أسعد الله مساءك

اليوم أبدأ حياةً أخرى، حياة التقاعُد؛ عمر طويل تقضَّى في خدمة الحكومة أفنى شبابي وكهولتي وأطل بي على الشيخوخة. وأظلني بولاء لملك وأربعة رؤساء فلم يشعر أحدُهم لي بوجود، لا يخالجني أسًى كبير لأني ما انتقلتُ إلا من درجة من الضجر إلى أخرى أسوأ وأشد. الذاكرة تُعذِّبني والخيال، فلعلَّه من حسن حظ الحشرة الهائمة في القمامة ألا يكون لها ذاكرة أو خيال، بل الأغلب أن الحشرة تهنأ بالقمامة، بالقياس إليَّ لا فارق يُذكَر بين مسكني البالي وبين القمامة. إنه لظلم وأي ظلم ألا أكون اليوم في بيئةٍ جديدة تزهو بالنقاء والنضارة، وألا أكون شجرةً تنعم بالأوراق والأزهار والثمار. وأذكُر أُسرتي فينقبض وجهي من المرارة والسخط، على أن وقت المحاسبة قد مضى وانقضى. لا أُريد أن أُصدِّق أنني عايشتُ هذه الحجرة منذ عهد التلمذة وحتى عهد التقاعُد، هيئتها ومحتوياتها لم تكَد تتغير إلا قليلًا، هذا السرير الخشبي ما أصلبه! سريرٌ معمر لم تنَل السنون من صحته وقوة احتماله، لا يحظى أثاث هذا العصر بمثل هذه القوة المتحدِّية. وصوانٌ متوسط الحجم ذو ضلفةٍ واحدة تشغلُها مرآة من أعلاها إلى أسفلها، طرازٌ منقرض تمامًا، ومكتبٌ صغير قائم بين النافذتَين متين القوائم مقشَّر السطح راجعتُ فوقه دروسي الابتدائية والثانوية والجامعية، وكنبةٌ تركية طويلة جديرة بالمتاحف، وسجَّادة فارسية — هدية البكالوريا — هي المتاع الوحيد المحافظ على رونقه. لم تعُد هندسة البناء الحديثة حجراتٍ بهذا الاتساع، ولا أسقُف بهذا الارتفاع، ولا أرضية مركَّبة من البلاط المعصراني. العمارة نفسها آن لها أن تُحال إلى التقاعُد، وشارع أبو خودة لم يعُد له من مضمون الشارع إلا اسمه. نفايات الدهر الغليظ تتوارى في أركانها المظلمة أجمل الذكريات، ولا جديد ألبتة إلا السكان الجدد ينفثون الغربة والابتذال والاستفزاز. وحيد في شقةٍ كبيرة، من حجراتٍ أربع وصالةٍ تتكوَّن، يغزوها التراب، وتقطنها معي الصراصير والفئران. أتصدَّى لكل شيء دون جدوى، للغزاة والوحشة والكآبة، وللذكريات الحلوة أيضًا، وألعن الذاكرة والخيال، أقول لنفسي — خاصة وأنا أنظِّف حجرتي وأرتِّب فراشي — إنني كنت يومًا مناط الأمل وقطب العناية المركَّزة في تلك الأُسرة الغابرة، وكنتُ أيضًا الضوء الذي ترف حوله فراشاتٌ جميلة؛ إي والله في غاية الجمال والعذوبة والجنس. وحُلمي كان حُلمًا متواضعًا في متناول كل شاب؛ أن أتزوج وأستقر في أُسرة بين أبناء. لم يناوشني طموحٌ كبير فأشقى به أو له، عَرفتُ الطموح عند أصدقاء وزملاء، منهم من وصل وتألَّق، ولم يكن حلمي إلا الخطوة الأولى في طريقهم الطويلة فكيف خاب السعي وانقلب الهدف، كيف أجدني اليوم وحيدًا بين يدَي التقاعُد، لا أنيس لي إلا الراديو والتليفزيون والذكريات المعذَّبة، والحوار الذي يدور مرارًا وتكرارًا بيني وبين أشباح أُسرتي الزائلة، أقول لهم لولاكم لكنتُ وكنتُ فيقولون لي ولولا الحظ لكنا وكنا، هل أُصِر على الغضب؟ هل أُسلم للشفقة والرحمة؟ ولا أجد أخيرًا ما ألعنه إلا الحظ. ومع العصر وشدة الحر ناداني المقهى؛ أيُّ منطلق فهو خير من سجن هذه الشقَّة المنفِّرة. لم يَبقَ لي أحد من أهل الزمان الأول؛ فمن مات مات، والقلَّة الباقية تغيَّرتْ مشاربها ومواقعها في المدينة الكبيرة. أما الطريق بين أبو خودة ومقهى النجاح في ميدان الجيش فقد رسخَت هيئته الحديثة بطواره المحطَّم وتياره البشري المُصطخِب وأصوانه المرعدة المزمجرة ومَركَباته المتنوِّعة المتلاصقة المتدفِّقة وغُباره المنتشر، رسخَت هذه الهيئة فجعلَت من أناقته القديمة وسماحته الزائلة وهدوئه الشامل حُلمًا من أحلام اليقظة. وأجد حمادة الطرطوشي في مجلسه على رصيف المقهى في انتظاري. سبقَني إلى التقاعد بخمس سنوات، وأغرانا بالتعارُف تقارُب السن والوحدة، وهو ذو شيخوخةٍ متجعدة متفجرة تمادت في احتلال القسمات والصوت حتى لَيبدو أكبر من سنه، رأسٌ أبيض كالشمع، وحاجبان ساقطان على جفنَيه كالأسلاك، ونظرةٌ منطفئة ذابلة مع ثَرثَرة ومرح. ووحدتُه قاصرة على الأصحاب، عدا ذلك فهو رب أُسرة وأبٌ لرجالٍ ناجحين ينتشرون في شتَّى الوزارات، فلم يعُد يشاركه بيته بشارع الشرفا إلا زوجته. استقبلَني بابتسامةٍ فضحت خواء فمه ونمَّت عن حرارة المودة التي تجمعنا وتمتم: أهلًا، هذا أول أيام التقاعُد، ربنا يطول عمرك.

فقلتُ متصبرًا: كآبةٌ عابرة ليس إلا.

– بالصراحة كان وقعه عليَّ أشد.

