الفصل التاسع

الاحترافية والإنجاز في ساحات العمل وساحات الحروب

جنود وفلاسفة

يَستأجِر الأمير الفارسي، قورش الأصغر، جيشًا قوامه عشرة آلاف جندي مُرتزق من اليونان تحت زعمٍ كاذب باستِكشاف الأراضي النائية بآسيا الصغرى؛ بينما الهدف الحقيقي وراء ذلك هو الإطاحة بأخيه أرتحششتا الثاني؛ لكنهم يَنهزِمُون في معركة كوناكسا، وبعد أن فقدوا القائد وتشرَّدُوا بعيدًا عن موطنهم الأصلي، يتعيَّن عليهم أن يشقُّوا طريق العودة إلى الوطن وسط شعوبٍ شديدة العدائية. وجُلَّ ما يُريدونه هو العودة إلى الوطن؛ إلا أن كل شيء يفعلونه يُشكِّل تهديدًا عامًّا؛ فهُم عشرة آلاف جندي، مُدجَّجين بالسلاح، وبلا مؤن غذائية، لذا أينما حلُّوا، يُخرِّبون ويُدمِّرون الأرض كأسراب جراد، ويَحمِلون في أعقابهم حشدًا ضخمًا من النساء.

هكذا وصَفَ إيتالو كالفينو المأزق الذي وقع فيه جيش هائم على وجهه في القرن الخامس قبل الميلاد، وهو مأزق مُشابه لآلاف المآزق الأخرى عبر التاريخ، والاستثناء الوحيد هو أن أحد ضباطه، وهو زينوفون، سجَّل مَسيرته في كتابٍ وصَلَ إلينا ويَحمِل عنوان «مسيرة العشرة آلاف» أو «الأناباسيس». وبعد مقارنة أسلوب زينوفون بأسلوب الكاتب الراحل تي إي لورانس، وبعد أن يقول، ببعض القبول، إنه على عكس رؤية لورانس الجمالية، «في اللغة اليونانية لا شيء يُضاهي دقَّة السرْد وجفافه»، يستطرد كالفينو قائلًا:
بالطبع، ثمة نوع من الشفَقة في كتاب «الأناباسيس»؛ إنه تلهُّف الجنود على العودة إلى الوطن، وشعورهم بالارتباك من الوجود في أرضٍ غريبة، والفزع من التفرُّق، لأنهم ما داموا معًا، فإنهم يَحمِلون الوطن بداخلهم … في هذه المُذكرات للواء جيش من القرن الخامس قبل الميلاد، يظهر التناقُض بين دور الطفيليات الشبيهة بالجراد، ذلك التشبيه الذي يَحُطُّ من قدْر جيش المُرتزقة اليوناني، وممارسة الفضائل الكلاسيكية — فضائل فلسفية ومدنية وعسكرية — التي يُحاول زينوفون ورجاله تطبيقها في ظلِّ هذه الظروف الجديدة … يُمكن الحطُّ من قدْر الإنسان بتشبيهِه بالجَراد ولكن يُمكنه أن يُطبق على حالة الجراد هذه قواعد الانضباط واللياقة — أو بتعبير آخر «الأناقة» — ويَعتبر نفسه راضيًا؛ فالإنسان لا يستطيع مُناقَشَة فكرة كونه جَرادة ولو لدقيقة؛ ولكنه يَستطيع أن يُناقِش أفضل طريقةٍ ليكون كذلك. وفي شخصية زينوفون، نجد ذلك مُحدَّدًا بدقة، مع جميع أوجه قصورِه، نجد القواعد الأخلاقية الحديثة المُتعلِّقة بالكفاءة الفنية المثالية، وبكون المرء «على قدْر المهمة» وﺑ «أداء عملك على أفضل وجه»، باستقلالية تامَّةٍ عن قيمة تصرُّفات المرء فيما يخصُّ المعايير الأخلاقية العالمية … وفي هذه المُحاوَلة لإضفاء قدْر من «الأناقة» أو الضابط على هذه الحركة الطُّفيلية لرجال يتَّسمُون بالجشع والعنف وسط جبال الأناضول وسهولها، يَكمُن كل وقاره؛ ليس وقارًا تراجيديًّا وإنما وقار محدود، وقار برجوازي بالأساس … لم يَعُد في استطاعة الجيش اليوناني، الذي يَزحف عبر مرتفعات الجبال والمضايق وسط الكمائن والهجمات المُتواصلة، أن يُميِّز إلى أيِّ مدًى هو جانٍ أم مجنيٌّ عليه، ومُحاط حتى بأفظع المذابح التي يتعرَّض لها رجاله جرَّاء العدائية الكبيرة أو سُوء الحظ، يُلهم بداخل القارئ مُعاناة رمزية ربما لا يستطيع فهمها إلا نحن الذين نعيش اليوم.1
الجيش هو أكثر مكان تَعتمد فيه سلامة الجماعة بكاملها على الثقة المُطلَقة في الأفراد. وتسعى الجيوش في كل مكان، من خلال صرامة تدريباتها، إلى الالتزام بقواعد، وبمجموعة من الإجراءات، وبما يُمكن أن يُطلَق عليه أيضًا مبدأً أخلاقيًّا، تهدُف مجتمعةً إلى ضمان الولاء حتى في مواجَهة الإغراءات الفردية الكاسِحة على الخيانة. وتُنقَل هذه القواعد عبر إجراءات التدريب، كل شيء بدايةً من التكرار المُمل لتدريب ساحة العرض وحتى إتقان المهام المعقَّدة للمهندس العسكري. كما أنها تُنقَل أيضًا عبر الجو العام للمؤسسة العسكرية، سواء تمثَّل هذا في سمو الأكاديمية العسكرية، أو الفظاظة السائدة في مطعم الضباط، أو شدَّة المعسكرات المؤقتة المشتركة أو التدريبات الليلية. هذه القواعد، ما إن تُتْقَن حتى تُصبح طبيعة ثانية، يُمكن أن يُطْلَق عليها رؤية نفقية ضيِّقة في أشدِّ صورِها، وهي رؤية لا تتجاهَل فحسْب تخمين العواقب الأوسع نطاقًا للالتزام، وإنما تسعى عمدًا إلى استبعاد هذا النوع من التخمين. وفي محاكمة جرائم الحرب في نورنبيرج عامي ١٩٤٥ و١٩٤٦، تعرَّضت هذه القواعد للانقضاض عليها من مفهومٍ مختلف وأكثر تعميمًا للواجب الإنساني.2

