الفصل الثامن

الشرف بين المصرفيين

ما الذي تسبب في حدوث الأزمة المالية؟

انهيار في الثقة

كانت الأزمة المالية العالمية التي وقعت عام ٢٠٠٧ بمثابة انهيار للثقة الاجتماعية على نطاقٍ واسع. وتُعد، من بعض النواحي، حالةً مرجعية تدعم الحجج المعروضة في هذا الكتاب؛ لأن نجاح المؤسَّسات الأكثر طموحًا في تعزيز الثقة هو ما يَمنحُها القوة لتُلحِق بنا ضررًا جسيمًا كهذا. أعقب فترة ازدهار، شهدت ثقة الكثيرين في أشخاص آخَرين دون تمحيص ليأخُذُوا بالنيابة عنهم قراراتٍ صعبةً بشأن المخاطر، فترة انهيار أُعيد فيها تقييم قدرة الجميع على الثقة بالآخرين بخصوص مثل هذه القرارات؛ وذلك على هيئة انتشارٍ واسع لحالةٍ مزاجية تشاؤمية ليس لها تبرير موضوعي، كشأن الحالة المزاجية التفاؤلية العشوائية التي سبقَتْها. وكما سنرى، هذا النوع من التقلُّب المزاجي الجماعي هو تقلُّب يبدو أن نفسية «الإنسان العاقل» المتطورة عُرضة له بصفةٍ خاصة.

وتعود جذور هذا التفاؤل المُفرط إلى وقتِ الأزمة المصرفية الأمريكية التي بدأت عام ١٩٢٩، والاعتقاد اللاحق بأننا عرَفنا عن أسبابها ما يكفي لمنع تكرار حدوث أي شيء كهذا مجددًا. انتهَت تلك الأزمة عمليًّا في مارس ١٩٣٣ بالسماح للبنوك باقتراض العُملة من مؤسسة تمويل إعادة الإعمار وإلزامها بدفع مُطالبات المُودِعين بهذه العملة بدلًا من دفعها بالذهب. وفي الوقت نفسه، كفَل تأسيس شركة تأمين الودائع الفيدرالية ودائع المُقترضين من القطاع الخاص؛ بحيث لم يعُد أحدٌ منهم يرغب في إجراء عمليات سحبٍ احترازية، بل إن كثيرين أعادوا الذهب الذي كانوا قد سحبوه إلى البنوك. ورغم أن أكثر من ٥ آلاف بنك كان قد أفلس خلال الأعوام الثلاثة من ١٩٣٠ إلى ١٩٣٢، فإنه في عام ١٩٣٤ لم يُفلس إلا تسعة بنوك فقط. وهذه النهاية المفاجئة للأزمة المصرفية أوجدت لدى الجمهور وواضِعي السياسات على حدٍّ سواء شعورًا مُحبَّبًا بالارتياح. ولكنها شجَّعت واضعي السياسات على استخلاص ثلاثة دروس مُهمَّة ولكنَّها خاطئة بشأن دور الثقة والائتمان في نظامٍ مصرفي حديث.

كان الدرس الأول الذي استخلَصُوه هو أن السبب الرئيسي وراء إفلاس البنوك في الفترة ما بين عامي ١٩٢٩ و١٩٣٣ هو أن المودعين أُصيبُوا بالذعر؛ وليس لأنَّ البنوك ذاتها كانت مُفلسة. كان الدرس الخاطئ الثاني هو أن المُودِعين المعرَّضين لنوبات الذعر سيكونون دومًا «صغار المودعين» — أرباب الأُسَر وأصحاب الشركات الصغيرة — لا الشركات الكبرى أو المستثمرين المُحترفين. كان الدرس الخاطئ الثالث هو أنه لو أمكن الحفاظ على «الثقة» في النظام المالي، إذن فإنه يُمكِن الوثوق في بقاء النظام ذاته وازدهاره. لأول وهلةٍ بدا أن هذه الافتراضات الثلاثة، بخصوص أسباب أزمة عام ١٩٢٩، وليدة الفترة الطويلة من الاستقرار المالي والرخاء الذي أعقَبَها؛ وثبتَ عدم صِحَّتها عندما خضعت للاختبار في الأزمة التي أدَّت إلى نهاية تلك الفترة. أعمَت الفترة الطويلة من الاستقرار تمامًا أعيُن مُعظَم المُراقبين المُطَّلعين على التاريخ عن رؤية الأخطار، حتى إنَّ أحد علماء الاقتصاد المالي المشهورين كتب في مدوَّنة في يناير ٢٠٠٨ يقول: «النظام المصرفي الأمريكي اليوم هو على الأرجح أقوى وأكثر استقرارًا من أي وقتٍ مضى في التاريخ الأمريكي.»1 إذن، ما هو بالضبط الخطأ الذي حدث في الاستنتاجات المُستخلَصة من ثلاثينيات القرن العشرين؟

ما الذي يفعله النظام المصرفي عندما يُؤدِّي عمله بشكل جيد؟

لكي نفهم لماذا أعمى التوصُّل إلى حلٍّ ناجح بخصوص الأزمة المصرفية التي وقعت في ثلاثينيات القرن العشرين أعيُن واضعي السياسات عن الأزمة التي وقَعَت في مطلع القرن الحادي والعشرين، فإنه من المُهم أن نُلقي نظرةً مرةً أخرى على ما يفعله النظام المصرفي. في عالَم يعجُّ بمخاطر دائمة، تُوفِّر البنوك جزرًا آمنة صغيرة ولكنها حيوية. ربما يكون العالَم من حولي في حالة تدفُّقٍ مستمر، ولعلَّ مستقبل المشاريع والمغامرات الاقتصادية المتنوعة، التي أقوم بها والتي يقوم بها من أعرفهم، يكون مستقبلًا غامضًا للغاية، ولكن في أغلب الوقت تُوجَد بعض الأسئلة التي لحُسن الحظ لستُ مضطرًّا إلى طرحها. فعندما تُحرِّر لي شيكًا بمبلغ خمسين دولارًا، أعرف أن قيمته ستكون نفس قيمة شيك بمبلغ خمسين دولارًا يُحرِّره شخص آخر لصرفه من بنكٍ آخر. كما أنني أعرف أن كل خمسين دولارًا أُودعُها في أحد البنوك ستكون قيمتها — في الأوقات العادية — بنفس قيمة الخمسين دولارًا لدى بنكٍ آخر. وهذا يختلف تمامًا عن قيمة أيِّ أسهم أو أوراق مالية أخرى ربما أمتلكها، والتي تتذبذب قيمتها من يومٍ إلى آخر (ولهذا السبب لا أستخدم هذه الأوراق المالية كوسيلةٍ لإجراء معاملاتي اليومية). ولكن أن يكون بوسعي الاعتماد على الاحتفاظ بودائعي في النظام المصرفي بقيمتها هو أمر محوري لاستقرار حياتي اليومية. أغلب الوقت، لستُ مضطرًّا إلى طرح أسئلة بشأن مدى حسن إدارة كل بنك، رغم أن كل بنك يُديره أشخاص غرباء تمامًا عني. وهو بالفعل شعور مريح ألا تكون مضطرًّا لأن تكون خبيرًا بالأمور المالية لكي تتمكَّن من استخدام النظام المصرفي. على حدِّ وصفِ جاري جورتون، يخدُم النظام المصرفي غير الخبراء في الأمور المالية مثلما تخدُم شبكة الكهرباء غير الخبراء في الكهرباء. فهي تُمكِّن غير الخبراء في الكهرباء من استخدام الكهرباء على نحوٍ موثوق به — أغلب الوقت — مثلما يستخدمها فنِّي الكهرباء.2

كيف يَستطيع النظام المصرفي فعل ذلك؟ إجابة هذا السؤال تَشتمل على شِقَّين؛ الأول أنه يجمع المخاطرة ويُشاركها بين الأفراد كي يُقلل القدْر الإجمالي من المُخاطرة، ثمَّ يوزع المخاطرة المتبقية التي يتعذَّر تجنُّبها لكي يضمن أنه سيتحملها أولئك الأكثر قدرة على تحملها. وشبكة الكهرباء تَفعل الأمر نفسه. فاحتياج أي فردٍ من الكهرباء يتَّسم بكونه مُتغيرًا وغير محدَّد، وإمداد الكهرباء من مصدرٍ واحد ربما يكون أيضًا مُتغيرًا ولا يُمكن التعويل عليه؛ ومَزارع الرياح والألواح الشمسية مثال صارخ على ذلك نظرًا لأنها تَعتمِد بالكامل على حالة الطقس؛ ولكن مصادر أخرى كثيرة عُرضة لمخاطر جسيمة. لو تَعيَّن على كل شخص يرغب في استخدام الكهرباء أن يتَّخذ الترتيبات لإمدادها من مصدر طاقة واحد، لكان لزامًا على الجميع أن يكونوا خبراء بما يَكفي لتقييم مدى إمكانية التعويل على كل مصدر، ولَتعرَّض الجميع يوميًّا لتقلبات الإمداد، وملاءمته غير الأكيدة مع احتياجهم غير المُتوقَّع. لحُسنِ الحظ، تجمع شبكة الكهرباء في مَعين واحد حالات عدَم التيقُّن الإجمالية فيما يتعلق بكلٍّ من العرض والطلب. على نحوٍ تقريبي تَميل التذبذبات في الإمداد من مصادر مختلفة إلى التعادل في المُجمَل، كحال التذبذبات في الطلب؛ فبينما يَهِمُّ شخصٌ ما بإشعال فرنه، يكون شخص آخر قد أطفأ فرنه.

