صباح الورد

لم يَبقَ من شارع الرضوان القديم إلا موقعه ما بين شارعَي العباسية وبين الجناين، ويحتفظ أيضًا بميل سطحه الطبيعي من مرتفع الشرق إلى منخفض الغرب، غير أن بيوته قد انقلَبتْ عمائر، وتحوَّلَت الحقول والحدائق إلى أرضٍ فضاء تُباع فيها الخردة ومخلفات السيارات. وحَلَّ سكانٌ جدد لا يحصيهم العدد مكان سكانه القدامى الذين تشتَّتوا في الأحياء أو استقروا في جوف الأرض. كان يَستكِنُّ في حضن الهدوء الشامل، محاذيًا في حبور الحقول والحدائق، يثملُ بمناجاةٍ يومية مع أشجار الحِنَّاء والياسمين والتين والخَضْروات، وخرير السواقي، مزهوًّا ببيوته المهندَمة ذات الحدائق الخلفية الصغيرة. في الشتاء تسقفه السحب وتتجهَّمه وجوهها المكفهرة، وحتى إذا أمطَرتْ مطرة واحدة سال سطحه المائل بالمياه الجارية لتتجمع في شارع بين الجناين صانعةً نهرًا منه يفور بالزبَد. وفي الصيف تُلهِبه الشمس فتنطلق من صنابير جدرانه خراطيم المياه ترُشُّ الأرض مهدهدةً حرارتَها الحامية. وينظُر القادم من الحي الشعبي العتيق فيما حوله بدهشة وسرور، ولا يجد في قاموسه وصفًا للشارع والبيوت والناس إلا أنه شارعٌ إفرنجي وبيوتٌ إفرنجية وأناسٌ متفرنجون، لا ينقصه إلا القبَّعة واللغة الأجنبية. ومع ذلك فقد ترى القبَّعة فوق شعرٍ مقصوص ألاجرسون، أو تسمع الفرنسية في حوارٍ عابر، وقد نطق صبيانه بجملة: «أحبك وأعطني قبلة.» بالفرنسية قبل أن يتعلموها في المدارس بسنواتٍ طويلة.

واستقرَّت أسرتي في بيت من البيوت في منتصف الجناح المطل على الحقول، أمي وأبي وأنا، أما الإخوة والأخوات فقد هاجروا هجرةً دائمة إلى بيوت الزوجية. والنقلة من الجمالية إلى العباسية في ذلك الزمان تُعتبَر وثبةً من القرون الوسطى إلى أعتاب العصر الحديث. توارت الحارة والأزقَّة بعبيرها العنبري ومصابيحها الغازية وعرباتها الكارُّو وملاءاتها اللف والجُبب والقفاطين والعمم. وتلقَّانا الرضوان، ملتقى الريف والمدينة، بعصريةٍ مقتحمة مُهديًا إلينا المياه والكهرباء والصرف الصحي، وسرعان ما استبدلتُ بالجلباب البيجاما، والكرة بالسيجة والجري وراء عربة الرش، كما كُتب عليَّ أن أرى السيقان والأعناق لتتفتَّح على إيقاعاتها مراهقتي. كنا أول مَن هاجر مِن الطبقة الوسطى الصغيرة، في إثر أعيان الحارة الذين سبقوا إلى العباسية الشرقية فشيَّدوا القلاع وغَرسوا الحدائق. وكان والداي قد فارقا الشباب بعقد أو عقدَين من السنين، والحق أن فرحتهما بالحياة الجديدة شابها اكتئابٌ وحنين، ولم يستطيعا التحرُّر من هيمنة الحي القديم على قلبَيْهما، من أجل ذلك لم ينقطع أبي عن حيِّه، أُناسه ومقاهيه، وكذلك أمي واظبَت على زيارة الحسين وجيران الزمان الأول، وربما سألتُ أبي في عتاب: لماذا هجرنا بيتنا القديم؟

أما أنا فقد انقسمتُ إلى اثنَين، تكيَّفتُ مع الجديد وأصدقائه ومجالسه وعصريته، وكلما سَنحَت فرصة للرحلة للحي العتيق انتهزتُها حتى جرفتُ معي الأصدقاء الجدد فاكتشفوا على يدي عالمًا غريبًا، عشقوه، وأقبلوا عليه كالسائحين. على أي حالٍ فلن يطول حديثي عن بيتنا أكثر من ذلك، ولي عودة إليه إن شاء الله في حينه. أما الآن، وسأقتنع بأن أكون ترجمان الرضوان فيما لديه من قصص. هو صاحب الحكايات الأول؛ فهو الذي ضم البيوت يمينًا وشمالًا، وعلى سطحه التقى الصبية ليبدءوا عهد صداقةٍ دائمة، وفي أركانه ذهب الأبطال وجاءوا، وفي جنباته تطايَرتِ الأخبار وانتشَرتْ، ولو لم يصدُق من رواياته إلا نصفها لكفى، بالإضافة إلى أن الزمن كان يُنقِّيها من الشوائب ويسندُها بالشواهد، والعبرة في النهاية بما يُقال لا بما حدث، وَرُبَّ كذبة أصدق من حقيقة، فاستمع إلى شارع الرضوان ولا تكن من المتشكِّكين.

آل إسماعيل

يقوم بيتهم في آخر الشارع من ناحية بين الجناين، في الناحية المطلة على الحقول، وهو يماثل أكثر البيوت بهندسته الأنيقة وحديقته الخلفية، ولكنه بحكم موقعه يطل على الحقول وشارع بين الجناين وشارع الرضوان، ويمتاز بدرجةٍ عالية نوعًا بأثاثه واستخدامه لطاهٍ مع الخادمة وهو ما يُعَد من الاستثناء النادر. وتتكوَّن الأسرة من جمال بك إسماعيل — ولا أدري إن كانت رتبته رسميةً أم بالشهرة — الموظَّف بوزارة الأوقاف، وزوجته كريمة هانم وذريته الجميلة مديحة وسامية وعثمان. أُسرة ناجَت وجداننا حتى نفذَت إلى أعماقه. الأب ربعةٌ كبير البطن كث الشارب، مهيب الطلعة، لامع الحذاء والعصا، إذا مَرَّ أوقفنا اللعب وتلقَّينا نظراته الغاضبة في سكون وامتثال. وربما صاح بنا: بدل اللعب والقرف روحوا سقَّفوا عقولكم!

ينطق «سقَّفوا» لا «ثقَّفوا»، فنغرق في الضحك بعد ذهابه ويقول قائلنا: ما هو إلا بغلٌ فخم!

أما كريمة هانم فتسير مختالة بحسنها، متبخترة بلحمها الجسيم كالمحمل، وأما مديحة وسامية فما أجملَ ما يَشِف عنه النقاب من جمالهما الغض، حتى عثمان تميَّز بالجمال ولكن رقَّته الأُنثوية جرَّت عليه التعليقات الساخرة الحادة. وترفَّع عن صداقتنا لفارق عمرٍ بسيط، وكم عبَر بنا دون أن ينظر إلينا. واشتُهرتْ كريمة هانم في أوساط الأُسر بالخفة، وتمتَّعتْ في حياتها بقَدْر لا يستهان به من الحرية، فكانت تصاحب زوجها إلى المسرح والسينما، وتحكي للنساء عن منيرة المهدية ومسرحياتها الغنائية، وطالما قالت عنها والدتي: سيدةٌ طروب ودمها شربات، ولا نهاية لنوادرها المسلية!

وكنا نرى مديحة وسامية كثيرًا لدى عودتهما من مدرسة سان جوزيف بالعباسية الشرقية، كما كنا نعرف أن عثمان يتعلم في مدرسة الفرير. ووُجد في شلَّتنا من ينتقد سلوك الأسرة ومنهجها في الحياة: جمال بك أسدٌ علينا ولكنه نعامة أمام زوجته، فيرافقها إلى السينما والمسرح.

ونختلف على المدارس الإفرنجية التي ألحق بها أبناءه؛ فمنا من رأى في ذلك نقصًا في الوطنية، ومنا من أثنى على التعليم في تلك المدارس، وكنا جميعًا نشعر بدرجاتٍ متفاوتة من الغيرة وننفس عليهم طلاقتهم في التحدث بالفرنسية.

باختصار كانت الأُسرة موضع إعجابنا واستفزازنا؛ لذلك رحَّبْنا بأن نسمع عنها ما يسيء. ولعل صديقنا عبد الخالق كان مصدر الهمس الأول بحكم جوار بيته لبيت آل إسماعيل، قال ونحن مجتمعون عند رأس الشارع حيث ملتقاه بشارع العباسية: مديحة بنت جمال بك إسماعيل هَربَت!

وحدَّقنا به ذاهلين، وفي غاية من الانفعال: غير معقول!

– حصل، هربت مع محامٍ شاب!

حلَّق بنا الخبَر في جوِّ الأساطير وألف ليلة، وواصل عبد الخالق: ولكنه تزوَّج منها!

– ليس خبرًا ولكنه لغز!

– لا أزيد عما سمعتُ حرفًا.

الأُسرة هي هي لم يتغير لها حال، الأب يمضي في مهابته والأُم في دلالها وعثمان في رشاقته وغرابته، ولكن الشارع يتلقَّى التفاصيل والأسرار. قيل إنه تقدَّم لطلب يد البنت كثيرون وإنهم قُوبلوا جميعًا بالرفض، لم يملأ أحد منهم عينَ جمال بك .. هذا فقير، وذاك شهادته دون المستوى، الثالث أهله على غير ما يرام، الرابع أخلاقه كيت وكيت .. حتى يَئسَت الجميلة من ناحية أبيها، فما إن مال قلبها إلى المحامي الشاب حتى اتفقا على الهرب والزواج. لم تُقَم حفلةٌ للخِطبة ولا للدخلة، ولم تُقدَّم شبكة أو هدايا، ولم يُتَّفق على مهر، ولكن الشاب أثَّث شقةً صغيرة وبنى عشه. وبدا أول الأمر أن مديحة قد انفصلَت نهائيًّا عن أسرتها، ولكن القطيعة لم تدُم طويلًا، وتوسَّط أهل الخير فرجعَت الأمور إلى مستقرها، وخفَقَت القلوب بالحب والرضا.

وبعد انقضاء حوالي عام ما ندري إلا وعبد الخالق يقول ضاحكًا: سامية بنت جمال بك هربَت مع ضابط جيش!

وشاركناه الضحك هذه المرة.

– البك الغبي لا يريد أن يتعلم!

– إنه ولا شك مجنون.

وكرَّرتْ حكاية سامية حكاية مديحة. الهرب والزواج وبناء العش والقطيعة، ثم الرجوع إلى المستقر والرضا كأنما كانت الأسرة تخلُق تقاليدَ جديدة للحب والزواج. غير أن شائعةً غريبة تمطَّت في الشارع، دعمها عبد الخالق وعم فرج بياع الدندورمة والحلوى، وصادفَت هوًى شاملًا لتصديقها؛ قيل إن حوادث الهروب لم تقع مصادفة، ولكنها جاءت نتيجة تدبيرٍ حكيم من جمال بك إسماعيل، ليُزوِّج كريمته دون أن ينفق مليمًا، لا عن بخل، ولكن لأنه كان ينفق مرتَّبه كله على رفاهية أسرته والمظاهر الجذَّابة دون أن يعمل حسابًا لغد. لم يستطع أن يدخر نقودًا أو يقتني ملكًا، فدأَب على رفض الخُطَّاب حتى اضطَر مديحة وسامية إلى الهرب وتَمَّ له ما أراد. كلامٌ قيل وصُدِّقَ، ولا يعز على التصديق خبرٌ رديء، ثم إنه لا دخان بلا نار. وعلى أي حال كنا نعيش في جو يقطر كذبًا وادِّعاء؛ كلُّ فرد يروي الأساطير عن أُسرته وتاريخها، كلُّ أسرة يتسلَّل أصلها من منبع عريق كان له شنَّة ورنَّة على عهد محمد علي أو المماليك أو عهد الرسول نفسه. أما أكاذيب النساء فحدِّث عنها ولا حرج، وهي تُقبل دون مناقشة وإن انحشَرتْ في الحلق كالشوكة؛ ولذلك ما إن تنفجر إشاعةٌ مسيئة كإشاعة زواج مديحة وسامية حتى تُقابَل بالتصديق والارتياح الخفي. أما نحن — المراهقين أو شبه المراهقين — فكان الجانب الجنسي هو الذي يثير اهتمامنا. انتهاء الهروب إلى الزواج خيَّب آمالنا وفتَّر خيالنا وشتَّت أحلامنا. وددنا لو تُقلِّد الحياة الفن ولو مرةً وأن نشهد تمثيليةً من تمثيليات يوسف وهبي في شارع الرضوان. ويجري الحوار المحموم بيننا: هل تظن أنه لم يحدث شيءٌ قبل مجيء المأذون؟

– البنت القادرة على الهرب قادرة على كل شيء!

– تخيَّلوا ذلك الجمال النادر عندما تجرَّد من ملابسه.

وماذا نتخيل إن لم نتخيل ذلك؟! لم ينجُ أحدٌ منا من سحر مديحة أو سامية أو كلتَيهما معًا. وكان غيابهما من شارع الرضوان مثل كسوف الشمس أو خسوف القمر، وهيهاتَ أن يُسلِّي عنه الخيال أو قراءة الأشعار الحزينة. لم يَبقَ لنا من آل إسماعيل إلا كريمة هانم، وكان حجمها يخيفنا، وجمال بك الذي يتبادل معنا نفورًا ثابتًا، وأخيرًا عثمان المثير لإعجابنا واستفزازنا وسخريتنا إذا وقفنا اللعب حتى يمُر شكَرَنا قائلًا: مرسي مسيو.

فيُفجِّر بعد ذهابه عاصفة من السخرية، وكان يدعو أصدقاءَ متفرنجين مثله ويجتمع بهم في منظرة البيت. وكان بينهم عازف بيانو يتقن عزف المقطوعات الإفرنجية، فكان يترك في نفوسنا أسوأ الأثر والغضب. أجل كنا نتطلَّع إلى الفرنجة في نواحٍ أخرى فنقرأ الأدب الغربي المترجم، بل حاولنا أن نتعلم الرقص وخاصة الشارلستون والطانجو، أما الموسيقى فلم يكن من الميسور هضمها. وفي رمضان لم يكن عثمان يبالي أن يسير والسيجارة في فمه! وقالت لي أمي: كريمة هانم لا تصوم أيضًا!

– وجمال بك؟

– لا أدري ولكن المعقول أنه يصوم.

وتذكَّرتُ مساحة بطنه التي تشبه خريطة آسيا فلم أُصدِّق أنه يصوم.

المهم أنه في أوائل الثلاثينيَّات — وكنا في ختام المرحلة الثانوية — سافر عثمان في بعثة إلى فرنسا، وبعد أشهر دهمَنا خبرٌ فظيع وهو أنه اضطُر إلى إطلاق الرصاص ليسترد نقوده التي خسرها على مائدة قمار، وأنه أُلقي القبض عليه. لم نستطع أن نتصور تطوُّر تلك الشخصية البالغة الرقَّة والتهذيب من العذوبة اللانهائية إلى الجريمة. وخفَق قلب شارعنا رغم كل شيء، ثم وردت الأخبار بأنه قُضي عليه بالسجن عشر سنوات في جزيرة الشيطان. يا للهول! .. عثمان جمال إسماعيل في جزيرة الشيطان! إنها الجحيم كما رأيناها في فيلم بسينما أوليمبيا، فكيف يتحمَّلها الفتى الهشُّ الرقيق؟ ولم تعُد كريمة هانم تُرى في الطريق. أما جمال بك إسماعيل فقد غامت نظرة عينَيه البراقتَين وثقُلَت خُطاه بالهوان. وقيل إنه استشفع بإسماعيل صدقي رئيس الوزراء، ولكن ماذا تُجدي الشفاعة أمام القانون الفرنسي؟! وسمعت أمي تقول ذات يومٍ بتأثُّرٍ شديد وهي راجعة من زيارة آل إسماعيل: عيني عليكِ يا كريمة هانم .. ذبلَت عيناكِ من البكاء!

ولكن المأساة لم تستمر كالجرح الذي لا بد أن يذبُل فبلغَت ذروتها بوفاة البطل السجين. وغيَّرتِ المأساة من حياة الزوجَين، فكانت الوداع لحياة السرور والضحك. وما ندري يومًا إلا وهما يسافران معًا إلى الحجاز لأداء فريضة الحج. وفي أثناء الحرب العظمى الثانية رأيتُ كريمة هانم في مخبأ الشارع الذي كان يجمع بين أهل الحي كل ليلة. رأيتها في ملابس البيت وقد تخلَّى عنها لحمها ورواؤها، وعَلَتها أمارات الكِبَر .. وعند نهاية الحرب هاجَرتِ الأُسرة إلى مصر الجديدة فلم تقع عيني على أحدهما بعد ذلك حتى اليوم. وتتابعَت الهجرات من شارعنا إلى الأحياء الأرقى، وشُقَّ شارع أحمد سعيد وسط الحقول، فسرعان ما اختفَت الخضرة والأزهار وحلَّت محلها في الأرض الفضاء الخردة ومخلفات الحرب. وفي الخمسينيات — وأنا موظف بالأوقاف — رأيت ذات يومٍ سامية تمضي بصحبة كهلٍ نحو حجرة مدير الأوقاف الأهلية. رأيتُ أمامي صورةً طبق الأصل من كريمة هانم على عهد النضارة والجمال. وقد التقت عينانا في نظرةٍ خاطفة، وأعتقد أن التذكُّر تبادل حوارًا صامتًا بين عينَينا، ولكنه كان كافيًا من ناحيتي لإحياء عِشرةٍ طويلة من الماضي الجميل.