كان رودولف هوس، القائد الأسبق لمعسكر اعتقال أوشفيتز، من بين أولئك الذين تمَّ استدعاؤهم للشهادة في محاكمة نورنبيرج؛ رغم أنه هو نفسه لم تَجرِ مُحاكمته. اشتملت شهادته على تفاصيل مُفجعة عن قتل الأسرى بالغاز، وبعدَها سُئل: «هل شعرتَ في أي وقتٍ بالشفقة تجاه الضحايا، وفكَّرت في أُسرتك وأطفالك؟» أجاب قائلًا: «أجل!» استمرَّ الاستجواب: «كيف تسنَّى لك تنفيذ هذه الأعمال على الرغم من ذلك؟» ردَّ هوس قائلًا: «في ضوء كل تلك الشكوك التي ساوَرَتْني، كانت الحجَّة الدامغة الوحيدة هي أوامر زعيم الرايخ هيملر الصارمة والمُبرِّر المُعطى من جانبه.»

كما لجأ المُتهمُّون في هذه المحاكمة إلى ما صار يُعْرَف منذ ذلك الحين بدفاع نورنبيرج، أي تحديدًا قولهم إنهم كانوا يُنفِّذون الأوامر وحسْب. قلَّة منهم من أضفَوا عليه أساسًا مَنطقيًّا، ولكن فرانز فون بابن، الذي عمل مستشارًا للرايخ عام ١٩٣٢ وفيما بعد نائبًا عن هتلر في فيينا وأنقرة، كان واحدًا من بين هؤلاء. سأله السير ديفيد ماكسويل فايف: «لماذا، بعد هذه السلسلة من جرائم القتل [لأصدقائه المُقرَّبين ورفقائه] التي وقعت على مدار أربع سنوات، لماذا لم تَنعزِل عن هؤلاء الأشخاص وتُدافع، مثل الجنرال يورك أو أي أناسٍ آخرين تعرفهم من التاريخ، عن آرائك وتُعارض هؤلاء القتلة؟ لماذا لم تفعل ذلك؟»

أجاب فون بابن قائلًا:

إذا سألتني، يا سير ديفيد، لماذا بقيتُ في خدمة الرايخ رغم كلِّ شيء، فلا يَسعُني سوى أن أقول: إنني أديتُ واجبي — واجبي نحو ألمانيا، إذا كنتَ ترغب في أن تعرف. يُمكنُني أن أتفهَّم جيدًّا، يا سير ديفيد، أنه بعد كلِّ هذه الأمور التي نعرفها اليوم، وبعد ملايين جرائم القتل التي وقعت، أنك تنظُر إلى الشعب الألماني على أنه أمَّةٌ من المجرمين، وأنه ليس بوسعك أن تفهم أن هذه الأمَّة بها وطنيون أيضًا. لقد أقدمتَ على هذه الأعمال من أجل خدمة وطني، وأودُّ أن أُضيف، يا سِير ديفيد، أنه حتى وقتِ توقيع مُعاهَدَة ميونخ، وحتى وقت غزو بولندا، حاولت القوى العُظمى نفسها، رغم أنها كانت تعلَم بكلِّ ما كان يَجري في ألمانيا، أن تتعاون مع ألمانيا. فلماذا تودُّ أن تلوم رجلًا ألمانيًّا وطنيًّا على تصرُّفه على نفس النحو، من أجل نفس ما كانت جميع القوى العُظمى تأمُلُه؟

كان هيرمان جورينج، الأكثر فصاحة بين جميع الماثلين للمحاكمة، مُتشدِّدًا بشأن الطبيعة غير الواقعية للمعايير التي كان يُحاكَم على أساسها المُتهمُون. وانتقد بشدَّة عدم إمكانية تنفيذ اتفاقية لاهاي لعام ١٩٠٧ على ظروف الحرب الحديثة، وعند استجوابه بشأن إمكانية عدم إطاعة إرادة هتلر، سأل المحكمة:

كيف لامرئ أن يتخيَّل أنه يُمكن لدولة أن تُقاد لو كان بإمكان جنرال واحد، خلال الحرب أو قبلها، تلك الحرب التي قرَّر خوضها القادة السياسيون، سواء كانوا مُحقِّين في قرارهم هذا أم مخطئين، أن يصوِّت حول ما إذا كان سيُقاتل أم لا، وما إذا كانت فيالقُه العسكرية ستبقى في الوطن أم لا، أو أن يكون بإمكانه أن يقول: «يجب أولًا أن أسأل قواتي»؟

كما علِم فون بابن وجورينج تمام العِلم — وكما أدرك الكثير من القضاة والمُدَّعين — أن الاعتبارات الأخلاقية قيد ضعيف أمام الشعور الغامر بالحاجة الملحَّة الذي تَفرضُه الحرب على المشاركين فيها. على أيِّ حال كانت مُحاكمة نورنبيرج زاخرة بالمُتناقضات؛ فكان آي تي نيكتشينكو، عضو المحكمة السوفييتية، أحد المُدَّعين الثلاثة في أولى محاكمات ستالين الصورية عام ١٩٣٦ وكان غير معتادٍ على مفهوم الرأي المُعارض لدرجة أنه اضطرَّ لأن يسأل زملاءه الغربيِّين عن كيفية صياغة رأي مُعارض حين اعترض، بناءً على أوامر صادرة من موسكو، على تخفيف حُكمهم الصادر.3