لكن التيقُّن الكامل وهْم. حتى هذا التجميع للمخاطرة سيخلف بعض حالات انعدام التيقُّن الباقية بخصوص إجمالي العرض والطلب، لذا تُوزِّع الشبكة المخاطرة مرةً أخرى، مما يضمَن أكبر قدر مُمكن من التيقُّن لأولئك الذين يُقدرونه حقًّا وتركيز المخاطَرة في مجموعة أصغر من المستخدمين المُستعدِّين لقبولها (في مقابل سعرٍ مخفَّض بالطبع). تضمن شركة الكهرباء لنا نحن مُستخدمي المنازل توفُّرًا مُستمرًّا للطاقة؛ لأن بعض المستخدمين الكبار من أصحاب الاستهلاك التجاري لديهم عقود تمنحهم خصمًا إذا وافقوا على قطع الكهرباء عنهم في حالة ارتفاع الطلَب على نحوٍ غير متوقَّع، ولأن بعض مورِّدي الكهرباء لديهم عقود تُلزمهم بإمداد الطاقة بمجرد إخطارهم بالحاجة إلى الطاقة. ومع ذلك، قد تحدُث انقطاعات غير متوقعة للكهرباء من آنٍ لآخر.

والبنك يفعل الشيء نفسه مع مخاطرات الاستثمار وحالات عدم التيقُّن التي تُحيط باحتياجات الأفراد للتصرُّف في مدخراتهم. فبعض الشركات تفشل، والبعض الآخر ينجح، ولكن إذا أقرض بنك قطاعًا عريضًا بالدرجة الكافية منهم، فإنَّ الكثير من هذه المخاطَرات سيصل إلى حالة اتزان. غير أنَّ التيقُّن الكامل في هذا المقام يُعَدُّ وهْمًا أيضًا؛ ستظلُّ بعض المخاطرة موجودة في المُجمَل، ومن ثم سيُوزع البنك هذه المخاطرة مرة أخرى. يضمن البنك للمُودِعين إمكانية الحصول على مدَّخراتهم، ولكن لا يَنطبق الأمر نفسه على حاملي أسهم البنك. في حالة حدوث هزَّة لإجمالي ربحية استثمارات البنك، يكون حاملُو الأسهم هم الذين وافقوا على تحمُّل الضربة (في مقابل عائدٍ أكبر من المُودعين مُعظَم الوقت). معظم الوقت، يُؤتي هذا النموذج القائم على تجميع المُخاطَرة المالية ثمَّ إعادة توزيعها ثِماره بشكلٍ جيد جدًّا، كما هي الحال مع مخاطَرات الطاقة الكهربائية.

ثمة اختلاف جوهري بين البنوك وشبكة الكهرباء؛ فالمدَّخرات قابلة للتخزين (حتى وإن كان ذلك تحت مرتبة السرير فحسب)، في حين أنه لا يُمكن تخزين الطاقة الكهربائية، إلا بكمياتٍ صغيرة في البطاريات. ولعلك تظنُّ أن هذا جعل النظام المصرفيَّ أكثر استقرارًا، ولكنه يؤدي إلى العكس. إذا كنتَ تَخشى أن شبكة الكهرباء خاصتك قد تتعطَّل، فلا فائدة من الاندفاع نحو استخدام كل الكهرباء التي تتوقَّع أن تحتاجها في المستقبل. ولكن إذا كنت تخشى إفلاس البنك الذي تتعامل معه وإذا لم يكن لديك تأمين على الودائع، فعليك أن تسحب جميع مُدَّخراتك الآن، كما رأينا في الفصل السابع. وإذا فعل الجميع ذلك، فإن البنك سيُفلِس بالتأكيد؛ ولعلَّه أجرى استثمارات حكيمة ولكنها لن تكون استثمارات يمكن تحويلها إلى نقودٍ سائلة في أيِّ لحظة. ومن ثمَّ يحتاج النظام المصرفي، أكثر من شبكة الكهرباء، إلى الحماية من هذا النوع من الذعر الذي يجعل الجميع يسحبون مُدخراتهم في نفس الوقت.

إذا تمَّ تصميم عملية تأمين الودائع بطريقةٍ مناسبة، فسوف يمنع ذلك عادةً حدوث هذه النوبات من الذعر. كان التهافُت على سحب الودائع المصرفية من جمعية البناء البريطانية المُمثلة في بنك نورثرن روك،3 الذي حدث في سبتمبر ٢٠٠٧ (والذي مَثَّل لأغلب العامة أول علامةٍ على وجود خلل بالنظام المالي)، حدثًا غريبًا من عدة أوجه. كان ذلك راجعًا إلى مخاوف من أن النظام البريطاني لا يُقدِّم سوى تأمين غير كاملٍ على الودائع، مع توافُر ٩٠٪ فقط من الحماية للودائع الكبيرة فوق مبلغ صغير جدًّا، واحتمالية خوض إجراءاتٍ مُطوَّلة للتعويض؛ ولقد تغيَّرت القواعد منذ ذلك الحين. لم يتكرَّر شيء كهذا حتى حين انهار النظام المالي العالَمي. ومع ذلك، تحدُث حالات تهافُت على سحب الودائع المصرفية حتى في الأوقات العادية، مثل التهافُت على سحب الودائع المصرفية من بنك نيو إنجلاند الذي ذكرناه في الفصل السابع. اندلعت شرارة التهافُت على سحْب الودائع المصرفية من بنك أباكوس سيفينجز في مدينة نيويورك في أبريل ٢٠٠٣ جرَّاء شائعات بأن أحد مُدَراء البنك اختلس مليون دولار (مما دفع أحد مسئولي وزارة الخزانة الأمريكية إلى أن يقول إنَّ الخطر الحقيقي على المُودِعين كان أنهم قد يتعرَّضون للسرقة وهم يحملون مبالغ كبيرة من المال لدى مغادرتهم البنك).4 لذا، مع أن تأمين الودائع لم يَنجح مُطلقًا في منع التهافت على سحب الودائع المصرفية تمامًا حتى في الأوقات العادية، فإنه كان يؤتي ثماره على نحوٍ كافٍ لضمان أن التهافت على سحب الودائع المصرفية من البنوك من قِبَل صغار المُودِعين لم يكن مُنتشِرًا أثناء هذه الأزمة أكثر من الأوقات العادية. كان التهافُت على سحب الودائع المصرفية من بنك نورثرن روك هو الاستثناء الذي بيَّن مدى رسوخ القاعدة، بأن ظلَّ حدثًا استثنائيًّا.

الدروس الثلاثة الخاطئة المُستخلَصة من أزمة ثلاثينيات القرن العشرين

مع أن التهافُت على سحب الودائع المصرفية من بنك نورثرن روك كان ملهمًا؛ لأن المُودِعين الذين شعروا بالذعر كانوا مجرَّد الواجهة الظاهرة لذُعرٍ أعمق أكثر ترسُّخًا؛ ألا وهو ذعر المُستثمِرين المُحترفين. كان لديهم ذُعر من جانبهم من أن مُصمِّمي النظام المالي العالمي ومُراقبيه قد غفلوا تمامًا عن أمورٍ مهمة مع ارتياحهم لحلِّ الأزمة المصرفية الأمريكية التي حدثت في ثلاثينيات القرن العشرين. بدأ النظام المصرفي يتفسَّخ في عامي ٢٠٠٧ و٢٠٠٨، ليس لأنَّ الجماهير الجاهِلة توقَّفت عن الثِّقة بالبنوك؛ وإنما لأن البنوك المُطلعة، أي المُستثمرين الكبار، فقدت الثقة بعضها في بعض. كان هذا تهديدًا أكبر بكثير، وهو تهديد لم يتوقَّعه سوى قليلين حتى من المُتغلغلين داخل النظام. لماذا غفلوا عن هذا التهديد؟

الدرس الأول: لا تفرَّ من الأسُود

كان الدرس الأول المستخلَص على نحوٍ خاطئ من أزمة ثلاثينيات القرن العشرين أن نَوبات الذُّعر هي سبب إفلاس البنوك، وليس أن إفلاس البنوك الوشيك هو السبب في الذعر. مثل الرأي القائل بأن الفرار من الأسُود هو ما يستفزُّها لتأكُلَك، ثمة قدْر ضئيل من الحقيقة في هذا الرأي، إلا أنه قدر ضئيل جدًّا، وليس من الحكمة أن يُنصَح المُودع العادي غير المؤمَّن عليه، كنصيحتك للسائح العادي المُعرَّض للخطر في حديقة حيوان مفتوحة، بالأخذ بهذا الرأي. في الواقع، الكثير من حالات الذعر يحدُث لأسبابٍ وجيهة.