آل مراد

يقوم بيتهم في نهاية الشارع من ناحية بين الجناين في ذيل الجانب الآخر من الشارع، فهو يواجه بيت آل إسماعيل. صديقنا من هذه الأسرة هو آخر عنقودها عبد الخالق، وكان يقيم في البيت مع أخت وأخوَين. أما الشيخ مراد أبوه وكذلك أمه فقد تُوفِّيا منذ سنوات وهو ما زال طفلًا. وبترتيب السن كان محمود هو الأكبر، ورتيبة تليه ثم أحمد، وتفصل سنواتٌ غير قليلة بين أحمد وصديقي عبد الخالق، وكانت رتيبة تقوم في البيت بوظيفة الأم خير قيام. وقال لي عبد الخالق إن أخوَيه موظَّفان وإنهما قررا ألا يتزوَّجا حتى تتزوج أختهم رتيبة. ورغم بساطة الحال والمظهر لم أعرف في حياتي شخصًا فخورًا مثل عبد الخالق. يُحدِّثنا كثيرًا عن أبيه الشيخ مراد وكيف كان من شيوخ الأزهر الخالدين، وأمه سليلة مجدٍ عريق، وأن أباها مذكور في تاريخ الجبرتي، وكان يذكر أخوَيه محمود أفندي وأحمد أفندي باعتبارهما من موظَّفي الدولة المهمين. وعرفتُ الحقيقة بفضل بقية الأصدقاء والزمن والشارع، وعرفتُ أن فخره لم يكن على غير أساسٍ دائمًا. أجل كانت أُسرته الغصن الوحيد العاري في شجرةٍ مُورقة بالمجد والثراء. عمه كان يومًا مفتي الديار المصرية، وما زال وقتذاك عضوًا في هيئة كبار العلماء، إلى مواقفَ مشهودة تُذكر له في ثورة ١٩١٩، وخاله كان في تلك الأيام النائب العام، وما أدراك ما النائب العام؟! وثَمَّةَ خالٌ آخر يُعَد في الصفوة المختارة من تُجار البلد. إذن ففخره لم يكن بلا أساسٍ يعتمد عليه، ولكنه كان يُغالي فيه لدرجةٍ جرَّت عليه بعض السخرية. وكان ينتهز فرصة نشرِ أي نعي خاص بأُسرته لكي يتلُوه علينا بالأسماء المدوِّية المذكورة فيه، ولكننا لم نشهد يومًا أحدًا من أولئك الرجال العظام وهو يزور بيت صديقنا المنعزل في شارع الرضوان. وعرفتُ بعد ذلك حقيقة أخوَيه الموظَّفَين، فإذا بهما من صغار الموظَّفين، محمود أفندي بالابتدائية، وأحمد أفندي بالكفاءة. وكان عبد الخالق ذا وجهٍ مستدير وشعرٍ أسودَ عميق السواد، وأنفٍ أفطس، وعينَين مستديرتَين صغيرتَين، وكان هو ومحمود أفندي ورتيبة ثلاث صورٍ متقاربة لا تمُت للجمال بأي صلة، بخلاف أحمد أفندي الذي انطلق بقامةٍ ممشوقة ولونٍ ضارب للبياض وقسماتٍ متناسقة جذابة. وكان طبيعيًّا أن يؤجل الأَخَوان زواجهما حتى تتزوَّج رتيبة، وحتى ينتهي عبد الخالق من مراحل تعليمه التي تعثَّرت خطاه فيه ولم تُبشر بأي فَلَاحٍ مرموق. كان الفقر يُخيِّم على الأسرة ويطمس معالم مستقبلها، وربما كانت رتيبة مشكلتها الأساسية لفقرها وجهلها وحرمانها القاسي من الجاذبية والجمال. ورغم ذلك فهي لم تستسلم للانزواء والانطواء، وتردَّدتْ على أسر الشارع في زيارات انفرادية — متجنِّبة أيام الزيارات المعروفة — لتتفادى الوجود في مجتمعات السيدات بملابسها البسيطة المتواضعة، ولتلقاهن كذلك في بيتها منفرداتٍ فلا تكلِّفها الزائرة أكثر من فنجان القهوة. وكانت محور الخدمة في بيتها، فلم يشعروا بفقد الأم ولا بافتقاد الزوجة، وراحت تتقدَّم في السن عامًا بعد عام في جوٍّ من الصمت والقلق. لا شك أن أحمد كان أسعد أعضاء الأسرة، يسير بالشارع تيَّاهًا بمنظره فيجذب أنظار البنات والنساء، ويُوزِّع نظراته على النوافذ والشرفات مغلَقة بالحذَر الواجب. جعل من فن الحب مهنته ولم يَخِب مسعاه فحرَّره الحب من البيت الكئيب بما يشبه المعجزة. أحبَّته أرملةٌ غنية تُماثِله في السن وعَرضَت عليه زواجًا يُناسِب حاله؛ أي بدون تكاليفَ تُذكَر. وانزعج أخوه الأكبر محمود، وقال له إنه سيتركه وحيدًا في السفينة الجانحة ولكنه طمأَنه ووعدَه بأنه سيُفيض على أُسرته مما سيُفيض به الله عليه، وتزوَّج من الأرملة، وانتقلَت به إلى المعادي، كأنما لتستأثر به بعيدًا عن أهله. والحق أنه لم يستطع أن يُنجِز وعدًا من وعوده الخلابة، وكاد ينقطع تمامًا عن أُسرته تحاشيًا للمشاحنات ووجع الدماغ. وساءت حال الأسرة أكثر وبلغ اليأس أقصى مداه بمحمود ورتيبة، أما عبد الخالق فنتيجةً لفشله المتكرر في الدراسة التحق بالتجارة المتوسطة بالابتدائية، وانتهى من دراسته المتواضعة قبل أي واحد منا، وبوساطة عمه أو خاله التحق بوظيفةٍ صغيرة بالمعارف. وبحلول الثلاثينيات نبذ محمود أفندي فكرة الزواج تمامًا يأسًا وعجزًا، ومضى ينحدر نحو سن المعاش، ورتيبة جاوزَت الثلاثين بخمس واستسلَمتْ لليأس، وآمن عبد الخالق بأنه يسير في نفس الطريق، ولكن كان ثَمَّةَ مفاجأة في الغيب فقد جاء أولاد الحلال بعريسٍ لرتيبة. في الخمسين من عمره، كان وحيدًا وعلى شيء من الثراء والمرض، ولعله كان في حاجة إلى الخدمة أكثر من أي شيءٍ آخر. هكذا تزوَّجَت رتيبةُ قافزةً فوق اليأس والظنون، واستقرَّت أيضًا في بيتها الجديد، وأنجبَت قبل فوات الفرصة ولدَين أُتيح لي أن أرى الأكبر ضابط شرطة والآخر ضابط جيش، وصادفَتْهما كثيرًا في أطوار من العمر في بيت عبد الخالق فكانا يناديانني بقولهما: «يا خالي.» أُسوةً بخالهما عبد الخالق. والحق أن صداقتنا مع عبد الخالق صمدَت للزمن قويةً رغم اختلاف المشارب والمذاهب، يحفظها الشارع والمقهى والذكريات. واستقبلَنا الحرب العظمى معًا، وجمعنا المخبأ كل ليلة، وطالما ناقشنا التغيُّرات النامية حولنا في الناس والأحوال والأسعار. وكان من السهل ملاحظة الحب الجامح الذي يُكنُّه صديقي لأهله عامة ولابنَي أخته خاصة، شأن الأعزب المحروم من ممارسة العواطف الحميمة، وأيضًا لتطلُّعه الطبيعي الساذج نحو نفوذ الشرطة والجيش يغطي به هوانه كموظَّفٍ صغير ضائع بلا مستقبلٍ يعتدُّ به، ولكن سوء الحظ كان يرصُدُه من حيث لا يدري؛ ففي الفترة الحرجة التي أعقبَت الحرب استولَت مبادئ الإخوان على ضابط الشرطة، وفي خضم الصراع بين الإخوان والسلطة انكشف أمره في مطاردةٍ مثيرة وقُتل برصاص الشرطة! قتل الجنود ضابطهم، ولم أعرف هذه الحقيقة إلا من عبد الخالق نفسه، بخلاف ما نُشر في الجرائد من أنه قُتل برصاص الإخوان في المعركة. وأرسل عبد الخالق لنا كلمةً مكتوبة يُحذِّرنا فيها من شهود سُرادق المأتم خوفًا أن نُجَرَّ بسبب ذلك التحقيق.

وقال لي فيما تلا ذلك من أيام: حتى بيتنا فتَّشوه!

وراح يتمتم بنبرةٍ باكية: إنه حظي الأسود!

لم أعرف بين أصدقائي من كان يقارب عبد الخالق في عمق أحزانه أمام الموت، وكان يفوق في ذلك النساء أنفسهن، كما لم أعرف أحدًا يماثله في شدة تعلُّقه بأسرته. أما خاصيته الأخرى فهي إدمانه لشراء أوراق اليانصيب وبخاصة يانصيب المواساة أو سباق الدربي العالمي. وكانت أسعد أوقاته هي ما تمضي بين شراء الورقة وظهور النتيجة، حينما يستسلم لعذوبة الأحلام، في مباهجها الأساسية؛ الفيلَّا، والسيارة، والمائدة، والعروس. وأحيانًا يقول لي متحسرًا: يا لخسارة النظرات الضائعة في الهواء!

فأسأله عما يعني فيقول: الجميلات في النوافذ!

ويحكي عن بنات العباسية، كيف يطاردهن بنظراته الجائعة، وكيف يستجبن بأدبٍ منتظرات الخطوات التالية التي لا تجيء أبدًا.

– العين بصيرة واليد قصيرة!

فأقول ضاحكًا: ربما يخبِّئ لك الدهر حظًّا كما خبأه لأخيك أحمد!

فيقول محتجًّا: لا تذكِّرني بالوغد!

كان عبد الخالق متدينًا من نوعٍ ما، يحافظ على صلاته وصيامه ويكثر من الدعاء لعل وعسى، ولكنه لا يتردَّد فيَسكَر ليلة الجمعة متجرعًا أرخص أنواع الأنبذة بشارع محمد علي، ثم يذهب مترنحًا إلى درب طياب. ويتغنَّى إذا سَكِر:

الحمد لعلام الغيب،
القادر على أن يملأ جيبي،
وآخذ من الدنيا نَيْبي،
وأتزوج بفرنسية.

وعلى نقيض شلَّتنا لم يعرف الانتماء إلى الحركة الوطنية، وبامتعاض يقول: كلهم مهرجون، ماذا فعلوا للبائسين؟!

وتَحمِل الأصوات على الاستعمار والأجانب، فيقول ساخرًا: السياسيون يقاسمونهم الخيرات، ويضحكون علينا بالخطب!

ولا سبيل إلى تغيير رأيه، ولعله الوحيد — أو أحد اثنَين — في شلَّتنا كلها الذي قبع في قوقعةٍ محكمة من الأمية العقلية، فلم ينظر طَوالَ حياته في كتاب أو مجلة — عدا المقرَّرات المدرسية، ولم يستطع أن يفرق بين العقاد المفكر والعقاد التاجر بالسكة الحديد — واكتشفنا في زمنٍ متأخر نسبيًّا أنه يعتقد أن النيل مرادف للنهر، فيُوجد نيل في إنجلترا ونيل في العراق … إلخ. وكان يغلب عليه الوجوم والكآبة فلا يضحك، ويُغنِّي ويرقص وينبسط إلا إذا سَكِر. وجرى الزمن حتى أقبلنا على الأربعين من عمرنا، وعند ذاك فاجأنا الجيش بانقلابه في يوليو ١٩٥٢. ورحنا نضرب أخماسًا في أسداسٍ كما يقولون، وإذا بعبد الخالق يقول: أي حركةٍ خيرٌ من الكَرب الذي نعانيه.

وسرعان ما تبين له أن ابن أخته الباقي من ضباط الصف الثاني المقرَّبين، وكاد يطير من الفرح، واهتم بالسياسة لأول مرة في حياته، وراح يقول لنا ضاحكًا بغير سكر: إذا لم يُقسَم لنا أن نكون من الأمراء فنحن من النبلاء!

وآمن عبد الخالق بأن ورقة يانصيبه قد ربحَت أخيرًا، وأن الدنيا مقبلة على أجنحة الملائكة، وسأَلتُه: متى تجيء الترقية؟

فقال بحبور: قال لي — ابن أخته — إن الترقية في الوزارة كثيرة الصخب قليلة الثمرة، ولكنه سيبحث لي عن وظيفة في شركة وبمرتبٍ خيالي .. ولم أعُد أرى الضابط الشاب في شارعنا، ربما لانغماسه في واجباته الجديدة، وكان يزور خالُيه أحيانًا مستترًا بالليل فيطمئن عليهما ويعدهما خيرًا ثم يذهب دون أن يدري به أحد. وقد صادفته ذات صباح وأنا ذاهب إلى عملي وكان يغادر دار الإذاعة بشارع الشريفين إلى سيارةٍ عسكرية تنتظره. هممتُ بالسلام ولكنه مضى وكأنما لم يَرَني، اندلَق عليَّ جردل ماء بارد. لا يمكن أن يتجاهلني، إنه في شغل شاغل بأفكاره فلم يَرنِي، ولكن لشد ما تغيَّر في أيامٍ معدودة؛ تلبَّسَته هيئةُ عظمةٍ لا أدري من أين جاءته، ومضى وكأنه صاحب الأرض ومن عليها. وتذكَّرتُ بذهولٍ تواضُعه وبساطته وعذوبته وسذاجته الثقافية. وخطر لي خاطر أن أولئك الضباط في ثورتهم يُمثِّلون مصر المقهورة في معاناة مشاعرها بالنقص، ولكن يُخشى أن ينقلب الأمر في ذواتهم إلى مُركَّب عظمة، ولا يجدوا من يمارسونه عليه إلا المصريين التعساء! المهم أن عبد الخالق كان يعيش في سراب. وبدأَت المأساة بصداعٍ متقطِّع ينتاب الضابط الشاب في رأسه، ثم يشتد ويستفحل، وينجلي الفحص عن اكتشاف ورمٍ بالمخ. وسرعان ما حملَته طائرة إلى إنجلترا لإجراء جراحةٍ عاجلة وخطيرة، وبسرعةٍ غير متوقعة أسلم الشاب الروح. أما الحزن الذي حاق بعبد الخالق فمما لا يُنسَى أبد الدهر، بكى ولطم كالنساء، وأُغمي عليه مرتَين في منظرة بيته ونحن نقدِّم له واجب العزاء. والحق أننا قدَّرنا حزنه وحاله فشاركناه ألمه من صميم قلوبنا. ومضى وقتٌ طويل وهو عائش في مأساته، وكان يقول: أي حظٍّ هذا؟! حدثَت معجزة من أجلي فانظروا كيف انتهت!

ويشرد طويلًا، ثم يواصل: انظروا إلى حظ الآخرين!

وراح يُحصي المحظوظين .. مَن ضمُّوه إلى لجنة جرد القصور الملكية وما أدراك ما الجرد، مَن رُقي في وزارته وفاق نفوذه وكيل الوزارة، ومن … ومن …

– حتى جاء دوري فحصل انقلابٌ للانقلاب!

ونصحناه بأن يستشفع بزملاء ابن أخته من الضباط، ولكن لم يسفر المسعى إلا عن ترقيته إلى الدرجة السابعة. وواصل حياته التعيسة برفقة أخيه الأتعس. ولمَّا مات أخوه في الستينيات باع البيت، وتزوج بنصيبه أرملة في منتصف الخمسين كانت أمًّا لفتاتَين متزوجتَين، وأقام معها في السكاكيني ولم يُنجِب. وهدأَت أعصابه بعض الشيء بتقدُّم العمر وسلَّم بالأمر الواقع، وازداد تدينًا وأملًا في الآخرة، ولم ينقطع عن المقهى وأصدقائه قَط. وفي الثمانينيات تُوفِّي بفشلٍ كلوي وهو ابن سبعين بعد حياةٍ مفعَمة باللهفة والحسرة والإحباط، طاوية ذكرياتها الجميلة في ماضٍ بعيد لم يكَد يبقَى من معالمه شيء.

آل القربي

تقوم سراي آل القربي فيما يلي بيت آل مراد، سراي كبيرةٌ مترامية، ينطلق النخيل متجاوزًا أسوارها العالية، وتشغل مساحةً واسعة بطول شارعنا، وفي العمق المفضي إلى شارع أبو خودة. تلوذ بعزلةٍ صارمة عما حولها، وتغوص في غموضٍ شامل كأنها تاريخٌ قديم بلا وثائق؛ فلا أحد يعرف شيئًا عن الأصل أو الأقارب، وأهل السراي لا يَزُورون ولا يُزَارون بخلاف أغلبية السكان الملتحمة بالجيرة والتزاور والمودة. ولم نَرَ من أهلها سوى ربها إحسان بك القربي وابنه الصبي عمرو. كما كنا نرى البواب والحوذي والطاهي ومديرة السراي أمام الباب في العصاري. وكان البك يغادر السراي مرةً واحدة يوميًّا عند الأصيل، على قدمَيه غالبًا، وفي الحنطور نادرًا، ثم يَعبُر شارع العباسية متجهًا نحو الشرق لقضاء سهرة في أحد القصور. كان بدينًا مع ميل إلى القِصَر، ضخم الخلفية مثل امرأة، طويل الطربوش، ريَّان الوجه، ثقيل الملامح، يرى العالم من خلال نظارةٍ كحلية اللون ويقبض على مِذبَّةٍ عاجية. كان بطيء الحركة، بارد النظرة، كأنه ناهض من نوم أو ماضٍ إلى نوم، ويمضي غير منتبه لما حوله. وكان عمرو من سنِّنا، ولكنه لم يشجِّع أحدًا على التعرُّف به ولم يسعَ إلى التعرُّف بأحد، وكان يظهر أمام الباب قليلًا، وأغلب فراغه يقضيه في الحديقة، وكان صورةً مصغَّرة من أبيه لولا جحوظ في عينَيه. وكنا نُفضِّل جمال بك إسماعيل على إحسان بك رغم تأديبه المتلاحق لنا؛ فهو مثير وباعث على الضحك، ولا وجه للمقارنة بينه وبين هذه الكتلة اللحمية الباردة الصامتة، فضلًا عن المكانة المرموقة التي استحقها جمال بك لإنجابه مديحة وسامية. ورغم ذلك فقد رسمنا للأُسرة صورة، أمدَّنا الخيال ببعض خطوطها وعم فرج بالبعض الآخر. قال صديقنا عبد الخالق: اسم القربي فيه الكفاية، هو نسبة إلى الِقرْبة؛ فجدهم كان — ولا شك — سقَّاء، وبَشْرتُهم كما تَرَونَ لا تشي بأصلٍ شركسي أو تركي أو حتى شامي!

أما عم فرج بياع الدندورمة والحلوى فقد اقتحم بحديثه أسوار السراي إلى الداخل، وقال: ليس في السراي امرأةٌ سوى نفوسة كبيرة الخدم.

وأكَّد لنا أن الهانم تُوفِّيتْ عقب ميلاد عمرو، وقبله بسنواتٍ عديدة أنجبَت موسى بك الذي يعمل اليوم في السلك السياسي. وتناسينا آل القربي بلا اكتراث حتى شدُّوا انتباهنا في الثلاثينيات بواقعةٍ استفزازية خلقَت لهم في القلوب كراهيةً ثابتة؛ فقد دعا البك إسماعيل باشا صدقي رئيس الوزراء في الثلاثينيات إلى مأدُبة عَشاء في سراياه. كان الباشا في ذلك الوقت دكتاتور مصر ومعذِّبها وأبغضَ خلقِ الله إلى قلبها. ومنذ عصر ذلك اليوم انتشر المخبرون في الشارع والحي كله، وصادَروا أي تجمهر لأبناء الحي حتى اضطُررتُ لمشاهدةِ ما يجري من نافذة بيتنا. وجاءت قوة من الشرطة واتخذَت مواقعها في الشارع بكامل أسلحتها. ومضى المدعوون يحضُرون في سياراتهم ويدخلون السراي تباعًا. وأخيرًا جاءت سيارة رئيس الوزراء، ووقف المدعوون وعلى رأسهم إحسان بك القربي لاستقبال الرجل، ولمحتُه وهو يغادر السيارة إلى السراي. وامتدت السهرة حتى نهاية الثلث الأول من الليل، ثم غادر الجمع السراي في مظاهرة من السيارات بين صفَّين من الجنود المسلَّحين. وانتشر الخبر في الحي كله كالنار المندلعة، وجرى اسم القربي على الألسنة مصحوبًا باللعنات.

وتراجع البك إلى جُحر عزلته وغموضه حتى شد انتباهنا مرةً أخرى في تاريخ لاحق لم أعُد قادرًا على تحديده. ما ندري ذات نهارٍ إلا ونفوسة كبيرة الخدم تُغادر السراي مُلْتفة في ملاءتها اللف وهي تسبُّ وتلعن قلة الحياء، ماذا حدث يا تُرى؟ ومن يكون قليل الحياء؟

وعلَّق أحدنا قائلًا: المرأة ليست شابة ولكنْ بها رمق ولا شك!

