الفصل السادس

المال والعلاقات الإنسانية

المال والمُقايضة

في شمال غرب روسيا، يَتقايض رجل وامرأة البضائع، وكلٌّ منهما يَعرض شيئًا صنعه مقابل شيءٍ يَرغب فيه. هذه هي الطريقة التي كان الناس يَتبادلُون بها البضائع عبر الشقِّ الأعظم من ماضي البشرية، وهي تُلخِّص الثقافة التقليدية للتفاعُلات المباشِرة بين الناس. ما الذي يتبادلانه؟ يتَّضح أنهما يتبادلان جلود حيواناتٍ مقابل أحذيةٍ بسيطة جدًّا. ربما يُلتَمَس لك العُذر إن تصوَّرتَ أن هذا المشهد يحدُث في منطقة غابات أو على جانب طريق مُوحل، وفي وجود خيول تضرِب الأرض بأرجُلها من آنٍ لآخر وتزفر أنفاسًا باردةً في هواء الشتاء. في حقيقة الأمر، تجلس السيدة في مكتبٍ مُزوَّد بنظام تدفئة، أما الرجل فليس مرئيًّا في هذا المشهد. إنهما يتحدَّثان عبر الهاتف.

التاريخ هو شهر فبراير من عام ١٩٩٢. الشحنات التي يتفاوَضان على تبادُلها ضخمة جدًّا لدرجةٍ لا تتناسَب مع نقلها على ظهر حصان، ويتعيَّن إرسالها مسافة مئات الأميال عبر الأراضي المُتجمِّدة في شاحنة حاويات. كل شيءٍ في الصفقة تقريبًا يُوحي بأن الأمر يجري في العصر الصناعي؛ فقد دُبغت جلود الحيوانات بمواد كيميائية، وقُصَّت الأحذية وخِيطت بالماكينات، وستُرسل البضائع مُرفَقةً بفواتير ومُستندات شحن، والرجل والمرأة يَرتديان ملابس مصنوعة بالماكينات ويَعملان على ضوء مصابيح فلورسنت. الشيء الوحيد من مرحلة ما قبل الثورة الصناعية هو أنهما يَرفضان التعامُل بالمال. إذ يَبلغ مُعدَّل التضخم حاليًّا ألفين بالمائة في العام، ومن شأن المال أن يفقد قيمته على نحوٍ أسرع من قُدرتهما على تناقُله.

طوال العقد الذي أعقب سقوط الشيوعية، حلَّت المقايضة محلَّ المال في نسبةٍ كبيرة من المُعاملات في مجتمع كان يسعى في معظم الجوانب الأخرى إلى جعل نفسه نموذجًا يُحتذى به في اقتصاديات السوق في عالم الغرب الصناعي. لم تكن هذه المعاملات مجرَّد صفقاتٍ بين أفراد يُتاجرون في لوازم منزلية أو خدمات شخصية (وهي ظاهرة شائعة في عهد الشيوعية). كانت الشركات تتبادَل البضائع بعضها مع بعض بدلًا من أن تُبادلها مُقابل المال، وكانت تفعل ذلك في جميع مراحل الإنتاج وعلى كافة نطاقاته. لم يكن ثمة بضائع أضخم أو أعقد من أن تكون جزءًا من عملية التبادُل بالمقايَضة؛ إذ برزت دبَّابات، ومُحركات طائرات، ومعدَّات تكرير النفط والغاز، في مثل هذه الصفقات.

يُنبئنا فَهم الكيفية التي يُمكن أن يعمل بها مجتمع عصري بلا أموال بالكثير عن الدور الذي يلعَبه المال في الأوقات العادية. ولكن يجب ألا نُخطئ الحكم؛ فقد كلف العيش بلا أموال أثناء ذلك العقد العصيب المجتمع الروسي كلفةً غالية جدًّا.1 كان ثمة بعض التكاليف الواضحة؛ فالرجل الذي يتلقَّى الأحذية مقابل جلود حيواناته لا يُمكنه بأيِّ حالٍ استعمال هذا القدْر الكبير من الأحذية، ولا حتى بتوزيع بعضٍ منها على عُمَّاله (الذين ربما كانوا سيُفضلون أشياء أخرى، مع أنهم لم يكونوا في وضعٍ يسمح لهم بالشكوى). كان مُضطرًّا بدوره إلى مقايضتها بأشياء أخرى، وهذا كان يعني تخزينها حتى يتمكَّن من إيجاد شخصٍ يرغب فيها. كان بناء مخزن يَستنزف ميزانيته السنوية للاستثمار بأكملها؛ ولو أن من المُمكن أن يحتفظ المال بقيمته، لكان من الأرخص كثيرًا تخزينه.
fig3
شكل ٦-١: أثناء فترة ارتفاع التضخُّم بألمانيا في عشرينيَّات القرن العشرين، استخدَمَ أحد أصحاب المتاجر علبة شاي لتخزين الأموال التي ليس لها مكان بخزينة النقود. (جيتي إيميدجز/أرشيف هالتون.)

أحيانًا كانت الترتيبات اللازمة لإبرام صفقات المقايضة تتَّسم بكونها أكثر تعقيدًا. خصَّصت السيدة التي تتلقَّى جلود الحيوانات نِسبةً من ميزانية الاستثمار السنوية لشركتها من أجل تأسيس مصنع لتصنيع جلد النقانق. ما السبب؟ لقد شعر مورد الجلود بالارتباك؛ لأنَّ بإمكانه بيع الجلود الجيدة مُقابل دولارات أمريكية إلى خارج البلاد؛ وكان يتساءل عما إذا كان ينبغي له أن يتوقَّف عن إمداد المُشترين الرُّوس. ولكن المُورِّد كان لديه مُشكلته الخاصة، وهي أنه كان يُنتج اللحوم أيضًا، ولكي يتصرَّف في اللحوم كان بحاجةٍ إلى أغلفة جلدية جيدة الجودة للنقانق. لذا كان لدى السيدة فكرة جيدة، وهي أن تجعل شركتها ضرورية له؛ وذلك بتصنيع الجلود صعبة المنال. وبتلك الطريقة كان لديها رهينة بإمكانها الاستعانة بها لتأمين الإمدادات من جلوده. ربما لا تعلم هي ولا زملاؤها شيئًا عن تصنيع أغلفة النقانق؛ ولكن كانت هذه أوقاتًا استثنائية.

لم تكن واقعة هذه السيدة استثنائية على أيِّ حال، إلا من ناحية أنها رُصِدَت من قِبل عالِم اقتصاد إنجليزي زائر. في مصنع أحذية زُرته بعد ثلاث سنوات في طشقند بآسيا الوسطى، كانت تُجرى صفقات أكثر تعقيدًا. حاول المدير المالي دون جدوى أن يُقنِع مورِّديه أن يأخذوا أحذيةً نظير المبالِغ المُستحَقَّة؛ ومن ثم كان يؤدِّي حينئذٍ دور مورِّدٍ لسلع استهلاكية عامة. وكان زملاؤه من كبار موظَّفي الإدارة العُليا يَقضون أوقاتهم في تفقُّد الأسواق المحلية والاتصال بأصدقائهم في الشركات الأخرى. كانت صلصة الطماطم والبورسلين والمعكرونة منتجاتٍ ذات قيمة ثمينة على نحو خاص؛ لأنه لا يُمكن استخدامها لدفع أجور الموردين فحسْب، بل ودفع أجور القوى العاملة أيضًا.