وثمة مناقشات كثيرة تدور بين المؤرِّخين الاقتصاديِّين حول الأسباب الرئيسية وراء إفلاس بنوكٍ كثيرة قبل ابتكار فكرة التأمين على الودائع في عام ١٩٣٣. كانت وجهة النظر السابقة (وتُعزَى على وجه الخصوص إلى ميلتون فريدمان وآنا شوارتز) مُجتمِعة على أنَّ حالات الذعر كانت السبب الرئيسي لإفلاس البنوك. وقد مهَّدت وجهة النظر هذه الطريق تدريجيًّا لوجهة نظر، سادَت على نطاق أوسع، مفادها أن حالات الذعر كانت مجرد جزءٍ صغير من القصة. عبَّر جاري جورتون عن ذلك قائلًا: «السبب وراء إفلاس البنوك أثناء الأوقات العادية هو سوء الإدارة والنشاط غير القانوني. وأثناء فترات الذعر والركود الاقتصادي، يُفلس المزيد من البنوك، ولكن نسبة كبيرة من إجمالي حالات الإفلاس لا تزال أسبابها ترجع بوجهٍ عام إلى سوء الإدارة والنشاط غير القانوني.»5 ولا يزال يُوجَد قدْر كبير من الجدال الدائر حول هذه النتائج؛ فتشخيص أسباب إفلاس البنوك ليس عِلمًا دقيقًا. ولكن على أيِّ حال، وبصرف النظر عن حقيقة أزمة ثلاثينيات القرن العشرين والأزمات الأسبق، لقد اشتملت أزمة العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على سوء الإدارة ونشاط غير قانوني على نطاقٍ مُذهِل، كما سنرى.

الدرس الثاني: المحترفون لا يُصابون بالذُّعر

كان الدرس الثاني المُستخلَص على نحوٍ خاطئ من أزمة الثلاثينيات هو أن صغار المودعين — أولئك المؤهَّلين للتأمين على الودائع — هم النوع الوحيد من المُودِعين الذي قد يُصاب بالذعر. نحن الآن نعرف أن هذا خطأ، ولكن لم يكن يُوجَد مطلقًا أي سبب وجيه يجعلنا نصدِّق ذلك. فإذا كانت الشركات الكبرى والبنوك الأخرى نفسها لديها ودائع مصرفية تتوقع قدرتها على السحب في وقتٍ وجيز، وإذا كانت تعرف أنه لا يُمكن سحب كل هذه الودائع في الوقت نفسه، إذن حين تُساورهم أي شكوك في أن البنك قد يفلس، يكون لديها نفس القدر من الأسباب التي لدى أرباب الأُسَر، إن لم يكن أكثر، لتُهرَع إلى سحب ودائعها مثلهم. ويبدو أن وجهة النظر القائلة بأن صغار المُودِعين وحدَهم عُرضة للذُّعر كانت نتيجة طبيعية لوجهة النظر القائلة بأن حالات الذعر كانت بسبب مخاوف «غير منطقية»، مِن المُرجَّح أن البنوك الأخرى والشركات الكبرى كانت مُحصَّنة ضدَّها، باعتبارها جهاتٍ مُستثمِرة محترفة مُحنَّكة. كان يُعتقد أن المستثمرين المحترفين سيتجنَّبون البنوك السيئة الإدارة من الأساس، بدلًا من استثمار أموالهم بتفاؤلٍ زائد عن الحدِّ ثم الهرع إلى سحبها مرة أخرى. على أيِّ حال، إذا كان النظام المصرفي يخضع إلى قواعد تنظيمية حكيمة ومُفصَّلة، فربما يظلُّ حدوث سوء الإدارة قائمًا ولكنه سيكون مشكلة فردية يُستبعَد أن تُثير المخاوف على نطاقٍ واسع.

ينهار المنطق المُستنِدة عليه وجهة النظر هذه ما إنْ نَقبل بأن الذعر قد يكون راجعًا إلى خوف مُبرَّر من إفلاس البنوك. لذا ربما يكون المُستثمِرون المُحترِفُون المُحنَّكون، نظرًا لكونهم أكثر اطِّلاعًا، أكثر عرضة، وليس أقل، للشعور بالذعر. في واقع الأمر، ربما يكون المستثمرون المحترفون عُرضةً لنوبات التفاؤل والتشاؤم أكثر من الجمهور العادي؛ وذلك نتيجةً للتدريب، وقُربهم من صانعي القرار، وحوافز تَوافُق التوقعات، ومن خلال قلق معرفة أنهم يجازفون بأموال الآخرين. مع أن القواعد التنظيمية الحكيمة والتفصيلية تَنجح في حصر فشْل الإدارة في حالاتٍ فردية وعرضية، ربما يُوجَد خطر ضئيل من شعور المُحترِفين بالذُّعر على نطاق واسع. ولكن بمجرد أن يصير فشل الإدارة منهجيًّا، فإن ردَّ فعل المستثمرين المُحترفين ربما يجعل الموقف السيئ أسوأ.

لقد زادت عمليات الإقراض بين البنوك وودائع الشركات الكبرى زيادةً مُذهِلة في السنوات الأخيرة. عمل هذا النظام المصرفي «الموازي» في معزل عن هيكل القواعد التنظيمية التي تخضع لها البنوك التي تَستقبل عمليات الإيداع التقليدية؛ ولهذا السبب، في الواقع، نما بسرعةٍ بالغة. وهذا ينطبق بشكلٍ خاص على ما يُسمَّى بأسواق «الريبو» (أسواق إعادة الشراء)، التي تقدِّم للمُستثمرين المحترفين — البنوك والشركات الكبرى — خدماتٍ مُكافئة لما تُقدِّمه ودائع البنوك العادية للأفراد والشركات الصغيرة. ولقد نمَت هذه الأسواق لتكون تقريبًا بنفس حجم إجمالي أصول النظام المصرفي الأمريكي؛ أي حوالي ٣٠ ألف دولار لكل رجل وامرأة وطفل في الولايات المتحدة الأمريكية.6 ويَنتقِل جزء أكبر من أي وقتٍ مضى في التاريخ، من إجمالي ثروة الاقتصاد الأمريكي المعاصر من خلال نظام الاستثمار المُحترِف.
وعلى النقيض من الثروة المُستثمَرة في سوق الأوراق المالية، فإن هذه ليست أصولًا يعرِف أصحابها أنه قد تَنخفِض قيمتها أو ترتفع، ويقبلون ذلك؛ وإنما تعتمد قيمتها عند أصحابها على سهولة الوصول إليها بشكلٍ أو آخر على الفور (بين عشيَّةٍ وضحاها عادةً) بقيمتها الاسمية على وجه التحديد. هذه «الودائع» غير مُؤمَّن عليها؛ ولكن في الأوقات العادية يستطيع المستثمرون المحترفون تجنُّب طرح الأسئلة بشأنها، مثلما يستطيع المُودِعُون العاديون تجنُّب طرح أسئلة بشأن الضمان الخاص بأموالهم؛ لأنها مؤمَّنة بضمان فائق الجودة. ومع ذلك، في فترات الذعر، يكون الضمان ذا قيمة أقلَّ بكثير، إذ ارتفعت «خصومات القيمة السوقية للأوراق المالية»، التي كان المستثمرون المحترفون يأخذونها كتخفيضٍ على معاملات إعادة الشراء خاصتهم، ارتفاعًا مذهلًا — من صفر قبل أغسطس ٢٠٠٧ حتى أكثر من ٤٠٪ في نهاية عام ٢٠٠٨.7 وتلك علامة على مدى قلة استعداد المُودِعين للثقة بأولئك الذين يُودعُون لديهم أموالهم؛ فالأمر كما لو أن المُودِعين العاديين قد سحبُوا أكثر من ٤٠٪ من ودائعهم من النظام المصرفي، وهذه أيضًا بمثابة ضريبة مُهمَّة على أي أحدٍ بحاجة إلى اقتراض مبالغ مالية كبيرة.