ورجعَت المرأة بعد حين بصحبة شرطي فدخلا السراي معًا، وبلغَت بنا الأشواق منتهاها، واستخفَّنا السرور، وإذا بركبٍ يخرج مُكوَّنٍ من المرأة والشرطي وإحسان بك القربي، فيتحرك نحو قسم الوايلي.

– يا ألطاف الله! .. البك نفسه؟!

– لِم لا؟

– وما دخل الشرطة؟

– طمعَت المرأة في قرشَين!

ولم نعرف مزيدًا من الحقيقة حتى تكلَّم عم فرج. والله وحده هو المطلع؛ فلم أدرِ حتى اليوم أين يقف الخيال، وأين تبدأ الحقيقة. قال عم فرج إن البك فاجأ المرأة برغباتٍ شاذة فغضبَت لكرامتها وأبت إلا أن تَشكُوَه في القسم. وقال الرجل: تحوَّلتِ المسألة إلى قضية، وربنا يستر!

أشعلَت القضية اهتمامنا، وأثارت خيالنا، وحرَّكتْ مكامن الجنس في نفوسنا. وزاد عم فرج فقال إن العلاقة ساءت قديمًا بين البك والمرحومة زوجه لميوله الشاذة. ورأينا الرجل يرجع إلى أسلوب حياته اليومي؛ يذهب ويجيء دون مبالاة وكأن شيئًا لم يكن. ماذا حدث؟ هل ينتظر محاكمة؟ .. هل عجزَت المرأة عن إثبات التهمة؟ .. هل تم اتفاقٌ من نوعٍ ما؟ .. هل تدخلَت جهاتٌ عليا لصالح البك؟ .. أفلتَت الحقيقة منا تمامًا، وعادت الحياة إلى روتينها المألوف، وحلَّت خادمٌ جديدة محل القديمة. وأتم عمرو تعليمه معنا على وجه التقريب في تاريخٍ واحد، وأُلحِق كأخيه بالسلك السياسي. وبعد قيام الحرب العظمى بقليلٍ غادر البك الحي إلى مكانٍ آخر، فلم أسمع عنه أو عن ابنَيه أي خبر، ولَبثَت السراي مغلقة حتى بيعت قبيل الخمسينيات، وشُيِّدَت مكانها أربع عمارات.

آل الجمحي

بيتهم يقع مباشرة لصق آل إسماعيل، وهو بيتٌ عامر بالسكان .. عبد الرحيم بك رب الأُسرة، وحسين ابنه وصديقنا، وزوجة وبنات لم يرَهُن أحد ولم يعرف عَددَهن أحد من شدة غِلَظ السياج المضروب حولهن. وعبد الرحيم بك الجمحي من عرب الفيوم وأعيانها، ولسببٍ ما عهد بأرضه إلى إخوته وهاجر إلى القاهرة، فشيَّد بيته في شارع الرضوان واستقَر. لم يُر وجهٌ من حريمه في نافذة أو باب، ولا وجد حاجة لعرض بناته على الأُسر؛ إذ كن مخطوبات منذ المهد لأبناء عمومتهن، ولم يسمح لزوجه بزيارة أُسرة من الأُسر إلا بعد التأكُّد من بُعدها عن «الفرنجة»، فكان من حظي أن أرى زوجته وأنا في صباي الأول، وأتملَّى لَونَها الأبيض وقسماتها الجذَّابة ولهجتها العربية الريفية الممتعة، أما في المجيء والذهاب فكانت تتسربل بالسواد كأنها جوالُ فحم. وكان للرجل هيبةٌ وعنجهية وصرامة وقوةٌ عَمِل لها كل إنسانٍ ألف حساب وحساب. كان قوي الجسم كمصارعٍ محترف، غزير الشارب، غليظ القسمات، وبه حوَلٌ شديد، منفِّر الصورة، يقبض في سَيْره على عصًا غليظة أطول منه، ويضرب الأرض بقدمٍ ثقيلة وهو يندفع بعباءته وعمامته. وذاع — ولا أدري كيف — أن الرجل قاتلٌ له أكثر من ضحية في بلده. وخطر لنا ذات يوم أن نسأل حسين عن صحةِ ما يُقال، فقال بأُبَّهة: قتل أبي أربعين رجلًا!

فرأيتُ فيه رمز الموت وشبَحه وخفتَّه بقَدْر ما كرهتُه، وآمنتُ بأن العدل لن يتحقق على الأرض حتى يقتل هذا الرجل.

وعلى أثر انصرافه من زيارة لأبي قلت لأبي: يقولون إنه قاتل.

فقال ببساطة: ولماذا نصدِّق ما يُقال؟ .. الحق أنه شهم وجارٌ أمين.

ونشأ حسين مثل أبيه في القوة والشراسة والصورة. إذا غضب ضرب، ولا يجرؤ أحد على مواجهته، ولكنه في حال الرضا كان مثال الكرم والمودة، وطالما دعانا للغداء وأتحفنا بالهدايا من الحلوى والفاكهة.

ورغم ثرائه كان تلميذًا ناجحًا، ويُحب المطالعة والمناقشة غير أنه بدا من أول الأمر فخورًا بالعرب والعروبة، معتزًّا بالطبقة؛ ولذلك احترم الملك وعدلي، ولم يُخفِ استهانته بسعد زغلول. نظرته إلى الأمور من فوق إلى تحت، وهو لا يُداريها أو يُخفيها، يثير عاصفة من المناقشات، ولكننا أخذناه على علَّاته، بل آمنا بضرورة وجوده كممثِّل لمعارضةٍ لا بد منها لتجديد حوارنا وإنعاشه. ولم نختلف معه في السياسة وحدها، ولكن أيضًا حول المرأة والحضارة الغربية والأفكار الجديدة، ولعله كان الوحيد في شلَّتنا الذي يُفضِّل الرافعي على العقاد، ولكنه اختلف أيضًا مع عبد الخالق على ماشست وفانتوم، فأسفر ذلك الاختلاف عن شراسته. كان ماشست وفانتوم من أبطال الأفلام الذين يأسروننا بقوَّتهم وشجاعتهم. وفاز كلٌّ منهما بفريقٍ من المتحمسين، فكان حسين مع ماشست وعبد الخالق مع فانتوم، واشتد النقاش بينهما عن ذلك حتى غضب حسين الجمحي، وإذا به يقبض على عنق عبد الخالق، ويقول: لو قبض ماشست على عنق فانتوم هكذا، فماذا يستطيع فانتوم أن يفعل؟

وضغط على عنق عبد الخالق بحنقٍ حتى احتُقن وجهه بالدم وانحبس صوته، وخلَّصنا بينهما وعبد الخالق يلهث. وقاطع حسين فترةً طويلة حتى صالحه بدعوةٍ خاصة إلى الغداء. وكان بيت عبد الرحيم بك يواجه سراي آل القربي مباشرة، ولكن لم يحدُث أن تبادلا التحية قط. كان إحسان بك يسير كالنائم غائبًا عما حولَه فيستفز عبد الرحيم بك بتجاهُله غير المقصود. ودأب عبد الرحيم بك، كلما مَرَّ به الآخر، أن يبصُق بصوتٍ مسموع إعرابًا عن ازدرائه واستيائه، فيمضي الآخر في طريقه دون أدنى التفات. وتوقَّعنا أن تحدُث أمورٌ أخطر من ذلك، ولكن الله سلم. واعتاد عبد الرحيم بك عند زواج أي بنتٍ من بناته أن يقيم حفلَين .. الأول في شارعنا عند كَتْب الكتاب، والآخر في الفيوم ليلة الدخلة. وكان الشارع كله تقريبًا — طبعًا لا محل لذكر القربي هنا — يُدعى للحفل. وأردنا أن نسمع العالمة — ونرى الحريم — معتمدين على حداثة سننا، ولكن البك الجبَّار انتبه لتحرُّكنا، واعترَضَنا غاضبًا، وصاح بنا: يا شياطين، مكانكم في السرادق وإلا حطَّمتُ رءوسكم!

فهربنا كالفئران، وصورته المُتوحِّشة تُطارِدنا، وحكَيتُ الحكاية لأبي في اليوم التالي، فقال ضاحكًا: إنه يعتبركم رجالًا، وما أهمية العالمة ولديكم صالح عبد الحي في السرادق؟!

وظلَّت الأُسرة محافظةً على تقاليدها حتى اضطَرَّتها الحرب العظمى إلى اللجوء إلى المخبأ مثل الآخرين. في ذلك الوقت كانت البنات قد تزوَّجن، وكان حسين قد أتم دراسته الزراعية وسافر في بعثة إلى أمريكا، ولم يَبقَ في البيت إلا عبد الرحيم بك وحرمه. اضطُر الرجل أن يجيء بها معه إلى المخبأ الذي يتساوى تحت سقفه عم فرج مع القربي بك. وكانت حرم الجمحي تجيء مُتلفِّعة بعباءةٍ ولا يظهر من معالمها شيء. واشتدَّت الغارة ذات ليلةٍ مشهورة، فتناثَرتِ الأعصاب وصوَّتَت النساء. وفقد عبد الرحيم بك أعصابه كذلك، واندفع يضرب سقف المخبأ بعصاه في حالةٍ هستيرية، وصرخ في النساء بلا وعي: هُس .. ستُحطِّم عصاي رأس من أسمع صوتها!

ولم يعُد يُسمَع إلا أصوات المتفجرات ودوي القنابل المضادة، ولم يفكِّر أحد في مؤاخذته أو معاتبته في تلك الليلة الليلاء.

ورجع حسين دكتورًا في أوائل الحرب، وشغل وظيفة في وزارة الزراعة، وعاد إلى عهده القديم في صداقتنا وإن لم تغيِّر الرحلة من موقفه في الحياة بصفةٍ عامة، ظل على محافظته في كل شيء عدا ميلٍ جديد نحو الحضارة الحديثة في مظاهرها المادية المتقدمة. وعند ذلك انتهت حياة أبيه نهايةً غير متوقَّعة، أو غير متوقَّعة بالنسبة لنا. كان في زيارة للفيوم، وعَلِمنا عن طريق الرواة أنه زار جزارًا من معارفه وجلسا سويًّا أمام الدكان قبيل المغرب، وكان الدكان في ميدان تتفرع منه شوارع، فلمَّا آذنَت الشمس بالمغيب وخلا الميدان من السابلة، انهال الرصاص فجأة ومن نواحٍ متعددة وبكثرة على الرجل. وفي ثوانٍ انتهى كل شيء؛ سقط عبد الرحيم بك قتيلًا مُضرَّجًا بدمه واختفى الفاعلون. وكان للجريمة ردَّةُ فعلٍ عنيفة في الأنفس بالنظر إلى مكانة الرجل وجبروته. وبدأ التحقيق مع الجزَّار ومع رجلَين تصادَف قربهما من موضع الحادثة، ولكن اتفقَت الأقوال على أن الأمر وقع بسرعةٍ مذهلة وأنهم لم يَرَوا أحدًا على الإطلاق. لم يسفر التحقيق عن شيء، وقيل — والله أعلم — إن الشهادة اتفقَت على قولٍ واحد رغبة في الانتقام من سفَّاحٍ خطير أفلت من قبضة العدالة بلا وجه حق، بل قيل أكثر من ذلك إن الشرطة تهاونَت في البحث، وكذلك النيابة لأن قلوبها كانت مع القتَلَة تلك المرة لا مع القانون!

وربما كان ما سمعنا مجرد أسطورة ابتُدعَت، فإن صح ذلك فلا شك أن بعض الأساطير تتفوَّق على الوقائع بصدقها وجمالها، وحَزِن حسين على أبيه حزنًا كبيرًا، وجعل يقول لنا: أودُّ أن أنتقم لأبي، ولكن ممن؟

ويتنهَّد بغيظٍ دفين. ولمَّا قامت ثورة يوليو تقوَّض بنيان عالمه كله، وأصبح بين يوم وليلة غريبًا في دنياه .. وبدا أحرصَ مما كنتُ أتصوَّر، فعرف منذ اللحظة الأولى كيف يضبط لسانه ويسيطر على انفعالاته، وتزوَّج من ابنة عمٍّ له، ومضى يبيع أرضه أو ما تبقَّى منها. وأقام في بيت العباسية وارتضى مستوى من المعيشة دون إمكانياته بكثير. وأقلع عن حديث السياسة حتى مع أخصِّ خواصه، أصبح شخصًا جديدًا لا يهمُّه من الدنيا إلا شئون أُسرته ووظيفته. لبث كذلك دهرًا حتى دهمَتْنا الهزيمة في ٥ يونيو فتعذَّر عليه أحيانًا أن يكتُم فرحه، وربما مال على محدِّثه، وهمَس: هل سمعتَ آخر نكتة؟!

ويَرْوي النكتة بعد النكتة، غير أنه لم يُسفِر عن وجهه الحقيقي إلا بعد وفاة عبد الناصر، أو على وجه التحديد، بعد السماح بنقد عهده. هناك لمستُ مدى الحقد الذي تنطوي عليه جوانحه نحو الرجل وثورته. وما كان يمكن أن يزيد حقده لو أنه تعرَّض لما تعرَّض له غيره من الاعتقال أو الحراسة أو المصادرة؛ ذلك أن الحقد لم يترك في جوفه زيادةً لمستزيد. ولا تتصور طربه عندما انتشَرتْ إشاعةٌ — لعلها لم تقُم على أساس — بأن مياه المجاري تسرَّبتْ إلى قبر الزعيم. كان يرقص طربًا، واقترح أن يعِّلقوا الجثة على باب زويلة حتى تجف! ورغم ثقافته وتعلُّمه في الداخل والخارج فإنه لم يَرَ في ثورة يوليو إلا أنها انقلابٌ دبَّرتْه عصابة من اللصوص لنهب البلد باسم الوطنية ثم تركتها خرابًا شاملًا، وتغير حاله في عهد السادات، وازدهر وتألَّق في الانفتاح، فاستقال من وظيفته واشتغل بالاستيراد وغيره، وأَثْرى ثراءً فاحشًا، وشيَّد لأسرته قصرًا في مصر الجديدة وعاش عيشة الملوك. وفي العهد الثالث للثورة — عقب اغتيال السادات — تكشَّفَت له حقائق الأمور كما لم تتكشَّف من قبلُ، ولم يتبع الإصلاح الجديد بالتفاؤل الجدير به، وكان آخر ما سمعتُ من قوله: أشك جدًّا في أنه يمكن إنقاذ السفينة من الغرق، وسوف يستوي من عنده مال ومَن لا مال له؛ ولذلك فإني أفكِّر في هجرة بلا رجعة، وهي نهايةٌ منطقية لحركة عبد الناصر!

آل مكي

وهذا بيت صابر مكي التالي لآل الجمحي مباشرة. مطربٌ غير مجهول الاسم، ويقيم في البيت هو وزوجته وابنه يسري وابنته وداد. وداد تُماثِلني في السن، أما يسري ففي المرحلة الثانوية. وكانت أم وداد وبنتها يزوراننا كثيرًا، فعرفتُهما معرفةً جيدة. وبقي في ذاكرتي من تلك الأيام جمال البنت وضَعْف الأم وشكواها المتكرِّرة من قلة الرزق وسلوك صابر. كانت تقول: كلَّما رزَقَه ربنا بقرشَين أنفقها على أصحابه، يُولِم الوليمة ويدعو إليها كلَّ من هَبَّ ودَبَّ، ثم نعيش بعد ذلك على باب الله!

وكان في وجهها جاذبية، ولكن يطغى عليه الشحوب والضعف. وفي ليالي الصيف كان صابر مكي يقوم بتدريباته الغنائية في الحديقة الصغيرة الخلفية، فتترامى إلينا الأنغام مخترقة فضاء الحقول. كان صوتًا حسنًا ولكن صوت وداد كان أحسن. كنا ندعوها للغناء فتُغنِّي:

ارْخي السِّتارة اللي في ريحنا،
لَحْسَن جيرانا تجرحنا،
يا مبسوطين بالقَوي يا احْنا.

وتقول لها أمي في انشراح: بنت الوز عوَّامة!

والأم فخورة بابنتها، وتقول حالمة: ستكون مطربة وربنا يعوض صبري خيرًا.

أما الابن يسري فولدٌ ذكي وهو يحلُم بأن يكون طبيبًا. ونراه كثيرًا في الشارع ولكنه يترفَّع عن صحبتنا لانتسابه لجيلٍ آخر، وكان صديقًا لأحمد أفندي مراد شقيق صديقنا عبد الخالق. وأيضًا كان يزورنا صابر مكي ويُجالِس أبي طويلًا في حديقتنا الصغيرة، وسمِعتُه مرةً يقول لأبي: صالح عبد الحي رجلٌ غريب الشأن، لماذا يُلقِّب نفسه بعبد الحي؟! دجال يتمحَّك باسم خاله عبد الحي حلمي ويتبرَّأ من أبيه، وبهذا الدجل تَفوَّق علينا في الطرب دون جدارةٍ ذاتية!

ولم يكُفَّ عن الحنق على صالح، ونفَس عليه نجاحَه المبكِّر المُكتسِح، ومرةً أخرى قال: جميع الأمور منحرفة في بلادنا حتى الطرب، وها هو الشيخ علي محمود يُحب صوتي حُب خبير، ولكننا لا نحصل على اللقمة إلا بطلوع الروح!

– فيقول له أبي: صوتك مليح، والأرزاق بيد الله. لكنَّك تدخِّن كثيرًا يا صابر أفندي.

فيَرُد باستهانة: ولا يهمك!

وقد سجَّل عددًا من الأسطوانات، وأحيا بعض الأفراح، ولكنه لم يذُق طعم الثراء الذي يحلُم به، ثم هبَّت عليه رياح الأحزان فضاعفَت من تعاسته، بدأَت بوفاة زوجته في ولادةٍ عسيرة. ولعلها كانت أول جنازةٍ أشهدها في الشارع الجديد .. ولمَّا رأيتُ الأستاذ صابر وابنه يسري يبكيان بكيتُ، وخيَّمَت على خيالي صورتها وهي تتحدَّث أو تضحك، فتطلَّعتُ إلى نعشها متمنيًا الاطِّلاع على ما آل إليه حالها. وآلمَني صُراخُ وداد فكرهتُ من أجلها الدنيا. ورأيتُ جميع رجال الشارع في الجنازة عدا إحسان بك القربي، وكثيرين من رجال الفن. وفي الأيام المتعاقبة جعلتُ أرقُب صابر ويسري باهتمام، وكلما لمحتُ ابتسامة في وجهَيْهما قلتُ لنفسي باستغراب: ها هم ينسَوْن. ولم تكن وفاة الزوجة خاتمة الأحزان كما تمنَّى المشيِّعون وهم يقدِّمون العزاء لصابر؛ ففي الثلاثينيات تعرَّض يسري — كطالب في كلية الطب — لهجمةٍ شرسة من الشرطة ضمن مظاهرةٍ كبيرة، ونُقل إلى مستشفى قصر العيني مصابًا برصاصة في بطنه، وسرعان ما أسلم الروح. وقصم استشهاده ظهر صابر، ويوم خرجَت جنازته ودَّعَته شرفات البيوت بالصُّوات والعويل، وتضاعَف السخط على آل القربي لوقوع الوفاة بعد إقامة الوليمة للباشا بأسابيع قلائل. لم يَبقَ لصابر إلا وداد، وراحت مع الأيام تنضج وتحلو ويَعذُب صوتها، فتهفو لها القلوبُ والأبصارُ والأسماع. وعلى عهد الإذاعات الأهلية فاجأَتنا بإذاعةِ أغنيةٍ من أغاني سيد درويش في راديو سابو. طربتُ وفرحتُ كأنما أنا الذي نجحتُ. وقلنا إنه نجاحٌ يجيء في وقته تمامًا؛ إذ كان صابر يمضي من سيئٍ إلى أسوأ في الصحة والعمل. وقرَّرا هجر الشارع فما ندري يومًا إلا والعَربة تحمل أثاث البيت البسيط وتذهب إلى المجهول.