زُرتُ مصنعًا للبلاستيك وحاولتُ التحدُّث مع المدير عن خططه المُزمَعة لإعادة الهيكلة، إلا أن ذهنه كان مشغولًا بأمورٍ أخرى؛ إذ قال لي بسرورٍ واضح: «لقد عثرنا على مصدرٍ موثوق منه لتوريد البطاطس. سيسعد العُمَّال بهذا الأمر كثيرًا؛ فقد تراكمت أجورهم المُتأخِّرة. ولا يُوجَد الكثير من الأشياء الأخرى التي يُمكن أن تُدْفَع بها الأجور. ولكن في الحقيقة، نحن نميل إلى أن نصرف النظر بعض الشيء هذه الأيام عن الاختلاس من مخازن الشركة.»

في كييف في عام ١٩٩٥، التقيتُ شابًا نشيطًا أسس مصنعًا لمعالجة منتجات الألبان على الأرض المجاورة لمحطة كهرباء تعمل بالفحم. كانت جميع المزارع التعاونية في المنطقة عليها متأخِّرات مُتعذِّر سدادها فيما يتعلق بالكهرباء التي كانت تستهلكها، وإلى جانب العملة الأوكرانية عديمة الفائدة كان كل ما لدى تلك المزارع لتُقدِّمه في المقابل هو الألبان. ولم تكن محطة الكهرباء مُهتمَّة بأخذ متأخراتها على هيئة ألبان، ما لم يكن ثمة وسيلة ما لمعالجتها وتسويقها؛ وهنا جاء دور رائد الأعمال. لم يكن الأمر يبدو صحيحًا جدًّا من الناحية البيئية، ولا شكَّ أنه سيكون فائضًا عن الحاجة في غضون سنواتٍ قليلة، ولكن في تلك الأثناء كانت الأمور تسير على خير ما يُرام لدرجة أن الخطط كانت تجري على قدمٍ وساق من أجل بناء مصنع معكرونة، وكذلك مصنع جِعة في الموقع ذاته.

وفي السنوات التي أعقبت انهيار الشيوعية، كان من الدارج عادةً الزعم بأن أكثر من سبعة عقودٍ من الشيوعية قد دَمَّرت تمامًا رُوح ريادة الأعمال لدى الشعب الروسي. وما كان في استطاعة أحدٍ يرى البراعة المُكرَّسة لصفقات المقايضة المُعقَّدة هذه أن يُصدِّق للحظةٍ هذه الإهانة التي يسهُل دحضُها. ولكن مثل الإبداع الذي من خلاله تهرَّب مُواطِنو روسيا العاديون من دفع الضرائب، وشقُّوا طريقهم وسط العصابات، ونجحوا في تفادي أوجه العجز، وقاموا برعاية أُسرِهم عندما انهارت الخدمات الصحية والتعليمية، جعلت هذه البراعة المرء يتساءل عما بإمكان المجتمع الروسي تحقيقه لو سُخِّرَت لتحقيق غايةٍ أكثر جدوى وأقلَّ تدميرًا للجميع. يُعدُّ المال أحد أعظم الاختراعات البشرية تحديدًا لأنه يساعد في سدِّ الفجوة بين براعةِ كلِّ فردٍ ومصالح الآخرين؛ فهو يُساعِد قُدرتنا على الإبداع على خدمة أغراضٍ أخرى بخلاف السرقات المتبادلة. أقلُّ فوائده أنه يُحرِّر مُصنِّعي الأحذية ليعملوا فيما يُجيدونه (تصنيع الأحذية)، بدلًا من إرغامهم على أن يَصيروا تُجَّار بورسلين، أو مُصنِّعي أغلفة جلود نقانق أو وكلاء مخازن بطاطس؛ وذلك ببساطةٍ من أجل أن يُبقُوا على استمرار مشروعهم لتصنيع الأحذية.

نحن لن نعرف مُطلقًا، على الأرجح، متى ظهر أول شكلٍ من أشكال النقود. أرجع الباحثون تاريخ ظهور العُملات المعدنية إلى سنة ٦٠٠ قبل الميلاد، وربما يكون عمر الألواح الطينية، من بلاد الرافدين، التي استُخدِمَت في تسجيل الديون المُستحَقَّة من الغلال ونقلها من مدين إلى آخر، ضعف هذا.2 لكن كما يُشير جيمس بوتشان في كتابه «رغبة مُتجمِّدة: بحث في مغزى النقود»: «ربما تكون النقود أقدم من الكتابة إلا أننا لن نَعرف مُطلقًا؛ فربما يظنُّ عالِم آثار أن الأثر الذي يعثُر عليه هو نقود قديمة؛ ولكنه لا يستطيع أن يتأكَّد من دون وجود نقوشٍ تُخبره بذلك.»3 لقد كرَّس أصحاب النظريات النقدية الحديثة قدرًا كبيرًا من الاهتمام لفَهم ما الذي يُتيح لشيءٍ أن يُؤدِّي وظيفته بفعالية مثل المال؛ ولكن، كما سنرى، فإن العملية التي كانت تَعتمِد بها الاقتصاديات الماضية على المال هي عملية غامضة جدًّا. وفهم الكيفية التي غُزلت بها شبكة الثقة المالية في الماضي لا يَعني فَهم ما يجعلها تُحافظ على مكانتها في الوقت الحالي.

شبكة الثقة المالية

ما نعرفه بالفعل هو أنه بمجرد أن يكتسب المال خصائص مُعيَّنة، يَصير تداوله أمرًا يفرض نفسه؛ فالناس على استعدادٍ لقبول المال مقابل بضائعهم؛ لأنهم يفضلون ذلك حقًّا؛ وليس لأن القانون يفرض ذلك عليهم. طابع الفرض الذاتي هذا هو ما يُتيح للمال أن يكون المنظومة التي تجعل الثقة بالغرباء مُمكنة؛ فنحن نقبله في مقابل البضائع الثمينة رغم حقيقة أنَّنا قد لا نعرِف شيئًا عن الأفراد الذين يعرضونه علينا.

ما الخصائص التي تجعل المال يفرض نفسه؟ أي شكل من أشكال السداد، يَقبله الأشخاص مقابل بضائعهم وخدماتهم بِنية تداوُله مرةً أخرى مقابل بضائع وخدمات أخرى، يُطلَق عليه وسيط تبادل. من حيث المبدأ، يمكن لمجتمعٍ أن يحاول فرْض أي وسيط تبادل ليكون عملةً قانونية (ويمكن فرْض غرامةٍ على أصحاب المتاجر إذا رفضوا قبولها)، ولكن عمليًّا، لا يَسري العمل بالعملة القانونية إلا حين يَحظى وسيط التبادل في حدِّ ذاته بقبولٍ كبير. ولكي يكون وسيط التبادُل جذَّابًا، لا بدَّ أن يتميز بعددٍ من الخصائص:
  • ينبغي أن يكون سهلَ النقل والتخزين على نحوٍ معقول. يُعدُّ الماء وسيط تبادُل رديئًا حتى في الصحراء، حيث يُعتبَر ذا قيمةٍ كبيرة.