البحث عن روايات

إن القدرة على رؤية أوجه قصور في وجهات نظر فردية مُعيَّنة، وموضعها الصحيح في إطار خطةٍ شاملة لسير الأمور، هي قدرة بشرية جديرة بالملاحظة، ما زلنا لا نملك سوى تفسيرٍ جزئي لتطوُّرها.4 ومن الأمور الجديرة بالملاحظة إلى أقصى درجةٍ أن المجتمَعات، التي تتمتَّع برفاهية تنمية هذه المهارة بين مواطنيها ومكافأتهم عليها، اضطرَّت عادةً إلى المطالبة بقدرٍ كبير من مَحدودية الرؤية، على المستوى العسكري والتجاري، من أجل تحقيق درجةٍ كبيرة جدًّا من النجاح المادي. ولقد لاحظ المؤرِّخ بيتر هول أن حضارة أثينا القديمة، التي نَدين لها بشعورنا بالقلق تجاه الطريقة الصحيحة للعيش والقُدرة على سبر أغوار النفس البشرية التي يُمكِن وصفها بأنها الأساس لرؤية نورنبيرج، عبَّرت عن توجُّهٍ مُتأرجِح جدًّا، فيما يتعلَّق بالتجارة وتقسيم العمل، إلى حدٍّ يكاد يَرقى إلى درجة الإنكار ذي الطابع المُؤسَّسي: «من البحر استقبل اليونانيون التجارة، ومن التجارة جاءت الأفكار، ثم الإمبراطورية؛ ولكن من الإمبراطورية جاءت الثروة، وصاحَبَ الثروة الرفاهية والفُرصة لإبداع أفكارٍ وفنون جديدة. [لكن] كان ثمة تناقُض ناشئ؛ إذ كانت منظومة القيم الأرستقراطية العتيقة تقول إنه من الشرف أن يكسب المرء قوت يومِهِ من الزراعة، أو حتى من أشكالٍ أرقى من الأعمال التجارية والمصرفية؛ ولكن تجارة التجزئة والأعمال اليدوية، حتى الحِرَف، كانت أعمالًا وضيعة.»5 ويقتبس مقولة مؤرِّخ سابق، هو إتش ميشيل، الذي يقول: «كان المواطن أرستقراطيًّا يكرَهُ العمل اليدوي؛ يتسكَّع في الأسواق ويَنهمِك في القيل والقال، أو كان يَرُوق له كثيرًا أن يشغل نفسه بمؤامرات الدولة السياسية التي لا تَنتهي؛ إن كان بوسعه ذلك.»
في المجتمَع المُعاصر تَنطوي جميع المهن تقريبًا، بطرُق أقلَّ إثارة بكثيرٍ من الجيش، على مبدأ أخلاقي، أو عُرفٍ ما. فالثِّقة تتطلَّب ضمانًا للمصداقية، ويتَّسم بعض أكفأ رجال الشرطة بالمراقبة الذاتية المُتأصِّلة، ولديهم آليات مراقبة للشخصية الفردية. ونادرًا ما تكون اليقظة الخارجية الشديدة كافيةً لأن تَضمن أمانة شخصٍ عازم على الخداع حقًّا، لذا من الأفضل كثيرًا التعامُل مع الأشخاص الذين يتمتَّعون بشخصية، أو تدريب، أو تنشئة تقودهم إلى عدم الرغبة في الخداع حتَّى وإن سنحَت لهم الفرصة. ومن ثَمَّ، ربما يُحالف التوفيق أولئك الذين يستطيعون إقناع الآخرين بأمانتهم المُتأصِّلة، ولذا قد يكون أسهل للصادقين بحقٍّ أن يكونوا مُقنعين؛ وخصوصًا إذا كانت الأمانة، أو على الأقل الأداء الصادق والأمين لحِرفة أو صنعة مُعيَّنة، تتطلَّب قدرًا من الذوق، والثقة، بل والسمو أيضًا، الذي يتراكم على مدار فترةٍ طويلة من الالتزام بالمُهمَّة، وهي أمور يصعُب على الشخص الانتهازي أن يتظاهر بها. حتى العمل، الذي لا يتطلَّب صنعةً، كما يُزْعَم، يدفع الأفراد إلى تعلُّم كيفية التأقلُم مع الوجود ضِمن فريق، في موقع البناء، أو مزرعة الفواكه، أو ورشة العمل، أو على طاوِلة دفع المشتريات. ومُعظم أنواع التدريب المهني، سواء كان تدريبًا فنيًّا على مِهنة عامل ميكانيكي أو دراسةً للالتحاق بنقابة المحامين أو حضور دورة دراسية خارجية للعمل طاهيًا، لا تَشتمِل على تعلُّم كيفية إنجاز مهامَّ مُعيَّنة فقط وإنما أيضًا على تعلُّم كيفية إبراز نفسك كشخصيةٍ مُعيَّنة.6 وإحدى النتائج المُترتِّبة على ذلك أنَّ الكثيرين يتلقَّون تدريبًا يبدو أنه لا يتناسَب مع المهام التي يتعيَّن عليهم الاضطلاع بها فيما بعد (أو بعبارة أخرى، يُواجه الكثيرون تحديات في العمل أقل مما يُحْمَلون على توقعه أثناء تدريبهم). وثمة نتيجة أخرى هي أن الناس يحتاجون إلى أن يجدوا داخل أنفسهم الالتزام لمواصلة عملية تعلم كيفية إبراز أنفسهم بهذه الطريقة. على أقل تقدير، لكي يكون لدى أحدهم هذا الالتزام، يَلزَم أن يكون قادرًا على أن يُوضِّح لنفسه الهدف من وراء الالتزام الذي قطعه. خلاصة القول، يجب أن يكون لديه سرْدٌ وصْفي لحياته وعمله.
ولفترةٍ طويلة من التاريخ المُسجَّل، قَدَّم النظام الاجتماعي ومسئولو العلاقات العامة، أي الشعراء والفلاسفة والكهنة، ذلك السردَ الوصفيَّ لأفراد المجتمع. ويُمكن فَهم النظام الطبقي في الهند على أنه تعبير اجتماعي مُوسَّع لما كان يعنيه في الأصل تقسيم العمل؛ الجنود والكهنة والتجار والمزارعين وصنَّاع الفخار وعمال الجلود، وغيرهم من الفئات المهنية التي كانت تنتمي إلى طبقات اجتماعية لا يُسمح لها بالتزاوج من طبقاتٍ مختلفة، ولا حتى العيش في المنطقة السكنية نفسها.7 لقد طوَّر مواطنو الهند الحديثة تقسيمًا مُعقدًا للعمل، فصارت حاليًّا هذه التصنيفات غير مناسبة له بالمرة، ومع ذلك يحتفظ السرْد الوصفي بقوَّةٍ مذهلة للتحكُّم في تصرفات الأفراد، كما ستُؤكِّد نظرة سريعة على أعمدة أخبار الزواج في أيِّ صحيفة هندية. لا تزال الزيجات بين الطبقات المُختلفة أمرًا نادرَ الحدوث، ولأسباب تُعزِّز نفسها بنفسها. وفي جميع المُجتمَعات، حتَّى إن كانت التقاليد التي يستند عليها التوافُق الاجتماعي تقاليد تعسُّفية، فإن الزيجات القائمة على التوافُق الاجتماعي يُمكِن أن تصمد لوقتٍ أطول وتتغلَّب على الأزمات على نحوٍ أفضل من تلك الزيجات التي تضع الروابط الاجتماعية والعاطفية في حالة صراع بعضها مع بعض، كما تَبيَّن من كثيرٍ من قصص الحبِّ الشبيهة بقصة روميو وجولييت في الضواحي النائية. قتَلَ شكسبير في مسرحياته شخصياته التي لعبتْ دور العُشَّاق الشباب؛ لأنه لم يستطع أن يتحمَّل تخيُّلهم يُعانون أزمات الكهولة البغيضة.