كان يومًا من الأيام الكئيبة في العمر وخُيِّل إليَّ أن شارعنا فقد ابتسامةً مشرقة لا تُعوَّض وذكرياتٍ لا تُنسى. واعتزل صابر الطرب حتى إننا لم نعلم بوفاته في حينها، ولكن وداد لم تغب عنا بروحها وإن غابت تمامًا بجسمها. مضت تشُق طريقها كمطربةٍ ناشئة في الراديو وعالم الأسطوانات. وكان المعجبون بها يزدادون يومًا بعد يوم. وكنتُ أتساءل: تُرى أين تعيش؟ وكيف تتعامل مع وحدتها؟ وهل نَسِيَت أحزانها؟ وكيف استوى جمالها الباهر؟ .. حتى رأيتُ صورتها في إعلان عن فيلمٍ قادم تتقاسم بطولته مع محمد عبد المطلب. قلت من أعماق قلبي: ها هي لؤلؤة شارع الرضوان تتألَّق وتندفع في دنيا النجاح ذات السناء والسنا. وذكَرتُ بأسًى المرحوم صابر المكي في أحزانه وسوء حظه وعسر رزقه. وذكَرتُ قوله لأبي مرة: هذه البنت ستخلُف أم كلثوم على عرش الغناء!

وتمادت قرينة صباي في النجاح حتى اعتلَت قمةً شعبية لا تُرام بين جماهير الحرب العظمى الثانية، وفرحَت أمي لها كثيرًا وأنشأت تقول: ألف رحمة ونور عليكِ يا أم وداد.

ولكن البنت الحلوة نَسِيَت الشارع الذي وُلِدَت فيه والجيران الذين كانوا أوَّل جمهورها.

وفي الخمسينيات وأنا في زيارة لاستديو مصر كانت وداد تعمل في تصوير منظرٍ خارجي بفِناء الاستديو. كان الوقت ليلًا والمصابيح تصُب أنوارها على المنظر، ووداد تقف في ثوبِ عُرس، لتُمثِّل الهروب من زفافٍ فُرض عليها دون إرادتها. رأيتها في ثوب العرس كالفلَّة المتفتِّحة تشعُّ ضياءً وجمالًا، الأرض والناس والعمال مأخوذون بنجوميتها المبهرة. ولمَّا انتهَوا من تصوير اللقطة وراحوا يُعِدُّون الكاميرا للَقطةٍ جديدة تراجعَت وداد إلى الوراء قليلًا بصحبة المخرج وآخرين. أمست على مبعدةٍ يسيرة من موقفي، ولكنني لم أتحرَّك ولم أفكِّر في التحرُّك ولم أتصوَّر أن تتذكَّرني أبدًا. وفي لفتةٍ تلقائية تلاقت عينانا. وعبَرتْني كأنها لم تَرَني ولكنها رجعَت إليَّ مُركِّزة البصر. ولعلي في اضطرابي ابتسَمتُ، وإذ بها تمرقُ من بين الجماعة منطلقةً نحوي هاتفة فيَّ بساطة: أنتَ .. حقًّا الدنيا حلقة .. كيف حال تيزة؟!

تصافحنا بحرارة، واندفعَت تسأل عن المعارف والجيران، وأُجيب بما أعلم؛ فهؤلاء انتقلوا إلى مصر الجديدة، وهذه تزوَّجَت، وفلان البقية في حياتك وهكذا، وقالت: حرَّكتَ ذكرياتي، الله يسامحك، يجب أن تزورني، وعند أول فرصة سأزور شارعنا القديم.

لم يحدُث شيء من ذلك، لا زُرتُها ولا زارتنا. كانت دفعةَ هواءٍ مترعة بالطيب، ولكنها لم تهُبَّ إلا مرةً واحدة، ولكنها بفنِّها كانت تُعايشنا الأيام والليالي، ويدور الزمن دورةً أخرى، ويجيء الخريف بعد الربيع والصيف، وتتكرَّر المأساة التي يظُن صاحبُها أنه أوَّل من يعانيها، وقد امتد بها العمر حتى الثمانينيات، وحَظِيَت بصحةٍ حسنة ومالٍ وفير ولكن لا حيلة مع الشيخوخة وتنكُّر وغَوْل النسيان.

آل قيسون

ولصق سراي القربي يقوم بيتٌ صغير لموظف في شركة المياه يُدعى حسن قيسون. كان نساء الشارع يطلقن عليه — لرثاثة منظره — زبال أفندي. وسمعتُ مرةً كريمة هانم — حرم جمال بك إسماعيل — تقول عنه ضاحكةً إنه شحَّاذٌ إفرنجي. بدلةٌ عتيقة مهَلهَلة، حذاءٌ غليظ كأحذية الجنود، وطربوشٌ متهدل حائل اللون، ونظرةٌ ثقيلة زاهدة، وقسماتٌ متنافرة. أرمل تخدمه قريبةٌ طاعنة في السن، ولكنه أنجب ولدَين عزت ورأفت يماثلاننا في السن ويكبراننا بالعقل. وليست رثاثتُه عن فقر ولكنها وليدة انضباطٍ شديد وحرصٍ أشد، غير أنه لم يضِنَّ على ابنَيه بما يُضْفي عليهما المظهر اللائق. لا يزور ولا يُزار ولا يُرحِّب بتوثيق العلاقات الاجتماعية، ولكنه لا يتأخر عن أداء واجب، فيشيِّع الجنازة ويعود المريض ويترك بطاقته لدى التهنئة. عزت ورأفت كانا نجمَين متألقَين في شارعنا، في غاية من التفوُّق الدراسي، وقمة من البراعة الرياضية، ومكانةٍ فريدة في الاطلاع والثقافة، وإلى ذلك كان عزت عازف ناي ممتازًا. ومن عجب — ورغم تقارُبِ السن — كانا يلعبان في حياتنا دور المرشد والمربي والحامي. وعزت بالذات مُغرَم بتقليد «شجيع» السينما في أفلام رعاة البقر في شجاعته وشهامته، فإذا تحرَّش بنا حرافيش الوايلي انبرى لهم وانهال عليهم باللكَمات حتى يُطلِقوا سيقانهم للريح. وكانت طبقية حسين الجمحي تصطدم بآراء عزت ورأفت الديمقراطية، وكذلك تفاخُر عبد الخالق بالأصول والأقارب. وكان عزت خاصةً قوي الحُجة آسر المنطق، وحتى من ناحية القوة فإن حُسَين نفسه على قوَّته تجنَّب الدخول معه في معركة مجهولة النتائج. وقال لنا عزت ذات يوم: لا يكفي التفوُّق في الدراسة، ولا الانتماء في الوطنية، وليست الوطنية هي يحيا سعد، ولكن يجب أن تكون أنت أيضًا مثل سعد.

وحدَّقنا به في دهشةٍ، فواصَل: الرياضة .. الفن .. الثقافة .. العمل .. هذا هو مستقبل وطننا الحقيقي.

لم أصادف في حياتي أحدًا يقارب عزت ورأفت تفوُّقًا وتطلُّعًا للجديد مع الاستقامة وسمو الأخلاق. وكان لهما أثَر وأيُّ أثَر في تعلُّقنا بالقراءة والرياضة والفن والتطلُّع للمثاليات في القيم. وكم قال لنا عزت: أعداؤنا ليسوا الإنجليز والملك فقط، ولكن أيضًا الجهل والخرافات.

ولا أشك اليوم في أن حسن أفندي قيسون انطوى على مُربٍّ فاضل وإنسانٍ ممتاز رغم قذارة منظره، بل حذَّرتْنا الأيام من التمادي برميه بالبخل والتقتير؛ فإنما كان يقتر على نفسه ليهيِّئ لابنيه ما يتطلعان إليه من اقتناء الكتب والمجلات والهوايات الأُخر، بالإضافة إلى حسن المظهر، وهو ما مكَّنه أخيرًا من إلحاقهما بالطب والهندسة رغم تعذُّر ذلك على أبناء غير القادرين من الشعب؛ ففي منتصف الثلاثينيات تخرَّج عزت طبيبًا ورأفت مهندسًا. وعقب ذلك بعامٍ تُوفِّي حسن أفندي قيسون مع تحقيق رسالته وحُلْمه، وسافر عزت ورأفت في بعثةٍ إلى إنجلترا فأغلَق البيت الصغير أبوابه، وانقطَعتِ الصلة بيننا وبينهما فلم نعُد نلتقط من أخبارهما إلا ما يجود به الرأي العام. وعن ذلك السبيل سمعنا عن تقدُّم عزت في مجال الطب حتى صار من أساطين الطب الباطني، أما رأفت فقد تبوَّأ عمادة كلية الهندسة. وفي الستينيات اضطُررتُ إلى استشارةٍ طبية، فعقدتُ العزم على زيارة صديقي القديم عزت قيسون. وسرعان ما عَرفَني فاستقبلَني بالأحضان، وخصَّني بعنايةٍ فائقة وغمَرني بإحساسٍ إنساني شامل، وتبسَّط معي في الحديث عن الماضي، عن شارع الرضوان وإخوان الزمان الأول، فتتابعَت ذكريات الأحياء والأموات. ومما لاحظتُه أيضًا أن وَفْديَّته العريقة حالت بينه وبين التفاهُم الكامل مع ثورة يوليو، فاعترف بإيجابياتها ولمس بخفَّةٍ السلبيات، ثم قال: ولكن أين الشعب؟ .. إنه يخسر كل يومٍ بعضًا من إيجابياته.

فقلتُ ببراءة: كأنما أصبحنا دولةً عظمى.

فقال باسمًا: دولة عُظمى بلا شعب تُساوي صُغرى!

وقد رأيتُه مرةً أخرى من بعيد في جنازة مصطفى النحاس، ثم قرأتُ نعيه المفاجئ في نهاية عام الهزيمة المشئومة، أما رأفت فلا أدري اليوم عنه شيئًا.

آل حسب الله وفرج

البيت الصغير الثاني في الشارع يلاصق آل مكي، دوره الأرضي فرنٌ بلدي، والثاني شقةٌ صغيرة، والثالث نصف شقة تفتح على نصف سطحٍ مظلَّل بتكعيبة لبلاب. أما صاحب المبنى كله فهو المعلم حسب الله، ولا أعرف له لقبًا أو كنية — وهو صاحب الفرن ومديره — ومسكنه في الشقة الثانية هو وزوجته وبلا ذرية على الإطلاق. وليست صورته مما يُعفِّي عليها الزمن، قصيرٌ، مفرط البدانة، ثقيل النظرة والصوت، يكحل عينَيه دائمًا وأبدًا، ولم يَرَ أحدٌ امرأته. يتعامل مع عماله بكفه القوية فالعمل يسير كالساعة. وعمله ينحصر في خبز عجين السكان من شارعنا والشوارع القريبة مثل بين الجناين وأبو خودة؛ استجابة لتقاليد ذلك الزمن التي قضت بأن تعجن الأُسر في بيوتها ثم ترسل العجين إلى الفرن فيرجع إليها خبزًا ساخنًا مورد الخدَّين نافذ الرائحة، كما تُرسِل إليه في العيد الكعك والغريِّبة، وفي المواسم الفطير رحمة القرافة المعروفة. وعُرف عن عم حسب الله أنه يتعاطى المخدِّرات، ولكنه كان فرانًا ذا سمعةٍ طيبة جدِّا. ومن عجبٍ أنه لم يُرَ أبدًا خارج بيته. ومات في أوائل الحرب، فأُغلقَت الفرن وتغيَّرتِ التقاليد، فجعلنا نشتري الخبز من البقالين والكعك من مَحالِّ الحلوى.

وأما نصف الشقة فوق السطح فكان يسكُنه عم فرج بيَّاع الحلوى والدندورمة وزوجته، وقد أنجب ذكورًا وبنتًا واحدة ولكن لم يَبقَ له إلا البنت. وكان رجلًا خفيف الروح يُعلِن عن سلعته بالأغاني كعادة كثيرين من باعة ذلك الزمان، ويدَّعي أنه يعرف تاريخ الشارع وأهله، ويروي الحكايات عن النساء والرجال. وقد زعم أن مبنى الفرن كان أوَّل مَبنًى يُشيَّد في الشارع عندما كان متر الأرض بمليم! وكان ضَحوكًا بَشوشًا ويتعامل مع كل أُسرة كأنما هو من صميم أهلها. وقد مات عم فرج قُبيل الحرب فحلَّت ابنته بسيمة محلَّه في إدارة العربة. وكانت تجمع بين القوة وشيء من الأنوثة والحُسن، فتزوَّجَت من بياَّع فاكهةٍ سرِّيح. ولا أدري كيف امتد نشاطها إلى تجارة الخردة أيام الحرب. ولمَّا راجت تجارتها هجَرتْ عربة الحلوى والدندورمة واكترت جراجًا صغيرًا في الشارع جعلَته مركزًا لنشاطها وضمَّت زوجها لمعاونتها. وأقبلَت الأيام عليها فاكترت مكانًا جديدًا في الأرض الفضاء التي حلت محل الحقول، وملأَتْه بمخلَّفات الجيش البريطاني، وأصبحت معلِّمة بكل معنى الكلمة. ومضت تتوسع في الإثراء والتملُّك فاشترت مبنى الفرن وشيَّدَت مكانه عمارة، وكرَّرتْ ذلك مع بيت آل جمال إسماعيل وبيت الجمحي أخيرًا، أما هي فأقامت في شقةٍ حديثة في شارع العباسية نفسه. وعاصَرتِ الثورة ثم الانفتاح الذي بلغ نشاطها فيه الغاية. وإنها اليوم عجوزٌ ثرية، وأم لرجالٍ ناجحين، وبالنظر إلى قُوَّتها وحزمها ونجاحها فإن أصدقاءنا في العباسية يطلقون عليها «مسز تاتشر»!

آل شكري بهجت

وفيما يلي بيت حسن قيسون يُوجد بيت آل شكري بهجت، والأُسرة تتكوَّن من شكري أفندي ونعمات هانم وسامح وأمينة؛ سامح يماثلنا في العمر ويبادلنا الصداقة. وللأُسرة صفةٌ مميزة هي الثورة على التقاليد والتمرُّد على الزمن وإن لم يتضمن ذلك أي انحرافٍ عن القيم الأخلاقية الحقيقية. وشكري ونعمات يكوِّنان رابطةً تُعتبَر مثالًا للحب والتوفيق، وهو موظَّف بالداخلية وهي حاصلة على الابتدائية، والرجل وسيمٌ مهيب وهي تنافس في جمالها حرم جمال بك إسماعيل. لعلها أوَّل امرأة في العباسية تظهر في الطريق سافرةً بموافقة زوجها، وتقول لأمي ضاحكة: زعيم الأمة نفسه يوافق على السفور، وعلينا أن نسير مع الزمن .. أما أمينة فلم تستعمل النقابَ قط، تمضي مع أُسرتها سافرة أو وحدها إذا زارت هذا البيت أو ذاك. ولمَّا خُطبَت وهي في المرحلة الثانوية صاحبَت خطيبها في رحلاتٍ انفرادية، ولم تكترث الأسرة لتعليقات الناس، ولم تعتَدْ أن تكترث لأقوال الآخرين.

ويقول لنا سامح لدى كل مناسبة: الناس؟! .. ما أغبى الناس!

جملةٌ مأثورة يُردِّدها كلما ترامى إليه رأي لأحد في سلوكهم.

– نحن نعيش في نسيجٍ عنكبوتي من التقاليد السخيفة.

ثم يخاطب حسين الجمحي وعبد الخالق مراد خاصة: الفارق بيننا حيال بعض التقاليد السخيفة هو أنكم تمارسونها رغم عجزكم عن الدفاع عنها، أما نحن فنرميها بكل شجاعة في صندوق القمامة .. وقد تزوَّجَت أمينة عقب حصولها على البكالوريا. كان من رأيه أن تُتِمَّ تعليمها في الجامعة، ولكنها آثرتْ بمحض اختيارها الحب والزوجية. على ذلك كله كان شكري أفندي متدينًا، ويُرى كثيرًا أيام الجمع وهو يغادر جامع البيومي بعد صلاة الجمعة. وفي أوائل الثلاثينيات أدَّى فريضة الحج، واستَقبلَت زوجته عودته بالزينات وأقامت سرادقًا أمام البيت أحيت به ليلةً للإنشاد والأذكار، وأطرب الشهود الشيخ علي محمود بصوته الجميل في سهرة امتدت حتى طلوع الفجر. ومن أسَفٍ أن الرجل تُوفي في نفس العام عقب مرضٍ لم يمهله إلا أيامًا معدوداتٍ، ونشَرتِ الأُسرة نعيه معلنةً الاقتصار على تشييع الجنازة. لم يكن ذلك شيئًا مألوفًا في ذلك الزمان، ولم يكن يُصرف الأهل والأصدقاء عن زيارة البيت والاستماع إلى ترتيل القرآن. وذهب الجيران للعزاء فوجدوا البيت مغلقًا وخاليًا من أهله. ودُهِش الناس لحد الانزعاج، وعجزوا عن التوفيق بين ذلك السلوك وبين ما عُرف عن الزوجَين من حب وتوفيق، وارتفع النقد تلك المرة حتى بلغ كبد السماء. ولمَّا اجتمعنا كالعادة نحن الأصدقاء قال سامح: الحزن في القلب لا في السرادق، نحن لا نؤمن بهذه التقاليد، وماذا يفعل المُعزُّون سوى أن يتسامروا كأنهم في مقهى؟! .. من أجل ذلك غادرنا البيت وانفردنا بحزننا في وقار ودون طقوس أو تمثيل .. ورغم إعجاب عزت قيسون بالمبادرات الجديدة، إلا أنه قال في شيء من الحذر: لم يكن من بأسٍ في أن نجالسك ذلك المساء؛ فلا سخف في ذلك فيما أعتقد. على أنه استدرك بعد ذلك قائلًا: على أنني لا ألومك ولا ألوم أحدًا.

أما عبد الخالق فقد همس في أذني: أُسرة مجانين!

وحسين الجمحي همس أيضًا: عليهم اللعنة، ضنُّوا بإنفاق قرشَين تحية لذكرى الرجل!

أما المفاجأة المذهلة فقد وقعَت بعد وفاة الرجل بعامَين أو ثلاثة. كان سامح قد تخرَّج وتوظَّف وتزوَّج زواجه المبكر، فما المفاجأة؟ ذاع وتأكَّد أن نعمات هانم تزوَّجَت من رجل يماثلها في السن أو يقل عنها! إنها تقترب من الخمسين، ومسلم به أنه ما زالت في صحةٍ كاملة وجمالٍ غير منكور، ولكن هل يُسوِّغ ذلك الزواج مرةً أخرى؟! ويبدو أنها لم تجد من يدافع عن سلوكها في البيوت كلها، بين المتزوِّجات مثلما بين المطلَّقات والأرامل، وكأنما فقد الزواج شريعته الدينية المطلقة. أما نحن معشر الأصدقاء فقد اتفق رأينا على تجاهُل الموضوع رحمةً بصديقنا العزيز غير أنه كان هو الفاتح له، قال ببساطته المُستفزَّة: العريس فاتحَني أنا أولًا مستأذنًا، والحق أنني رحبتُ به.