  • ينبغي كفالة عدم فقدانه لِقيمته، بالتحلُّل أو بالسرقة، قبل إعادة بيعِهِ مرةً أخرى. فالخبز سريع التلَف جدًّا. والملابس، حتى الغالية منها، يسهل للغاية سرقتها.

  • يجب أن يتمكَّن الأفراد، الذين لا يملكون الخبرة الفنية المُتخصِّصة، من التفريق بين الجودة العالية والجودة السيئة.4 فنادرًا ما يُستخدَم الألماس، رغم قيمته الكبيرة واستدامته الرائعة وسهولة إخفائه بعيدًا عن اللصوص، وسيطًا للتبادُل لأنه يستلزم قدرًا كبيرًا من الخبرة الفنية للتفريق بين الأحجار الكريمة الأصلية والزائفة. والظروف الوحيدة التي استُخدِم فيها الألماس مؤقتًا وسيطًا للتبادُل هي الصفقات التي تمَّت بين خبراء وأثناء الحروب الأهلية في الدول المُنتجة للألماس، التي من عجيب المُفارقات فيها أن التحصُّل فيها على ألماس زائف مُقنِع قد يكون أصعبَ من التحصُّل على الألماس الحقيقي ذاته.
  • لا بدَّ أن يكون نادرًا، إما طبيعيًّا (مثل الذهب) أو صناعيًّا من خلال الطباعة المُقنَّنة للأوراق النقدية التي يصعُب تزويرها. فلو لم يكن الأمر كذلك، لتوافرت طرُقٌ للحصول على المال أسهل من عرْض سِلَع قيِّمة في المقابل. على سبيل المثال، لو كانت ثمار الجوز تقوم مقام المال، لتوقَّف الناس عن إنتاج البضائع الأخرى وشرعوا بدلًا من ذلك في جمع الجوز.

  • يتعيَّن أن يحظى بقبولٍ لدى الآخرين على نطاقٍ أكبر من البضائع التي يعرضونها في المقابل. فلو لم يكن كذلك، فلن تكون ثمة جدوى من قبول المال؛ فبإمكان البائع أن يختزن مُنتجاته حتى يحين الوقت لمبادلتها.

ومن ثم، فإنَّ مدى قبول المال يعتمد جزئيًّا على ما يعتقده الناس بشأن احتمال قبوله في المُستقبل. تُوجد بعض العوامل التي تزيد من أرجحية قبوله، مثل عامل العمومية، والذي يضمن ألا يُستبعَد تعسُّفيًّا أطراف التبادل المُحتمَلين من استخدامه. ويبدو واضحًا اليوم أن المال ليس حِكرًا على أحد؛ وهذا ما يُضفي عليه طابع النزاهة والقليل من الشر، كغرفة نُظِّفَت تنظيفًا مبالغًا فيه لدرجة أنها تجعل المرء يتساءل عمَّا يمكن أن يكون قد حدَث فيها قبل تنظيفها مباشرة. ولكن من الناحية التاريخية، بعض أنواع النقود كانت مُقتصِرة على مبادلاتٍ تُجريها فئات مُعينة من المجتمع، مثل عملات الأصداف في جزُر سليمان، التي كانت حتى أواخر القرن التاسع عشر (كما تفيد تقارير عالِم الأنثروبولوجيا دينيس مونيري) تستخدم ألقابًا للتمييز بين الأعيان والعوام.5 كان لهذا تبعات جانبية لدرجة أنه لو أقام شخص من العوام علاقةً جنسية مع زوجة أحد الأعيان كان يمكن أن يُعاقب بالإعدام. ولم يكن هذا بسبب أنها كانت جريمة تستوجِب الإعدام؛ بل إنها كانت، على العكس، تُعتبر جريمة ضدَّ المُمتلكات، وكمعظم الجرائم ضدَّ المُمتلكات فإنها تقتضي فرْض غرامة فقط. غير أنه لم يكن بالإمكان دفع الغرامة إلَّا بعُملة الأعيان، لذا كان من شأن المُعتدي من العوام أن يواجِهَ عقوبة الإعدام لعجزِه عن دفع الغرامة، وليس لارتكابه الجريمة الأصلية.6

لا غروَ أنه سرعان ما اسْتُبْعِدَت هذه العُملات الصدفية بسبب المنافسة مع العُملات التي جلبها معهم التجار الأجانب (أبرزها الدولار الأمريكي)، بمجرد وصول أولئك التجار بأعدادٍ كبيرة إلى البلاد في أواخر القرن التاسع عشر. فلماذا يَقبلون التعامُل بالعملات الصدفية، التي لن يَقبلها الآخرون، بينما يَتوافَر بالفعل بديل عالَمي ولا يَحتكرُه أحد؟ وكانت قصة العملات الصدفية قريبة الشَّبه بما حدث في تسعينيات القرن العشرين لعُملة الروبل الروسية.

تداول الناس عدَّة مليارات من الدولارات الأمريكية داخل روسيا بعد انهيار الشيوعية، ولكن لم يَعرِف أحد بالضبط مِقدارها؛ لأنَّ مالكيها كانوا مُتحفِّظين لأسبابٍ مفهومة حيال أرصدتهم المالية؛ وحتى اليوم تستمرُّ حالة عدَم اليقين. تُكلِّف هذه العملة الأجنبية الاقتصاد الروسي تكلفةً باهظة؛ إذ تمثَّلت في بضائع أمريكية، بقيمة عدة ملياراتٍ من الدولارات، كان من المُمكن شراؤها وشحنُها إلى روسيا في وقتٍ كان يُعاني كثير من شعبها من الفقر المُدقع. كان سيُصبح من الأفضل كثيرًا لو كان في استطاعة السلطات الروسية إقناع الناس بتداوُل عُملة الروبل بدلًا من هذه الدولارات؛ لأنَّ تكلفة عملات الروبل على الدولة ككل هي فقط تَكلفة طباعتها. إلا أنَّ فقدان الثِّقة في عُملةٍ ما هو أمر تراكُمي؛ فبمجرَّد أن يعزف بعض الناس عن تداولها، سيعزف الآخرون أيضًا. وما يجذب السلطات إلى عُملة الروبل — حقيقة أنَّ تكلفة إنتاجها أقل بكثيرٍ من قيمة تبادُلها — هو بالضبط ما قد يجعل الناس يَفقدون الثقة بها في المقام الأول. إذ كانت أغلب عملات الروبل في مطلع تسعينيات القرن العشرين أشبَهَ بثمار الجوز. فالسهولة التي استطاعت بها السلطات أن تصنع العُملة جعلت من الأسهل كثيرًا طباعة المزيد من الروبلات لتسديد النفقات الحكومية في كلِّ شيءٍ بداية من الجيش وحتى دفع معاشات كبار السن، بدلًا من بذْل الجهد لإقناع المواطنين بدفع ضرائبهم كاملةً وفي الوقت المُحدَّد. ولكن إذا كانت الروبلات تُطبع حسب الطلب فحسْب، فإن قيمة نُدرتها — السِّمة التي تجعلها نقودًا ذات قيمة — ستتقوَّض لا محالة.