– ألا ترى أن هموم الحياة اليومية تغطِّي على ترف العواطف الرومانتيكية؟

فلوَّح بيده المدبوغة، وقال: صدقتَ يا عم حليم، والمعاش على أي حال أقل من المرتب.

– والمرتَّب لم يكن يكفي، وبين أصحاب المعاشات وضحايا المجاعة في إثيوبيا خطوة أو خطوتان!

ضحك ضحكةً صامتة، وتساءل بنبرةٍ جديدة: هل أطلب النرد؟

فقلتُ دون حماس: الوقت أمامنا طويلٌ طويل!

فقال بعطف: مشكلتك الحقيقية هي الوحدة!

– أي نعم، كانت الوزارة تشغل نصف العمر.

– اسمع نصيحتي، لا تمكُث في البيت إلا للضرورة القصوى.

فقلتُ متفكرًا: الوحدة ليست في البيت فقط، إنها هنا أيضًا!

وأشرتُ إلى صدري .. فقال باسمًا: أنت لا تسلو أبدًا عن حلم الزواج القديم!

فتساءلتُ بأسى: هل فاتت الفرصة؟

– الفرصُ بيد الله سبحانه، ولكن هل فيك الرمق المطلوب؟

فقلتُ بحرارة: يُجمعون على أن حالتي العامة أصغر من سني بكثير، وأحيانًا يُخيَّل إليَّ أني رُددتُ إلى فترة المراهقة، نجوتُ حتى اليوم من الأمراض المزمنة المتداوَلَة، لم أَخبُر من الأمراض إلا نزلاتِ البرد، أسناني كاملةٌ ومتينة رغم حشو أربعة ضروس، ولم أحتج إلى نظارة رؤية أو قراءة علمًا بأن ولَعي بالقراءة هبط إلى حد أدنى في السنين الأخيرة، وما زال السواد له الغلَبة في السيطرة على رأسي، ولكنني لا أُحب التمويه بذلك كثيرًا خوفًا من الحسد؛ فالحق أن الثقافة لم تقتلع من باطني بعض الرواسب القديمة، وقال حمادة الطرطوشي: إن وجدتَ فرصة فأهلًا وسهلًا، وإن لم تَجِد فارض بالمقسوم، وإن تكن تَحسُد المتزوِّجين أمثالي فهم أيضًا قد يحسدونك، والله ما هدَّ حيلنا وقصَّر عمرنا إلا الحياة الزوجية والثانوية العامة!

ما أكثر ما سمعت ذلك! يدخل في أذن ويخرج من الأخرى؛ أجل لم أحمل همًّا من تلك الهموم. وإلى ذلك كله عشتُ منذ رحيل الأُسرة بلا مطبخ؛ بالسندوتش والمعلَّبات، ومع الراديو والتليفزيون، ولكني لم أكُفَّ أبدًا عن التوق إلى الزوجة والأولاد، حتى الساعة لم أكُف، وأخيرًا وجدتُ الخلاص في النرد. وتظل ساعة الرجوع إلى العمارة المتهرِّئة بشارع أبو خودة أثقل الأوقات كآبة، على مدى صلتي بحمادة الطرطوشي اطَّلع على الكثير من خفايا حياتي. ولمَّا حكيتُ له حكاية ملك سألني: ما عمرها اليوم؟

– تصغرني بعام أو عامَين على الأكثر.

– وحالها كامرأة؟

– رأيتها مراتٍ من بعيد وأنا ماضٍ إلى المقهى في شُرفة شقتها، يُخيَّل إليَّ أنها ما زالت امرأة!

فقال جادًّا: أرملة، ابناها في السعودية بصفةٍ دائمة، وحيدةٌ مثلك وقريبةٌ لك، زُرْها يا أخي وجسَّ النبض!

ضحكتُ لغرابة الفكرة ولكنها عشَّشتْ في رأسي مذ اقترحها، وتخيَّلتُ عنها كل ما يستطيعه الخيال. وقبل ذلك لم تكُن تغيب عن خواطري وخاصة عند اشتداد أزماتي الجنسية، تزورني وأنا أتأهب لاستقبال النوم، ويدور الحوار وتحدُث الأفعال ولكن مع الفتاة القديمة، فتاة القلب والأحلام الزوجة التي أعدَّتها الطبيعة لي وأعدَّتني لها فيا للخسارة! لا أقول إنه حبٌّ فذ تحدَّى جميع تلك الأعوام؛ مات الحب في وقته، شهدتُ زفافها كالغريب، ولكنها الوحدة والجوع. وألعَن تقلُّبات الزمن التي اجتاحت وطني والعالم وغزَتْني في عُقر داري، وأصب لعناتي على موطني بين أبو خودة وميدان الجيش. وأتساءل من قبلي وُلِد، ونشأ وتقاعد في حيٍّ واحد وشارعٍ واحد وشقةٍ واحدة بل وحجرةٍ واحدة، كلما همَّ بالتحرك قبضَت عليه الأحداث. وعداوتي تتصاعد بصفةٍ خاصة نحو مدخل العمارة القديمة، واسع مظلم نهارًا وليلًا وبئر السلم مُكتظٌّ بالنفايات، السُّلَّم متآكل ذو لونٍ كآبي مُستمَد من القذارة، عمارة بلا بواب، وشقق بلا خدم، رغم شقائي بالتنظيف والترتيب فرائحةٌ ترابية تقتحم خياشيم الداخل، ووراء ذلك كله يجثُم التضخم والانفتاح والحروب والنظام الاقتصادي العالمي، وما كان لي من طموح أكثر من أن أتزوَّج من ملك ابنة قريبي بهاء أفندي عثمان. قال لي حمادة الطرطوشي ذات مرة: لا أتصوَّر أن الوطن سيخرج بسلام من أزمته.

فقلتُ له وأنا من القرف في نهاية: دعنا في أزمتنا نحن! .. عمرنا يُحسب باليوم وعمر الوطن بالقرون!