فهتف حسين الجمحي: رحَّبتَ به؟!

– لم يهُن عليَّ أن أتركها وحيدة في بيتنا، ولِم لا؟ إنها جميلة وعلى أكمل صحة وعافية، لعلي وجدتُ صعوبة بعض الشيء في إقناعها، ولكنَّني قلتُ إنه العقل والشرع!

فتساءل عبد الخالق: والمرحوم؟ .. ألا شأن له في الموضوع؟!

– المرحوم في قلوبنا، ولم يعُد له شأن بحياتنا، ونحن لم نخلُق الموت، ولكننا مطالَبون باحترام الحياة.

وسُئلتُ على انفرادٍ عن رأيي فأجبتُ: إني أشعر بإعجاب وامتعاض.

ويمكن اعتبار سامح من مدرسة عزت ورأفت مع اندفاع بلا حدود. ومع اتجاهه إلى الدراسات العلمية في المدرسة والتخصُّص فإنه برع في الموسيقى وعشق المسرح والثقافة، ودعا بكل قوة إلى العصر الحديث علمًا وصناعة وحضارة، واستَمدَّ رؤيته في الحياة من رغبة الخديو إسماعيل في جعل مصر قطعة من أوروبا.

وعزت ورأفت يشاركانه الإعجاب بالعصر ولكن في اعتدال، ومع الاهتمام بحضارتنا القديمة الفرعونية والإسلامية. ولم يكن ممن يعتبرون الحضارة الغربية حضارةً غريبة عنا، وهي لم تُسمَّ باسمٍ خاص إلا بسبب البيئة التي نشأَت فيها، ولكنها في الواقع الثمرة الأخيرة في شجرة الحضارات الإنسانية التي أَسهَم البشر جميعًا في غرسها.

– فلا علم اليوم إلا علمها، ولا أدب إلا أدبها، ولا فن إلا فنها، ولا فلسفة إلا فلسفتها.

فقال له الجمحي: أموت قبل أن أتذوَّق موسيقاها، هذا على سبيل المثال لا الحصر.

– المسألة مسألة تدريب ليس إلا، أما التراث فلا معنى له، كان ذات يوم حضارةً حية متقدمة ثم تجاوزَه الزمن فأمسى خِرقًا بالية!

إنه خواجة بلا قبعة؛ بسبب جو أُسرته وقراءاته والمراكز الثقافية والأجنبية، وصداقاته المتعدِّدة للإنجليز والفرنسيين، أما انتماؤه الوطني فكان دون المتوسِّط رغم اندلاع الحركة الوطنية، ولا أذكر أنه اكترث يومًا لخلافاتنا الحزبية. وبالرغم مما أثاره من اعتراضات وانتقادات فلم يحفل أبدًا بآراء الآخرين، ولم أشهد له نظيرًا في شجاعته. وقد تخرَّج في كلية العلوم واشتغل مدرسًا في المدارس الثانوية، وسرعان ما تزوج من مدرسةٍ متخرجة في كلية الآداب تماثله في السن على أحسن الظنون، واتخذ مسكنًا في شارع العباسية. ولم تفتُر علاقته بنا ولا لقاءاته معنا في المقهى. وأصبح صالونه منتدًى لنخبة من الزملاء ممن كانوا على شاكلته بالإضافة إلى بعض الأجانب. وكان يضرب على البيانو بامتياز، ويُلقي محاضراتٍ في الجمعيات التقدُّمية أو يعلِّق على بعض الأفلام، ولكن مواهبه لم تتجاوز به ذلك القَدْر من النشاط.

ولمَّا قامت ثورة يوليو راقبَها بحذَر، ومضى يميل إليها مثنيًا على اندفاعها في طريق التصنيع، واعتبر ذلك حجَر الأساس في التحوُّل نحو الحضارة الحديثة. وفي أثناء ذلك أنجب من البنات أربعًا وختم بعد فترة انقطاعٍ بولد. أما البنات فقد تعلَّمن وتوظَّفن وتزوَّجن، وأما الولد فقد التحق بكلية الطب مع إحالة سامح إلى المعاش في السبعينيات، وكان يدخر له مفاجأة أو مشكلة لم تَجرِ لأحدٍ في بال. وها أنا أرويها نقلًا عنه كما رواها على فتراتٍ متقطِّعة تبعًا لحدوثها.

كان اسم الولد شكري كجده، وكان وسيمًا رياضي الجسم ومتقدمًا في الدراسة، وكان سامح يُحبه حبًّا فاق حبه أي شيء. ولاحظ بعينَيه المُحبة أن الشاب لم يعُد كسابق العهد به؛ فتَر مَرحُه، ومال إلى الانطواء، ورمق والدَيه بنظراتٍ غريبة حائرة لعلها أزمة من أزمات المراهقة، أو قصة حبٍّ خائب، وإذا بأمه تسأله: ما لشكري يا سامح؟ .. إنه لا يعجبني.

– ولا أنا، فلنعترف أنه جيلٌ مجهول رغم أي ادعاءٍ آخر.

– ولكننا ربَّيناه على الحرية والصراحة!

– حلمكِ وصبرك، إنه جيل يعاني من ذكريات الهزيمة والغلاء والمستقبل المسدود!

– عليكَ أن تستدرجه إلى الكلام.

– إني أتوقع أن يتكلم هو!

وتكلَّم، غادر حجرته الحاوية لفراشه ومكتبه إلى حجرة المعيشة حيث يجلس والداه أمام التليفزيون. ضغط على مفتاح التليفزيون فأسكَته، وجاء بكرسيٍّ صغير فجلس أمام والدَيه، وهو يقول: ثَمَّةَ سؤالٌ يشغل بالي.

فقال سامح بشيءٍ من الجدية: ولكنكَ أغلقتَ التليفزيون دون استئذان!

– آسف، ولي عذر في الهم الذي يركبني.

– ليكن، وإن كنتُ لا أوافق على هذا الأسلوب، ماذا لديك؟

– لماذا لا تُصلِّيان؟

ذُهلا للمفاجأة، وخيَّم صمتٌ فاندفَع فيه زفيفُ رياحٍ خريفية تهُب في الخارج، أي سؤالٍ لم يَتوقعا أن يسمعاه أبدً؟!

– ولم تصوما رمضان قط؟

ثم بنبرة أعلى: ولدى كل سهرة في الصالون تُقدِّمان الخمر وتشربانها!

كيف يُجيبان؟ ليسا متدينَين ولا دينيَّين، لا يُضمِران للدين شرًّا ولا خيرًا، لا يشغل لهما بالًا. ولا فلسفة وراء ذلك، ولا يتصوَّران أن الله يكترث لشرب الخمر أو الامتناع عنها. الأمور تجري بلا تفكير ولا مشكلات. إنهما لا يؤذيان أحدًا ولا يسمحان لأحد بالتدخُّل في شئونهما الخاصة، ولكن المتدخل هو ابنهما الوحيد، وهو يطرح سؤاله في حريةٍ كاملة ولكن لا حرية لهما في الإجابة بل يشعران بأن الإجابة يجب أن تلتزم حدودًا معينة. وتبادلا نظرة؛ نظرة حَيرة واستغاثة. ولمَّا طال الصمت تساءل الشاب: ألستما مسلمَين؟

فقال سامح: طبعًا.

– المسلم ليس مجرد اسم، ولكنه عقيدة وسلوك.

فقال سامح بضيق: المسلم مسلم في جميع الأحوال.

فقال شكري بأسًى: كلا .. إما أن تكون مسلمًا أو لا.

– هذا رأيك؟

– نعم .. مذ هداني الله إلى طريقه.

فتساءلَت أمه بقلق: هل انضمَمتَ إلى التيارات التي يتحدَّثون عنها؟

– هداني الله إلى طريقه!

– إنه طريقٌ شديد الخطورة.

– هو طريق الله، ولا يهمُّ ما عدا ذلك.

فقال سامح باستياء: لم تُحدِّثنا من قبلُ بهذه اللهجة؟

– كنتُ في غيبوبة الجاهلية!

– لا أقبل أن تُخاطبني بهذا الأسلوب.

– انظر! طالما شجَّعتني على الصدق والصراحة، ها أنت تضيق بمن يخالف رأيك!

– فليَمضِ كلٌّ في حياته كما يرضاها!

فقال الشاب بتصميم: غير ممكن، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان.

لم يسمعا بالحديث من قبلُ فوجما وهما يتفكَّران فيه، ثم سأله سامح متهكمًا: وماذا اخترتَ؟

فقال بتأثُّر: إني حائر بين الواجب وبين البِر بكما.

وتنهَّد سامح، ثم قال ليُنهي الحديث الأليم: شكري، احصر انتباهك الآن في دراستك الصعبة، ولمَّا تقف على قدمَيكَ افعل بنفسك ما تشاء، أُسرتنا لم تقُم يومًا على الإكراه أو العَسْف.

وظَن أنه تَحاشَى الزلزال كي يستردَّ أنفاسه، ولمَّا انفرد لزوجه قال: إنه يتكلَّم مستندًا إلى الدين والتراث، فكيف نناقشه؟

فقالت بحَيْرة: لن تستطيع أن تقول له إنه مخطئ، أو نقنعه بأننا على صواب.

– هذه هي المشكلة!

وضايقه موقفه المتخاذل، فقال مدافعًا عن كرامته أمام نفسه وأمام زوجته: لو أن لي رأيًا مُحدَّدًا في الدين لألقيتُ به في وجهه!

وانبثَق سؤال من عدمٍ لم يُطرح من قبلُ: تُرى ما الرأي في الدين؟! خُيِّل إليه أنه مؤمن بالله ومؤمن أيضًا بأنه لا شأن لله بحريته الشخصية، وأن الفرائض لا معنى لها، والخمر مفيدة وممتعة ما احتملَتها الصحة، ولكنه مقتنع تمامًا بأنه لا يستطيع أن يصارح ابنه بذلك، ولم يتصوَّر من قبلُ أنه سيُواجه هذا الموقف الحرِج.

وقال لزوجته: إنه يطالبنا بالتخلي عن أجمل ما في حياتنا!

فحرَّكتْ رأسها بالموافقة دون أن تنبس، فتساءل: كيف نستطيع أن نواصلها دون متاعب؟!

كيف يمارسان حياتهما المألوفة تحت سمعه وبصره؟!

وضاعَف من همهما أنه دأَب على تجنُّبهما تمامًا؛ فهو إما في الكلية أو في جامع الحي، أو في حجرته؛ طعامه يتناوله في المطبخ، إنها مقاطعةٌ مطلقة .. هما نفسهما فضَّلا ذلك — مع الألم والأسف — على مواجهةٍ أخرى أليمة. إن يكن استطاع أن يتحدَّى ناقديه طوال حياته بلا مبالاةٍ كاملة فإنه لا يستطيع أن يفعل ذلك في بيته ومع ابنه.. إنها مصيبةٌ لا تخف بمرور الزمن ولكنها تتعقَّد وتستفحل وتنذر بشر العواقب.

– كدَّرتَ صَفْوي، عليك اللعنة!

واضطُر أخيرًا إلى إحياء سهراته في بيوت أصدقائه بعيدًا عن ابنه، وخوفًا من أن يُقدِم على تصرُّفٍ أحمق يُحرِجه أمام المدعوين. وحَنقَ على تلك التيارات المتطرفة، واعتبرها غريمه الأول في الحياة. ومضت الحياة في ذلك الجو الكَدِر حتى قذفَته بالمفاجأة الأخيرة، فما يدري ذات يومٍ إلا وشكري يُلقى القبضُ عليه في أعقاب معركةٍ دامية مع الشرطة بتهمة القتل. أدرك سامح أنه خَسِر ابنه الوحيد الذي عقَد به آماله، وانطلق يبحث عن محامٍ قدير ويُدبِّر له المال اللازم من مدَّخراته وبيع بعض حلي زوجته. ورفض الشاب مقابلة والدَيه وأنكرهما، وفسد مذاق الحياة تمامًا، ومرَّت الأشهر السابقة للمحاكمة كأسوأ ما تكون الأيام. وتمَّت المحاكمة وقُضي على الشاب بالشنق، ونُفِّذ الحكم، وأُسدِل الستار على المأساة الدامية.

ماذا حدث لصديقي بعد ذلك؟

إنه يبذلُ قوَّته كلَّها كي لا يغلبه الحزن أمام الناس، يتظاهر بالتسليم بالأمر الواقع والارتفاع فوقه، ويأبى أن يرجع عن رأي من آرائه المأثورة، ولكني شعرتُ طَوالَ الوقت بأنه يغالب ألمًا دفينًا حادًّا وباقيًا كالظل. ويومًا قال لي بنبرةٍ ساخرة: الولية بدأَت تصلي وتصوم وتتعلَّم أصول الدين في كتاب الديانة للمدارس الابتدائية!

ولأول مرة في أثناء ذلك العمر الطويل أشعر بأنه يكتم عنا أشياءَ تُحاوِره في أعماقه، وأنه على أي حالٍ لم يعُد الشخص الذي كان.

آل السناوي

الشيخ السناوي هو الجار المباشر لآل شكري بهجت، إمام جامع الكومي، ولشيخوخته وورعه ذاع صيته كمصدر من مصادر البركة والخير. وكان يعيش في بيته مع زوجةٍ طاعنة في السن أيضًا وابنٍ وحيد يُدعى محمد وهو صديقنا. وعرفنا أن أم محمد هي الزوجة الثانية للشيخ. تزوج منها على كِبَر بعد أن فقد الأولى وذريتها بصبر المؤمن المسلِّم أمره لله. محمد إذن وحيد أبوَيه مركز الرعاية والحب، ومدلَّل الأسرة رغم كل شيء. أقول رغم كل شيء لأنه إذا قيَّمناه بوجهه فهو توءم قرد. ومع أن شهادة ميلاده تُقرِّر أنه يماثلنا في سنه إلا أن مظهره يضيف إلى سنه الحقيقية عشر سنوات على الأقل. ورغم أن التربية الدينية تدين من يسخر من آخر لعاهةٍ فيه أو دمامةٍ باعتباره على أي حالٍ من صنع الله القدير إلا أننا خرقنا القاعدة واستسلمنا لإغراء السخرية من دمامته بإفراطٍ ملحوظ، وشجَّعنا على ذلك تسامحُه الطيب وسَعَة صدره وقدرتُه الفذة على مقابلة السخرية بالسخرية. واحترنا في تعليل قبحه؛ إذ إن الشيخ السناوي كان على قدْرٍ مقبول من القبول، وأجمعنا على اتهام أمه التي لم نَرَها وتحميلها المسئولية الكاملة. وحظُّه في الحياة شابه وجهه، فالرزق محدود، وضاق أكثر عقب وفاة أبيه، واستعداده للدراسة في حكم المعدوم، فلم يوفَّق إلى الحصول على الابتدائية، ومن نوادر سقوطه أنه سقط مرةً في امتحان الخط، وكان لاعب كرة فاشلًا، غير أنه توهَّم دائمًا أنه عبقري زمانه.

نقول له: ولكنك لم تجرب النجاح أبدًا!

فيَرُد هازئًا: وأي علاقة بين هذا وبين الذكاء؟! .. ألا تنجحون جميعًا رغم غبائكم؟!

وسعى له أصدقاء أبيه حتى ألحقوه بوظيفةٍ صغيرة بالأوقاف خارج الكادر. ولمَّا شَعَرتْ أمه بدنو الأجل زوجته من قريبةٍ لها عانس، قدَّرنا جميعًا أنها تكبره حتى لو قسناه بعمره المفترض لا عمره الحقيقي، ولكنه وُفِّق في زواجه، وفاخَرَنا بفحولته الفذة، وقنع بالحد الأدنى من المعيشة صابرًا، وأكرَمَه الله بولدٍ قبل أن تنقطع المرأة عن الحَبَل. وباختلافه إلى المقهى معنا عرف إحباطاتٍ جديدة في خيبته القوية في ألعاب الشطرنج والدومينو والنرد، ولكنه لم يعترف أبدًا بقصوره وعلَّق هزائمه بالحظ وحده، فالحظ السيئ هو القدر الوحيد الذي لم يكابر في الاعتراف به. على ذلك كله كان أكثرنا ضحكًا وتهريجًا وانبساطًا. ومضت الحياة ممكنة دون يُسر حتى قامت الحرب العظمى الثانية وهبَّت علينا رياح التغيير وأمواج الغلاء المتتابعة. هنالك اقتَحمَته المرارة فصَب غضبه على كل شيء، شابه في ذلك عبد الخالق مراد، ولكن على حين كان عبد الخالق رافضًا لجميع الساسة فإن محمد ركَّز هجومه على الحكام فكان دائمًا وأبدًا في صف المعارضة. اليوم وفدي وغدًا ملكي، لا يهم، ضرباته دائمًا وأبدًا مسدَّدة نحو الجالسين على كرسي الحكم، وقال قولتَه المشهورة التي أُثرتْ عنه لتكرارها: ستجري الدماء حتى تبلغ الركب!

مبشرًا بثورةٍ دموية يموج بها خياله لتجتث الأغنياء والحكَّام من جذورهم. ولمَّا اشتدَّت الغارات الجوية وأخذ المخبأ يجمعنا ليلةً بعد أخرى، قلنا له: ستتحقَّق نبوءتك وتَجري الدماء ولكنها ستكون دماءنا نحن لا الأغنياء والحكام.

ونجده مشغولًا عن تعليقاتنا بتلاوة آية الكرسي مستعيذًا ببركتها، كما علمه أبوه في الزمان الأول. ولا أنسى انشراحه عقب حريق القاهرة وقوله باسمًا عن أسنانه المثرمة: أول الغيث قطر!

ولذلك فعندما قامت ثورة يوليو، وأحدثَت إنجازاتها الاجتماعية الرائعة، اعتُبرتْ معجزةً مرسلة من أجل عيون محمد، وارتفعَت روحه المعنوية إلى أعلى درجة.

وسأله حسين الجمحي: أي فائدةٍ جنيتَها أنت يا عم محمد؟

على أي حال قُبل ابنه — محمد محمد السناوي — طالبًا بالكلية الحربية؛ الأمر الذي يُعتبَر معجزة في ذاته. وتخرَّج ملازمًا، وأصبح عم محمد والدًا لضابط في الجيش، واقتحمَت الاصطلاحات العسكرية حديثه حتى اعترفنا به عضوًا في هيئة أركان حرب. وسافر محمد — محمد الثاني كما عُرف بيننا — ضمن حملة اليمن، وتساءلنا تُرى هل يقسو عليه القضاء ويتلاشى الحُلْم؟ والحق لقد دعَونا للولد بالسلامة إكرامًا لأبيه سيِّئ الحظ، ووضَح لنا مدى حبنا لذاك الصديق القديم، ولكن الله سلم، وتحَّسنَت أحوال الابن، وسَرى اليسر إلى الأب وأُسرته. وبحُكم الأبوة عرف محمد الانتماء لأول مرة في حياته، وكان في مقدِّمة المصابين بهزيمة ٥ يونيو المشئومة، فحزن حزنًا بالغًا، وكان من حسن حظه أن ابنه لم يشترك فيها لوصول فرقته إلى مصر بعد انتهاء المعركة. وفي السبعينيات أُحيل محمد إلى المعاش وتفرَّغ للمقهى. واشترك ابنه في العبور في ٦ أكتوبر، نجا من الموت، وحظي بوسام الشجاعة، وارتفع بأبيه إلى ذروة السعادة. اليوم يشغل الابن مركزًا عسكريًّا مرموقًا، وينعم الأب بشيخوخةٍ هادئة وعافيةٍ يُغبَط عليها. وقد أصابته نزوة مما تصيب بعض المحالين على المعاش، فقال لنا يومًا: ما رأيكم؟ .. لقد ألَّفتُ زجلًا!