وكما هو معلوم، استطاعت السلطات الروسية استعادة سِمة ندرة عملات الروبل بحلول منتصف تسعينيات القرن العشرين؛ إذ تراجَع مُعدَّل تضخُّم الأسعار (ومن ثَمَّ تراجعَ انخفاض قيمة الروبل بمرور الوقت) إلى مُستوياتٍ ضئيلة جدًّا حوالي عام ١٩٩٥. إلا أن مُعدَّل حدوث عمليات المقايضة واصلَ ارتفاعه على الأقل لمدة ثلاث سنواتٍ أخرى. لم يكن الخلَل يتجسَّد في سهولة طبع النقود وإنما في سهولة نقلِها وتداوُلها — سمة العمومية التي تجعل الأموال في أغلب الظروف عنصرًا مُفيدًا في الحياة الحديثة. وفي ظلِّ الظروف المُؤلِمة في أعقاب انهيار الشيوعية، انتهى الحال بالكثير من الشركات الروسية بأن أصبحت تحت طائلة ديونٍ ضخمة جدًّا، والديون الضخمة تصنع قوائم انتظارٍ طويلة من الدائنين. فإذا أقرضت أموالًا لشركة تدين بالمال للكثيرين، ثمة احتمال كبير أنَّ قرضك لن يُستخدَم في إنجاز أيِّ شيءٍ مُنتج أو جديد، وإنما سيَقتصِر على سداد مُستحقَّات الدائنين الواقفين في صف انتظارٍ طويل. في الواقع، لدى هؤلاء الدائنين حقٌّ قانوني يتمسَّكون به، وإذا كانت مصلحة الضرائب من ضِمن هؤلاء الدائنين، فإن لدَيها الحق القانوني لمصادرة أرصدة الشركة بالبنوك. وفي ظل هذه الظروف، ليس من المُستغرَب أن يفقد المُقرضون الرغبة تمامًا في توفير التمويل للمشاريع التجارية. وبدون تمويل، من المُستحيل أن يشرع قطاع الأعمال التجارية الروسي في مهمة مواءَمة مُنتجاته وعملياته لتتناسب مع العالَم المعاصِر.

إذن في اقتصادٍ قائم على المال، تكون قوائم الانتظار طويلة، والدائنون حازِمين. وإذا أصبحت قائمة الانتظار طويلةً جدًّا، قد تُوفِّر المقايضة وسيلةً لاجتيازها.7 فإذا كنتُ أقدِّم لك بضائع في مقابل وعدٍ بالسداد بالمال، فإن الأموال التي خَصصتَها أنت لسداد مُستحقاتي قد يَستحوِذ عليها أحد دائنيك، والقانون سيَكفُل له الحق في القيام بذلك. ولكن إذا وعدتَني بسداد مُستحقَّاتي ببضائع، حينئذٍ سأكون بمثابة أحد عملائك، وليس أحد دائنيك. ومن المُستبعَد بأية حال أن يرغب دائنوك الآخرون في الاستحواذ على بضائعك، وحتى وإن رغبُوا في ذلك، لا يُمكنهم اللجوء إلى القانون لمساعدتهم، لذا فإن احتمالات حصولي على مُستحقَّاتي أعلى بكثير.

كان من الواضح أنَّ الاجتياز المُمنهَج لقوائم الانتظار بمثابة حلٍّ سريعٍ في أحسن الأحوال، ولم يكن حلًّا دائمًا لمشكلات الشركات الروسية المُثقَلة بديونٍ مُزمنة. أهم التضحيات الناتجة عن هذا الحل أن يَنتهي الأمر بقَبول الجميع لأفضل بديلٍ متاح. قد لا ترغب في الأحذية التي يعرضها عليك شريكك التجاري؛ فقد لا تكون بالجودة أو الطراز الذي قد تَختاره؛ ولكنَّك تَقبل بها لأنَّ ذلك أفضل من ألا تَحصُل على مُستحقاتك مُطلقًا. حتى الحكومة كانت تفعل ذلك؛ إذ زعمت إحدى الشركات المُصنِّعة للحافلات أن الطريقة الوحيدة التي تَستطيع بها تسديد الضرائب المحلية هي توفير حافلاتٍ لمصلحة الضرائب المحلية بدلًا من النقود. لم تكن الحافلات تعمَل على نحوٍ جيد جدًّا؛ وبالفعل كانت تتعطَّل كثيرًا، تاركةً الركَّاب عالِقين في الجليد. ولكن مصلحة الضرائب المحلية لم تكن مُهتمَّة بذلك، طالَما كان بإمكانها أن تضع علامةً إلى جوار خانة شركة الحافلات في سجلَّاتها تدلُّ على أنها سدَّدت الضرائب المُستحَقَّة عليها.

وجدت الشركات الروسية الأمور أسهلَ كثيرًا بعد أواخر تسعينيَّات القرن العشرين، ويرجع الفضل في ذلك بدرجةٍ كبيرة إلى ارتفاع أسعار الصادِرات الروسية (وبخاصة النفط) التي مكَّنت من حصول المزيد من الدائنين على قوائم الانتظار على مُستحقاتهم أكثر مما كان أحدٌ يتصوَّر بواقعية. نتيجة لذلك، تراجَعَت عمليات المقايضة إلى مستويات ضئيلة — ولحُسنِ الحظ، يعرِف من جرَّبوا المُقايَضة كم أنَّ هذا مُؤلم. غير أن أحد الآثار للأزمة المالية على الاقتصاد الروسي كان عودة ظهور بوادر للمُقايَضة مرةً أخرى بحلول عام ٢٠٠٩.8 من المُستبعَد أن تستمرَّ طويلًا، إلا أنها ربما تتسبَّب في أضرارٍ بالغة للاقتصاد الرُّوسي في أثناء ذلك.