إنه محب للأحاديث العامة على حين أن همومي الشخصية دفنَتْني تمامًا، وأنظر إلى أطلال الشقَّة وأتساءل أحقًّا كانت هذه الأطلال مهد الدفء والحنان والكرامة؟! أمي بعد إنجاب فكرية وزينب أنجبت ستة ذكور ماتوا جميعًا في الطفولة ثم أنجبتني أنا، مجدِّد الأبوة والأمومة ولعبة القلبَين .. بل لعبة أربعة قلوب، وهل أنسى حُب فكرية وزينب؟ يشتركن جميعًا في إعدادي لصحبة أبي إلى المقهى للتسلية والفُرْجة، أمي تُمشِّط شعري، فكرية تُلبِسني بدلة البحَّار، زينب تُلمِّع لي الحذاء، يخرج أبي من حجرته متأنقًا غاية الأناقة، بدلةٌ آخر موضة، رائحةٌ زكية يُقطِّرها له الحلَّاق، عصًا ذات مقبضٍ عاجي، يُلقي عليَّ نظرةَ استحسان من نظَّارته المؤطَّرة بالذهب، ويقول لي باسمًا: تفضَّل يا حليم بك!

اسمه عبد القوي البيه، والبيه في الحقيقة اسم لا لقب ولكنه يضيفه عليًّ لقبًا، رغم أن جدي البيه كان فطاطريًّا في شارع الشيخ قمر. وفي المقهى يطلب لي الدندورمة، ويُحدِّث أصحابه عن ذكائي المبكِّر، ويقول: له صورةٌ تُذكِّرني بسعد زغلول في صباه!

الحق أن لي عينَين تريان أكثر مما ينبغي، تجمعنا المائدة جميعًا، ها هي الأُسرة بكامل هيئتها، الأب والأم وفكرية وزينب، أُحب الجميع ولكن لي عليهم ملاحظات وتحفُّظات؛ وجه أبي لا يعجبني وبخاصةٍ إذا نزع نظَّارته المُذهبَة، وجهٌ نحيل ممطوط مجوَّف بعض الشيء، صغير الأنف بصورةٍ مضحكة، ضيِّق العينَين كأنهما مشروعُ عينَين، بارز الجبهة، صورةٌ منفِّرة. أمي صغيرة الجسم حَسَنة الطلعة، ذات عينَين واسعتَين جميلتَين وشعرٍ ناعم وأنفٍ دقيق مستقيم، وإن اعتور صوتَها خنفٌ ونبرة احتجاجٍ دائمة. أما سوء الحظ فقد تركَّز في فكرية وزينب اللتَين خُلقتا صورةً طبق الأصل من وجه أبي الدميم. ودون أي فائدةٍ ورثتُ أنا وجه أمي المليح، ومن ذلك التكوين المتنافر تربَّع سوء الحظ على عرش أسرتنا دون منازع، أنا السعيد الوحيد ولكن زحف الكدَر. تبدَّى القلق واضحًا في سلوك أمي وكلامها، متشائمة دائمًا من ناحية المستقبل، يتفجَّر قلقها مع مرور الأيام.

تقول لأبي: كان يجب أن يتعلَّما في المدارس!

فيقول: لتَجرِ مشيئة الله كيفما شاء، أما أنا فلا أبتذل كرامتي .. علاقة أبي وأمي حسنة جدًّا، وعلاقة فكرية وزينب بأبي على أحسن حال، أما الأم وفكرية وزينب فلا يصفو بينهن جوٌّ إلا فيما ندر. كل واحدةٍ منهن على حدةٍ غارقةٌ في مخاوفها، وينعكس ذلك توتُّرًا دائمًا فيما بينهن وخصامًا لغيرِ ما سبب، نقارٌ دائم وكدرٌ شامل واتهاماتٌ مكبوتة.

ويومًا ما يقول لي صديقي علي يوسف — زميلي وجار — بثقة ويقين: أبوك غني يا بختك!

فأسأله بدهشة: لماذا؟

– منظره يؤكِّد ذلك، إنه أوجه أبٍ في شارعنا.

صدَّقتُ ذلك بعد مقارنةٍ سريعة بين أبي ويوسف أفندي والد صديقي، وقال علي مواصلًا: ومصروفك اليومي يا عم!

مصروف أقراني لا يتجاوز نصف القرش أما مصروفي فقرشٌ كامل. أبي يصحبني معه أحيانًا إلى المقهى أو السينما، فأنا ابن عز كما يقول صديقي علي. وعمارتنا — في ذلك الزمان — في طور الشباب وهي أحدث من عمارة علي يوسف وبهاء عثمان والد ملك. يُسعِدني والله أن أكون ابن عز ومن الأغنياء، وهل في الدنيا ما هو أجمل من الثراء؟ وأقول لأمي: نحن أغنياء؟

فتقول لي بصوتٍ لعله العنصر الوحيد القبيح فيها: لا ينقصنا شيء والحمد لله.

– لنا أملاك؟

فتضحك قائلة: لا أملاك لنا.

– إذن من أين يجيء ثراء أبي؟

– من ستر ربنا يا ابني.

الظاهر أن الأثرياء لا يُطلِعون الأبناء على حقيقة ثرائهم قبل سنٍّ معينة. حسبي أننا نأكل ما نشتهي، وفي رمضان يمتلئ الكرار بالنقل، وبالكعك في عيد الفطر، ونستضيف فيه الخروف في عيد الأضحى.

أبي غني دون أدنى شك. ومن مزاياه أيضًا أنه القارئ الوحيد في أسرتنا، يداوم على قراءة الجريدة اليومية والمجلة الأسبوعية المصوَّرة. وعنه عشقتُ القراءة، وبعد أن شبعتُ من مجلة الأولاد طالبته بشراء القصص المترجمة. ها هي عادةٌ جديدة تُزفُّ إلى حياتي، أن أعيش حياتَين؛ حياة الواقع اليومي بين المدرسة ونقار النساء في الأُسرة، وحياة الخيال مع الأبطال من النساء والرجال.

ويسألني أبي: ألا يلهيك ذلك عن المذاكرة؟

– ولكني أنجح يا بابا!

فيقول لي بإغراء: عليك بالشهادة العليا.

– هل حصلتَ عليها يا بابا؟

فيقول ضاحكًا: على أيامنا كانت الابتدائية هي العليا، ورغم ذلك حصلتُ على الكفاءة أيضًا، الفرص على أيامكم أكثر، ماذا تريد أن تكون؟

– أريد أن أكون مثلك.

– ماذا تعني؟

– أن يكون لي مثل بدلتك ونقودك وأن يكون لي بيت!

فيضحك عاليًا ويقول: أنتظر مع الأيام إجابةً أفضل!