بالمثل زَوَّد النظام الإقطاعي الأوروبي أفراده بسرْدٍ وصفي، وهو سردٌ ظلَّ مُحتفًى به لمئات السنوات بعدما كان النظام قد بدأ يتقوَّض، أو كما ورَدَ في الترنيمة الفيكتورية: «الغني في قلعته/والفقير على بابه/الرب خلقهما وقدَّر معيشتَهما/بين سعةٍ وإقتار.»

ومع ذلك فقد شَهِد الشعراء الأكثر موهبة والقساوسة الأكثر حِكمة على تقلُّبات الدهر قبل ذلك بوقتٍ طويل. إذ عرفوا أن النظام الاجتماعي هشٌّ للغاية ولا يُمكن أن يقضي به الربُّ أبد الدهر. وفي عظةٍ ألقاها جون دون، كبير كهنة كاتدرائية القديس بولس، عام ١٦٢٢، ذَكَّر مُستمعيه بسرعة زوال الفوارق الاجتماعية:
[الموت] لا يأتينا جميعًا على حدٍّ سواء، وعندما يأتي يجعلنا جميعًا سواسية كأسنان المشط. فرماد شجر بلوط داخل المدخنة ليس رثاءً لتلك الشجرة ولا يُخبرني كم كانت عالية أو كم كانت ضخمة؛ ولا يُخبرني أي قطعان كانت تأوي تحتها، ولا بمن تأذَّى من سقوطها. وكذلك لا ينبس تراب قبور العظماء ببنت شفة، فهو لا يقول شيئًا، ولا يُميز شيئًا؛ وإذا هبَّت الرياح فسيؤذي عينَيك تراب الفقير الذي لا تعرفه كتُراب الأمير الذي لم تكن تستطيع أن ترنو بناظرك إليه؛ وحين تذر الرياح ترابَ فناء الكنيسة إلى داخلها، ويُعيدها المرء إلى الفناء، من ذا الذي سينخل ذلك التراب مرةً أخرى ليُصنِّف ذراته ويُعلن أن هذا تراب الشريف الأروستقراطي، وهذا تراب الزهرة النبيلة، وهذا تراب أحد العوام، وهذه نخالة؟8

أدركَ جون دون أن الحقائق التي تبدو أبدية، المُتعلِّقة بالوضع والمكانة الاجتماعية، ذابت جميعها في الموت. ولكن في الحقيقة، لطالَما كانت هذه الحقائق تواجه تهديدًا من قِبَل التغيُّر الاقتصادي الأكثر اتسامًا بالطابع الدنيوي. شهد مجتمع العصور الوسطى تغيُّر التصنيفات القديمة، وبدأ عدد قليل من الأبناء يسأل نفسه عما إذا كان ينبغي له التطلع إلى القيام بنفس عمل والده (كان صعبًا على البنات لقرون أن يسألنَ أسئلةً مُشابِهة بخصوص أُمَّهاتهن). صار السؤال حتميًّا ليس فقط لأن تقسيم العمل كان يسير بخُطًى مُتسارِعة وبسبب ظهور فُرَص جديدة وحسب، وإنما أيضًا لأن تلك الفرص الجديدة تطلَّبَت مواهب كانت خاصة بالفرْد ولا يُمكن ببساطة أن يُورِّثها الآباء إلى أبنائهم. انتقل العاملون إلى المدن، وواجهت النقابات المحلية تحديَّاتٍ على هيئة أشكالٍ جديدة من الإنتاج، وتنافست الورش، والمستودعات فيما بينها منافَسةً فوضوية. وكانت السرديات التي كانوا يَقصُّونها في تنافُسٍ هي الأخرى. لم يعُد للفرد هُويَّة عامة واحدة باعتباره يحتلُّ مكانةً في نظام معروف؛ بل كان لديه هويات عامة مُتعددة؛ مُتدرِّب، أخ، صديق، مواطن، محارب، منافس. فهاملت مُفكِّر وعاشق وأمير؛ ولكنه أيضًا ابن، ابن بلا أب، وهو يتعذَّب لأنه لا يستطيع إنكار هذه الهوية ولا التوفيق بين مُتطلباتها ومتطلبات هذه الهويات الأخرى.

من الأمور المُتكرِّرة في الحياة المُعاصرة أنه مع ازدياد اعتماد الفرد على الآخرين في توفير ضروريات مَعيشته اليومية، لم يَعُد بوسعِه أن يقترض ببساطةٍ من الآخرين السرْد الذي يُضفي معنًى لحياته؛ وإنما كان يتعيَّن عليه أن يصوغ السرد الخاص به. يتطلَّب تقسيم العمل في قطاع الإنتاج اكتفاءً ذاتيًّا شديدًا فيما يتعلَّق بقصة حياة كلٍّ منا. في واحدة من أشهر الروايات عن تداعيات الحداثة وأكثرها كآبة، ذهب إميل دوركايم إلى أن بعض الأفراد قد يعجزون عن ابتكار سردٍ يعوِّض الشعور بغربة الحياة في المدينة الحديثة، ويَلجأ أكثرهم بؤسًا إلى الانتحار. بالفعل، قد يُدمِّر الصراع بين الهويات المتعدِّدة داخل الفرد هذه الهويات جميعها، مما يُسفر عن غياب الهوية تمامًا. ويُمثِّل الأمر على شخصية الفرد نفس الخطر الذي يُمثله على وظيفته، كما أوردنا بالفعل؛ فلكي نبقى على قيد الحياة في ظلِّ التقسيم الحديث للعمل، يجِب على كل فردٍ أن يكتسب قُدرةً ما، أو مهارةً ما. إلا أن بعض الأفراد سيَكتشفُون أن المهارات التي لديهم غير كافية لتلبية المتطلبات التي يفرضها العالم عليهم، وبالمثل سيَكتشِف بعض الأفراد أن السرد الذي أنشئوه استقاءً من هُوياتهم المُتعدِّدة غير كافٍ لفهم المتطلبات التي تفرضها هذه الهويات عليهم.