كيف أرست منظومة المال قواعدها؟

بالنظر إلى الخصائص التي تَجعل نوعياتٍ مُعيَّنة من النقود تَفرض نفسها (وبدونها تفقد جاذبيتها، كما حدث لفترةٍ قصيرة بعد انهيار الشيوعية في روسيا)، قد يَميل المرء إلى الاعتقاد بأن المُجتمَعات تعلَّمت على مرِّ التاريخ تداول المال عبر عملية «تصاعُدية» تدريجية ركَّزت من خلالها المُبادَرات الفردية تدريجيًّا على استخدام سِلَع مُعيَّنة وسيطًا للتبادل، واستُبدِلَت في نهاية الأمر بالعملات الرسمية التي هي أشكال النقود التي نعرفها اليوم. ونحن نعرف على الأقل واقعةً تاريخية واحدة تتناسَب تمامًا مع هذا التوصيف؛ لدرجة أنَّ علماء الاقتصاد اعتبروها نموذجًا مِثاليًّا للعمَلية التي حدثت في فتراتٍ أخرى على مرِّ التاريخ وربما حتى في عصور ما قبل التاريخ؛ إلا أنَّ دليلًا آخر يُوحي بأنَّ هذه الواقعة ربما كانت غريبة لأبعدِ الحدود.9
جرَت هذه الواقعة في أحد مُعسكَرات أسرى الحرب الألمانية. ولقد أصبحت معروفةً جدًّا لأنه كان من بين الأسرى عالم اقتصاد يُدعى آر إيه رادفورد، والذي نشر مقالًا عن تجربته في دورية «إيكونوميكا» بعد إطلاق سراحه ببضعة أشهر عام ١٩٤٥.10 كانت العُملة التي ظهرت في المعسكر هي السجائر، التي اتَّسمت بكونها «مُتماثلة، ومُستدامة على نحوٍ معقول، وذات حجمٍ ملائم للصفقات الصغرى، أو على هيئة عبواتٍ للصفقات الكبرى.» لاحظ رادفورد الطريقةَ التي كانت تُحدَّد بها أسعار السلع الأخرى (الجبن والمُربى والشوكولاتة وما إلى ذلك) قياسًا بالسَّجائر. ووصْف وقائع تضخُّم للأسعار (عقب وصول شحنات غير متوقَّعة من طرود الصليب الأحمر التي تضمَّنت سجائر) وانكماش (عندما اعترضت غارات الحلفاء تلك الشحنات). كما أوضح كيف بدَت على السجائر خصائص أخرى كثيرة خاصة بالمال، من ضمنها قانون جريشام، الذي ينصُّ على أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق؛ إذ نادرًا ما استُخدمت أصناف السجائر عالية الجودة بمثابة عملة وذلك لأن الناس كانوا يُفضِّلون الاحتفاظ بها لتدخينها.
وُثِّقَت وقائع مشابهة في أماكن أخرى. إذ استخدم أيضًا الجنود الأمريكيون بالعراق السجائر بمثابة عملة.11 ومع ذلك، تجعل مُستجداتٌ حديثة العهد السجائر عملةً غير مثالية في بعض السياقات. فمنذ عام ٢٠٠٤، يُحظر التدخين داخل السجون الفيدرالية الأمريكية، ولا يُسمَح للمَساجين بحيازة النقود. ومن ثم، كانت العملة التي ظهَرَت في الكثير من السجون الفيدرالية هي عُلب أو أكياس شرائح الماكريل. ما يجعل هذه العملة رائجة، كما تُورِد جريدة وول ستريت جورنال، هو أن «تكلفة كل علبة (أو كيس) دولارًا واحدًا وقليلون من يرغبون في أكلها، باستثناء رافعي الأثقال الذين يَشتهُون البروتينات.» — وهو تأكيدٌ لافتٌ للنظر على صحة قانون جريشام.12
لقد ساعدت وقائع كهذه في إقناع علماء الاقتصاد بأنَّ تطوُّر الأموال على مرِّ التاريخ أعقب عملية حدَثَ فيها، على حدِّ قول بول صامويلسون: «أفسح عصر النقود السلعية المجال أمام عصر النقود الورقية … وفي النهاية، إلى جانب عصر النقود الورقية، ظهر عصر النقود المصرفية أو ودائع الشيكات المصرفية.»13 تتمثَّل الفِكرة من وراء هذا في أن تقارُبًا تلقائيًّا في الآراء بشأن اعتبار السِّلَع وسائط تبادُل أدَّى بالحكومات في النهاية إلى ابتكار عملات (أولًا على هيئة عملاتٍ معدنية ثم بعد ذلك ورقية) قامت بهذه الوظائف على نحوٍ أكثر كفاءة. ولم يَحدُث تطوُّر الودائع المصرفية كشكلٍ من أشكال العملات (تبادُل ديون النظام المصرفي كوسيلةٍ للسداد بدلًا من السلع أو النقود الورقية) إلا بعد تطوُّر نظامٍ مصرفي مُعقَّد.

ورغم أنَّ هذا التخمين يبدو منطقيًّا، فإن الأدلة لا تدعمه؛ إذ يبلُغ عمر الشواهد على وجود عملاتٍ رمزية للديون القابلة للتحويل من بلاد الرافدين ضِعفَ عمر أقدم العُملات التي عُثِر عليها حتى الآن. فمن الواضح أنه عندما كان يرغب شخص مَدين لتاجر غلال أن يُسدد مستحقات شخصٍ آخر مَدين لنفس التاجر، كان الأول يُسدد دَين الثاني نيابةً عنه؛ مثل نظام القيد الحديث تمامًا، ولكنه، في الواقع، ليس مثل الاقتصاد النقدي على الإطلاق. ولا نَعرِف ما إذا كانت بعض السلع تقوم أيضًا مقام وسيلة التبادل، أم ما إذا كان الناس يحتفظون فحسب بسجلاتٍ لديونهم لدى كبار التجار. إلا أن ظهور النقود في معسكرات الاعتقال وأثناء الحروب الحديثة لا يُخبرنا بأيِّ شيءٍ عن هذا، وقد يكون مُضللًا إلى حدٍّ كبير من الناحية التاريخية؛ نظرًا لأن هذا يحدُث بين أشخاصٍ اعتادوا استخدام عملاتٍ مُتطورة ومَنعتْهم الظروف بصفةٍ مؤقتة من استخدامها.