كانت وجهة النظر القائلة بأن المُستثمرين المحترفين كانوا حَذِرين وحكماء — لا يسهل إقناعهم بالمشاركة بأموالهم أو أن يكونوا عرضةً لنوبات الذُّعر ويطلبوا استعادة أموالهم فجأة — ذات أهمية محورية للاتفاق الجماعي المُتزايد بين واضعي السياسات في البلدان الصناعية الرئيسية، بدايةً من ثمانينيات القرن العشرين وما بعدها، على إمكانية استمرار القواعد التنظيمية ببعض التراخي. وبالطبع، لا يُمكن أن يُؤتمَن أي بنك على مراقَبة نفسه، وبالطبع لا يُمكن توقُّع أن يضطلع مُودِعوه بهذه المهمة؛ فهم ليسوا مُطَّلعين بالقدْر الكافي وعلى أيِّ حال أفقدهم التأمين على الودائع دوافعهم للاهتمام بشدة. وبالطبع، لا بدَّ أن يضع المُراقبون البنك نصبَ أعينهم للتأكُّد من أنه لا يخاطر مخاطرات مُفرطة بأموال الغير. ولكن المراقبين مثقلون دومًا بأعباء العمل، ويتقاضَون دومًا أجورًا متدنية مقارنةً بأولئك الذين من المفترض أنهم يُراقبونهم؛ ومن ثمَّ كان يُعتقد أن الأمور لن تتحسَّن إلا إذا استُكْمِل عمل المُراقبين على أيدي خبراء آخرين — مثلًا، الدائنين ووكالات التصنيف الائتماني التي تُصنف كلًّا من السندات المالية الصادرة عن البنك والأصول التي يستثمر فيها. وانطلاقًا من تلك النقطة، كانت تفصلنا خطوة صغيرة عن استنتاج أنه كلما زادت مشاركة المستثمِرين المحترِفين في الأسواق المالية، قلَّت كمية العمل الذي يقوم به المراقبون. ورغم أن هذا المنطق مُغرٍ، فإن تداعياته كارثية. فهو أشبه بادِّعاء أن الطاهي سيتمكَّن من القيام بعمله على نحوٍ أفضل إذا كان لديه بعض مُقشِّري البطاطس لمساعدته، واستنتاج أنه كلما زاد حجم العمل الذي يتركه الطاهي لمُقشِّري البطاطس، صارت جودة الوجبة أفضل.

لقد كُتبَ الكثير عن تعارُضات المصالح الذي دفع وكالات التصنيف الائتماني إلى منح تصنيفات عالية لسندات مالية ذات جودة مشكوك فيها صادِرة من بنوك اعتمدت عليها في عائدها؛ ففي إحدى المراسَلات الداخلية، التي صارت شهيرة الآن، قال أحد موظَّفي شركة ستاندرد آند بورز مُتأملًا: «حتى لو كانت الأبقار هي القائمة على هيكلة هذا المنتج؛ سيظلُّ في مقدرونا تصنيفه.»8 وربما كان ثمة مُبالغة في التشديد على هذه التعارُضات في المصالح، مع أهميتها، مقارنةً بسببين بسيطَين آخرَين وراء عدم اعتبار المحترفين في مجال الشئون المالية أفضل المُراقِبين لما يفعله المحترفون الآخرون في المجال نفسه. كان أحدهما هو أنه مع أن البنك الذي يشتري سنداتٍ مالية من بنك آخر (أو يعتمد عليها كضمانة إضافية) قد يراقِب عن كثب أي شيء يُثير الشكوك في جدارة البائع بالثقة، فإنه ليس لديه أدنى اهتمام بأي شيء يُثير الشكوك حول موثوقية فئةٍ كاملة من السندات المالية التي هو نفسه يبيعها أيضًا. قد يكون طبيب أسنان يقظًا للغاية بشأن كفاءة طبيبٍ آخر، ولكن لا تطلب منه قول أي شيءٍ قد يدفع المرضى إلى التشكيك في موثوقية طب الأسنان بوجهٍ عام (تظهر مشكلة مُماثلة في منظومة مراجعات الأقران للإصدارات العلمية، رغم أن أولئك من الذين ينشرون في مثل هذه الدوريات العلمية لا يروق لهم الحديث عن ذلك كثيرًا. والمنظومة ممتازة في التحقُّق من أن الأفراد يتبعون الإجراءات المتفق عليها على نحوٍ صحيح، ولكنها لا تجيد التساؤل بخصوص ما إذا كانت هذه الإجراءات هي الإجراءات الصحيحة التي يتعيَّن اتباعها، وبخصوص التوقيت الذي يتعين فيه إتباعها). إن الأخطار التي كان يواجهها النظام المصرفي أثناء الفترة السابقة على الأزمة لم تكن، عمومًا، تتعلَّق بسوء إدارة أفراد ومؤسسات بعينها، وإنما كانت متعلقة بأشياء يفعلها الجميع تقريبًا في سياقات العمل المعتادة.
السبب البسيط الثاني في أنه كان لا ينبغي مُطلقًا توقع أن يطرح المُحترفون في المجال المالي أسئلةً صعبة على محترفين آخرين في المجال المالي هو أن عدَم طرح الأسئلة «هو بالضبط ما يُتيح النظام المصرفي لأغلب عملائه أن يفعلوه، بما في ذلك المحترفين في الشئون المالية.» يتيح النظام المصرفي الثقة بلا استجوابات لا نهائية. وأظهرت المنتجات «المهيكَلة» ذلك بجلاء تام.9 مثل شبكة الكهرباء، كانت هذه المنتجات المُهيكَلة عبارة عن حزم معقدة من الأنشطة المحفوفة بالمخاطر (مثل قروض الرهن العقاري للمُقترضين ذوي الدخول المُنخفِضة)، التي يخفض جمعها في حزمة من المخاطرة الإجمالية، التي تُوَزَّع بعد ذلك على مستخدميها توزيعًا غير متكافئ. كان يُنْظَر إلى بعض المستخدمين (أصحاب «الشرائح العُليا من السندات المالية»)، على أنهم يتمتعون بالحماية من جميع المخاطرات إلا في حالة المخاطرات التي لا يمكن تصوُّرها، شأنهم في ذلك كشأن أصحاب الاستهلاك المنزلي في شبكة الكهرباء، لذا لم يَعتبر أحد أن الأمر يستحقُّ التفكير كثيرًا فيها. لم يكن عدم التفكير كثيرًا فيها راجعًا إلى خلل بسبب حماقة أو فساد؛ وإنما كان هذا هو الهدف الأساسي من النشاط. زاد هذا من خطورة الأمر لدرجة أن المراقبين أيضًا لم يكونوا يُفكِّرُون كثيرًا بخصوص هذه المنتجات. صارت مراقبتهم أكثر خطورة مع تزايد تعقيد المنتجات؛ لأنه كان ثمة إغراء تمثَّل في افتراض أن المنتجات المُعقَّدة تتمتَّع بمزايا المنتجات البسيطة وأكثر منها. في الواقع، كانت بعض المنتجات المالية المُعقَّدة تتمتَّع بمزايا أقل حتى من المنتجات البسيطة التي اشتُقَّت منها؛ على سبيل المثال، لأن الحزم المختلفة لقروض الرهن العقاري على ما يبدو كانت توزِّع المخاطر بطرقٍ متطابقة ومن ثَمَّ كان لها مخاطر مُرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمخاطر التخلف عن سداد الدين.10
كان ثمة أشخاص كثيرون في عالَم المال تربَّحوا كثيرًا من استدامة فكرة أن التعقيد المتزايد للآلية المالية العالَمية كان يعني أنه لم يكن أحد بحاجةٍ إلى طرح أسئلةٍ صعبة، ولعبت ممارستُهم للضغوط على نحوٍ خفي وكذلك غير خفي للغاية (وصفها أحد كبار علماء الاقتصاد السابقين في صندوق النقد الدولي بأنها «انقلاب هادئ»)11 دورًا مهمًّا في إذكاء الازدهار الاقتصادي غير المستدام. ولكن أولئك الذين خُدِعوا كانوا متواطئين أيضًا بدرجةٍ ما في خداع أنفسهم. على أيِّ حال، إذا كان الهدف من نظامٍ ما هو جعل أغلب الناس يثقون به دون الحاجة إلى التفكير كثيرًا جدًّا، فلا يَنبغي لأحد أن يَندهِش، طالَما لم تقع أيُّ حوادث واضحة، من أن أغلب الناس — المُدَّخرين والمُستثمِرين والمراقبين وواضعي السياسات — كانوا يَعتبرون أن النظام المالي العالَمي قبل عام ٢٠٠٧ كان يُبلي بلاءً حسنًا.