كانت نظرية دوركايم عن الانتحار موضعَ نقاشٍ وانتقادٍ كبيرَين، وخصوصًا لاستحالة اختبارها تقريبًا.9 قد تتبيَّن فائدتها للمفهوم العلمي أو التشخيص الاجتماعي أو لا تتبيَّن، إلا أنها تخمين بديهي ومنطقي عما يحدث لبعض الناس الذين يُنشِئون هُويةً لأنفسهم في عالَمٍ محفوف بالمخاطر. يُستنتَج هذا التخمين من ثلاث ملاحظات. الأولى أنه من أجل المقايضة مع الغرباء يحتاج الناس إلى طريقةٍ للدلالة على جدارتهم بالثقة. الثانية هي أن أحد أكثر الطرُق فاعليةً للقيام بذلك هي ابتكار هوية لنفسك؛ مجموعة من القواعد الداخلية التي تؤمن بها أنت نفسك وتعيش وفقًا لها، والتي ستجعلك غير سعيد إن فشلتَ في احترامها. الثالثة هي أن التعامُل مع غرباء مُتعدِّدين يخلُق صراعاتٍ بين المكوِّنات المختلفة لهذه الهُوية. وعلى الرغم من أنه ينبغي لنا توقُّع أن يكون التطوُّر قد حَبا مُعظمنا بالموارد النفسية التي تُمَكِّن من إدارة هذه الصراعات، فإن العشوائية الهائلة للحياة المعاصِرة — الطابع العارض للكثير من لقاءاتنا ومشاريعنا وتحدياتنا — ستَجعل بعض هذه الصراعات صعبة التحمُّل جدًّا على بعض الناس. تتَّفق بعض الدراسات الحديثة عن الاكتئاب مع هذه الرؤية. فعلى سبيل المثال، يبدو أن نوبات الاكتئاب المُعتدِل لدى الشباب تُؤدِّي وظيفةً تكيُّفية مُفيدة؛ إذ تُساعدهم على تعديل طموحاتهم لتغدو تقديرًا أكثر واقعيةً لقدرتهم. ومن الناحية الأخرى، قد يتسبَّب عجزٌ واضح عن تعديل الطموحات بهذه الطريقة في الإصابة باكتئاب حاد.10
وحتى في سياقاتٍ أقلَّ مأسويةً من الانتحار، ربما تَعتمِد قُدرة الناس على الوصول إلى الرِّضا في أعمالهم وحياتهم على قدرتهم على التوفيق بين المتطلبات المُتضاربة لهُويَّاتهم المتعدِّدة بنفسِ القدر الذي تَعتمِد به على الظروف الموضوعية لحياتهم. كتب عالِم الاجتماع فرانك فوريدي (في كتابه المُعنوَن «بارانويا تربية الأبناء»)11 عن تصوُّرٍ شائع بأن الأطفال في المجتمع المعاصر يَحظَون باهتمامٍ قليل للغاية من جانب الآباء المهووسين بالوظيفة والحياة المِهَنية. ويزعم فوريدي أن العقود الأخيرة قد شهدَت زيادةً مهولة، ليس في الوقت الذي يقضيه الآباء في العمل، وإنما في الوقت الذي يقضُونه مع أبنائهم. «كرَّسَت الأمهات العامِلات بدوامٍ كامل وقتًا للعناية بأطفالهنَّ في عام ١٩٩٥ أكثر من الأمهات غير العاملات في عام ١٩٦١.» وسواء أكان هذا الادِّعاء المُذهِل صحيحًا أم لا (ومن الصعب توثيق هذه التغيُّرات بدقَّةٍ شديدة)، من الواضح أنَّ لدى المجتمع الآن توقُّعات مختلفة جدًّا بشأن دَور الآباء: «يجِب أن يهتمَّ آباء اليوم بكلِّ دقيقةٍ تمرُّ في يوم أبنائهم — ليضمنوا أن حياتهم زاخرة بالأنشطة المُحفِّزة والمناسبة.» من الممكن جدًّا، إذن، أن يؤدي الآباء دورهم بأمانةٍ أكثر من أي وقتٍ مضى، وفي الوقت نفسه يشعرون بالتقصير بشأنه.
وعلى نحوٍ أكثر تفاؤلًا من دوركايم، شرع المؤرِّخ الشَّفهي الأمريكي ستادز تيركل في كتابه «العمل» في سرد الطرُق الكثيرة التي يَحكي بها الناس قصة حياتهم اليومية. ربما اعتُبِر هذا الكتاب مُجرَّد مجموعةٍ مُتنوِّعة من القصص التي تروي كيف يعيش الناس حياتهم وكيف يعملون، إلا أنه أكثر من ذلك بكثير. إذ لا يتحدَّث الأشخاص مَحلَّ بحثِ تيركل عما يعملون فحسْب، وإنما يتحدَّثون أيضًا عن الشَّكل الذي يَمنحه هذا النشاط لحياتهم (العنوان الفرعي لهذا الكتاب هو «أناس يتحدَّثُون عما يفعلون طوال اليوم وشعورهم حيال ما يفعلون»). تُعدُّ قصته التي يكثر الاستِشهاد بها عن عامل موقف السيارات نموذجًا مثاليًّا لفلسفة الزِّن التأمُّلية:
بعد خمسةٍ وعشرين أو ثلاثين عامًا، يُمكنني أن أتعامل مع أيِّ سيارة وكأنها رضيع، كسيدة تُغيِّر الحفاضات لطفلِها. أستطيع أن أقود تلك السيارة بيدٍ واحدة. تساءل الكثير من العملاء: «كيف تَفعل ذلك؟ كيف تمضي بها هنا وهناك بهذه الطريقة؟» أُجيب: «يُمكنُني أن أتحكَّم في هذه السيارة بنفسِ الطريقة التي تَخبِزين بها كعكة، يا سيدتي.» الكثير من السيدات والكثير من الرجال يُبادرونَني قائلين: «عجبًا! أنت تُجيد القيادة!» فأجيب قائلًا: «شكرًا لك، سيدتي.» ويسألونني: «منذ متى وأنت تفعل ذلك؟» أجيب: «ثلاثين عامًا. بدأت حين كنتُ في السادسة عشرة من عمري. وما زالت أفعل ذلك.» كنت بارعًا جدًّا حين كنتُ في التاسعة عشرة أو العشرين من عمري. وراهنَني أحد الفِتيان بخمسة دولارات على أنه حين تأتي سيارة مُعيَّنة لن أتمكَّن من ركنها في مكانٍ ضيِّق. ركنتُها بيدٍ واحدة في ذلك المكان الضيق، وفعلتُها ثلاث مرَّات من أجله. قال لي فتًى آخر: «أنت قصير للغاية لدرجة أن رجلَيك لا تَصِلان إلى دوَّاسة البنزين.» قلت: «كلَّا، يُمكنني أن أدفع المقعد إلى الخلف ويُمكنني أن أجلس وأُدير تلك السيارة بحركةٍ سريعة واحدة.» حين كنتُ أصغر سنًّا، كان لديَّ عميل، وكان طوله مترَين وطولي ١٦٠ سنتيمترًا فقط. قال لي: «من الأفضل لك أن تَسحب المقعد إلى الأمام.» بدَوتُ وكأنني أجلس في المقعد الخلفي ولا أكاد ألمَس المكابح. ركنتُ سيارته في المكان الضيِّق المُخصَّص لها. قال لي: «أتودُّ أن تُخبرني أنه مع قِصَر قامتك، استطعتَ أن تقود السيارة وتركنها في ذلك المكان الضيق؟» قلتُ له: «أنا لا أُحرِّك مقعد سيارة أحدٍ مُطلقًا.» قد أسحب جسدي إلى الأمام وأثبت نفسي على عجلة القيادة، ولكنني لا أُخطئ أبدًا في ركن السيارة في المكان المُخصَّص لها. أقوم بتلك الحركة الرشيقة بيدٍ واحدة فقط، لا اثنتَين. ولا أركن سيارة وبابها مفتوح، لا أركن سيارة وبابها مفتوح أبدًا. دائمًا ما أضع جُلَّ تركيزي في السيارة، وأنظر من خلال المرآة الخلفية. ولهذا السبب يُسمُّونني آل الساحر المحبوب، آل صاحب الحركة الرشيقة.12

