيِّين يعتمدون على مناشدات مطالِبة بثقة المواطنين، الذين هم في موقفٍ ضعيف لا يُمَكِّنهم من تحديد ما إذا كانت تلك الثقة مبرَّرة في حالةٍ بعينها.

من ناحية، يُقدِّم عدم التماثل بين الولايات المتحدة ومنافسيها سببًا للتفاؤل. قبل حوالي أربعة عقود مضت، حلل الاقتصادي مانكور أولسون، في كتابه «منطق العمل الجماعي»، دوافع أفراد مجموعة للمساهمة في السلع العامة. وهي السِّلع التي تعود بالنفع على المجموعة بأكملها والتي لا يُمكن استبعاد أي فردٍ منها إذا عجز عن المساهمة. حافز استفادة الأفراد المجانية من مساهمات الآخَرين هو أمر معروف؛ ورأينا ذلك عمليًّا في الفصل السادس عشر. لكن أولسون لفتَ الانتباه أيضًا إلى ما قد يَحدُث إذا كان ثمة قدر كبير من عدم المساواة بين أفراد المجموعة. من شأن الأفراد الذين تمتَّعوا بالنفوذ الاقتصادي، والذين حصلوا على حصةٍ كبيرة من المزايا من السلع العامة، أن يَميلوا إلى تقديم مُساهمات كبيرة، مما يُؤدِّي إلى زيادة تضاؤل الرغبة، المنخفضة بالفعل، لدى الأفراد الأضعف في تقديم أيِّ مُساهمة على الإطلاق. كما قال أولسون، بنبرةٍ يشوبها قدْر من الاستفزاز، «يوجد ميل مُمنهج إلى «استغلال» الكبار على أيدي الصغار».11 ربما يتمنَّى الأفراد الأقوياء أن يكون بإمكانهم إقناع الآخرين بأن يُساهموا أكثر، لكن حاجتهم الخاصة إلى السلعة العامة تجعلهم يُساهمون بما يكفي لسدِّ عجز الأفراد الأضعف عن المساهمة.

لا شكَّ أن الزعماء السياسيِّين الأمريكيِّين سيُقرُّون بوصف أولسون لمِحنتِهم، وربما تمسُّ عبارة «استغلال الكبار على أيدي الصغار» وترًا حساسًا. ربما يرون أن تحليله يسري بالأساس على مجالاتٍ تتدخَّل فيها الولايات المتحدة بالفعل على المستوى العالَمي وتسعى إلى مشاركة التكلفة (كما هي الحال في التدخُّلات العسكرية في العراق وأفغانستان). ولكنه بالمثل يَحتوي على دروسٍ بشأن المجالات التي كانت الولايات المتحدة مُتردِّدة في مواصَلة العمل التعاوني فيها، ربما ظنًّا منها أنها بمَعزل عن عواقب التقاعُس عن العمل. لقد بدأت الأحداث التي وقعت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تُقنع القادة والمواطنين الأمريكيِّين بأنهم أقلُّ عُزلة مما كانوا يعتقدون في السابق. وربما يُقنعهم منطق أولسون بأنهم بحاجة إلى المساهمة في بناء الاستقرار الدولي دون انتظار مُساهمات الأمم الأخرى.

دلالة هذه الحُجج هي أن الولايات المتحدة نفسها تهتمُّ اهتمامًا قويًّا بالمؤسَّسات الدولية التي تُقيِّد نفوذها وحُرِّيتها في التصرُّف، وهو ما يُمثل مفارقةً. هذه نسخة، معروضة على نطاق دولي، لحُجة أساسية ظهرت على نحوٍ مُتكرِّر في هذا الكتاب. فعندما يخرج الإنسان المُعاصر إلى مدينة ويختلط بالغرباء، يكون مُلزمًا بقيود عديدة تمنعُه من إظهار شخصيته التي تعود إلى العصر الحجري القديم. عندما يُقدِّم له شخص غريب الطعام، لا يُمكنه ببساطة الاستيلاء عليه غنيمةً له؛ ولكن عليه أن يُوقِّع بخنوعٍ على قسيمة بطاقة الائتمان. وعندما تطلب شركة بطاقة الائتمان تسوية حسابه، لا يُمكنه أن يقول لها بغطرسة أن تذهب إلى الجحيم ولكن يجب عليه أن يُسدِّد دينه، وإلا سيُواجه مضايقاتٍ لا حصر لها تُمثِّل، غالبًا، حافزًا موثوقًا به للإذعان. وعندما يَنشل غريبٌ آخر محفظته، يجب عليه بأناةٍ أن يُبلِّغ الشرطة بالسرقة لا أن يبحث عن الجاني ويقتله هو وقبيلته. باختصار، أدَّى التعقُّل البرجوازي إلى التخلِّي عن الشجاعة المُتهوِّرة، ولا يُمكن تصوُّر المجتمع الحديث بأي صورةٍ أخرى. وكلما كان الفرد أقوى وبلا رادع، ازدادت حاجته إلى هذه القيود البسيطة والمُملة. فبدونها، سيجد السوق فارغة، وسيكون الغرباء القلائل الذين يُقابلهم مُخيفين ومُروِّعين، يُخططون للانتقام من وراء ظهره ردًّا على الإهانات التي وجَّهها إليهم.