الدرس الثالث: حافظ على معنوياتك مُرتفِعة

إحدى أغرب نتائج بحث أُجريَ مؤخَّرًا في مجال علم الأعصاب تفسر لنا لماذا يستحيل على المرء أن يُدغدغ نفسه.12 من المُدهش أن التفسير يسري على نطاقٍ أوسع من الأسئلة، أحدها هو لماذا يَستحيل أن تجعل نفسك أكثر ثراءً بتحرير شيكٍ لنفسك. يبدو أن الدغدغة ناجمة عن أحاسيس غير متوقَّعة في مواضع مُعيَّنة من الجلد، ودماغ الشخص الذي يُحاول دغدغة نفسه سيكون قد توقَّع الأحاسيس التي تتسبَّب فيها أصابعه، لذا لم تعُد هذه الأحاسيس غير متوقَّعة (يبدو أن جزءًا من الدماغ يُدعى المُخيخ هو الذي يُؤدِّي عملية التوقُّع هذه). ومع ذلك، قد ينجح المرء في دغدغة نفسه عن طريق أداة وسيطة؛ كجهاز، مثلًا، يُترجم حركات أصابعه إلى أحاسيس على الجلد بطريقةٍ غير مباشِرة بما يَكفي لأن يعجز المُخيخ عن توقُّعها. إذن، مع أن الجزء الواعي من الدماغ يعرف أن إحساس الدغدغة يأتي من الشخص نفسه وإنه «حقًّا» ليس غير مُتوقَّع، فإن المُخيخ لا يستوعب الأمر، وتنجح عندئذٍ عملية الدغدغة.

كما هي الحال مع شعور الأشخاص سريعي التأثُّر بالدغدغة، فإن شعورهم بمقدار ثرائهم مُتوقف أيضًا على ما يعتقدونه. قد يبدو هذا غريبًا. لا بدَّ أنك تظنُّ أن ثروة شخصٍ ما تُقاس بما لديه من ممتلكات؛ منزله وأثاثه وغير ذلك من السلع والمنقولات، وأرصدته في البنوك وخطط تقاعُده ومَحافظ أَسهمُه. هذه حقائق موضوعية، لا تَعتمِد على ما يعتقدُه المرء. ولكن حتى إذا تغاضَينا عن حقيقة أنني لا «أمتلك» منزلي إلا بفضل اتِّفاق ضمني مع بقية أفراد مجتمعي بعدَم التدخُّل في معيشتي هناك، فإن الكثير من مكوِّنات ثروتي لا تستمدُّ قيمتها إلا بفضل معتقدات الآخرين بشأن المستقبل. فإذا كنتُ أمتلك أسهمًا، فإنه لا قيمة لشهادات الأسهُم بحدِّ ذاتها. فأنا لا أستطيع أن آكلها أو أرتديها أو أتَّخِذها مأوًى لي، وحتى استخدامها كورقِ حائطٍ سيبدو إسرافًا مُبالَغًا فيه. فهي لا تستمد قيمتها إلا من الحقوق التي تقتضي الحصول بموجبها على منافع مُستقبَلية عديدة، كثير منها متوقف ضمنيًّا، لا صراحةً، على حُسن الحظ وحُسن نوايا الآخرين. فعندما ترتفع أسعار الأسهم ليزداد معها ثرائي، يكون هذا لأن الآخرين غيَّروا معتقداتهم بشأن العواقب المُحتملة لامتلاك تلك الأسهم. وإذا زادت قيمة منزلي، فهذا أيضًا لأنَّ الآخرين غيَّروا معتقداتهم بشأن منافع امتلاك منزلي. وإذا اعتقدتُ أنني سأرث مبلغًا كبيرًا من أحد أقاربي المُسنِّين، فهذا في حدِّ ذاته سيجعلني أشعر بمزيدٍ من الثراء؛ وقد يؤثر بالفعل على سلوكيات الادخار والإنفاق التي أنتهجُها.

هذا بالطبع لا يعني أنه يُمكنني ببساطة التلاعُب بمعتقداتي؛ فلا بدَّ أن تكون ذات أساس متين. فإذا اعتقدت أن رصيدي في البنك سيُضافُ إليه مبلغ كبير من المال بمجرد تحرير شيك لنفسي، فسرعان ما سيتبيَّن أن اعتقادي مجرَّد وهْم. ومع ذلك لنفترض أنني توصَّلتُ إلى اتفاق مع صديق لي أن يتبادل كلٌّ منَّا منزله مع الآخر بثلاثة أضعاف قيمته السوقية الحالية. هل سيجعلنا ذلك أكثر ثراءً؟ ربما سينتابنا شعور جيد لبعض الوقت، لا سيما لو كان في مَقدورنا عندئذٍ أن نقول إننا نَمتلك بيتين باهظَي الثمن، ولكن لن نستغرق طويلًا حتى نُدرك أن مكاسبنا هذه فارغة. سيكون الأمر أشبه بطريقةٍ ملتوية بدرجة غير كافية لدغدغة أنفسنا. وسيكون من الصعب إخفاء زيف هذه الصفقة حتى مع رغبتنا الجدِّية في تحقيق الثراء دون جهدٍ ملموس.

ومع ذلك فمِن المُدهِش أن شعورنا الزائف بمزيدٍ من الثراء ببَيع كِلينا منزله للآخر بسعرٍ مُبالَغ فيه هو بالضبط ما كان يفعله مواطنو دول صناعية كثيرة طيلة قسطٍ كبير من العقد الأخير. فمِن عام ١٩٩٥ وحتى عام ٢٠٠٦، ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية في الولايات المتحدة بنسبة ٢٦٫٧٪؛ لكن أسعار المنازل13 ارتفعت بنسبة ١٦٧٪ (وهذا يعني أن تكلفة المنازل تضاعفت ثلاث مرات تقريبًا في عام ٢٠٠٦ عما كانت عليه قبل أحد عشر عامًا.) لم يكن الأثرياء وحدهم الذين ظنوا أنهم المُستفيدون من ذلك. فكثير ممَّن يُطلق عليهم المُقترضون ذوو المخاطر العالية (أولئك الذين كان سيَصعُب عادةً إقراضُهم بسبب دخولهم أو الصعوبات الوظيفية أو تاريخهم الائتماني السابق) وقَّعُوا عقودَ رهنٍ عقاري ذات أقساط سداد بفوائد مبدئية مُخفَّضة كان من المُخطط لها أن تزيد بعد مرور عامين.14 وحينئذٍ كان سيتعذَّر تحمُّل سداد الفائدة ما لم تَرتفِع الأسعار بدرجةٍ كافية للاعتماد عليها في هذه الأثناء لتُتيحَ لهم اقتراض المزيد لتمويل الفائدة. ولكن نظرًا لأنَّ الجميع ظنُّوا أن الأسعار ستُواصِل ارتفاعها بالتأكيد، بدا هذا الأمر وكأنه طريقة رائعة لكسْب المال من لا شيء بالارتقاء على سُلَّم العقارات. ظنَّ الجميع أنهم سيزدادون ثراءً دون جهد، كأن تزداد لياقتك بمجرَّد ركوب دراجة تمارين مُزوَّدة بمُحرِّك. ولا غرو أن معدل الادخار في الولايات المتحدة بدأ ينهار. في النهاية، لماذا تتبع سياسة شَدِّ الحزام لكي تدَّخر من دخلك إذا كان في إمكانك أن تجلس وتترك ارتفاع سوق العقارات يقوم بالادخار بالنيابة عنك؟ في عام ١٩٩٥، هبط المعدل إلى صفر؛ أقل معدَّل منذ فترة الكساد الكبير. يُعد الادخار من أجل المستقبل نزعة إنسانية أساسية نوعًا ما واختفاؤها يستلزم بعض التفسير: هل استحوذت على أمريكا فكرة وهمية بأننا جميعًا سنرث أحد الأقارب المُسنين، قريبًا صينيًّا مثلًا؟

في الواقع، كان التضخم في أسعار العقارات يحتوي على بعض عناصر مُخطط بونزي ضخم. كان تشارلز بونزي، الذي تُوفي عام ١٩٤٩، مسئولًا عن تحويل مبدأ الرسائل المُتسلسلة الأقدم إلى خطة جادة لابتزاز المال. مُعظمنا على دراية بالرسائل المتسلسلة؛ وأول مرة شاركتُ فيها في واحدة كنتُ في السادسة من عمري، وحينئذٍ كانت جائزة إرسال رسالة واحدة هي تلقِّي بطاقة بريدية ودودة من أولئك الذين يسبقونني في السلسلة. تلقيتُ عشرين بطاقة بريدية تقريبًا مقابل رسالة واحدة أرسلتها، واعتبرتُ نفسي محظوظًا. الرسائل المُتسلسِلة التي تتعلَّق بأموالٍ حقيقية هي شكلٌ مُغرٍ من أشكال الاحتيال، خاصةً لأن المشاركين فيها يمكن أن يُقنعوا أنفسهم بأن الآخرين يتطوَّعون بالمشاركة ولا أحد يتعرَّض للخداع. أو بالأحرى، ينخدع المشاركون عن طيب خاطر على نحوٍ ما؛ إذ لا يحتاج الأمر إلى مستوًى مُعقَّد من الرياضيات لإدراك أن الرسائل المتسلسلة لا تَصنع ثروة وإنما تنقلها من شخص لآخر فحسْب. فلكَي يَجني شخص ما المال لا بدَّ أن يَفقِدَه شخص آخر، ولكي يُضاعف شخصٌ ما ثروته بمقدار عشرة أضعاف، لن يَحصل تسعة أشخاص آخرون على شيء بتاتًا. بعبارة أخرى، الرسائل المُتسلسِلة أشبه بورقة اليانصيب، وليس عملية احتيال، ومن يخسر أمواله في اليانصيب لا ينبغي أن يلوم أحدًا إلا نفسه.