ومثله أؤدِّي الصلاة والصيام، النساء يكتفين بالصيام ولكني رجل. أبي لطيفٌ حنون ويحب الدعابة، عندما يغضب يُغلِق عليه حجرته أو يرتدي ملابسه ويذهب إلى المقهى. تولت تلك الحياة وغاب أبطالها، في باب النصر يرقدون في قبرٍ واحد نصفه للرجال والآخر للنساء. حجرتي كما كانت، وحجرة أبي الملاصقة لها معدَّة للمعيشة يزينها التليفزيون والراديو والمكتبة، وفي الصالة السفرة وأربعة مقاعدَ خشبية ودولابٌ شبه خالٍ، بِيع الأثاث القديم بأبخس الأثمان، وتَعرَّت الحجرتان الأخريان تمامًا، لا مطبخ لي بالمعنى المفهوم لهذه الكلمة، ثَمَّةَ موقدٌ غازي صغير أُعِد فوقه القهوة أو الشاي وأحيانًا الكراوية، وأغتذي على الفول والطعمية وبعض المعلَّبات والبيض أحيانًا، وهو غذاء الحكماء في هذا الزمن الناري.

الوحدة تتحدَّاني وأنا دائب على مقاومتها بالمقهى والتليفزيون، ندرت قراءاتي للحد الأدنى في أعقاب معايشةٍ طويلة لعمالقة الفكر في وطننا ونخبة من المترجمات الممتازة. اكتسبتُ سَعةً في الأفق واستنارةً لا بأس بها، ولكن لم يؤثِّر شيء في عقيدتي الأساسية، أو لم يؤثِّر فيها لدرجة التخلي عنها، ما أزال أصلي وأصوم، وأنتظر النهاية بالرغم من أنني لم أُضِف إلى الحياة جديدًا ولم أُحدِث فيها شيئًا ذا بال. وأعاني كثيرًا من الملل والكآبة، وأضيق بالمكان لحد الموت، وتطاردني مخاوفُ كثيرة من المرض والموت، أخاف أن تدركني علة فلا أجد من يأخذ بيدي، أو أن يوافيَني الأجل فأُترك في مكاني حتى تنمَّ عني رائحتي. أقول لنفسي اطرد عنك الوساوس فمن الغباء أن تحمل الهم قبل وقوع القضاء. الطرطوشي يراني أهلًا للحسد، الماكر الأزرق يُخزي العين عن حسده، أبناؤه غاية في الروعة، يمدُّونه بالعون أول كل شهر، وعندما يجيء أجله سيزدحم بيته بالنساء والرجال ويلعلع الصوات فيترامى إلى أنحاء العباسية، ويُنشَر نعيه في الأهرام، يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، انتقل إلى جوار الله المربي الفاضل. وتمضي وراء نعشه جنازةٌ محترمة يشترك فيها أصدقاء الأبناء والأصهار، فيفوز الرجل الطيب التافه بجنازة من الدرجة الأولى. حليم بك لن يُنشَر له نعيٌ على الإطلاق، سيُنشَر نعيك في صفحة الحوادث. دع حمادة يحسدك كيف شاء، إنه لا يعرف الوحدة، ولم يشمَّ رائحة التراب في مأواه، ويتغذَّى باللحوم رغم تساقُط أسنانه، نسي الفراش البارد المحروم من دفء الزوجة، لا يعرف حرمان الجنس والأبوة، لولا أنه لم يَبقَ لي من أنيسٍ غيرك لدعوتُ عليك. التليفزيون أنيس أيضًا وأي أنيس، عالم السحر والخيال والنساء، حتى الإعلانات موجعة لقلب المحروم! حياة تافهة ولكني لست بالتافه، حتى أمسِ كنتُ المراقب العام للعلاقات العامة بوزارة التربية والتعليم، كان من الممكن أن أُحقِّق أحلامي ولكن في ظروفٍ أخرى، ما جدوى ارتفاع المرتَّب قيراطَين إذا ارتفع التضخُّم أربعة؟! ليست الأسرة وحدها المسئولة ولكن العالم كله باقتصاده وسياسته. تجنَّبتُ العالم ولكنه أبى أن يتركني وشأني. أين السباك ليصلح صنبور الحمَّام؟ تُرى ما أُجرته اليوم؟ أكون سعيدًا لو نمتُ نصف اليوم ولكنني لا أنام أكثر من خمس ساعات، كي أريح نفسي من التفكير فيكِ يا ملك، مناجاتي الجنسية لكِ لا تنقطع، إحساسٌ ما يلهمني بأنكِ ما زلتِ صالحة، كلانا وحيدٌ يا ملك، لِمَ لا نفعل ما حَرَمَنا سوء الحظ من فعله في الزمان الأول؟ حرَّك الطرطوشي خاطر اللقاء وتركَني فريسة في قبضته، تسلمه الخيال بشهوة جامحة، أن تضغط جرس الباب وتنتظر، تفتح الشراعة وتنظر، أنت .. ياه .. تفضل، كيف ذكرتنا؟ كنت مارًّا فقلت لنفسي .. أهلًا وحديث عن الجهات الأربع. وأدور وأناور وعيني مركَّزة على حُلم الجسد، وهي تقرأ وتفهم فتصدُر عنها إشارةٌ خفية للعمل، وأنتقل إلى جوارها كالأيام الخالية، وتدعوني أكثر بالمقاومة الواهنة، ونهوي بقبضة الجنس الناعمة على الكآبة الغاشية، وتتراكم الأفعال الجميلة الشائنة، آه لو تُحقَّق الأحلام يا ملك! ثَمَّةَ أخرياتٌ ألقاهن اليوم في جنبات الحي معطَّرات بأريج الماضي الجميل، غيَّرهن الزمن بلا رحمة ولم يُبقِ ماضيهن إلا الاسم، بتن غُرباء رغم ابتسامةٍ عابرة، فُضليات وأمهات، لولا الظروف العاتية لاتخذتُ إحداهن زوجةً صالحة، ذهب الشعر واختلَّت أوزانه. اليوم أغيِّر الملابس الداخلية مرةً واحدة في الأسبوع توفيرًا للغسيل والكي، لا أتناول الكباب إلا في المناسبات. يُنسى المتقاعد في تقاعُده كما يُنسى الميت في موته. في الزمن المجيد سِرتُ اختيالًا بجناحَي الشباب المورق، الأمهات قلن لأمي حليم لِملَك، حليم لبثينة، حليم لرباب، حليم لبيسة، أمي غارقة في مأساة ابنتيها، السنون تمضي بلا أمل، جميع البنات يتزوَّجن إلا فكرية وزينب، لا الغرباء ولا الأقارب يقتربون منهما. أقول لنفسي مستغربًا: ما أكثر الزوجات الدميمات! ألا يكفي ثراء أبي لسد الثغرة؟