ثمة فكرة بارزة في هذا المُقتطَف ومُقتطفات كثيرة أخرى مفادها أن النشاط، مهما كان يبدو مُتواضعًا، له أهمية أكبر، نادرًا ما يُعَبِّر عنها أحد عادةً. بدون هذه الفِكرة، يَصعُب إدراك كيف يستطيع أي أحدٍ أن يُكرِّس نفسَه بعزمٍ وطيدٍ لإتقان المهارات الضرورية، ولا كيف يَبذُل نفسه بإخلاصٍ شديد لتطبيق تلك المهارات بدقَّةٍ شديدة وبحُبٍّ كل يوم من أيام العمل لسنوات عديدة.

مع كل المُغالاة بشأن الادِّعاءات الحديثة العهد بأن عالم العمل مُعَرَّض لخطر التفكُّك بسبب التكنولوجيا الحديثة، يظلُّ مكان العمل أهمَّ وسيلة لنشر قِيَم المجتمع بين الأفراد. لمكان العمل نفس أهمية الأسر والمدارس التي يُمارس تأثيرها، رغم كونه تأسيسيًّا، لوقتٍ أقصر بكثير. لا يستطيع مُعظم الأفراد الاستمرار خارج بيئةٍ للعمل؛ فالفنانون المُتوحِّدُون بحقٍّ نادرُون جدًّا. يَعتمد الأفراد، في نجاحهم الاقتصادي، على مهارات زملائهم وقُدرتهم بطرُقٍ سنَستكشِف تداعياتها على بِنية الشركات في فصلٍ لاحق. وهذه الاعتمادية الشديدة تجعلهم بخاصة عُرضةً لوضع احتياجات مكان العمل ومُتطلباته في مكانةٍ مميَّزة في السرد الذي ينشئونه عن حياتهم الخاصة.13
ومع ذلك، يُمكن لنفس المسافة الفاصِلة التي يفرضها إطارٌ سردي — أي بالرجوع خطوةً إلى الوراء بعيدًا عن الانغماس في تفصيل حياتنا العمَلية — أن تخلُق لدى البعض شعورًا مُجهدًا بعدم جدوى المسعى برمَّته. ربما يعود سببُ هذا إلى أن سردياتنا تُثير طموحاتٍ غير واقعية، لذا يَسهُل تثبيط هِمَّتنا بالتدخُّل المُستمر لأشخاصٍ مُتعَبين وصَعْبي المِراس ومُتواضعي الكفاءة في حياتنا. أو ربما تُؤدِّي سرديَّاتنا تلك إلى انقطاع طاقاتنا تمامًا؛ إذ تتقلَّص الاهتمامات، التي تبدو مُلحَّةً جدًّا لنا بسبب مُتطلبات الرؤية الضيقة، لتصير غير ذات أهمية من منظور أكثر موضوعية. يُمكن للتنوُّع، الذي يُمثِّل جزءًا من طنين الحياة العصرية وجزءًا مما يَجعل العمل تحديًا صعبًا،14 أن يظهر على أنه تبديدٌ أهوج. يمكن أن يكون التأثير مأسويًّا أو هزليًّا أو مزيجًا منهما. وها هو اقتباس من رواية جورج بيريك «الحياة: دليل المُستخدِم» يُقدِّم وصفًا للحياة العمَلية لمُنتج تليفزيوني، أحد شخصيات الرواية:
أمضى روشاك حياته المِهَنية بالكامل داخل المباني الإدارية. تحت المُسمَّى الوظيفي المُبهَم «مدير مشروعات» أو «مدير إعادة الهيكلة والمُبادرات المرتبطة بها»، كانت أنشطته الوحيدة تتألَّف من الحضور يوميًّا للاجتماعات والمؤتَمَرات واللجان وورش العمل التحضيرية واجتماعات الجمعية العمومية السنوية وجلسات الاستشارات المُتعدِّدة التخصُّصات والجلسات الافتتاحية واجتماعات فِرَق العمل وغيرها من الاجتماعات المُماثلة التي تُمثل، في هذا المستوى من الهرَم الوظيفي، جوهر حياة هذه المؤسَّسات، بالإضافة إلى المكالَمات الهاتفية والحوارات الجانبية بالأروقة وغداء العمل واستعراض اللقطات المُلتقَطة في اليوم السابق وسفريات العمل خارج البلاد. لا شيء يَعوقُنا عن تخيُّل أنه، خلال أحد هذه الاجتماعات، ربما يكون قد طرح فكرة تنظيم أوبرا فرنسية إنجليزية مُشترَكة أو مسلسَل تاريخي مُستوحًى من كتابات سويتونيوس، إلا أن الأرجح أنه كان يَقضي وقتَه في التحضير أو التعليق على أعداد المشاهِدين، أو انتقاد الميزانيات، أو كتابة تقارير عن مُستويات الحجز لاستديوهات التحرير، أو إملاء المُذكِّرات، أو الركض بين غُرَف الاجتماعات، أو الاهتمام بأن يجعل وجوده ضروريًّا دومًا في مكانَين على الأقل في نفس الوقت؛ بحيث لا يكاد يَجلِس حتى يتلقَّى اتصالًا هاتفيًّا ويتعيَّن عليه المغادَرة على الفور.15