ولهذا دلالات أيضًا على الدوافع التي يُمكن للأقوياء أن ينشدوها بواقعيةٍ في سعيهم وراء تعاون الضعفاء؛ لأن الضعيف أقل قدرةً من القوي على تحمُّل تكلفة التبجُّح. ولا يمكن بناء تحالفات ناجحة لحل بعضٍ من أخطر المشاكل العالمية — مثل توقع تغير المناخ على نطاق واسع والتكيُّف معه — إلا على مناشَدة مصالح الجميع. كما رأينا في الفصل الرابع، قد تساعد المُثل العليا، مثل التبادلية وروح العدالة، على ترسيخ الثقة، ولكن لا يُمكنها إيجاد الثقة من العدَم إذا لم يُوجَد أساس من مصالح مشتركة. لقد صورت نقاشات عامة كثيرة حول الاحترار العالَمي المشكلة باعتبارها مشكلة تحقيقٍ للعدالة تجاه أحفادنا المُستقبليِّين (يعد تقرير ستيرن لعام ٢٠٠٦ أبرز مثال على ذلك؛ إذ يسعى إلى إقناع قُرَّائه على أُسُسٍ فلسفية بأهمية مُراعاة مصالح الأجيال المستقبلية البعيدة.)12 لسوء الحظ، سيكون من الصعب إقناع المواطنين الأكثر فقرًا في الهند والصين بأنه يجب عليهم تقديم تضحيات اليوم من أجل أحفادهم المُستقبليين الذين ستكون الأغلبية العظمى منهم أغنى بكثيرٍ مما هم عليه اليوم. إذًا، بدلًا من ذلك، عُرِضَت المشكلة على أنها مشكلة تهدد، خلال حياة الأطفال الموجودين على قيد الحياة اليوم، بانهيار الثقة الاجتماعية بسبب تحرُّكات السكان الذين انهارت قاعدة مواردهم، انهيارًا سيضرُّ البلدان الفقيرة بنفس قدر الضرر الذي سيقع على الدول الغنية، عندئذٍ تُوجَد فرصة أكثر واقعية لبناء التحالُفات التي بدونها لا أمل في إحراز أي تقدُّم.

إذا كان مُقدرًا للتجربة الكبرى البقاء في عصر العولَمة، والتدهور البيئي، وانتشار الأسلحة، فإن العلاقات الدولية ستَحتاج إلى أن يرى الضعفاء مزايا المشاركة، وسيتعيَّن على الأقوياء أن يرَوا المغزى من منحهم هذه المزايا. بصرف النظر عما تُردِّده الدبلوماسية الدولية من تصريحاتٍ رفيعة المستوى. الأمر كله يتعلق بالتنازلات والصفقات؛ أي أنشطة سوق الأمم. ولكن لا يزال يتعيَّن على قادة العالم الغني أن يَقتنعوا بأن سوق الأمم بحاجةٍ إلى مؤسسات بناء الثقة بنفس شدة حاجة أسواق العالم الحديث العادية إليها. من علامات الجرح الذي عانت منه الولايات المتحدة في ١١ سبتمبر ٢٠٠١، أن الدولة التي أتقنَت بشكلٍ أفضل من أيِّ دولةٍ أخرى تحويل روح الغرب الأمريكي إلى مزايا برجوازية، في أعقاب تلك المأساة، أصبح يضيق صدرُها بمُقتضيات التعقُّل البرجوازي في تعاملاتها مع بقية العالم.

حان وقت التلخيص. خلافًا لما قد يستنتجه المرء من النبرة الانفعالية لكثيرٍ من التعليقات الصحفية الأخيرة، ليست العولمة وتحدياتها بجديدة وإنما هي استمرار للتطورات الاجتماعية على مدى العشرة آلاف سنة الأخيرة على الأقل. وليست العادات الإدراكية التي نحتاجها للتعامُل مع هذه التحديات بجديدة أيضًا، ربما تُوحي حقيقة أنها تجلَّت على نحوٍ أكثر وضوحًا في القرون الثلاثة الماضية إلى أنها غريزية ومألوفة لدرجة أنه كان من السهل غالبًا التغافل عنها. لكن كونها غريزية ومألوفة لا يمنع من كونها هشة. على العكس من ذلك، فالذكاء العملي الذي تطوَّر بين البشر هو ذكاء يتَّسِم بالمهارة في استغلال البيئة الطبيعية ببراعة، وأيضًا في إدارة تفاعلات مجموعاتٍ صغيرة من الأفراد الذين يرى بعضهم بعضًا على نحوٍ متكرِّر ويعرف بعضهم بعضًا معرفة وثيقة. لم يضطر البشر إلى التأقلُم على نطاقٍ كبير مع تأثير الغرباء إلا خلال العشرة آلاف سنة الأخيرة، ولم يُصبح هذا التأثير حقيقة مُهيمنة على الحياة اليومية إلا خلال المائتي عام الأخيرة أو نحو ذلك. إن إدارة المخاطر التي تفرضها علينا تصرفات الغرباء تتطلَّب منَّا تسخير مهارة مختلفة أورثنا إياها التطوُّر لأغراض مختلفة تمامًا، وهي مهارة القدرة على التفكير الرمزي المجرد. تُخفِّف المؤسسات السياسية الحديثة من حدة مخاطباتها للعواطف العميقة، وللولاء للعائلة والعشيرة، بما يكفي من التفكير المجرد لمساعدة «الإنسان العاقل»، الذي ينتمي إلى القردة العليا الخجولة الدموية، على الخروج من قيود أُسرته في غابة السافانا من أجل العيش والعمل في عالَمٍ مُعظمُ سكانه من الغرباء. هذه التجربة لا تزال فَتِيَّة، وتحتاج إلى كل مساعدة يُمكن أن تحصل عليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