وأنفض عن نفسي نكَد الأُسرة وأسير اختيالًا بجناحي الشباب المورق، وتهلُّ على بيتنا في شتى المناسبات ملك وبثينة ورباب وبيسة كالأقمار في صحبة أمهاتهن، وتتفجَّر في كآبة شقَّتنا بروق الإغراء والدلال، وتُتجاذب نظرات الرغبة والأشواق، ولا يخلو الأمر من كلمةٍ عذبة أو لمسةٍ لطيفة أو خَطفِ قُبلة في غفلة من الرُّقباء، حُب مشاع لا يعرف التخصُّص، في حضرة كل واحدةٍ أتناسى الأخريات، ولكن ملك تمتاز أيضًا بقوة الشخصية والذكاء. ويومًا سألتني أمي وأنا في المرحلة الثانوية أو الجامعية لا أذكر: مَن تُعجبكَ منهن؟

فتفكَّرتُ مليًّا، ثم قلتُ: لا أدري!

– ولكن لا بد من واحدة تتفوق بطريقةٍ ما؟

فقلتُ وأنا أفكِّر في ملك: إنهن متساويات لدرجةٍ كبيرة.

فضحكَت وقالت: أعز أمنية عندي أن أرى ذريتك، ربنا يسهِّل لفكرية وزينب حتى يخلو لك الجو!

وكانت الأحداث قليلة، فمرةً قابلتُ بثينة في العباسية الشرقية وتبادَلْنا قُبلةً سريعة، وهدايا رمزية تبادلتُها مع رباب، وبعض الرسائل التي تُدس في اليد مع بيسة، أما مع ملك فالنظرات تغني عن الهدايا والرسائل. أَسعَدني أن أكون محورًا ويدرن حولي، آه لو أجمعهن في حريمٍ واحد! ولكن ملك تزحف في هوادة وعلى مهل فتغيب أضواء النجوم في رحاب الشمس المشرقة، صورتها لا تبرح مُخيِّلتي وهي واقفة في حجرة الحريم بترام العباسية كعمودٍ من نور في فستانها الأبيض، طويلة القامة مكتنزة الجسد في غير إفراط، ثرية الصدر بيضاء اللون فاحمة الشعر جذَّابة العينَين، حائزة على البكالوريا ومتقنة لفن البيت. ومن الكلام المليح بين الأهل وتبادل الزيارات وتردُّدي على بيتها باتت خطوبتنا حقيقةً معترفًا بها دون إعلان. من أجل ذلك عزف الخطاب عنها فتَزوَّجَت أخواتها وبقِيَت هي تنتظر، هي زوجتي وأنا زوجها وانحصر حلمي — بعد إتمام التعليم والتوظُّف — في الزواج منها. وأخلو كثيرًا إليها في بيتها، أنا مثل وعاءٍ على نار يرتعش غطاؤه بقوة البخار المحتدم في باطنه، وهي ترنو إليَّ بعينَين يقطر منهما الشوق والحلم، تُبادلني القبل وتصدُّني عن العبث، وتقول بلطف: لكل شيء حدود.

وأركِّز نظري على فتنة الحاضر ولكنها تمدُّ نظرها إلى المستقبل فتصارحني: عليك بعد التوظُّف أن تُوفِّر من مرتَّبك مائة جنيه فينتهي كل شيء على خير.

فأقول متفائلًا: لن يضن بها بابا عليَّ.

– والدك موظَّف كما كان أبي!

فأبتسم في ثقة قائلًا: بل أكثر من ذلك!

قصة حبنا معروفة في الشارع كله، يمتلئ بها والداي كما يداعبني بها علي يوسف، ولولا مأساة فكرية وزينب لتضاعف رضاهما، ولما كان ذلك التحفُّظ الذي قليلًا ما يلُوح على أبي وقليلًا ما يخفى عند والدتي، ما الحيلة؟ ليس الحب وحده هو ما يستحوذ عليَّ، ولكنَّني خُلِقتُ للحلال وحده. للحلال وحده يا للذكريات! الحلال والأبوة. اليوم حمادة الطرطوشي يُلاعبني النرد مراهنًا على ثمن القهوة، غلبتُه وربحتُ وسرعان ما تلاشى الحماس. ننظر الآن إلى ميدان الجيش تحت أضواء المصابيح القوية العالية، ما أكثر النساء والرجال والأطفال! تاريخ الحضارة ممثَّل في وسائل المواصلات من عربات اليد والكارُّو والبصات والترام. الأصوات من كافَّة الأنواع من حوار ومشادَّة وصُراخ وغناء. يمضي حمادة قائلًا: البلد!

ويشرح وجهة نظره الشاكية الساخطة على كل شيء، يثقُل عليه هدوئي فيقول: لا يهمك شيء!

فأقول ساخرًا: فيَّ ما يكفيني.

– ولكنكَ شاهدتَ عصورًا وأحداثًا وحروبًا ورجالًا.

– يعني!

– لا يهمك إلا نفسك.

– هي أسوأ حالًا من البلد.

– ولكنك مثقَّف.

– طظ.

فضحك عاليًا، وضحكته أقوى ما فيه، ويقول: ابدأ حياتك الجديدة.

– ماذا تعني؟

– أتقنتَ الإنجليزية ودرستَ الإدارة والسكرتارية في المعهد الليلي، بوحي من الانفتاح طبعًا، فما عليكَ إلا أن تبدأ من جديد.

– يلزمني فاصل من الراحة.

– أخاف أن تعتاد التقاعُد.

– لا تخف عليَّ.

الإعلانات عن الوظائف الحرة كثيرة ومرتباتها فيما أسمع كبيرة، لكنها لن تكفي لتغيير حياتي.

هيهات أن تُمكِّنني من دفع خُلُو للانتقال إلى مسكنٍ جديد في حيٍّ جديد، لكن مائدتي المُقفِرة ستُثرى بالطعام الساخن.

قلتُ: صبرك وسوف ترى ما يسرُّك.

فضحك قائلًا: عليكَ أن ترفع رأس المتقاعدين عاليًا.

أُعطيتُ الصحة وحُرمتُ من ثمارها، ولكن عليَّ أن أحمد الله وأشكره على فضله دون تحفظ. هو المطَّلع على حرماني الطويل ووحدتي وهو الرحمن الرحيم. وقلتُ: لو كنتُ أعمقَ إيمانًا لكنتُ أسعد حالًا.