في الثلاثة عقود التالية لصدور رواية بيريك، لم تفعل أجهزة الكمبيوتر والبريد الإلكتروني والهواتف الجوالة شيئًا يُقلِّل من طاقة السخرية الواضحة في وجهة نظرِه.

قواعد السلوك المهني والرؤية الضيقة

مع ذلك؛ فالأمر الأكثر مَدعاةً للقلق أن بعض السرديات عن حياتنا العملية، بعيدًا عن كونها مُقلِقة ومُحبطة لنا، قد لا تُسبِّب لنا القلق بما يَكفي. ربما تُعزِّز رؤيتنا النفقية وتحديدًا حين تكون تداعياتها الأبعد نطاقًا أكثر إزعاجًا. ما السبب في ذلك؟

قد يلعب سردٌ ما دورًا في مَنحِ الفرْد نوعًا من الاتزان وسط المتطلبات المتضارِبة للعالَم المعاصر. ولكن هل ما يخدُم اتزان الفرد يخدُم بالضرورة مصالح العالَم بأسرِه؟ ما لاقَيناه من محدودية الرؤية الضيقة يُعطينا سببًا للتوقُّف لبُرهة. دعونا نبدأ بمثالٍ صارخ؛ ادَّعى تقرير صادر عن منظَّمة العفو الدولية في فبراير ٢٠٠١ أن أكثر من ١٥٠ شركة حول العالم تصنع مُعدَّات الصَّعق بالصدمة الكهربائية، التي يكاد يقتصر استخدامها على غُرَف التعذيب.16 وثمة بعض القيود المفروضة على التجارة في هذه المعدَّات، ولكنَّها ليسَت كثيرة، وصرامة هذه القيود لا تُفيد إلا في تأكيد طبيعة أغلب التطبيقات المُحتملة؛ فعلى سبيل المثال، لا تسمح الحكومة الألمانية باستخدام الأسلحة داخل السجون الألمانية أو بواسطة الشرطة الألمانية مع المُواطنين الألمان؛ ولكنها تَسمح للشركات الألمانية بأن تسُوِّقها وتبيعها لاستخدامها خارج البلاد. والغالبية العُظمى من الشركات المُصنِّعة لهذه المعدات ليسَت منظَّمات إجرامية، وإنما هي شركات عادية ذات مكاتب يَجتمع فيها أشخاص لهم أُسَر ووظائف ويتحدَّثُون ويحتشدُون من وقتٍ لآخَر حول ماكينة القهوة ويتقاسَمُون شعورًا بالسعي الجماعي.
لا شكَّ سيجدُ شخصٌ مثل ستادز تيركل، الذي وصل حاملًا جهاز تسجيل في يده، في هذه الشركات نفس قدْر الدُّعابة والفلسفة وحتى القدرة التأمُّلية لفلسفة الزِّن الموجودة في شركات كثيرة غيرها أجرى مقابلاتٍ مع موظَّفيها. وَثَّق عالِم الأنثروبولوجي هيو جستيرسون الطريقة المُلتوية التي تحوَّلَ بها شباب، غالبًا ما كانوا ليبراليين على الصعيد السياسي، حاملين لدرجات الدكتوراه في الفيزياء إلى مُصمِّمين مُقتنعين ومُحترِفين للأسلحة النووية بمُختبَر لورانس ليفرمور بكاليفورنيا.17 كانت تانيا لورمان (٢٠٠٠) هي من لفتَت انتباهي إلى هذا، وهي في حدِّ ذاتها رواية رائعة عن العواقب المُلتوية — ولكنَّها بعيدة الأثر — لتدريبٍ مِهَني مُعيَّن، تحديدًا، في مجال طبِّ النفس. في الواقع، كان الفصل بين العواطِفِ والسِّمات المغروسة في الأفراد بفعل بيئتهم المباشِرة والعواقب الأبعد أثرًا لأنشطِتهم هو الموضوع الرئيسي لكتابٍ لاحقٍ من تأليف ستادز تيركل بعنوان «الحرب الجيدة». كانت فكرة الكتاب مُستَوحاةً من مفارقة أن الحرب العالَمية الثانية كانت تُمثِّل للكثير من المُحاربين القُدامى أروعَ لحظةٍ في حياتهم، «لحظة تاريخية … حين شعر الرفاق بأنهم أهم؛ بأنهم رجال أفضل ولهم قيمة أكبر مما هم عليه الآن. إنها ذِكرى غالية.»18 ويبدو أن قيمة هذه الذكرى لم تكن تَرتبِط بالهدف الظاهري للحرب (تخليص العالم من النظام النازي) ولم تَنتقِص منها حقيقةُ أن جنودًا كثيرين حتى من جانب الحلفاء تورَّطُوا في فظائع لم يكن لها أي مُبرر عسكري معقول. كانت الحرب نتاجًا لارتباطٍ عاطفي داخِلي، لعلاقة قائمة بين الجنود ووحدات خدمتهم التي حملت تشابُهاتٍ هيكلية قريبة من مجموعات الصيد الخاصة بأجدادِنا الذكور. عادةً ما تكون الجيوش الفعَّالة هي تلك التي تَعرف بالضبط كيفية استغلال هذه التشابهات، كما رأى عالِما الأنثروبولوجيا بيتر ريتشرسون وروبرت بويد.19