حوَّل بونزي الرسائل المتسلسلة إلى عملية احتيال. ففي الرسائل المتسلسلة، تموَّل أرباح المشاركين في المراحل الأولى من خلال مُساهَمات المُنضمِّين لاحقًا، حتى تَنهار السلسلة (ويجب أن تَنهار؛ لأنه لكي تُحقق السلسة نجاحًا حقًّا لا بدَّ أن تضم سكان كوكب الأرض بأكملهم في أقل من عشر جولات). ولكن على الأقل في الرسائل المتسلسِلة يستطيع الجميع استيعاب ما يحدث؛ أما بونزي فقد ألغى تلك التفصيلة الصغيرة؛ إذ قدَّم خطة استثمار بعوائد رائعة للغاية (استندت إلى استغلال خللٍ حقيقي في التسعير في سوق القسائم البريدية العالمية). إلا أنه كان يستحيل أن تُولَد هذه العوائد الرائعة على هذا النطاق الواسع؛ ففي الواقع كان بونزي يدفع للمستثمرين الأوائل من مُساهمات أولئك الذين انضمُّوا لاحقًا؛ ولكنه كان يَتظاهر بأن العوائد أتت من الاستثمارات ذاتها. نجح الأمر مع المستثمرين السُّذَّج؛ والأغرب أن بيرني مادوف أثبت بعد عقودٍ عديدة أن الأمر قد ينجح أيضًا مع بعض المستثمرين المُحنكين جدًّا.

ربما يكون جني المال من خلال مراقبة ارتفاع أسعار العقارات شكلًا من أشكال مُخطط بونزي أيضًا. يجب أن يعيش الأشخاص في مكان ما، لذا فمراقبة الأسعار ترتفع، كما لو أنها على شاشة عداد سيارة تاكسي، لا يصنع ثروة حقيقية. لو اعتُبِر امتلاك العقارات بديلًا للادخار، فلا بدَّ من تواجُد سَيل متواصل من المشترين المُستعدِّين للشراء بأسعار أعلى من أي وقتٍ مضى. كان لا بدَّ أن يُنقذ مشترون جدد المقترضين ذوي المخاطر العالية وإلا ستنهار السلسلة. ولكن إذا كان المنطق على هذا القدر من الوضوح، فما الذي جعل السلسلة تُحقِّق نجاحًا لفترةٍ طويلة جدًّا، ومن ثَمَّ كان انهيارها مُستغربًا جدًّا حين حدث في النهاية؟ الإجابة هي أن ارتفاع أسعار العقارات، كما هو الحال مع ارتفاع أسعار الأسهم الذي جرى طيلة جُلِّ هذه الفترة، لم يكن شكلًا من أشكال مخطط بونزي. وإنما بدأ بسبب شيءٍ حقيقي، تحوُّل حقيقي في آفاق الاقتصاديات العالمية المتقدِّمة.15 بداية من ثمانينيات القرن العشرين ومع تزايد الوتيرة في تسعينيات القرن نفسه، تضافَرَت عدة تطورات؛ منافسة متزايدة، ابتكارات سريعة الوتيرة، انتشار لأجهزة الكمبيوتر وتكنولوجيا الاتصالات اللاسلكية، وفوق كل هذا دخول مُجتمَعَي الهند والصين الهائلين المُستعدَّين للعمل بجدٍّ مقابل مكافأة صغيرة لتقديم سلع وخدمات لبقية العالم. بدأت هذه التطورات تزيد ثروة مواطني العالَم الغني، بما فيهم أولئك الذين لم يُقدِّموا لهذا التحوُّل سوى إسهاماتٍ ضئيلة؛ وإنما اقتصر الأمر على أن الحظ حالفهم ليَمتلكُوا حصةً في مجتمعاتهم وقت حدوث هذا التحوُّل. ربما تمثَّلت تلك الحصة في منزلٍ في موقع جذَّاب، أو محفظة أسهم، أو حتى مجرد وظيفة ثابتة ذات آفاقٍ مستقبَلية، مثل وظائف في الحكومة، أو الجامعات، أو شركة كُبرى، تسيطر نسبيًّا على سوق ما. ولا شيء مُثير للإعجاب بشكلٍ خاصٍّ في هذا، ولكن لا شيء يستحق التوبيخ أيضًا؛ فعلى مرِّ التاريخ، أغلب الأشخاص الذين حققوا نجاحًا فعلوا ذلك بقُربهم بدرجةٍ كافية من أشخاصٍ ناجحين آخرين. ومع ذلك، من المُهم أن تتذكَّر أن الثروة التي أصابوها كانت ثروةً حقيقية؛ كان أداء الاقتصاد العالمي أفضل حقًّا؛ إذ كان يرتفع لأعلى.
غير أن أفضل المُحتالين هُم من يتمتَّعون بموهبة حقيقية بصرف النظر عن مصداقيتهم، فأنجح مخططات بونزي هي تلك التي تعتمد على قدرةٍ حقيقية على الاستثمار؛ فالاعتقاد بأن عديمي الموهبة فقط هم من بحاجة لأن يكونوا جشعين أو مُضلِّلين هو اعتقاد واهم. وأفضل المُحتالين على الإطلاق هم أولئك الذين يُصدِّقون قصصهم المُلفَّقة. ذلك بالأساس هو ما حدَثَ لنا جميعًا في سنوات الازدهار الاقتصادي. ظننَّا أن وجود اقتصاد ينمو ويُغيِّر نفسه بنفسه بالفعل أمر أبدع من أن يُصَدَّق، بينما كان على وجه التحديد اقتصادًا ينمو ويغير نفسه لدرجة أننا وجدنا أنفسنا بلا أي دفاعات. عندما تَقَوَّض ازدهار سوق الأوراق المالية في أواخر تسعينيات القرن العشرين، جاء ردُّ فعل السلطات، مثل أغلب المستثمرين، على هيئة المرحلة الأولى المعهودة (الإنكار) من مراحل الحزن الخمسة كما تُطلِق عليها إليزابيث كوبلر روس.16 لم يكن إنكارًا لحدوث الانهيار وإنما إنكار لكوِنه حدثًا يقتضي منَّا إعادة تقييم مدى الثراء الذي كنَّا عليه حقًّا، وما إذا كان في إمكاننا فعلًا تحمُّل تكاليف اقتناء تلك السيارات وأجهزة التليفزيون والعطلات الباهظة. دار جدال مُحتدِم بين دوائر وضع السياسات بشأن الخطر المُتمثِّل في احتمال أن يُؤدي انهيار سوق الأوراق المالية إلى كسادٍ اقتصادي. ساد شعور بالارتياح حين واصلت اقتصاديات الدول الغنية النمو بلا تأثُّر يُذكَر، وذلك بمساعَدةٍ من البنوك المركزية وأسعار فائدتها المنخفِضة، ومن المُواطِن الصيني المقتصد الذي سهَّلت مدَّخراته فرصة إقراض الآخرين بتكلفة رخيصة. وبالتدريج حلَّ إحساس بازدهارٍ ناجم عن سوق عقارات صاعدة، بالطبع لم يكن يُمثِّل شيئًا من ذلك، محل الإحساس بالازدهار الاقتصادي الناجم عن سوق أوراق مالية صاعدة، الذي مثَّل على الأقل تقديرًا، وإن كان مفرطًا في التفاؤل، حول إمكانية التحوُّل التي شكلتها التكنولوجيا الحديثة للاقتصاد العالمي. ولكن نظرًا لأنه أمكن تفادي تهديد الثقة، كان بالإمكان سماع تنهُّدات الارتياح تتردَّد في أروقة جميع البنوك المركزية ووزارات المالية في العالَم الغربي.

تدريجيًّا، حلَّت الابتسامات محلَّ تنهُّدات الارتياح، مع توسع البنوك في عمليات الإقراض خلال سنوات الازدهار في الألفية الجديدة، وارتفَعَت أسعار العقارات على نحوٍ غير مَسبوق نتيجة لذلك، ثم ساد شعورٌ رائع بنشوة مُستحَقَّة. لقد بدأت عملية دغدغة الذات الجماعية تُجدي نفعًا.