– الإنسان إما يكون مؤمنًا أو غير مؤمن ولا وسط.

قلتُ بحدة: لا تكن حادًّا مثل سكين المطبخ.

فقال مقهقهًا: أنا لا أعترف بإيمان المثقَّفين.

أمسكتُ عنه، إنه ينثر سخطه يمنة ويسرة وينام ملء جفنَيه، لكنه أيضًا هو كل ما بقي لي في هذا الزمن الأغبر، أين الأصحاب؟ أين الأحباب؟ من حجرتي سمعتُ أمي وهي تخاطب أم رباب أو بثينة، لا أذكر: لا يجوز أن يرتبط حليم قبل أن يكمل تعليمه.

المنطق سليم ولكنه أحنقَني، وخفَّف من وقعه أن الكلام لا يُوجَّه إلى أم ملك. وقبل ذلك سألَتْني ملك: متى نعلن خطوبتنا؟

وكان الجواب: جوُّ بيتنا لا يسمح بذلك قبل إتمام الدراسة.

واقتنعَت بتسليم، وسلَّمتْ أمها بالواقع دون اقتناع. وعلى أي حالٍ تزوَّجَت بثينة ورباب وبيسة في أثناء دراستي الجامعية، ولم تخلُ نفسي من هزَّة تُودِّع بها كل عروس ولكنها كانت عابرةً واهنة وبلا أثرٍ باقٍ، الزواج أقوى من الحب وسحره خيرٌ وأبقى، وسرعان ما تتلاشى أحلام الصبا الوردية مثل رائحةٍ زكية تعبُر بها امرأةٌ مسرعة. ولن أنسى ما حييتُ قول ملَك في ساعة تجلٍّ: لو تقدَّم لي أميرٌ لرفضتُه، ليس لي سواك.

تبدَّت لي صادقةً راسخة أقوى من أي حقيقة في الوجود، كان حبًّا صادقًا عظيمًا ويا للخسارة! وقد أحرز انتصاره في يومٍ بهيج لا يُنسَى.

فمن نافذة سَكنِها رأتني وأنا أتبادل الإشارات مع بثينة.

وعند أول زيارة لنا مع أمها اقتحمَت حجرتي، ثم سألَتْني في حياء: هل أهنئ؟

فسألتُ بدوري في دهشة: على ماذا؟

– بثينة؟!

خجلتُ. نظرتُ إليها طويلًا وهي تُحدِّق فيَّ بشجاعة وإصرار. ما أجملَها وهي تطوي غَيْرتها في قبضة كبريائها!

وتمتمتُ في صدق وسعادة: لا أحد سواك يا ملك.

فرفعَت صوتَها لتُسمِع مَن في الخارج: أعرني كتابًا من كتبك.

– قرأتِ مجدولين؟

– نعم.

– إليكِ آلام فرتر.

فقالت باسمة: هاتها.

منذ تلك اللحظة بدأتُ أنفض عن وجداني فتنة الأخريات، وتركَّز حُلمي في الزواج، خُلِقتُ للحلال وحده، لست مثل صديقي علي يوسف وبقية الصحاب، ذات ليلة قالوا فلنغامر، ليكن لنا نصيب، أجل فلنغامر وليكن لنا نصيب! ذلك تاريخٌ قديم. اليوم وأنا سائر إلى المقهى أتساءل: هل كُتب عليَّ هذا المشوار المدوِّخ بين أبو خودة وميدان الجيش؟ لا حول ولا قوة إلا بالله. وأتخيل رجوعي عقب انتهاء السهرة فيبوخ سروري الوقتي المصاحب لي في الذهاب. العباسية كتكوينٍ عام تقرفني مثل وجهٍ كريه. يقولون مع ذلك إن الحياة تبدأ بعد الستين، حقًّا؟ شدَّ ما أتوق إلى منظرٍ جديد! جوٍّ نقي، موقع تكتنفه الأشجار، والحسان يخطرن مع الأصيل، وأحنُّ إلى نادٍ حافل بالمعارف والتسلية، إلى دفءٍ يَشغَل المرء عن هواجس المرض والموت. الشباب والمال هذه هي الدنيا، يتحدَّثون عن الإثراء المتفجِّر في كل مكان، عن السهرات في الشقق المفروشة، عن الأفراح الذهبية في الفنادق، أين الطريق المفضية إلى هذه الدنيا؟ وتُوجَد قلَّة من الرفاق على قَيد الحياة، فأين هم؟ التقيت مرة بالدكتور حازم صبري أمام الأميركين، تصافحنا، تبادلنا كلمتَين على عجل، وافترقنا! من يُصدِّق أننا كنا لا نفترق على مدى الطفولة والمرحلتَين الابتدائية والثانوية؟ وانتخب الموتُ الآخرين؛ لم يَبقَ إلا العجوز الطيب الذي يُلوِّح لي بيده من مجلسه في المقهى. واستقبلَني بجديةٍ غير عادية، وقال: أعرف ما بكَّر بك اليوم!

فجلستُ وأنا أتساءل: ما هو؟

– أزمة الجنيه والدولار!

فضحكتُ من قلبي ونادرًا ما يحدُث ذلك، وقلتُ له: الله يخيِّبك يا عجوز!

فقال باهتمام: حلمتُ لك حلمًا غريبًا!

– حقًّا؟

– رأيتكَ تركب حمارًا وعلى رأسك بقجةٌ كبيرة، ثم طرحتَ بالبقجة في الهواء وحثثتَ الحمار على الإسراع بكعبَي قدمَيك فسألتكَ عن وجهتكَ فقلتَ لي إنك ذاهب لأداء العمرة!

– ألدَيكَ تفسير؟

– طبعًا .. أمامك خير، ولكن عليك أن تطرح أفكار السوء أرضًا!

على أي حالٍ أحببتُه تلك الليلة كما أحببتُه ليلة اقترح عليَّ زيارة ملك.