ودُهشنا لأننا طيلة عهدنا به لم نلمس لديه ميلًا لأي فن، وسحب ورقةً من جيبه وراح يُلقي علينا زجله. وإذا بتعليقٍ ينفجر مصحوبًا بقهقهة: اسمع يا عم محمد، لقد عاشرنا قبحك وجنونك، بل من أجل حبك أحببناهما، ولكن لكل شيء حد، فارجع عن غيك واستعذ بالله من الشيطان الرجيم!

فقهقه بدوره قائلًا: هذا حظُّ من يسبق زمنه!

آل الفنجري

فيما يلي الفرن يقوم بيت آل الفنجري. وأُسرة الفنجري تتكون من زوجة، وابنة تزوَّجَت من قبل أن تنتقل إلى الشارع، وولدَين هما حسن وحسين الصديقان. والفنجري ترزي إفرنجي يقع محلُّه في وسط شارع العباسية، ميسور الحال، ويملك عمارتَين. وحسن وحسين متقاربان في الشبه، لهما نفس اللون الفاتح، والقسمات المتناسقة، والقامة الطويلة الممشوقة، وفيما عدا ذلك فهما نقيضان تمامًا. حسين وهو الأصغر مثالٌ طيب للاجتهاد والجدية والتفوُّق. وبتلقائيةٍ توثَّقتْ علاقته بعزت ورأفت وسامح، جاراهم في الثقافة والرؤية مع انتماءٍ أشدَّ إلى الوطنية أهَّله ليكون رئيسًا للجنة الطلبة الوفدية بالوايلي .. والتحق بكلية الطب في أول الثلاثينيات وتَخصَّص في الجراحة وصار مع الزمن من كبار الجراحين، وبحُكْم عمله انقطع عنا فيما عدا المناسبات. أما حسن فكأنما خُلق ليكون مهرجًا محترفًا. شخصيته عجيبة لم يقف أحد على سرها الدفين. لا أذكره إلا غارقًا في الضحك، يضحك إذا سمع نكتة أو أطلق نكتة، يضحك في مواقف الهزل كما يضحك في مواقف الجد، في الأفراح يزيط ويُجلجِل، في الجنازات يتحيَّن الغفلات ليسخر من مظاهر الحزن أو يروي النكات عن الموت والأموات، وفي المآتم نتجنَّب الجلوس في مجاله. لم أعرفه جادًّا على الإطلاق ولو مرةً واحدة، خفة؟ استهتار؟ مرض؟ .. الله أعلم. وأخوه حسين كثيرًا ما يضيق بأقواله وأفعاله، وربما وجَّه إليه كلماتٍ حادة عما يليق وعما لا يليق، فكان يُسدِّد نحوه رشاش نكاته حتى يجعل منه أضحوكة لنا. ويحتكم حسين إلى أبيه ولكنه لا فائدة ولا عائدة. الفنجري يئس تمامًا من حسن، ورغم ذلك — أو بسبب ذلك — خصه بعطفٍ كبير. ولمَّا التحق الأصغر بكلية الطب، وترنَّح الآخر وهوى أكثر من مرة أمام حاجز البكالوريا، قرَّر الرجل أن يرسله إلى فرنسا في بعثةٍ خاصة.

قال له: ارجع بأي شهادة!

وودَّعنا الصديق المرح في ليلةٍ تُذكَر، وسافر إلى فرنسا. وعلمنا منه فيما بعدُ كيف انقضى وقته في باريس كالأعيان، في نطاق خمسة عشر جنيهًا شهريًّا، وكانت كافية لمعيشةٍ حسنة في الشارع والملهى وبيت الدعارة. وترامت إلينا أخبارٌ غريبة عنه، وهي أنه اختير للغناء في بعض الملاهي الليلية. الحق أنه لم يُعرف له أي استعدادٍ للغناء، فلم نَدرِ كيف استجابت حنجرتُه للنغم الفرنسي وكيف وجد من يعترف به مطربًا أو من يستمع إليه. وكم وددتُ أن أشهده وهو يغنِّي، وهو يتعامل مع مدير الملهى والزملاء!

وهل استطاع أن يمسك عن الضحك في وقت العمل؟! على أنه كان حتمًا مطربًا عاديًّا وإلا لشق لحياته طريقًا آخر، ولكنه رجع إلى مصر عندما أنذَرتِ الحوادث باندلاع الحرب. رجع كما ذهب يا مولاي كما خلقتني، لا شهادة ولا مال، حتى معرفته بالفرنسية كانت معرفة شوارع. وواصل حياته القديمة معنا، المهرج الخفيف اللطيف المرح الذي لا يحمل همًّا أو يتعثَّر في مشكلة، وانقَطعَت صلته بأخيه تمامًا دون أسفٍ من الجانبين. ومضت حياته بين المقهى والملاهي تحت ظلال الخمر والمخدِّرات. وفي أثناء الحرب تعرَّض لتجربةٍ قاسية في إحدى صالات العرض السينمائي؛ ساقه حظه إلى الجلوس إلى جانب فتاةٍ بصحبة أُسرتها، وحاول أن يعبث في الظلام، وخرج في عبثه عن الحدود حتى صرخَت البنت وكانت الفضيحة. وانتهَت الواقعة بإلقائه في السجن عامًا أو عامَين لا أَذكُر، ومات الفنجري وهو في السجن. وغادر حسين السجن ليرث ثروةً تضمن له حياةً ميسرة، ولم يغيِّر السجن من شخصيته شيئًا. وراح يحكي لنا الواقعة وكيف وقعَت في الظلام وهو لا يتمالك نفسه من الضحك، وكيف سعى أبوه إلى التوفيق مقترحًا أن يتزوج حسين من البنت ولكن الأب رفض بإباء. وحكى لنا كثيرًا عن السجن ونوادره وكأنما كان راجعًا من مسرح الريحاني .. وواصل حياته، المهرج، الخفيف، المرح، اللامبالي، السكِّير، الحشَّاش، حتى أصابته أزمةٌ قلبية في الخمسينيات وهو يشرب في البارزيانا، فحُمِل إلى البيت وأسلم الروح عند منتصف الليل.

أذهلَنا الخبر كأنما لم نُصدِّق أن أمثاله يموتون، وذكَرنا آلاف الضحكات التي أطلقها من صدورنا فخيَّم علينا حزن ثقيل.

آل الكاشف

فيما يلي آل الفنجري يقع بيت آل الكاشف، ولدى انضمامنا إلى سكان الشارع لم يكن بقي من أهل البيت فيه إلا رب الأسرة والابن الأصغر عبد المنعم وهو صديقنا. الكاشف بك في الحلقة السادسة، من كبار مهندسي الري، وذو مظهرٍ عسكري صارم. وله بعيدًا عن شارعنا ابن وهو البِكري، وابنته تليه في العمر، أما صديقنا فقد وُلِد عقب فترة انقطاعٍ غير قصيرة. ويُعتبَر البكري من نوابغ عصره، دكتور في الكيمياء من إنجلترا، وفي طليعة الرجال الذين بسَّطوا العلم ونشروا ثقافته بين عامة المثقَّفين، وامتاز بأسلوبٍ أدبي سلس وبليغ يسلُكُه في نطاق بُلَغاء العصر من الأدباء المحترفين دون مبالغة. ولا تقل الأخت نبوغًا عن أخيها، وقد نالت الدكتوراه من إنجلترا أيضًا في الرياضة وتألَّقَت في عالم التربية والتعليم. عُرفَت الأُسرة بالذكاء والتفوُّق، وهي تدين في تفوقها أيضًا بجدية الأب الإسبرطية وحرصه الدائب على تأهيل أولاده للبروز في البيئة العلمية. صديقنا عبد المنعم نشأ في جوٍّ مختلف، ترعرع في أحضان الإسبرطية ولكنه فقَد منذ طفولته حنان الأم ورعايتها. ولم تُوجد مشكلة في الدراسة فقد كان يحفظ دروسه وينجح، ولكن الكاشف بك يعتبر النجاح المدرسي أولى الخطوات فحسب، ويطالب أبناءه إلى ذلك بالثقافة والاطلاع والاستقامة في السلوك والطباع داخل البيت وخارجه، وخيب عبد المنعم تطلعات أبيه في ذلك كله. عدا النجاح والانتماء الوطني المتوسط أيضًا لم يكترث بشيء. كَرِه البيت فهو لا يلزمه إلا عند المذاكرة، وانتمى للشارع بكل جوارحه، يهيم على وجهه هنا وهناك، ويقتبس قاموسه الخاص مما يُلقى على سمعه، منجذبًا انجذابًا خاصًّا إلى الشواذِّ والغرائب. وانفجر بينه وبين أبيه خصام لا ينتهي، وكان يتحمل التأديب الشفوي واليدوي بقوةٍ خارقة، لا يتراجع عن أهوائه أبدًا. وفي العُطلة راح أبوه يُخفي أحذيته في صوانه الخاص ويغلقه ليضطَره إلى البقاء في البيت مع الكُتب، فكان ينطلق إلى الطريق منتعلًا قبقاب الحمَّام دون مبالاة، ويحرمه من المصروف اليومي فيبيع ما يختاره من تُحف البيت وأوانيه، ويأكل كل علقة وأختها صابرًا متصبرًا، حتى جفَّت ينابيع الحب بينه وبين أبيه، وكم يتمنَّى موته جهرًا وكم نذر لذلك النذور! واشتُهر بحب أطعمة السوق الشعبية مثل لحمة الرأس والكشري والطعمية والفول والعدس والفسيخ، ولم يكن يشارك أباه المائدة، ويستعمل الشوكة والسكِّين إلا في نادر النادر، قال عنه حسن الفنجري: إنه صاحب أعظم معدةٍ شعبية.

وفي تجواله حَفِظ الكثير من نُواح النادبات، وكان يُطرِبه أكثر من أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب، وفي ليالي السمر يسمعنا ما لا نُحب مثل:

عيني عليك ياللي تموتي عازبة

أو:

يا شابة يا صبية يا قد المعدية

وكثيرًا ما كان يُنشِد مراثيه ونحن نخترق الحسينية في طريقنا إلى حي الحسين، ونُردِّد وراءه المقاطع المُكرَّرة، فيتطلَّع إلينا الأهالي متوقِّعين أن يشهدوا جنازة، ولمَّا تتكشَّف لهم الحقيقة ينهالون علينا بالشتائم والدعوات الطالحات!

وهو قويُّ الجسم، عملاق القامة، شعبي الملامح، مرحٌ رغم همومه، طيب القلب. وليس من النادر — إذا طَردَه أبوه إثر احتدام خصامٍ — أن يبيت في الحقول وحده. ومن عجبٍ أنْ لم يُبدِ أي اهتمامٍ بالجنس الآخر، ولا تأثر يومًا بالجمال. ما من فردٍ من شلَّتنا إلا عَشِق، وتشكَّى آلام العشق والحرمان، حتى محمد السناوي، أما عبد المنعم فربما كانت أكلةُ كرشة أهم عنده من أجمل امرأة في العباسية. ولي معه واقعة عرَّضَني فيها للموت لولا لطف الله؛ حدث ذلك في الثلاثينيات وفي تجمُّعٍ شعبي خطير قام لاستقبال مكرم عبيد حال عودته من رحلةٍ سياسية ناجحة في الخارج. وكانت دكتاتورية محمد محمود تلفظ أنفاسها، فسمحت الداخلية بالمظاهرة، وأَمرتْ رجالها بالمحافظة على الأمن مع عدم التعرُّض للمتظاهرين. لأول مرة نرى رجال الأمن وهم يتفرَّجون علينا في دَعَة وسلام. ومَرَّ موكب سكرتير الوفد يشُقُّ طريقه في بحرٍ زاخر بالهاتفين، وسِرْنا وراءه بأمل أن نستمع إلى الخُطَب في بيت الأمة. وفي مكانٍ ما من الطريق صادَفْنا مأمورًا في ملابسه الرسمية يقف وسط التيار بلا سلاح وفيما يشبه المودة والتشجيع. وفجأةً انقَضَّ عليه عبد المنعم ووجَّه إلى بطنه لكمةً عنيفة غير متوقَّعة انقلب على أثَرها على وجهه وهو يخور. تلفَّتُّ فيما حولي في فزعٍ فرأيتُ فارسًا على بُعْد يتطلَّع إلى الحادث بغضب ويحاول الاندفاع نحونا. وجرينا بالسرعة التي يسمح بها الزحام، ونحن نعلم أن الموت يطاردنا، وكلما قطعنا شوطًا نظرنا خلفنا فنرى الفارس وقد لحق به نفَر من الفرسان وهم يشُقُّون طريقهم بصعوبة وأعينُهم لا تتحوَّل عنا، وما زلنا نجري حتى لُذنا ببيت الأمة ونحن نرجو ألا يكونوا قد تابعوا لِواذنا، وقبعنا فيه والخُطَب تُلقى والهُتاف يتصاعد. ولم أُصدِّق ليلتَها أنني نجوتُ وأنني رجعتُ إلى بيتي سالمًا، وأسأله بحنق: لماذا فعلتَ ما فعلتَ بلا أي موجب؟

فيقول ضاحكًا: أي اعتداء على الشرطة حلال!

ورغم مرحه الغالب كان الاكتئاب يزوره من حين لآخر فيلُوح كالمريض. ربما لقامة أبيه التي تُظِله وتُطارِده، وربما لتفوُّق أخيه وأخته وضآلته بالقياس إليهما. وفي لحظة من لحظات الاكتئاب أقدَم على الانتحار؛ دأَب على ذِكر الانتحار في حديثه باعتباره أمل اليائسين ولم نأخذ حديثه مأخذ الجد، بل حاول أن يصحبني معه، فسألني يومًا: لماذا لا تفكِّر جديًّا في الانتحار؟

فقلتُ هازئًا: امنحني فرصة للتفكير، ولكن لماذا أنتحر؟

فقال جادًّا: لقد أرهقَك الحب كما أرهقَتني الكراهية، ألا يكفي ذلك؟

ولكنني لم آخذ قوله مأخذ الجد. وجلسنا ذات أصيلٍ في المقهى نستعد لِلَعب النرد وإذا به يقوم قائلًا: عن إذنك دقيقة.

وغاب خارج المقهى وجلستُ أنتظر وإذا بصُراخ ينفجر كالعواء. هُرعتُ إلى مدخل المقهى فرأيتُ عبد المنعم يتمرَّغ عند أصل شجرةٍ مغروسة أمام المقهى، ويعَضُّ جذعها من شدة الألم. وتجمَّع الناس، واتصل من اتصل بالإسعاف، وقال بعضهم: واضح أنه انتحار.

وجاءت سيارة الإسعاف فحملَته وقد شملَنا الفزع والذهول. وعرفتُ أنه شرب كميةً من حمض الفنيك ولحق بي في المقهى، وأسعفوه في الوقت المناسب. واستَدعَوا الكاشف بك لسؤاله فأدلى بأقواله وذهب دون أن يُلقي نظرة على ابنه. ورجع كما ذهب لم يُعنَ بزيارته سوانا، وتأثَّرنا جميعًا غاية التأثير، وأبى عزت إلا أن يفعل شيئًا؛ قابل الكاشف بك، وخاطبه بالأسلوب التقليدي قائلًا: «يا عمي»، وقال له: عبد المنعم في حاجة إلى عطفكَ حاجتَه إلى حزمك!

ولم ينبس الرجل بكلمة، وظل طيلة الوقت متجهِّم الوجه، حتى غادَر عزت البيت دون أن يُقدِّم له فنجان قهوة.

ولمَّا حصل عبد المنعم على البكالوريا قرَّر أن يلتحق بالكلية الحربية، ولم يعترض الكاشف بك يأسًا منه فقال: في ألف داهية.

ونجح بعد ذلك في الالتحاق بكلية الطيران الجديدة، وأظهر تفوقًا فسافر في بعثة إلى إنجلترا، ولدى رجوعه فاجأنا بزواجه! لا ندري كيف انتبه فجأةً إلى وجود الجنس الآخر وأنجب ابنه الوحيد. وأُلحق بخدمة الملك فاروق ياورًا فصار من المقرَّبين، وعلَّق حسين الجمحي على ذلك بقوله: من الكرشة ولحمة الرأس إلى سراي عابدين، يا لها من وثبةٍ خرافية!

ومنعَتْه تقاليد وظيفته الجديدة من مجالستنا في المقهى. ربما تسلَّل إلينا في بعض الليالي إطفاءً للشوق ثم يذهب في حذَر. أخلاقه لم تتغيَّر ولكن تقاليد حياته لا تعرف الرحمة. ولاحظتُ أنه أصبح ملكيًّا ونَسِي الوفد تمامًا وانتحلتُ له الأعذار. وذاع عن الحاشية ما ذاع ولكن لم تحُم حوله شبهةٌ أبدًا. ولمَّا قامت ثورة يوليو حاول أن يُهرِّب الملك ولكنه فشل، وجرى معه تحقيق، واكتُفي بإحالته إلى المعاش دون محاكمة، مما قطع بنقاء سلوكه. غير أن أقران ابنه في المدرسة عيَّروه بأبيه حين التحقيق معه وبعد إحالته على المعاش، وأبَوا أن يعترفوا ببراءته. وناضَل الولد ما استطاع عن سمعة أبيه حتى أُصيب بانهيارٍ عصبي، وتكالبَت عليه المضاعفات حتى تقرَّر إدخاله مستشفى الأمراض العقلية وما زال مقيمًا به حتى الساعة.

ورجع عبد المنعم بعد المعاش إلى سابق عهده بنا، لم يكن الشخص القديم، ومن منا كان؟ وبدا متماسكًا بعد فقدان وحيده أكثر مما توقَّعنا، وسرعان ما فسدَت حياته الزوجية لأسبابٍ لم يعلنها وربما لم يكن من المستحيل تصوُّرها، وانتهى الأمر بينهما بالطلاق. وما لبث أن تزوَّج من امرأةٍ ألمانية، فهيَّأَت له حياةً مستقرة لم يعرفها من قبلُ، وعاش حياته سعيدًا أو كالسعيد ما بين مصر وألمانيا. ومن العجيب أن حديثه شهد على ما اكتسبه في حياته من نضج وحكمة وثقافة جعلَت منه شخصًا جديدًا بالغ الروعة. لم يكن من أنصار الثورة ولكنه أيضًا لم يكن من أعدائها المتعصبين وحسبُه ذلك. وحظي بمستوى معيشة حسنٍ بفضل معاشه وميراثه. وقد تجلى إخلاصه في حزنه الشديد في أعقاب هزيمة ٥ يونيو، وانتعاش روحه عقب حرب ٦ أكتوبر. وكان يجب أن تتوقَّف دراما حياته عن إفراز المفاجآت ولكن زوجته الألمانية أهدت إليه آخر المفاجآت؛ فبعد المعاشرة الطويلة والإيغال في الشيخوخة إذا بها تتمرَّد فجأةً على حياتها الزوجية واستمرار الحياة في مصر، وانفصلَت عنه راجعةً إلى ألمانيا تاركةً إياه في وحدة وشيخوخة، وقال: هجرَتْني الولية المجنونة في سن لا تسمح بعلاج لوحدتها!