الانهيار وآثاره

عندما تبدأ البنوك المركزية في التحوُّل إلى وكلاء تسويق لقطاع العقارات، يَنبغي حقًّا أن نبدأ في الشعور بالقلق. لا يُمكن أن ترتفع أسعار العقارات إلى الأبد بالارتباط بدخول الأفراد؛ نظرًا لأن دخول الأفراد وحدَها هي التي تُتيح لهم شراء منازل. يعتمد ما يحدُث عندما تتوقَّف الأسعار عن الارتفاع على القوى التي تجعلها ترتفع في المقام الأول. ولو كان الأفراد يشترون المنازل لأن أسعارها كانت أقل ممَّا كانوا على استعدادٍ لدفعه مقابل مُتعة السُّكنى فيها، فإن الأسعار ستتوقَّف عن الارتفاع حين يُقَدَّر أنها وصلت إلى ذلك المستوى، ولا يُوجَد سببٌ آخر يَستدعي انخفاضها. ولكن لو كان الأفراد يشترون المنازل لأنهم رغبوا في كسْب المال من ارتفاع أسعارها مُستقبلًا، إذن حين تتوقَّف الأسعار عن الارتفاع، ستختفي تمامًا من السوق مجموعةٌ كاملة من المُشترين؛ ومن ثمَّ فإن السعر الذي بدا جذابًا عندما كان يُنْظَر إليه على أنه توطئة للارتفاع المُرتقَب في الأسعار لن يعود جذَّابًا على الإطلاق. وعليه فإن حقيقة توقُّف الأسعار عن الارتفاع تعني أن أسعار السوق مُقدَّر لها الآن أن تهبط.17
كان السبب المباشر لحدوث الانهيار هو اكتشاف أن أسعار العقارات لم تَعُد ترتفع، ونتيجة لذلك أيضًا كانت معدلات التعثُّر في سداد قروض المُقترضين ذوي المخاطر العالية آخِذة في الارتفاع.18 ولكن يبدو هذا بمفرده تفسيرًا ضعيفًا لتأثير هذا الانهيار في أرجاء المعمورة (فعلى حدِّ تعبير بي جاي أورورك: «تخلف جيم جيرك، الذي يعيش على مقربة منِّي، عن سداد أقساط رهنه العقاري، رغم وقوف كل هذه السيارات المُعطَّلة في الساحة الأمامية لمنزله، واقتصاد أيسلندا يَتهاوى. يتعذَّر عليَّ فهم هذه الأحجية فبعض قطعها مفقودة.»)19 الحقيقة أن سوق القروض عالية المخاطر لم يكن سببًا فحسب؛ بل كان أيضًا عرَضًا من أعراض مشكلةٍ عامة وشيكة، مثل أول مراهق يتقيَّأ في حفلة انغمس فيها الباقون جميعهم في تناوُل الكحوليات. تهاوى اقتصاد أيسلندا لأنَّ أيسلندا كانت مُنغمِسة في الترف مثل إيرلندا، ولاتفيا، وإسبانيا، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وبالطبع الولايات المتحدة.
اتخذ الانغماس أشكالًا مختلفةً في أماكن مختلفة. لم يَنخرِط المواطنون الألمان الواعون في موجة شراء العقارات، ولكنهم كانوا يَضعُون أموالهم في بنوكٍ كانت، عن جهل من مُعظمِهم، بصدَدِ الانخراط في موجة شراء غير مباشر للعقارات بالنيابة عنهم؛ وذلك من خلال شراء الأوراق المالية الصادِرة عن مؤسَّسات أمريكية مانحة لقروض الرهن العقاري. منع المُراقبون الإسبان الحكماء البنوك الإسبانية من فعل ذلك؛ إلا أنَّ حفل هوس شراء العقارات الإسبانية استمرَّ على أيِّ حال. كانت البنوك الأيسلندية تَعِدُ المُودِعين بعوائد مرتفعة على نحوٍ غير قابل للتصديق ولم تكن قد توخَّت الحيطة بترجمة تلك الوعود إلى عُملة أيسلندية أو بالعمل من خلال شركة تابعة مقرُّها في نيجيريا. كان الإيرلنديون يَبيعُون المنازل بعضهم لبعض دون اكتراث؛ إذ صارت الخدعة بأكملها أكثر قَبولًا على نحوٍ مخادع بسبب الحقيقة البديهية التي مفادها أن إيرلندا قد صارت مكانًا رائعًا للعيش فيه. كان الجميع مُستمتعِين بحقيقة أن الأداء السلِس للنظام المصرفي كان يعني أنهم ليسوا مُضطرين لطرح أسئلةٍ صعبة بشأن هيكله، وبخاصة بشأن أجزاء ذلك الهيكل التي لم يكن بوسعهم رؤيتها بوضوح، مثل المخاطر المرتبطة بالمنتجات الثانوية المُهيكَلة والقواعد التي كانت تُحدِّد من سيكون عليه تحمُّل تلك المخاطر في نهاية المطاف.20 تحمَّلت بنوك في دولٍ كثيرة وليس فقط في الولايات المتحدة، مدفوعةً بنجاحها، أعباءً تفوق طاقتها، مثل شبكة كهرباء وعدت بتوفير كهرباء رخيصة مضمونة جدًّا للجميع لدرجة أنها عجزت عن التعامُل مع الارتفاع المفاجئ لاستهلاك الكهرباء أثناء الفاصل الإعلاني في نهائي دوري كُرة القدَم الأمريكية. كلَّما زادت الأعباء، صار من الأسهل أن تتسبَّب صدمة صغيرة في انهيارٍ كبير.

ومن قبيل المُفارقة، أنه ما إن حدَثَ الانهيار حتى زادت منه نفس الآليات التي من المفترض أن تعمل على منع حدوثه من الأساس. إحدى اللَّبِنات الأساسية لبناء الثقة في النظام المالي هي أنه يجِب إغلاق البنوك المُفلِسة لكيلا تُستنزَف مدَّخرات المزيد من المُستثمِرين التعساء الحظ في محاولة يائسة للتَّعافي. قد تُواجه البنوك الهشَّة هذه المُغريات أيضًا، ولهذا السبب يضعُها المُراقِبون تحت المراقَبة الشديدة، وقد يُبادِرُون باتخاذ إجراءٍ حتى قبل أن تتخطَّى حدَّ الإفلاس. هكذا، تتحكَّم هذه اليَقَظة، الضرورية جدًّا لحماية المُودِعين، بقبضةٍ باردة في استعداد البنك لإقراض الآخَرين، بمن فيهم العُملاء ذوي الجدارة الائتمانية التامة. لماذا تُقرِض شركة ممتازة في مثل هذه الظروف إن كان بإمكانك الاحتفاظ بأموالك في صورةٍ نقدية؟ عبر مختلف القطاعات الاقتصادية، ربما يعجز من هُم بحاجةٍ إلى الاقتراض عن العثور على قروض، حتى وإن كان ذلك من أجل مُجرَّد دفْع رَواتب القوى العاملة لديهم والحفاظ على استمرارية أعمالهم، في حين لا يجرؤ الآخَرُون، ممَّن لديهم مدَّخرات ولكن ليس لديهم أوجه تستحقُّ إنفاق هذه المُدَّخرات عليها في الوقت الراهن، على وضع تلك المدخرات في البنك خشية أن يَختفيَ هذا البنك من على وجه الأرض في الغد. وحتى إن لم يَعُد لهذا البنك وجود، فإن هذا سيكون لأنَّ المراقبين أغلقُوه. وهذا انهيار مفزع لهيكل الثقة الاجتماعية الذي يدعمه النظام المصرفي؛ حيث إن المراقبين، الذين يُعَدُّون واضعي هيكل الثقة، يُعتَبرون أيضًا مهندسي الخراب الذين يمكنهم زعزعة حجر الزاوية في أيِّ لحظة.

لماذا نفعل ذلك؟

لماذا تَخدع المجتمعات الإنسانية نفسها على نحوٍ ممنهَج بهذه الطريقة؟ ما الذي يجعلنا نُعاني جماعيًّا من اضطرابٍ ثنائي القطب في حين أن الأفراد المُصابين به بيننا لا يُمثلون سوى أقلية صغيرة؟ وطرح السؤال بهذه الطريقة لا يعني ضمنًا أن الجميع كانوا يتصرفون في سنوات الازدهار الاقتصادي بطريقةٍ لا عقلانية؛ فعلى النقيض من ذلك كان الكثير من الخبراء الماليِّين يُقامرون بعقلانيةٍ شديدة على قُدرتهم على جنْي الأرباح إذا ما سارت الأمور على خير ما يُرام وعلى الخروج من الأزمة إذا ساءت الأمور. السؤال الأعمق هو لماذا تَواطأ بقيَّتُنا في خداع أنفسنا في حين أنه، كما حاولتُ أن أُبرهن في هذا الفصل، كانت تُوجَد أدلة وافرة كان يَنبغي أن تجعل المُراقبين وواضعي السياسات والمواطنين يُفكرون مليًّا. ربما قادَت القواعد المَعيبة بعض الخبراء الماليين العقلانيِّين إلى التصرُّف بطرُقٍ أضرَّت ببقية المُجتمع، ولكن لماذا أظهرَت بقية المُجتمع هذا الحماس للسَّماح لهم بفعل ذلك؟

الغمامة الأيديولوجية ليسَت سوى بداية القصة؛ فما زلنا بحاجة إلى فهم لماذا كانت الغمامات فعَّالة جدًّا عندما كانت تداعياتها مُكلِّفة للغاية. في كتابهما «الغرائز الحيوانية: كيف تقود السيكولوجية البشرية الاقتصاد وأهمية ذلك للرأسمالية العالمية»،21 حدَّد عالِما الاقتصاد جورج أكرلوف وروبرت شيلر خمس طرُقٍ أساسية تعتمد بها الاقتصاديات الحديثة على خصائص السيكولوجية البشرية؛ وهي حاجتُنا إلى الشعور بالثقة تجاه المُستقبل، وشعورنا القويُّ بتكافُؤ الفرص، وشعورنا بالغضب والاستياء عندما تتعرَّض ثقتنا للخيانة، وبعض الإخفاقات الإدراكية التي تجعلُنا عُرضةً لوهْم المال، وتعلُّقنا بالسرديات لمساعدتنا على فهم المغزى من حياتنا. ويقدم المؤلِّفان حجةً دامغة على أهمية العوامل الخمسة في تأجيج كل من الأزمة المالية والازدهار الاقتصادي الذي سبقها.