أعترف بأنه يؤنس وحشتي، وأنه لولاه لجُننتُ من طول ما أحدِّث نفسي، وقالوا فلنغامر وليكن لنا نصيب، وقصدنا تافرنا، تعشَّينا على أنغام المندلين، ولأول مرة أشرب قدحًا من النبيذ، طارت بي نشوةٌ لم أعهدها في حياتي من قبلُ، الخطوة الأولى المخاتلة الساحرة في حياتنا بادرَتْنا بالنشوة الهازجة، انطلق الضحك من حناجرنا بلا سبب بين يدَي فرحة الحياة المتدفِّقة. أزعَجْنا من حولنا من السكيرة القارحين، ولأول مرة أيضًا نقتحم الدرب إياه، ومضى كلٌّ مع امرأةٍ مستوردة، تعرَّت بحركةٍ روتينية قبل أن أُغلِق الباب ورائي، وقفتُ مذهولًا وقد هرب قلبي في أعماقي. انغمَست في برميل من الثلج، ورمَت تجمُّدي بنظرةٍ شرسة، وقالت: «لست ممرضة يا أنت.» ولمَّا خرجتُ إلى الهواء الطلق المعبَّق بالبخور هاجت معدتي وماجت وقذفتُ بما فيها. وحدَس أحدهم أن المرة الأولى لا تنجو من عواقبَ سيئة، ولكن الثانية لم تكن أفضل. قلتُ لا حظ مع الخمر ولا مع أولئك النسوة، أين النار التي تستعر في حضرة ملك؟ ويئس علي يوسف مني، فقال لي: معدتك إسلامية وكذلك غريزتك!

وآمنتُ بأنه لا أمل لي إلا في الحلال والزواج، حقًّا إنه أملٌ متواضع ولكن تحقيقه يسير، الوظيفة والزواج، أي طموحٍ آخر سرعان ما يتلاشى، كالحلم الذي يُنسى عقب الاستيقاظ. الأصدقاء يحلُمون بعوالمَ أخرى؛ الزعامة أو القيادة أو التفوق في المهنة، منهم أيضًا من ينتمون إلى الأحزاب ويجلسون إلى الزعماء. أما أنا فلم أُجاوِز أعتاب وظيفةٍ توفِّر الرزق وزوجةً صالحة وأبوة، وفي خِضَم العراك السياسي يقول لي أبي: نحن الموظَّفين موالي الحاكم.

فأنقل إليه ما يقرع أذني عن إخلاص زعماء وتهاون زعماء، فيقول: كلهم خنازير يتناطحون في سبيل الحكم، وإنه لمجنون الذي يخسر حياته أو مستقبله في معركةٍ زائفة!

حديثه المفضَّل يدور دائمًا عن الوظيفة والموظَّفين والكادر، سواء في المقهى أم في البيت. وأنا أجتهد وأذاكر وأنجح ولكن دون إفراط، لا أعذب نفسي بالتفوُّق وبلوغ المراكز المتقدمة، وأقرأ وألعب وأحب. وكل صديق شهد لحبيبتي بالجمال والاستقامة، وحبها يزداد مع الأيام قوةً وعمقًا، أحوم حولها كالمجنون بحبٍّ راسخ ورغبةٍ جنونية، وتُقطِّب في بعض المواقف وتهمس: إذا تماديتَ فضحتَنا!

فأهمس متشكيًا: إني أتعذَّب حتى الموت.

فتقول برجاء: لا يعجبني اندفاعك أحيانًا، الحب بطبعه مهذَّب، كن لي مثلما أنا لك.

أهدت إليَّ صورتها فاحتفظتُ بها فوق قلبي. عشتُ أسعد الأزمان في رحاب حُبها، لكني عذَّبني فيض الشباب، وبخلاف علي يوسف فشلت في ترويضه. إنه أحب الأصدقاء إليَّ، نذاكر معًا، في بيته مرة وفي بيتي مرة، أقصر مني في القامة وأجمل مني في الوجه، وأذكى فهو يشرح لي أحيانًا ما يغمض عليَّ، ويفوقني في الاطلاع، والانتماء السياسي. يقول بحرارة: سأعيش حتى أرى حياةً جديدة لا المَلك فيها ولا الإنجليز.

ويُحدِّثني عن تياراتٍ جديدة كالإخوان والماركسيين ومصر الفتاة ولكنه لم يتَخلَّ عن الوفد. وأَحب بنتًا يهودية فترةً طويلة من العمر ولكنها اختفت في مطلع الحرب العظمى الثانية. ولم أعرف له قصة حُبٍّ أخرى فتوهَّمتُ أنه يعيش بلا قلب. ودخلنا معًا كلية الحقوق فواصلنا المذاكرة المشتركة، وأقول لملك: لم تَبقَ إلا أعوامٌ معدودة، ثم نلتفت إلى مستقبلنا.

هي الوحيدة الباقية مع أمها رغم أنها أجمل أخواتها. تقول: ليتني أكملتُ تعليمي!

– الوظيفة تُغريكِ أيضًا؟

– لِم لا؟

– ولكني أريدك ست بيت.

لا أُجادل في حق الفتاة في التعليم والعمل ولكني أُفضِّل ست البيت، يحكم علي يوسف عليَّ بأنني محافظٌ أكثر مما ينبغي، يقول: أنت مثل معدتك لا تتطلَّع إلى الحياة الجديدة!

فأقول: لا تُغالِ، حسبي أن أصنع أُسرةً أفضل من أسرتي.

ونختم دراستنا في العام السابق لنشوب الحرب. صرنا أستاذين كما يقال، لم نبلغ الدرجات التي تُؤهِّل للوظائف الممتازة؛ أنا بسبب اجتهادي المعتدل، وعلي يوسف لنشاطه السياسي. وكان علي قريبًا للأستاذ جعفر برهام المحامي فألحقَه بمكتبه، وداخ أبي حتى ألحقني بالإدارة العامة بوزارة المعارف، لولا أزمة فكرية وزينب لاعتَبر رسالته في الحياة منتهيةً على أحسن وجه. على أي حالٍ سَعِد بيتنا على قَدْر ما يستطيع، وسَعِد أكثر بيتُ بهاء أفندي عثمان، بيت ملك، زيارتي لها بعد الوظيفة حفلَت بمعانٍ جديدة، ودار الحديث فيها حول التدبير والمستقبل وتوارت المناجاة ورموز العشق، أقول كالمعتذر: الوظائف الممتازة نادرةٌ جدًّا اليوم.

فتقول بمرح: مفهوم .. لا داعي للأسف!

– ثمانية جنيهات فيها الكفاية.

– وفوق الكفاية.

– ولن يطول وقت الاستعداد بإذن الله.