ولكنه خُلق حمَّالًا للهموم والمصائب، وظل يُمتعنا بمعاشرته العذبة حتى طلَع علينا «الأهرام» ذات صباح بنعيه، وانضم ركبٌ من الذكريات الحميمة إلى القافلة التي لا تتوقَّف عن السير.

آل ضرغام

ويجيء بعد آل الكاشف بيت آل ضرغام، ويقيم في البيت، ربُّه ضرغام الهندي وبكريته صافيناز وابنه الأصغر — صديقنا — سيد، أما الأم فقد رحلَت عن دنيانا من قبل انتقالنا إلى شارع الرضوان بأعوامٍ ثلاثة. الأب متوسط القامة، قمحي اللون، واضح الملامح، صلب القسمات، يوحي منظره بالحدَّة والجدية والتجهُّم. يملك محل رهوناتٍ بباب الخلق يستأثر بكل وقته من طلعة الصبح حتى هبوط المساء. وعدا الاشتراك في واجب العزاء فلم يعرف واجبًا من واجبات الجيرة. وعم فرج يقول عنه في غياب سيد طبعًا: غضب ربنا مطبوع على وجهه!

وخُيِّل إلينا أننا نرى أثَر الغضب الإلٰهي في وجهه الجامع بين الحسن والصرامة، ولكن عم فرج كان يُعرِّض بمهنة الرجل الحقيقية وهي الإقراض بالربا رغم إسلامه الرسمي، بل وصفه كثيرون من أهل شارعنا بالملعون، ولم يخفَ ذلك عن سيد، ولم يبدُ أنه اكترث له أو اغتَم. وكانت صافيناز على جمال ورشاقة فعَشِقها يهودي من سكان السكاكيني وتزوَّج منها بعد إشهار إسلامه، وسمعنا أنه تاجر أقمشة، وعلى درجةٍ حسنة من الثراء، كما كان من المتعاملين مع ضرغام في حقل العمل. وصديقنا سيد صبوح الوجه، رشيق، ضحوك، مطبوع على اللامبالاة، وكنا نحبه لجاذبيته وصراحته وذكائه، كما نجد في لامبالاته موضعًا دائمًا للإثارة. وما أَشبهَه بسامح في موقفه من التقاليد! ولكنه من نوعٍ آخر ولأسبابٍ مختلفة، وقد زاملنا في المدرسة الابتدائية ثم تحوَّل منها إلى التجارة المتوسِّطة رغم استعداده الطيب للنجاح؛ إذ إن أباه ضرغام أفندي هندي نجح في أن يصُبَّه في قالبه، فقال له: لا أهمية للتعليم إلا كتمهيد للعمل، فلا تهتم بالشهادات.

كان يُعِده ليَحُل محلَّه في محل الرهونات والإقراض بالربا. ولم يمهله حتى يرشُد فقرر أن يؤقلمه بجو العمل وعبادة المال من صباه. الأول جعل منه المحصل الأمين لأقساط قروضه ليمارس ويتدرَّب ويندمج، ومضى يتردَّد على المقترضين بدفتر الإيصالات ويُحصِّل الأقساط ويرجع بها إلى أبيه سعيدًا فخورًا نظير نسبة من الأرباح. وتعلَّم منذ تلك السن المبكرة أن يربح وأن يدَّخر وأن يعرف لكل مليمٍ قيمته، ويقول لنا ضاحكًا: كلما أقبلتُ على رجلٍ منهم فرَّ الدم من وجهه!

فيقول له حسن الفنجري: أهلًا بعفريت الرجال!

وتأدب بآداب أبيه في تقديس القرش وعبادته، ولم يكن يصرف مليمًا إلا لضرورةٍ مُقنِعة. وتعوَّد منذ صِغَره أن يسمع الغمز واللمز يقرضان سمعة أُسرته، وتُهَم الشح والكفر تنهال عليها، فنشأ بكل بساطة مزدريًا للدين والتقاليد والأخلاق التي تدين أباه وعمله. كان وثنيًّا وكأنه من مواليد الغابة مثل طرزان، بلا دين ولا وطن، ثم قرَّر أن يعيش بلا أُسرة أيضًا؛ يسخر دائمًا من الزواج والأُبوة، ولم يُخفِ دهشته من المجانين الذين يتزوجون، ولم ينتمِ لأي مبدأ أو رأي أو شرق أو غرب. ولعلَّه من أعجب الأمور أن تجمع شلتنا كل تلك المتناقضات وأن تحافظ في ذات الوقت على المودة والحب بين أفرادها! وفي الثلاثينيات تُوفِّي ضرغام أفندي هندي بالسكتة القلبية، وافته المنية في بيت من بيوت الدعارة الرخيصة! لم يتزوج الرجل بعد وفاة أم سيد. لعل حرصه على المال هو الذي صدَّه عن طريق الزواج، ولم يُعرف عنه في حياته كلها أنه ممن يستجيبون إلى قلوبهم في قول أو فعل؛ ولذلك فإن مخاوف صديقنا سيد من تلك الناحية كانت وهميةً ونتيجة لسوء ظن في غير محله بأبيه. كلا، عاش الرجل أمينًا مع نفسه تمامًا، وكان كلما ثقُلَت عليه الوحدة روَّح عن صدره بزيارةٍ سرية لبيت من بيوت الدعارة. وشاء سوء حظه أن تفيض روحه في آخر مغامرة من مغامراته؛ لذلك كثُرتْ نوادرنا حوله، وجعل منه حسن الفنجري شخصيةً أسطورية مثل جحا، وكان سيد يشاركنا في المزاح ويسبقنا في الضحك. كان يُباهي بكل ما يُؤخذ عليه من البخل والإقراض الربوي والوثنية ونوادر أبيه. وبموت أبيه حل محلَّه في دكانه وعمله وورث نصيبه من أمواله المكنوزة في البنوك، وبات من أغنى الأغنياء بكل معنى الكلمة. وكان بخلاف أبيه لا يضن على نفسه بمتعة، فجدَّد البيت بناءً وأثاثًا، واقتنى سيارة فورد، وقال مُلخِّصًا فلسفته: سأعيش طيلة عمري عزبًا، حسن! يجب أن تكون العيشة محترمة، مسكنًا وملبسًا وطعامًا وجنسًا، ولا مليم وراء ذلك إلا بحساب!

لا مليم وراء ذلك. وأذكر أنه أثار مرة ضجة لخلاف حول مليم في حساب مشترك بينه وبين سامح، وأراد سامح أن يغالطه على سبيل المزاح ولكنه اضطُر إلى التسليم إيثارًا لراحة الدماغ. ومن صفاته البارزة بُعده الكُلي عن الفن والثقافة وجهله الكامل للحب؛ لم تُحرِّكه أي فتاة، ولم يخفق قلبه أبدًا بغرام، وكان للمرأة وقتٌ محدد في جدوله الأسبوعي، وقد يختارها من الملاهي ويؤدِّي لها ثمنها المرتفع ثم يمضي إلى حال سبيله. ومرت بوطنه أحداث وأحداث وهو ينظر إليها من بعيد أو لا ينظر إليها على الإطلاق. وراح الزمن يتقدم وهو يكبر ولا يتغيَّر ضاربًا المثل الحي للرجل الناجح السعيد. وأسأله أحيانًا: ألا تشعر بالوحدة؟ ألا تحن إلى الأُبوة؟ ألا تندم على شيء فاتك؟

فيقول ضاحكًا ساخرًا: إنك تسأل عن أوهامٍ بدافعٍ من أوهام!

– قد يضعف الإنسان في شيخوخته؟

– لم يفُتْني الاستعداد لذلك!

– كيف؟

– إني أحتفظ للظروف السيئة بسُمٍّ يقتل في ثوانٍ!

نظرتُ إليه ذاهلًا، فقال: قد ترى حياتي سخفًا، ولكني هكذا أرى حياتكم!

– على أي حالٍ لن تأخذ المال معك إلى قبرك؟

– المهم أن يسند ظهري في هذه الحياة.

طالما أحنقَني لتمرُّده على نظرياتي. طالما توقَّعتُ أن يقع في حب ليخلقه من جديد ولكنه لم يقع في حب. طالما تصوَّرتُ أنه سيندم في شيخوخته على ما فاته في شبابه ولكنه لم يندم. أصر على أسلوبه في جمع المال، وشُرب الوسكي الفاخر، وتناوُل الطعام اللذيذ، والزيارة العابرة للغانية الأثيرة، والبُعد الكُلي عما يُكدِّر الصفو من شئون الدنيا والآخرة. ومرةً على الأقل تنَبَّه إلى أن راقصةً تُعامِله بحنانٍ خاص، وتُلاحِقه بالتليفونات، وتُفاجئه بالهدايا، وترجَم ذلك باللغة الوحيدة التي يُتقِنها، وهي أنها ترمي شِباكَها لتغتال ماله، وقطَع علاقته بها دون مقدِّمات، ولديه جرأةٌ على ذلك لا تُبارى. واقتحمَت عليه مجلسه في الأوبرج ذات ليلة لتُصارِحه بأنه بلا قلب، فقال لها ساخرًا كعادته: أعرف للقلب وظائفَ كثيرة ليس بينها الحب!

وتشفَّعتِ المرأة إليه ببعض معارفه، فقال: الكرم نفسه أقرب إليَّ من الحب!

فإذا سُئل عن سِر الحب الذي وقع فيه كثيرون من شلَّتنا قال: إنه الحرمان، هذيان الحرمان وخيالاته.

فسألتُه متحديًا: وملك إنجلترا الذي تنازل عن العرش من أجل امرأةٍ مطلَّقة؟

– الجنون حقيقةٌ موجودة، يجب أن نُسلِّم بهذا!

غير أنه اعترف في شيخوخته بأن الجنس الميكانيكي يضعُف ويُدرِكه الخمود.

ولعلَّه لم يعرف الخوف إلا بعد قيام ثورة يوليو. أجل، لم يكن من ملاك الأراضي ولا من رجال السياسة، ولكنه على أي حالٍ ينتمي إلى الطبقة الغنية التي ترمقُها الثورة بريبة وعداء. ومن أجل ذلك، وبمعاونة بعض أصدقائه من اليهود، هرَّب بعض أمواله إلى الخارج. ومضى يهتم بالسياسة وأخبارها لأول مرة في حياته، وجعل يقول لنا صراحة: جلا الإنجليز عن البلاد وأخذوا معهم القانون والأمن!

وتعالت الاعتراضات في ركن المقهى، فقال بإصرار: نحن لا نصلح لحكم أنفسنا، وإذا لم يكن بُدٌّ من أن يحكمنا جيش فمن الأفضل أن يحكمنا جيشٌ متحضر.

لذلك اعتبر يوم ٥ يونيو عيدًا في حياته، ومضى يقول شامتًا ساخرًا: المسألة أن الجيش لا يجوز أن يحارب في جبهتَين، وقد انتصر الجيش علينا في الداخل فله العُذْر إذا انهزم في الخارج!

وجاء الانفتاح فكان عيدًا آخر، وتنوَّعَت أعماله وتضاعَفَت أرباحه، وكان يقول: يقولون إننا نرتمي باختيارنا في حضن الاستعمار الأمريكي، فاللهم بارك خُطانا!

وهو اليوم في الخامسة والسبعين، قلَّ نشاطُه ولم ينعدم، صحَّته حَسَنة، ومزاجه رائق، وضحكته عالية. وقد اكترى شقَّة على النيل في طريق المعادي في الدور الخامس عشر، ويقسم لياليه بين ملاهي الهرم ومقهى العباسية.

آل العلوي

جيران السناوي. ولبيتهم ميزاته من الضخامة النسبية وجمال الأثاث والرياش، فضلًا عن أن جدرانه معرضٌ وطني لزعماء الوفد. وآل العلوي أُسرةٌ عريقة في الثراء والجاه، وجدُّهم مذكور في تاريخ الجبرتي بين النخبة الوطنية المصرية، وعندما انتقلتُ إلى شارع الرضوان وتوثَّقَت عُرَى الصداقة بيني وبين ابنهم الأصغر جميل، كان رب الأسرة قد لزم الفراش طريحًا مفلوجًا، وكانت الأم تقوم بواجبات الوالدَين معًا. وإلى ذلك كان له أَخوان من أهل العلم والخبرة يشغلان وظائفَ مرموقة في الحكومة، وأختان متزوجتان من موظَّفَين كبيرَيْن، والأم سيدةٌ ممتازة حقًّا ممن سبقن إلى التعليم في أعلى درجاته المتاحة، وشاركن في الحركة الوطنية، واحتلَّت مركزًا رفيعًا في لجنة السيدات الوفديات، هو بإيجاز بيت علمٍ وجاه ومال ووطنية. ولمَّا مات الأب شَهِد شارعنا جنازةً كبرى سار في مقدِّمتها سعد زغلول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد وماهر والنقراشي وغيرهم من أساطين الثورة المصرية. وجميل مشرق الوجه، رياضي الجسم، نبيل المظهر، ولكنه انحرف عن سبيل أُسرته فوهب نفسه للرياضة واللهو، ولم يُحقِّق في حياته المدرسية النجاح المتوقَّع، فحصل على الابتدائية بطلوع الروح، وغلب الحب أمه فلم تعامله بالحزم الواجب. جِل كان يطَّلع على المجلات والكتب، وكان ذكاؤه أكبر من همَّته فلم يُطبَع بطابَع التفاهة أو السطحية أبدًا، ولم يفتُر اهتمامه بالشئون العامة. وأُصيبَت أمه بمرضٍ عُضال لم يمهلها طويلًا فلحقَت بزوجها، ووجد صديقنا نفسه وحيدًا في بيت الذكريات مع الطاهي وخادمٍ عجوز. وتَسلَّم تركته الوفيرة في وقته فاقتَنى سيارة فيات وعاش عيشة الأعيان منذ شبابه الباكر. إنه مثال نادر الوجود في نبل أخلاقه ونقاء سريرته وشهامته وخفَّة ظلِّه وخالص مودته، فضلًا عن انتمائه القلبي إلى وطنه. ولا شك أنه تَنبَّه بعد فوات الفرصة إلى فداحة الخسارة التي حاقت به بإهماله الدراسة، وإلى الفوارق التي باعدَت بينه وبين أفراد أسرته والناجحين من أصدقائه، ولكن ذلك لم يُوغِر صدره على أحد، ولم يُرسِّب في أعماقه عقدةً من عُقَد النقص أو العظمة الكاذبة، فظلَّت العلاقة بينه وبين إخوته وأصدقائه على أتمِّ ما يكون من الصفاء والمرح، ولكنه من ناحيةٍ أخرى انغمس في ملاهي الشباب، فعشق النساء وشرب الخمر وجرَّب المخدرات. وربما شابه سيد ضرغام في استهتاره أو سامحًا في تمرُّده على التقاليد، ولكن ذلك اقتصر على السطح دون الأعماق. كان صاحب عقيدةٍ دينية ومبادئَ أخلاقية ووطنية، ولكن بقَدْر ما امتلأ قلبه بالأنوار بدا سلوكه منحرفًا مستهترًا متمردًا، يؤمن بالله ودينه ولكن لا يؤدي فريضة ولا يحترم طقسًا، ويتأجَّج قلبه بالوطنية ولكنه لا يُترجِم ذلك إلى سلوك أو فعل، فلم يتَّفِق قلبه وسلوكه إلا في المعاملة، معاملة الأصدقاء بصفةٍ خاصة والناس بصفةٍ عامة. ومضى في حياة اللهو ما بين القاهرة والإسكندرية حتى فكَّرتْ أختاه في تزويجه من بنت الحلال المناسبة. ولمَّا فاتحتاه في ذلك، قال بهدوءٍ حازم: لن أتزوَّج، إنه قرارٌ قديم ولكنه أبدي!

ودُهِشْنا لما سمعنا. وكان عبد الخالق — الملهوف على الزواج والمحروم منه لفقره — أشدَّنا دهشة وقال له: تستطيع أن تتزوَّج من أحسن بنت في البلد!

ولكنه كان يفكِّر تفكيرًا مختلفًا، الزواج الذي تقترحه أختاه زواج الكفاءة، والأُسرة والعرائس في طبقته يتطلعن إلى المركز والشهادة مع المال أو قبل المال. وهو يتحمل أي شيء إلا أن يُرفَض لتعليمه الرسمي المحدود أو بطالته! فتَحْتَ إشراقة الوجه وسماحة الخلق ولطافة المعشر كَمنَت الكبرياءُ كقوة لا تعرف الوسط، قلت له: تُوجَد ولا شك من تُرحِّب بك.

فقال باسمًا: لست شحَّاذًا!

ورغم كل ما قلتُ عنه فإن قصته الحقيقية لم تبدأ بعدُ، ألم تبدأ وتَنتهِ مع القمار؟ أجل، إنه متعدد الهوايات؛ فهُناك الصداقة والحب العابث والشراب والقراءة والسينما، ولكن كل أولئك لا تُمثِّل إلا هامش حياته فقط، أما اللب والجوهر والماهية فهو القمار، بدأ لعبه هواية، تسلية، وتمكَّن واستفحل حتى صار جوهر الحياة ومعناها ونبضها وحُلمها وكل شيء فيها، صار قلبه وعقله وخياله وأعصابه، قلنا إنه القمار والقمار هو. النرد والبصرة، البوكر، الكونكان في المقهى، في البيت، في النادي، ثم بعد التحريم في بيوت القمار السرية. وكان له وقتٌ معيَّن وللأشياء وقتُها، ثم الْتَهَم الليل كلَّه حتى مطلع الصبح، وأصبح لكل شيء سواه وقتٌ يُخطف خطفًا، وأصبح المحور وكل شيء يدور من حوله. المائدة هي الأصل، وقد يشرب وهو جالسٌ إليها، أو يتناول طعام عمل، أو يعشق امرأةً مقامرة. كل لذَّة باتت ثانويةً بالقياس إلى القمار، حتى الحب نفسه. كأن الكون لم ينفجر، والأرض لم تُولَد، والحياة لم تُوجَد، إلا كي يتمخَّض عن ذلك كله الكوتشينة الملوَّنة المزركَشة برموزها وأعدادها المقرِّرة للمصائر. ولم تُؤثِّر المقامرة في صفاء أخلاقه؛ فلم يُقارِب الغش، ولا التآمر، ولا الحقد أو الغضب، حتى لو تبيَّن له أنه كان ضحية اغتيال واحتيال، وجرت الحياة على منوالٍ واحد حتى بلغ الخمسين من العمر، وعقب استيقاظه من نوم النهار، ذات يوم من الأيام، ما يدري إلا ويدٌ تقبض على عنقه، وتضغط بغلظة على جهازه التنفسي، وتمزِّق حنايا صدره. ويخفُّ إليه طبيب الحي ليعلن عن مجيء الذبحة الصدرية، ويصف العلاج والرجيم ويوصي بالتزام الفراش شهرًا على الأقل، لم يصدق ولم يستسلم. أبى أن ينضم إلى زمرة العاجزين أو شبه العاجزين، أبى أن يحرم نفسه من طيبات الحياة من أجل ضربةٍ عابرة. وما كاد يشعر بتحسُّن مع دخول الليل حتى نهض فارتدى بدلته وذهب إلى سهرته! ورجع إلى بيته في الصباح الباكر ليتلقى الضربة الثانية. ولم يصدق الطبيب ما حصل، وقال: إنه الجنون نفسه!