إن تقسيم العمل بين الجنود والمواطِنين الآخَرين هو بمثابة تشبيهٍ غير سليم لتقسيم العمل بين الأفراد المدنيِّين داخل المجتمع، ولحُسن الحظ، لا يُمكن لأحدٍ أن يدَّعي بشكلٍ معقول أن الرؤية الضيقة تأخذ عادةً شكلًا مُكثفًا خارج الجيش كما في داخله. فالغالبية الساحقة من الشركات لا تَصنع مُعدَّات تعذيب، ودرجة الانفصال المطلوبة ليَعزلَ المرء نفسه عن تداعيات أفعاله أقلَّ لفتًا للانتباه في غالبية عالم العمل العادي. ولكن لا يزال بوسع المُديرين المُخلِصين في عملهم أن يدفعوا موظفيهم إلى الشعور بالتوتُّر والبؤس في مسعاهم الجليل لإدارة أعمالهم جيدًا؛ ولا يزال بوسع أعضاء النقابات العُمَّالية المُخلِصة أن تُوقِع إضرابًا في مكان العمل من شأنه أن يُؤذي من يودُّون خدمة قضاياهم في المقام الأول؛ ولا يزال بوسع العلماء المُخلِصين ابتكار موادَّ كيميائية تُلوِّث كوكب الأرض، ولا يزال بوسع الناشطين السياسيين المُخلصين أن يُلحقوا الأذى بأشخاصٍ على بُعدِ آلاف الأميال، يَعتقدون أنهم يتصرَّفون نيابةً عنهم. لا يُمكن مُطلقًا تصحيح عواقب تصرُّفاتهم بالاحتكام إلى شرفِهم أو احترافيَّتِهم؛ لأن شرفَهم واحترافيَّتَهم على وجه التحديد هما ما تسبَّب في تلك العواقب من الأساس. بعبارة أخرى، إن تزويد الرؤية الضيِّقة بقوتها المُضادَّة المناسبة هو مهمة السياسة أكثر من كونه مُهمَّة الأخلاق.

تُعدُّ الحرب أيضًا تَذكِرة مُروِّعة بمدى صعوبة التوفيق بين الرُّؤى المتضاربة الناتجة عن الرؤية الضيقة. لا نَملك كتبًا من تأليف ضحايا زينوفون؛ إلا أن الحروب اللاحقة فعلَت ما هو أكثر من تعويض هذا النقص.20 أُمٌّ ترى ابنها عائدًا بعد انتهاء الحرب، التي في خضمِّها لم يكن لديها أدنى فكرة عما إذا كانت ستَراه ثانيةً أو متى ستراه. تُحِسُّ فيه بصدى ابنها الصغير الخائف، التائه في عالَمٍ غريب وعنيف، مُجتازًا أخطارًا ليس بإمكانه تخيُّلها ولا يُمكنها هي سوى تصوُّرها على هيئة خيالاتٍ قاتمة ومُروِّعة. تعرِف أنه قد كَبُر، جسدًا وروحًا، وعزاؤها أنه نجا من هذا الاختبار، بينما لم ينجُ كثير جدًّا من أصدقائه، مما يجعلها مُتردِّدة في التشكيك في شعورها بالنجاة. ما الذي يُمكنها قوله لأُمٍّ أخرى، على بُعدِ آلاف الأميال، دُفنت جثة ابنها في مقبرةٍ مجهولة، منسية بعد أن تعرَّضت للانتهاك والتعذيب على يدِ فَصيلٍ من الجنود الآخِذين في التقدُّم إلى الأمام والذين أسكرتْهم الشهوةُ والخوف؟ ربما يكون الأبناء الحائرون الذين قرَّت أعين أُمَّهاتِهم برؤيتهم في نهاية الحرب هم أنفسهم الوحوش المُغيرة الذين أظلمَتِ الأرض التي مرُّوا فوقها سابقًا. الفارق هنا هو فارق جغرافي وزمني.

ربما تصدمُنا الأدلَّة التي تُوضِّح لنا بجلاء الشراسة المُتأصِّلة في التدريب العسكري، مع أن فظائع الحروب — جميع الحروب — قد أصبحَت الآن مُوثَّقة على نحو جيِّدٍ لدرجة أن لا أحد مِنَّا مِمَّن يُصوِّتون على إرسال الجنود إلى الحرب لديه أي حُجَّة في صالح براءة عواقبها. إلا أننا نتحاشَى بعض الشيء النظر إلى الانعكاسات الأبعد أثرًا للطُّرق التي نعمل ونعيش بها ونصمُّ آذاننا بطريقةٍ ممنهجة عن أصدائها الأكثر إرباكًا. لن يكون بوسعنا أن نخوض في التعقيد المُربك لعالَمنا الاجتماعي لو لم يكن الأمر كذلك؛ لو لم يكن لدَينا قواعدُ للولاء، وللقيام بما يتوقَّعُه الآخرون منَّا، وللامتثال إلى قواعد للسلوك تشي بإحساسنا المُتكامِل بأنفسنا ولكنها القواعد الوحيدة البسيطة بما يَكفي لأن نتواصَل بثقةٍ مع الآخرين. كما أنَّنا بحاجةٍ إلى أن يتبع الآخرون قواعدهم أيضًا؛ فقد نتأذَّى من أولئك الذين يتَّصفُون بالشراسة، ولكن لا يُمكننا أن نثقَ فيمَن لم يكونوا مُستقيمين أبدًا. ومع ذلك، في لحظات تأمُّلنا، علينا أن نفهم العواقب غير المقصودة لرؤيتنا النفقية على العالم بأَسرِه. وهذه هي مهمَّة الجزء الثالث من هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