ويُمكن إضافة عوامل أخرى، وسأذكُر منها ثلاثة. الأول قصور منهجي في قُدرتنا على تقييم مخاطر صغيرة لأحداث مدمرة للغاية لم تقع في الماضي القريب، مثل حالات التخلُّف عن السداد الترابُطية لفئاتٍ مُتنوعة من القروض التي تبدو مُنخفِضة المخاطر. ويصحُّ هذا بصفةٍ خاصة حين تحظى أصولنا بالحماية أغلب الوقت، كما هو حالها حين يعمل النظام المصرفي على أكمل وجه؛ لأنه يُشجِّعُنا على أن نصرف تفكيرنا بعيدًا عن المخاطر.

العامل الثاني الذي يجعلنا في وضعٍ هشٍّ هو افتتان بتفكير استراتيجي من الدرجة الثالثة والرابعة لا يُمكن تطبيقه على مشكلاتٍ من الدرجة أَلْف؛ فعندما نواجه الأدلة على عدم إمكانية استمرار الرواج العقاري إلى الأبد، فإننا لا نُعيد الأمور إلى نصابها الصحيح وإنما نُحاول ركوب موجة الرواج حتى النهاية، من أجل أن نتفوَّق قليلًا على الآخرين. والعامل الثالث هو وجود ضعف تجاه المَيل إلى الثِّقة في مجموعات المُطَّلعين على بواطن الأمور أمثالنا (على سبيل المثال؛ المُتخصِّصين في الشئون المالية)، مقترن بعُدوانية غريزية تجاه الرسائل غير المرغوب فيها إذا وصلَت عن طريق شخصٍ مُختلِف عنَّا بدرجة كافية، وحساسية شديدة تجاه الفوارق الضئيلة في المكانة بين من نَسمَح لهم بدخول دائرة المُطَّلعين على بواطن الأمور الخاصة بنا وأولئك الذين لا نَسمح لهم. هذه كلها سِمات شائعة بين الرئيسيَّات التي تعيش في مجموعات، والتي تطوَّرنا منها.

كما أكَّدت الفصول السابقة من هذا الكتاب، ليس من المُستغرَب أن نجد بعض نقاط الضعف النفسية في تركيبة «الإنسان العاقل»، ذلك النوع من القِرَدة العُليا الذي ظهر لأول مرة في غابات السافانا الأفريقية ما بين ١٠٠ ألف و٢٠٠ ألف عام مضت. باستثناء القلق الذي دفع هذه القِردة العُليا إلى مغادرة أفريقيا، لا شيء ممَّا فعلته أثناء أكثر من ٩٠٪ من وقت وجودها باح بأي اهتمام بالعمل المصرفي والشئون المالية، ولا بأيِّ مواهب قد تُؤدِّي بالتبعية إلى العمل في وول ستريت. كان عبارة عن نوع من الرئيسيات يعيش في مجموعات، وله خصائص شائعة بين أغلب أنواع هذه الرئيسيات، مزيج لافت للنظر من غرائز تنافُسية قوية مع نزعة إلى تكوين تَحالُفات ومجموعات، وانتباه حسَّاس للغاية للفروقات في المكانة والرُّتبة. إلا أنه كان أيضًا نوعًا غير مُعتادٍ جدًّا من الرئيسيات، قِردة عُليا اجتماعية ذات دماغ كبيرة تستعمِر بيئة إيكولوجية تَشتمِل على الصيد وجمع الثمار على نحوٍ تعاوُنيٍّ وبطرُق متزايدة التعقيد. ولقد تطوَّرت مواهبها التعاونية المُذهِلة على خلفية عداءٍ عنيف أدَّى إلى تدمير الكثير من الإنجازات الأولية لمحاولاتها الأولى لتكوين بِنية اجتماعية واسعة النطاق. وعندما أقامت أخيرًا نظامًا ماليًّا اشتمل على تريليونات من الدولارات امتدَّ في الكرة الأرضية بأكملها، لم يكن من المُستغرَب اكتشاف أن عدَّة عيوب تسلَّلت إلى داخل هذه البِنية.

إحدى مزايا هذا المنظور طويل المدى هي أنه يُساعدنا على أن نكون مُعتدلِين على نحوٍ مناسب بشأن احتمالات منع وقوع المزيد من الأزمات الاقتصادية في المستقبَل. سنُواصِل طرح هذه الحُجة على بقية صفحات هذا الكتاب. تُعدُّ مجتمعاتنا واقتصادياتنا، في تعقيدها، مُثمرة وهشَّة على حدٍّ سواء. أسَّست القِرَدة العُليا الاجتماعية ذات الأدمغة الكبيرة نظامًا ماليًّا عالميًّا، وألحقت هذه القِرَدة العُليا الاجتماعية ذات الأدمغة الكبيرة أضرارًا كثيرة لذلك النظام، ولا يستطيع أحدٌ إصلاحها سوى هذه القِردة العُليا الاجتماعية ذات الأدمغة الكبيرة. وأي حلٍّ لهذه العيوب لا بدَّ أن يكون مُحكمًا حتى يتسنَّى تطبيقه على أيدي نفس نوعيَّات القردة العُليا الاجتماعية ذات الأدمغة الكبيرة التي تسبَّبت في المشكلة في المقام الأول.

ثمَّة ميزة أخرى لوجهة النظر طويلة المدى وهي أنها تُساعد في الحفاظ على منظورٍ عقلاني بخصوص تكاليف الأزمة. ومن السابق لأوانه جدًّا أن نجزم بأنَّ الاقتصاد العالَمي سيُعاوِد النموَّ مرةً أخرى في غضون ثلاثة أو أربعة أعوام، أو ما إذا كُنَّا سنَشهد فترةَ ركود مطولة؛ فما زلنا نَجهل ما إذا كان عدم الاستقرار والعنف سيُصاحبان التقشُّف الحادَّ الذي سيكون ضروريًّا في بعض الدول. إلا أن هذه المخاطر تتضاءَل بجوار الأخطار التي تغلَّب عليها التعاون الإنساني في الماضي، والانهيار العنيف في النظام الاجتماعي الذي عادةً ما صاحب الحروب مع الغرباء من الخارج وقمع العُزَّل في الداخل. كما أوضَحَ الفصل الثالث، التعاون الذي أُسِّست عليه الاقتصاديات الحديثة هو نفس التعاون الذي نجح، لدرجةٍ يُقَدِّرها عددٌ قليل من مُواطِني العالم المعاصِر، في ترويض نزعتنا ومقدرتنا على ممارسة العنف. وبينما نحسب بقلق مخاطر استراتيجياتنا الاقتصادية الحالية ومزاياها، فإننا نُشبِه لاعبي بوكر على مُنحدَرات بركان، نتلذَّذ باندفاع الأدرينالين في عُروقنا الناتج من اضطِراب حركة أوراق اللعب بينما الخطر الحقيقي يَكمُن تحت أقدامنا.

وكما كتَبَ روبرت فروست: «البعض يقول إنَّ العالم سيَنتهي بالنار، والبعض يقول بالجليد.» وتبدو كفَّة النار الآن أرجح من كفَّة الجليد، وبصرْف النظر عن حقيقة هذا التخمين، بوسعنا أن نثِق على نحوٍ معقول بأن العالَم لن يَنتهي بسبب أزمةٍ مالية. كون الأزمة المالية هي حاليًّا، وقتَ تأليف هذا الكتاب عام ٢٠٠٩، الشاغل الرئيسي لجميع القادة السياسيِّين بالعالَم لا يَشي بضَعف ذاكرتنا ومحدودية آفاقنا فحسْب؛ وإنما أيضًا بالشوط البعيد الذي قطَعناه على نحوٍ مُذهل. وحقيقة أنَّ محدودية آفاقنا هي ذاتها التي مكَّنَتْنا من قطعِ هذا الشوط البعيد ستكون موضوع الفصل التاسع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