وأدرك على رغمه أن الحال تقتضي جديةً وصبرًا فاستَكَن. ولمَّا استَردَّ صحته فكَّر في الأمر مليًّا. إنه مطالب بتناول الدواء بصفةٍ مستمرة، والحرمان من لذيذ الطعام، وتجنُّب الانفعالات أو القمار بمعنًى آخر. وبمعنًى آخر أيضًا إذا أراد الحياة فليقنع منها بأن يكون جثةً محنَّطة، ليستمر نبضه وتنفُّسه عددًا من السنين. كلا، ليس هو ممن يختارون هذه الحياة، إنه لا يخاف الموت ولا تُزعِجه فكرته، وما تهمُّه إلا الساعة التي هو فيها. والموت آتٍ على أي حالٍ سواء سُبق بالفوضى أم بالنظام، بالاستهتار أم الحرص، فاحْيَ حياتك وليكن ما يكون. ومارس حياته كأن لم تعترضها ذبحة أو طبيب أو إرشاداتٌ طبية. ويراقبه الأصدقاء بقلق، ولا يضنُّون عليه بالموعظة والإرشاد. ويشيدون بفضيلة الاعتدال، تذكَّر ما وهبك الله من مال وحرية وعقل، تُوجَد فرصٌ كثيرة للحياة الطيبة الطويلة، ولكننا ننهزم حيال ابتسامته الحلوة الساخرة الملخِّصة لفلسفته في الحياة بلا كلام، بل إنه اعترف لنا ذات يومٍ قائلًا: الدهن الحيواني محرَّم عليَّ كما تعلمون، ولكنَّني لا أرضى بأقل من ست كعكاتٍ من كعك العيد!

وصاح به حسن الفنجري: إنها تُتخِم مدينةً صغيرة لا معدة فرد من بني آدم!

وواصل سهره مع القمار إلى الصبح، وخطر لي يومًا أن أسأله عما يجذبه بكل تلك القوة إلى مائدة القمار. توقَّعتُ أن يقول الفراغ أو الضجر أو اليأس ولكنه أجابني مرةً في لحظة صدق: المائدة تجمعني بنخبة من الأكابر، لا على أساسٍ من المساواة فحسب، ولكنها تمنحني السيادة أيضاً في كثير من الأحايين، ولا تَنسَ لذتها الجنونية!

ويئستُ من تقويمه، وتوقَّعتُ مصرعه بين يوم وآخر. سنخسر صديقًا من أنبل من عرفنا في حياتنا، صديق الذكريات الطيبة التي لا تشوبها شائبة. ولم تصدُق مخاوفي، بل خُيِّل لي أن الذبحة تناسَتْه كما يتناساها، وأنه أحرز انتصارًا على قوانين الطبيعة، وفاجأنا وهو يقترب من الستين بقوله: أريد أن أتزوج!

أعلن رغبته بعد انقضاء عامَين على وفاة امرأةٍ عاشرها طويلًا، عرفَها في بيت قمار، واتخذها خليلة، وجمعَت بينهما ألفة كالزوجية أو أشد، وطالما ألحَّت عليه أن يتزوَّج منها وأن يتوب عن القمار ولكنه جاد بكل شيء إلا الزواج. وماتت فجأة، ولأول مرة أراه يبكي بحرارة، لأول مرة يكشف عن قلبه الذي يخفق بالحب كما يخفق بالحزن، كأنما أرى شخصًا جديدًا تمامًا، أجل شهدتُ حزنه يوم وفاة مصطفى النحاس، ولكنه مر سريعًا، وحسبتُه تحيةً قلبية لذكرى والدَيه. أما هذه المرة فقد بكى بكاءً مرًّا وسلَّم نفسه لنوبته بلا حرص، ولم يعُد الرجل الذي يتحدى الموت ليله ونهاره. وبعد انقضاء عامَين حن إلى الزواج، ولم يبذل من ناحيته أي جهد لتحقيق رغبته ولكنه أعلنها لنا وانتظر. وتحاوَرْنا في حَيْرة، حقًّا إنه رجلٌ ثري وجيه وابن أُسرةٍ كريمة، ولكنه في الستين من عمره ومدمن قمار ذائع الصيت، لن ترضى به امرأة إلا بعيبٍ فيها أو طمعًا في أن ترثه بعد موته. وشَعَر بأننا نحرث في بحرٍ كما يقولون فتجاهل رغبته، وطواها في صدره، وواصل حياته المنعمة بالعنف والتحدي واللامبالاة.

وأخيرًا جاءت النهاية، جاءت الذبحة، ربما متأخرة عن توقُّعاتنا، ولكن مُضاعِفة لدهشتنا وانزعاجنا. وكنا معه على موعد، ولكن حيل بينه وبين الوفاء به في هذه الدنيا.

آل كناشة

في جوار آل ضرغام يقوم بيت آل كناشة وهو الأخير في هذا الجناح. ربه الشيخ محمد كناشة، قارئ القرآن الكريم، لا هو من المشاهير مثل علي محمود وإسماعيل ندا، ولا هو أيضًا من قُراء المواسم في القرافة ولكنه في منزلةٍ متوسطة ضَمنَت له رزقًا لا بأس به، وزوجته فلاحةٌ ودودة لا تخلو من وسامة. للأسرة ذريةٌ مباركة، مكوَّنة من سبع بناتٍ متزوجات، وولدَين إبراهيم وزكي وهما من أصدقاء صبانا. وقد حصلا على الابتدائية وأمضيا سنواتٍ عقيمة في الثانوية. كانا مشغوفَين بالغناء، ويسترسلان فيه كلما وجدا فرصة أو تشجيعًا منَّا. وإبراهيم قصير القامة، قوي البنية، لا قبح في وجهه ولا جمال، وزكيٌّ، رشيقٌ، مليح، ورث عن أمه خير ما فيها. وربما شاركانا بعض الشيء في اهتماماتنا الوطنية، على حين اقتصَرتْ ثقافتهما على حفظ الأدوار والتواشيح القديمة ثم مضيا مع الزمن يحفظان أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب. ومع الأيام تميَّز كلٌّ منهما باتجاهٍ فني خاص، فمال إبراهيم إلى الأغاني الجادة، وفي حين تبلورَت موهبة زكي في أداء الطقاطيق والمونولوجات حتى أطلق عليه حسن الفنجري «الرقيع ابن الشيخ». ومالا معًا إلى الالتحاق بمعهد الموسيقى الشرقي، واعترض الشيخ محمد بادئ الأمر، ولمَّا يئس من نجاحهما في الثانوية، وافق فالتحقا بالمعهد، وبعد التخرُّج اشتغل إبراهيم مطربًا بصالة نعيمة الضباطي، وضَمنَت له حنجرته حياةً عادية، فتزوج وأعاد من جديد حياة أبيه مع اختلاف المضمون. أما زكي فعمل «مونولوجست» في صالة ببا، ولم تُبشِّر حياته بقفزاتٍ غير متوقَّعة، لولا أن أحبَّته سيدةٌ غنية. ودفعَت به قصة الحب إلى أغلفة المجلات الفنية، وزكَّى منظره الحسن نجاحه المثير. تُوِّجَت قصة الحب بزواجٍ شرعي، وأتاح له ثراء زوجته أن ينشئ «الفونتانا» أجمل ملاهي شارع الألفي في وقتها. قام مبناه من طابقَين؛ الأول كافيتريا حديثة والأعلى مَلهًى ليلي للغناء والرقص، وأحاطت بالمبنى حديقةٌ جميلة بارعة الجمال. وأصبح زكي مدير المحل، بالإضافة إلى بعض المونولوجات يلقيها آخر الليل من مختارات أُلِّفتْ لأجله ولُحِّنتْ بإشرافه، وقد نجحَت وذاعت على ألسنة السكارى وأهل الانبساط من الجنسَين. ولم يُقسَم له أن ينجب كأخيه إبراهيم فركَّز عنايته بذاته، وسهرنا نحن الأصدقاء في الملهى ورأينا صاحبنا وقد خُلق من جديد في صورةٍ غاية في الجمال والأناقة، قال حسن الفنجري: انظروا إلى مفعول الغذاء الطيب!

وعند انتهاء الحرب العالمية الثانية تُوفِّيتْ زوجته فأصبح من كبار أغنياء البلد، وقال صديقنا عبد الخالق: صدق من قال: قيراط حظ ولا فدان شطارة! وكان تنكُّره لأسرته؛ والدَيه المسنين وأخيه إبراهيم، وصمةً في جبينه لا تُمحى أبد الدهر. ليس كتنكُّر أحمد شقيق عبد الخالق لأُسرته؛ فأحمد كان في الواقع فقيرًا وكانت زوجته هي الغنية وشاءت أن تستأثر به وأن تكره أُسرته من أول يوم. أما زكي فقد آلت إليه ثروةٌ خيالية وظل تنكُّره لغزًا ووصمة. وما لبث أن عَشِق راقصة اشتُهرتْ بجمالها فتزوَّج منها، وبدا سعيدًا مرحًا رغم أنه لم ينجب، وشيَّد في الهرم قصرًا ضُرب بجماله المثل وعاش عيشة الملوك. ولم يَجِدَّ جديدٌ من ناحيته حتى ترامت إلينا أنباءٌ غامضة عن مرضٍ ألمَّ به، وتأكَّد الخبر لمَّا سافر إلى الخارج للعلاج. ورجع بمرضه دون شفاء، ولم يجئ ذِكرٌ للمرض صراحةً ولكنه كان يُوصَف تارةً بالخطير وأخرى بالخبيث. وأخبرنا إبراهيم بأنه — أخاه — حُرم من أحب الأشياء في الدنيا إلى نفسه؛ الجنس والطعام! قال إبراهيم بشماتة: غير مسموحٍ له إلا بمرقة النابت!

ولم تتحمَّل زوجته الجميلة عشرته طويلًا فاضطُر إلى تطليقها، وأصبح وحيدًا بلا عزاء. وفي تلك الأيام رأيته مرةً في «الفونتانا» وهو يشرف على إدارتها كنوع من التسلية. والحق أني فزعتُ لمرآه؛ لم أَرَ رجلًا ولكني رأيت جثةً محنَّطة، جثةً محنَّطة تلتوي شفتُها راسمة امتعاضًا أبديًّا احتجاجًا على عبَث الأقدار به. له من المال ما يمكنه من امتلاك أي شيء، وليس له من الصحة ما يمكنه من الاستمتاع بأي شيء. وانساق مع حظه إلى الهدف الوحيد الباقي له وهو الجنون!

فقد حصر كل اهتمامه بقبره، نعم قبره، حتى لو استنفَد ذلك ثروته الطائلة. اشترى أرضًا في مدافن الخفير لعلها أكبر أرض خُصِّصتْ لمدفن في مصر، وغرس بها حديقةً غنَّاء تصلح أن تكون حديقةً عامة. أما القبر نفسه فقد شيَّد ظاهره وشواهده من الرخام النفيس المنقوش بآيات الرحمن، وبلغ اتساع منامته حجرة استقبالٍ واسعة، وطُعِّمتْ جدرانه بالرخام وغطيت بالسجاجيد الفارسية، ورُكِّبتْ فيه أنابيبُ للإنارة تستمد طاقتها من مُولِّدٍ كهربائي وأَوقَف على المدفن وخدماته مالًا يفي بالإنفاق عليه أبد الدهر. قلنا إنه لا ينقصه إلا أن يحنِّط جثَّته ويدفن معها متاعه من الجواهر والطعام والثياب! أراد ألا يرثه أحدٌ من الشامتين، ولا أدري مدى توفيقه في ذلك. وفي الخمسينيات مات زكي كناشة فلم يحزن لموته أحد، وقال صديق: لم أعرف في حياتي من هو أقسى منه!

فأجاب صوت: الحياة نفسها تبدو أحيانًا أقسَى وأمرَّ.

آل عديلة الحرة

آخر بيت في الجانب الآخر فيما يلي آل العلوي. عُرفَ البيت باسم صاحبته عديلة الحرة، أما اسمها فعديلة، وأما لقب الحرة فأُضيف إليها على سبيل المدح المقصود به الذم. ويقيم في البيت عديلة ربَّتْه وابنتاها نبيلة وسناء. ويروي عم فرج تاريخ الست فيقول: إنها كانت زوجة لرجل يُدعى عبد الله سنان، كوَّن ثروةً لا بأس بها من السمسرة، فشيَّد لها هذا البيت وكَتبَه باسمها، وأنجب منها نبيلة وسناء. وقُبيل انتقالنا إلى الشارع بعامٍ واحد سافر الرجل إلى بَرِّ الشام لشأنٍ من شئونه، وهو من سُلالةٍ شامية، ثم لم يعُد وانقَطعَت أخباره. ويُفسِّر عم فرج اختفاء الرجل بأن عديلة كانت فائقة الجمال والدلال، وأن سلوكها لم يكن فوق الشبهات، وعجز زوجها عن كبحها فهرب!

– تجنَّب مواجهتها بالطلاق خوفًا من طول لسانها، والظاهر أنها كانت تعرف من أسراره ما لا يُحب أن يُعرف.

على أي حالٍ اختطَّت لنفسها طريقًا جديدًا غير معهود في شارعنا، فانطلَقتْ في تَحرُّرها إلى آخر المدى. وأصبح بيتها مع الزمن ملتقى الأعيان من العباسية الشرقية، يتسلَّلون إليه بليل كالزنابير محمَّلين بالهدايا، فيقضون فيه أطيب الأوقات مع ربَّة البيت ثم معها ومع ابنتَيها الجميلتَين. وكنا نراها أحيانًا تسير في الشارع بمفردها أو بصحبة نبيلة وسناء، في هالة من التبرُّج الفاقع، فيَنتَزعن الأعين من المحاجر ويُثِرنَ عواصف من الأقاويل. وكنا نُحملِق في نبيلة وسناء بأعينٍ مترعة بالجنون ولكنهما لم تُعيرانا أدنى التفات. وعلى ذلك تساءلنا: أين الشرطة؟ .. ألا تعلم بما يجري في هذا البيت؟! وقيل لنا إن الشرطة تعلم أكثر مما نعلم، وإن حماية الأعيان مبسوطة على البيت ومن فيه، بل وقيل إن الباشا وكيل الداخلية — وهو من سكان العباسية الشرقية — من عُشَّاق البنت الصغرى رغم فارق السن الهائل بينهما. وطُرح الموضوع للمناقشة فيما بيننا فتساءل عبد الخالق: هل يليق بنا أن نقبل هذا الوضع الشائن في شارعنا؟

فقال عزت بشهامته المعهودة: إذا تناومَت الشرطة فنحن الشرطة.

ورحنا نقذف البيت بالطوب فنُكدِّر صفو سهراته الخيالية. وجاء ردُّ الفعل سريعًا فتولى حراسة البيت نفرٌ من حرافيش الوايلي لا قِبَل لنا بهم، ولم يكن في مقدور عزت التصدِّي لهم. وعلى ذلك تجاهلنا بيت الحرة على مضضٍ مشاركين سكان الشارع سخطَهم الصامت. وفي أواسط الثلاثينيات غادَرتِ الأسرة بيتها كأنما قد ضاق عن نشاطها المتصاعد، فارتاحت الأنفس لذلك، واعتُبر يوم رحيلهم من أيام السعد. ولم نعُد نسمع عنهم خيرًا أو شرًّا، حتى رأيتُ سناء في تاريخٍ لاحق بانتهاء الحرب العظمى الثانية، في حديقة لبتون بصحبة ضابط جيش. لم تبدُ في مظهرها القديم ولكنها رفلَت في احتشامٍ أضفى على صحبتها للرجل روح الزوجية. وقد عجبتُ لذلك وتحيَّرتُ، ولكن الأيام أيدَت ظني، وعرفتُ من أكثر من مصدر أنها تزوَّجتْ من الضابط بعد قصة حب، ثم علمنا بعد قيام ثورة يوليو أن ذلك الضابط كان من القلة التي قرَّرتِ الثورة محاكمتها، وقد قُبض عليه وهو يحاول الهرب إلى الخارج وقُدِّم للمحاكمة وقضي عليه بالسجن. وظل البيت يعرف ببيت عديلة الحرة كأنما هي تسميةٌ تاريخية كرَّسها التاريخ. وحافظ على اسمه حتى بعد أن أقام فيه الشيخ الذهبي مدرس اللغة العربية والدين بمدرسة فؤاد الأول. وهو فلاح محافظ وزوجته فلاحة لم يغيِّر انتقالها إلى العاصمة من طباعها أي تغيير. وعرف الشيخ الاسم الذي اشتُهر به بيته بالمصادفة؛ فقد جاءه زائرٌ من البلد وسأل عنه في شارع العباسية فأشاروا إلى موقع البيت وردَّدوا على مسمعَيه اسمه، وأخبر الزائر الشيخ الذهبي ببراءة، وتحرَّى الشيخ عن الأمر حتى ألمَّ بأطرافه وثار غضبه، ويومًا دخل الشيخ الفصل فوجد أن مجهولًا من الطلبة قد كتَب على السبورة بأصبع الطباشير وبالخط الفارسي: «عديلة الحرة». واحتُقن وجه الشيخ بالغضب وكان شديد الغضب، والتفَت نحو الطلبة متسائلًا في تحدٍّ: مَن ابن العاهرة الذي كتَب هذا الاسم؟

ولم يَنبِس أحد، فقال ودفَقات غضبه في تصاعُد: قد تكون عديلة امرأةَ سوء ولكنها يقينًا أشرف من أُم من كتب هذا!

وبدأ الدرس.

وقد عاصرتُ من ألوان الفساد بألوانه وطبقاته وأنواعه ما يجعلني أذكُر عديلة وابنتَيها كما أذكر أحيانًا مكتشف النار في تاريخ الحضارة بالمقارنة بغُزاة الفضاء.

إذ شدَّني الحنين اليوم إلى زيارة العباسية فسرعان ما تتكشَّف لي عن عالمٍ غريب لا عهد لي به؛ لا الشرقية شرقية ولا الغربية غربية، اندثَرتِ الحقول والحدائق وتَوارى اللون الأخضر، عماراتٌ متراصة متلاصقة تنوء بأثقالها بلا لياقة أو جمال، شوارعُ جانبية مكتظَّة بالأطفال والصبيان، مختلف أنواع المَرْكَبات في سباقٍ جنوني، ضجيجٌ هائل يقتحم الفضاء مغلَّفًا بالغُبار، أكوام القمامة تترامى كالتلال في الأركان، المواقع الواطئة غريقة في مياه المجاري، الغضب والعنف والسباب ينفجر في الآذان، ولا أعرف أحدًا ولا أحد يعرفني، وأتساءل، وأتساءل في حَيرةٍ بالغة: أين المغاني التي شَهِدَت أعذب المودَّات وأجمل قصص الحب؟!

وإنها لنقمة أن تكون لنا ذاكرة، ولكنها أيضًا النعمة الباقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