في الواقع، يبدو من المُرجَّح أن ما قاد تاريخيًّا إلى ظهور الاقتصاديات النقدية في أنحاء متفرِّقة من العالَم لم يكن إصدار السلطات السياسية لأشكالٍ من المال ذات خصائص «مناسبة» تجعلُها وسائط تبادُل مقبولة بوجهٍ عام. من المُحتمل أن العملات الرمزية للديون التي كان يُصدرُها دائنون متنوِّعون، بما في ذلك بنوك خاصة، كانت متداوَلةً في أماكن كثيرة لا توجَد فيها العملات المعدنية، وكانت أسواق كُبرى كثيرة بأوروبا في العصور الوسطى تُسوِّي الديون بين التجار «بدون استخدام عملةٍ مَعدنية واحدة.»14 كانت هذه العملات الرمزية للديون تَتنافس عادةً بعضها مع بعض؛ ومع العُملات الرسمية في البلاد التي كانت تُوجَد فيها. بالفعل، حتى وقتٍ متأخِّر، تحديدًا في عام ١٨٥٩، كان يُوجد عشرة آلاف نوع مختلف تقريبًا من العملات الورقية المتداوَلة في الولايات المتحدة بالإضافة إلى أكثر من خمسة آلاف عُملةٍ ورقية مُزيَّفة مُختلِفة،15 ممَّا يدلُّ على أنَّه حتى الاقتصاد المتطوِّر مثل اقتصاد الولايات المتحدة كان يُواجِه صعوبةً حقيقية في التنسيق بشأن شكلِ عُملةٍ يمكن للجميع استخدامها. عوضًا عن ذلك، ما جعل الآراء تَجتمع على عملةٍ مشتركة هو اشتراط أن تُدفَع الضرائب في صورة النقود المشار إليها. حينئذٍ اختار الناس استخدام النقود لأنهم احتاجوا إليها لدفع الضرائب للسلطة السياسية. كان ذلك، وليس أي توافُق تلقائي في الآراء، هو أساس التوازُن الاجتماعي الذي رسَّخ فكرة النقود؛ ولم يَحدث ذلك في أنحاء كثيرة من العالم حتى وقتٍ قريبٍ جدًّا.
وحين حدث ذلك، كانت السلطات السياسية تطلُب عادةً تسديد الديون بعُملة صُمِّمَت بحيث تَحظى بالخصائص المناسبة لاستخدامها وسيطًا للتبادُل. ولكن أحيانًا كانت الواقعية السياسية تتفوَّق على المبادئ النقدية، كما أورد ويليام هنري فورنيس حين وصَفَ إقامة نظامٍ ضريبي على يد السلطات الاستعمارية الألمانية في جزيرة واب (جزء من جزُر كارولين) في عام ١٨٩٨. يأسًا من فرْض إصرارها على أن يُرمِّم أهل الجزيرة الطرُق المحلية، ولعجزها عن حثِّهم على العمل مقابل أيِّ عملةٍ معروفة، استغلَّت السلطات حقيقة أنَّ عجلات «فاي» — وهي عجلات حجَرية ضخمة — كان أهل الجزيرة يستخدمونها في مراسم تبادُل:
[كانوا] يضعون على عددٍ مُعيَّن من أقيم عجلات «فاي» علامةً بطلاءٍ أسود ليُبيِّنوا أن هذه الحجارة مُستحقَّة للحكومة. كان لهذا مفعول السحر في الحال؛ إذ اتَّجه الناس، الذين كانوا يُعانون من فقرٍ شديد، إلى الطرُق العامة ورمَّمُوها لدرجة أنَّ هذا التأثير الرائع ظهر من أحد طرفَي الجزيرة إلى الطرف الآخر، وبدَت حينئذٍ أشبَهَ بطرُق المُتنزَّهات. ثم أرسلت الحكومة مُمثِّليها ومسحت العلامات.16

تُعدُّ العجلات الحجرية عملةً غير مناسِبة لأن تكون وسيطَ تبادُلٍ عام كما يُمكِن لأي شخصٍ أن يتخيَّل، ولكن في ظلِّ هذه الظروف كانت أفضل عُملةٍ ضريبية متاحة خاضعة للضريبة. لذلك ربما لم تكن الخصائص التي تجعل المال أساسًا ثابتًا للتبادُل الاجتماعي كافية لترسيخ المال تاريخيًّا ليكون وسيط تبادل فعَّال. ربما كان ضروريًّا استخدام قدرٍ كبير من الإكراه، كما هي الحال في جزُر كارولين، وربما لم تكن النتيجة دومًا تسرُّ المواطنين.

لا يعني أيٌّ من هذا أن السلطات السياسية على مرِّ التاريخ كانت قادِرة على اتخاذ قرار بشأن الشكل الذي أصرَّت على تسديد الضرائب به؛ فعلى سبيل المثال، سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن لجوء الاقتصاد الروسي إلى المقايضة في تسعينيات القرن العشرين حدث لأنَّ الحكومة لم تُصرَّ دومًا على تسديد الضرائب بعملة الروبل؛ وإنما بدلًا من ذلك كانت على استعدادٍ لقَبول حافلات. على العكس، مع أخذ تراجُع القوة الشرائية للروبل وعدم الثقة في الحسابات المصرفية بعُملة الروبل بسبب قابلية تعرُّضها للمصادَرة في الاعتبار؛ فمن المُرجَّح أن هيئات جمع الضرائب التي تقبل الدفع العيني فعلت ذلك نظرًا لاستحالة حصولها على مُستحقاتها بأيِّ طريقة أخرى. ومع ذلك فإنَّ ما توضحه هذه الواقعة هو أنه بصرْف النظر عن مدى ترسُّخ دعائم منظومة المال، فإنها تلعب دورًا حيويًّا في أداء الاقتصاد الحديث القائم على شبكة تبادُل مُعقَّدة. ربما لم تترسَّخ منظومة المال تاريخيًّا لتكون بديلًا أكثر كفاءة من المقايضة، ولكن نظرًا إلى مدى تعقيد شبكات الاقتصاد الحديث، صارت المقايَضة أقل كفاءة بكثيرٍ من المال. ولكن منظومة المال ضعيفة وهشة، وإذا تقوَّضت الثقة في المال، قد تكون العواقب وخيمة.

المال، وسِمة العمومية، والقلق

في نفس الوقت الذي كان مواطنو روسيا يتجرَّعون فيه ألَم المقايضة، كان الانجذاب نحو المقايضة آخذًا في الازدياد في بعض الأجزاء الأخرى من الغرب الصناعي. تُعدُّ الرابطة الدولية للتبادُل التجاري (www.irta.com) داعيًا مُتحمسًا لفوائد التجارة القائمة على المقايضة في العالَم المُعاصر. وهي تزعُم أن أكثر من ٤٠٠ ألف شركة حول العالَم جنَت حوالي عشرة مليارات دولار من خلال صفقات المقايضة في عام ٢٠٠٨ (مع أنه يستحيل التحقُّق من صحة ذلك)؛ ومع ذلك فحتى هذا المبلغ مُقسَّم بواقع ٢٥ ألف دولار فقط لكل شركة. وتُشير إلى أن دور أجهزة الكمبيوتر والإنترنت في التوفيق بين طلبات العملاء المُختلفين وتحقيق «ازدواجية تزامن الاحتياجات» التي لطالَما مثَّلت تحديًا أمام عمليات المقايضة في الماضي؛ الجهود الهائلة يتعيَّن أن يبذُلها المُورِّدون لسلعةٍ واحدة من أجل العثور على مُشترين لا يَرغبون فقط في السلعة المَعنية ولكن لديهم أيضًا سلعة مرغوبة يعرضونها في المقابل.
نَمَت أيضًا شبكات المقايضة المحدودة (تُعرَف عادةً باسم نظم المقايضة المحلية)17 في عدد من المدن. فهي تُتيح للأفراد تبادل السلع والخدمات على نطاقٍ ضيق وعلى تراكُم رصيد على هيئة نقاط أو أي عملة اصطناعية لتبادل السلع والخدمات الأخرى لاحقًا. ربما تعتمد جاذبيتها إلى حدٍّ ما على قدرٍ أكبر من السهولة التي يُمكن بها التهرُّب من الضرائب في صفقاتهم، وإلى حدٍّ ما على تَوقٍ إلى تحرير المجتمع المحلي الذي يعيش فيه المرء من الاقتصاد النقدي، ولكن بصرف النظر عن السبب فإن شعبيتها بلا شك في ازدياد. تشكَّلت عملات بديلة مُشابهة في فينزويلا بمباركةٍ من الرئيس تشافيز، سعيًا، على ما يبدو، لإيجاد بدائل لمؤسَّسات الرأسمالية.18
ويُطلِق المُتحمِّسون للمقايضة الكثير من الادِّعاءات؛ منها أنها أكثر فعالية، وأكثر إمتاعًا، بل وأكثر أخلاقية. شعَر كثير من الناس أنَّ ثمة أمر يُوحي بالشرِّ في سِمتَي الانتشار والعمومية للمعامَلات النقدية في العالم الحديث. قال الإمبراطور فسبازيان: «المال ليس له رائحة.» وهذا على وجه التحديد ما يجعل فرائص البعض تَرتعِد (كان فسبازيان يُشير، بقدْرٍ من التفاخُر، إلى حقيقة أنه نجح في فرْض ضرائب على الحمَّامات العامة). ويظهر تعبير عاطفي، بل وحالِم، عن وجهة النظر هذه في الفقرة الختامية من كتاب جيمس بوتشان «رغبة متجمدة»، وفيه يتمسَّك بالحُلم بعالَمٍ مُتحرِّر من المال:
ما أدراك أنه ذات يوم ربما يتحرَّك الجنس البشري. ويستيقظ أبطالي، رجالًا ونساءً، من سباتهم العميق ويَفرُكون أعينهم. يدفع الشرَف قروض الائتمان بعيدًا في اشمئزاز لا يُوصَف، وتهرُب الأعمال الخيرية صارخةً من الحفلات الخيرية وتتفاوَض الفضيلة والملاءة المالية على الانفصال، الذي يَصير دائمًا. تضع الحرية حقيبة تسوُّقها وتُريح قدمَيها المُتورِّمتَين. وتفتح بومة مينرفا إحدى عينيها، ثم العين الأخرى، ثم تفرد جناحيها الرثَّين لتطير. وبينما تتبخَّر هذه الأحلام، سينسدِلُ ستار النهاية على عصر المال، الذي جاء بعد عصر الإيمان، كشأن كلِّ شيءٍ في الوجود.19

ولكن بصرف النظر عن أي ادِّعاءات أخرى، لم تكن المقايضة نظامًا فعَّالًا للمجتمع ككل أبدًا، رغم أن الضرائب وغيرها من النظم والقواعد، أو غياب الثقة في النقود، قد تجعلها ملاذًا مفهومًا لكثيرٍ من الأفراد. وحتى مع الأنظمة المُعقَّدة المعتمدة على الكمبيوتر والإنترنت المُستخدمة لتحقيق ازدواجية تزامن الاحتياجات، ستواجه المُقايضة دومًا مشكلةً أساسية؛ وهي أنه عند البحث عن شخص يُريد شراء ما يتعيَّن عليَّ بيعه، كيف يتسنَّى لي أن أتأكد أن ما يعرضه في المقابل بالجودة التي أطلبها؟ جاذبية النقود تتمثَّل تحديدًا في أنَّ بوسعي الوثوق في جودتها أكثر من أي شيءٍ آخر يُمكن لبائعٍ أن يعرضه. ستبقى المقايضة قائمةً دومًا أينما تسنَّى للمشاركين أن يتخطَّوا أزمة الثقة بطرُقٍ أخرى؛ ففي المجتمعات الصغيرة حيث يعرف الناس بعضهم بعضًا معرفة جيدة، وحتى على نطاقٍ أوسع عندما تكون السِّلع المُتبادلة موحَّدة المعيار بدرجةٍ كافية فيما يخصُّ جودتها بحيث يمكن التحقُّق من مستواها بسرعةٍ بدون بذل مجهودٍ كبير. ولكن كوسيلةٍ وسيطة لتبادل أشياء مُبهمة بين الغرباء، تعتمد عليها الحياة المُعاصرة أكثر فأكثر، لم يُعثَر قطُّ على بديلٍ واقعي للمال.

ماذا عن الجاذبية الأخلاقية للمقايضة؟ ما أساس هذا القلق المنتشر حول عصر المال؟ لا شكَّ في أن له جذورًا عديدة، وسيَحتاج الأمر إلى كتابٍ آخر غير هذا لاستِكشافها كلها. أحيانًا ما يكون ازدراء المال مجرد طريقة مختصَرة للتعبير عن ازدراء الثروة (فالمال، في نهاية الأمر، شكل مُختزَل لجميع الأشياء الكثيرة التي يُمكن اقتناؤها باستخدامه). على نحوٍ أكثر دقَّة، كان ازدراء المال غالبًا تعبيرًا رمزيًّا عن الشعور بعدَم الأمان لدى المُنتمِين للطبقة الأرستقراطية وأولئك الذين عاشوا على ثروة «موروثة» في مواجهة الثروة المُكتسبة من نشاطٍ اقتصادي؛ ولا سيما التجارة. وربما كان لهذا الشعور بعدَم الأمان تداعيات اجتماعية واقتصادية مُهمَّة، من خلال الطريقة التي شَكَّل بها المواقف تجاه النشاط الاقتصادي في الكثير من المجتمَعات، بدايةً من أثينا القديمة وحتى بريطانيا الحديثة. ولقد ذهب المؤرخ مارتن وينر إلى أن «انخفاض الروح الصناعية» في بريطانيا كان يرجع تحديدًا إلى انتشار مثل هذه الحالة العالقة من عدَم الأمان بين الشخصيات البارزة في الثقافة البريطانية، بدايةً من الأرستقراطيين أصحاب الأراضي في القرن التاسع عشر وصولًا إلى التأثيرات الأدبية والفنية على شخصيةٍ مهمَّة جدًّا مثل جون ماينارد كينز.20 والأكثر تعقيدًا من ذلك، أن ازدراء المال قد لعب في أحيانٍ كثيرة على وتر الالتباس المُتعمَّد بين «المال» بمعنى الثراء و«المال» بمعنى كونه وسيط تبادُل عمومي، والذي تؤدِّي عموميته وسطحيته إلى جعله مثيرًا للريبة بطريقةٍ ما. من ناحية الصورة البلاغية، يُصبح المال موضعَ ازدراءٍ عن طريق رابطة قائمة على التلميح ونادرًا ما تصمد أمام الاختبار لو عُرضَت في مناقشة صريحة. لقد عبَّر الكثير من الكتَّاب، الذين يتحسَّرون على انتشار الأسواق في العالَم المُعاصر، عن شكواهم فيما يخصُّ تأثير العقلية النقدية،21 وهي شكوى ربما تكون أقلَّ إقناعًا من الناحية البلاغية لو كانت مُوجهة نحوَ تقسيم العمل وانتشار التبادُل الاجتماعي.
وتكفي حتى نظرة خاطفة على مكانة المال في الشعر والكتابات النثرية لتكشف مدى الارتباط الوثيق بين هذا القلق والغموض بشأن الجسم البشري، وتحديدًا أوجه غموض رغبتنا الجنسية. هذا لا يعني أن أوجُهَ غموض رغبتنا الجنسية جعلت هذا الشعور ينتابُنا تجاه المال؛ ولكن من المُرجَّح أننا نستخدِم تعبيرات تُعبر عن قلقنا تجاه الرغبة الجنسية من أجل التعبير عن القلق الذي نشعُر به — ربما لأسبابٍ أخرى — حيال المال وتأثيره الاجتماعي المُتغلغل. استُخْدِمَت كلمة ترف (luxury) بمعنى الانغماس في الشهوات (lechery) منذ وقت قريب في القرن السابع عشر، وإلى يومنا هذا الكلمة الفرنسية المُستخدمة بمعنى الانغماس في الشهوات هي كلمة la luxure. وصفَ الكاتب المسرحي من العصر اليعقوبي سيريل تورنير الدوق في مسرحية «مأساة المُنتقم» على لسان أحد المشاهدين بأنه «مُتعطِّش إلى الشهوات ومنُغمِس فيها.»22 استُخْدِمَت كلمة «إنفاق» (Expense) (كما في سونيت ١٢٩ لشكسبير، التي مطلعها «إنفاق الروح في اليباب المُخزي») لتُشير إلى ذروة النشوة الجنسية، وحتى أواخر القرن التاسع عشر لم يكن التعبير المُستخدَم للدلالة على الوصول إلى ذروة النشوة الجنسية هو «وصل» وإنما «أنفق». ولعلَّ هذا التشابُه يُعزى إلى الشَّبه بين حالة الإعياء التي تأتي في أعقاب اللذة الجنسية والاستنزاف المالي الذي يعقب لذَّة إنفاق المال (كِلا نوعي الإعياء يتكرَّر حدوثهما كثيرًا، وربما يُخْلَط بينهما وبين الشعور بالذنب). وربما يعود جزء من السبب إلى الشعور بأن المال، بصفتِه آلية مُحاسبة، يجعل الملذَّات تحت ملاحظةٍ دقيقة وقاسية، كمُحاسَبة المبادئ الأخلاقية التقليدية. أهم ما في الأمر أن لهذا علاقة بعمومية المال، أو الشعور بأن الثقة التي يَشتريها هي بطريقة ما ثقة مكتسَبة على نحوٍ مُخادع، كونها قائمة على قواعد غير شخصية، وليس على فهمٍ شخصي. الرغبة الجنسية هي جانب من حياة البشر يتغلغَل فيه لأقصى درجةٍ المِثال المُتمثِّل في الاستعداد والتبادل الذاتي بين شريكين مُحفَّزَين برغبةٍ متقاربة، ومع ذلك فهي أيضًا إحدى الأشياء التي يُسمِّمها الارتياب في أن مظهر الرغبة هو مجرد محاكاة، تُخفي وراءها حافزًا غير مباشر ونفعي. إنَّ الاختفاء خلف قناع غير مباشر، كالاختفاء خلف قناع مباشر، هو أيضًا من صميم المال.
يُحيِّرنا المال بالتبايُن بين ما يبدو عليه ظاهريًّا وما يوحي به باطنيًّا. كما يقول جيمس بوتشان: «لقد صار المال، بالاستعانة بتعبير مجازي تقليدي، أشبَهَ بساحة تحويل سكك حديدية تستقبل دومًا أمانيَ وأحلامَ عددٍ لا يُحصى من الناس وتُرسلها إلى وجهاتٍ لا يمكن تخيُّلها.»23 هذا الشعور بالإمكانية اللامُتناهية يقوِّض أيضًا الراحة التي تبعث عليها التصنيفات المألوفة، مؤديًا إلى انطباع بأن بوسع أصحاب المال أن يستخدموه للتحرُّر من تضييق الأحكام الاقتصادية والأخلاقية التي تُقيِّد بقيتَنا. ويُعبِّر بلزاك عن هذه الشكوى على لسان إستير، البطلة البريئة لروايته «روائع ومآسي العاهرات»:
فتاة بلا دخْل تجد نفسها وسط الوحْل، كما كنتُ أنا قبل دخولي الدير. الرجال يرَونها جميلة، ويَجعلونها تُشبع رغباتهم دون إبداء أدنى قدْر من الاحترام لها، ويأتون من أجلها في عربةٍ تجرُّها الخيول ثم يصرفونها سيرًا على الأقدام. وإن لم يَبصُقوا في وجهها، فهذا فقط لجمالها الذي يُجنِّبها هذه الإهانة. ولكن دعْها ترِثُ خمسة أو ستة ملايين، وستجد الأمراء يسعَون وراءها، يُحيُّونها وهي تمرُّ بعربتها الخاصة؛ ويُمكنها الاختيار بين أعرق شعارات النبالة في فرنسا ونافار. هذا العالَم، الذي كان من شأنه أن يسخر منَّا [هي وعشيقها الفقير]، لكوننا مَخلوقين جميلين مُتَّحدِين وقانعين، أظهر باستمرار الإجلال والاحترام لمدام دي ستال بحياتها البوهيمية؛ لأنه كان لدَيها دخل يُقدَّر بمائتي ألف جنيه. العالَم، الذي ينحني أمام المال والمجد، ليس لديه رغبة في احترام السعادة أو الفضيلة.24
يستخدم كاتب من عصر لاحق، هو مارتن أميس، الأسلوب نفسه بطريقةٍ معكُوسة بجعل الراوي يَتلاعَب بفكرة المال باعتباره وسيلةَ حماية، فيكتب: «المال، يجِب أن أُحيط نفسي بالمال، بالمزيد من المال، عمَّا قريب. يجِب أن أكون في مأمن.»25 لقد صار الوعد المُضلِّل بالأمان أحد أكثر المواضيع الدائمة تناولًا في موقفنا المُعاصر حيال المال، والموقف الذي صار أكثر إلحاحًا هو ازدياد اعتبار المال مصدرًا للأمان على مرِّ التاريخ. من الخصائص المُدهِشة للحياة المعاصرة أنه، مع ازدياد التعامل مع الأخلاقيات الجنسية باعتبارها شأنًا خاصًّا، تزايد استهداف أخلاقيات النزاهة المالية بتقنينٍ جماعي. وهذا أمر حتمي وكذلك مرغوبٌ فيه، ولكن ذلك لا يحُول دون الشعور بالغرابة حياله. حتى أزمة الإيدز لم تَعُق تزايُد الاعتقاد بأنَّ للسلوك المالي للمُجتمَعات المُزدهِرة صِلات مباشرة بأقدار باقي المجتمع أكثر ممَّا للسلوك الجنسي. ربما يكون الجنس الموضوع المُثير لقدْرٍ لا نهائي من الفضول، ولكنه في النهاية أقل تأثيرًا (مع أنَّ الاستثناء المأسوي لأفريقيا، التي يعصف بها مرض الإيدز حاليًّا، يُذكِّرنا أن في أفقر المجتمعات ربما يكون العكس صحيحًا في تلك الحالة).

حقيقة أنَّ المال أصبح أكثر أمنًا الآن في أغلب المجتمعات المزدهرة أكثرَ من أي وقتٍ مضى يجعل مَخاطرَه المُتبقية مُزعِجة أكثر. فهو يُمثِّل الطريقة التي نتواصَل بها مع الغرباء بصورة لم يسبق لها مثيل من قبل. واستجابتنا لطرُق التواصل هذه، وقد أدَّت محاولاتنا عبر المؤسسات السياسية لإعادة تأكيد السيطرة على البنية المالية لاقتصاداتنا إلى وجود دعائم من لوائح مُذهِلة من حيث تعقيدها بقدر المؤسسات المالية التي تسعى للسيطرة عليها. وهذا هو موضوع الفصل السابع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