وتحني رأسها بالموافقة مُورَّدة الخدَّين بالابتهاج. وأُطالع قامتها الفارعة وهي تُقدِّم لي القهوة فتسري رجفةٌ في أعصابي كالإعصار، وأتساءل: تُرى لو تُعلَن الخطوبة ألا أستحق مزيدًا من العطاء؟ وتساءل حمادة الطرطوشي ساخرًا: ما إن فرغنا من النرد حتى هِمتَ في وديانٍ بعيدة، فِيم تفكر؟

– أُتابع الحاوي الذي يعرض ألعابه أمام المقهى وسط حلقة من الصبيان، وأنظر بتقزُّز إلى ثعبان حول عنقه.

ويسألُني: أتُحبُّ الحُواة؟

– أبدًا.

يقول متنهدًا: حفيدي مريضٌ جدًّا.

– ربنا يأخذ بيده.

– هل تذكُر بيت الشعر الذي يقول مطلعه وأولادنا مثل لا أدري ماذا؟

أتذكَّر أنني قرأتُه، ولكني لا أحفظ الشعر.

– أنا اليوم أنسى ما يجب حفظه، وأتذكر ما لا فائدة فيه!

– وأنا مثلك.

– أحيانًا أنسى بعض قواعد النحو الذي أنفقتُ عمري في تدريسه!

– نسأله الستر.

– يقول ضاحكًا: أنت في حاجة إلى عروس مع الستر!

ارتجفَت جذور قلبي بنغمة طالما تردَّدتْ على أوتارها منذ الزمان الأول. وأُحيل أبي إلى التقاعُد في نفس العام الذي التحقتُ فيه بخدمة الحكومة، قرأتُ في وجهه النحيل حَيرةً باهتة يداريها بابتسامةٍ فاترة وما يشبه الحياء، فقلتُ لنفسي أبي حزين، وأَصَر على ألا يُغيِّر نظامه اليومي، ينام عند منتصف الليل، يستيقظ مبكرًا، يغادر البيت في الثامنة — بدلًا من السابعة — يعود ظهرًا من مقهى الدواوين بدلًا من الوزارة، يتغدَّى، ينام، يمضي مرةً أخرى إلى المقهى، لكنه حزين. قرَّرتُ أن أُسرِّي عنه وأُدخل إلى قلبه البهجة، هو أبي وصديقي ولا حياء بيننا في الحق، سأقول له يدُك على يدي لنذهب معًا إلى بيت بهاء أفندي عثمان لنخطب ملك، هو يومي الموعود ويومك الموعود أيضًا، لا جدوى من انتظار زواج فكرية وزينب ولو انتظرتَ إلى آخر الدهر. ولكنه مات فجأة، بلا مرضٍ ودون توقُّع، في الصباح الباكر وهو يحتسي القهوة عقب الإفطار، إنه القلب كما قرَّر الطبيب فيما بعدُ. اشتعل البيت صواتًا ولطمًا، بكيتُ مع النساء كالنساء، أحببتُه حبًّا لا يضاهيه حبي لأحد، وتحدَّاني موته وأنا في سنٍّ يتعذَّر عليها الاقتناع بالموت. جاءت أيام بعد ذلك بأعوام وأعوام كنتُ أحزن لأنني لا أحزن، ويقول لي علي يوسف معزيًا: القلب أرحم موتة للميت وأقسى موتة على ذويه!

وضرب لي مثلًا بأبيه. ما تصوَّرتُ أنني سأعرف العزاء أبدًا. وبرزَت لي من الغيب حقيقةٌ جديدة رغم أنها كانت تعيش معي طَوال الوقت؛ فلم أدرك مدى فقرنا إلا بعد وفاة أبي. عشتُ دهرًا في نعيم من الآمال الكاذبة، أذهلني أن أبي لم يُخلِّف ثروةً من أي نوعٍ كان، سوى أربعين جنيهًا عهد بها إلى أمي هي تكاليف جنازته ودفنه. إذن ما سر البحبوحة التي سبَح فيها بيتنا؟، المسألة بكل بساطة أن الدنيا كانت مطحونة بأزمةٍ عالمية مررتُ بها في الصحف دون اكتراث، وتميَّز أصحاب المرتَّبات الثابتة بدخلٍ ثابت أصبح محور الحياة الاقتصادية على تفاهته. السلع رخيصة ولا تجد من يُقبِل عليها إلا الموظَّفون، بفضل ذلك أكلنا وشربنا ولبسنا وركبتْنا الخُيلاء ونحن نمرح في القاهرة. وبنشوب الحرب مضى كل شيءٍ يتغيَّر؛ جاء الرواج، ومضت الأسعار ترتفع درجةً بعد درجة، واستَرد المُلَّاك أنفاسهم، وانتفخت جيوب فئاتٍ ممن عُرفوا بأغنياء الحرب، وتجهَّمتِ الدنيا للموظَّفين الذين تراءى لهم المستقبل طريقًا مسدودة. وهكذا وجَد الفتى المدلَّل نفسه ربَّ أُسرة بلا أُسرة، مسئولًا عن أم وأختَين مزمنتَين، لهم معاشٌ ضئيل يفي بالكاد بكسائهن المتواضع، وله مرتَّب تضعف قيمته الشرائية يومًا بعد يوم، كيف يمكن أن أتحدَّث عن موضوع خطوبتي؟ ومتى أستطيع أن أتزوَّج؟ وتم أول لقاء بيننا في بيتها بعد أربعين أبي، أنذر جوُّه بالإحباط والمتاعب، ما زال الحزن يصهرني فاحترمتُ حزني، لكنني لم أَرَها كسيفة البال كما أراها الآنز أقول بوجوم: كانت صدمة في ألا يخلِّف أبي شيئًا!

تتساءل بروح راكدة: والمعاش؟

– المعاش! أي معاش يا ملك؟

تمتمَت: يبدو الأمر كالاغتيال.

– هو اغتيالٌ حقًّا.

– هل لديكَ فكرة عن المستقبل؟

– ما زلت أفكِّر وأفكِّر، يلزمني وقتٌ آخر.

تأجَّجَت أشواقي إليها لحد الاشتعال رغم الحزن الثقيل، أم الحزن أمدَّها بوَقودٍ جهنمي؟ حتى الاغتصاب تمنَّيتُه ضمن خواطرَ دمويةٍ مجنونة. افتَرقنا على أسوأ حالٍ من القلق، كيف ومتى أتزوج؟ هذا هو السؤال المُلِح المطارد القهَّار، زملائي في الوزارة — جميعهم متزوِّجون — يعجبون لامتناعي عن الزواج. كثيرون على أتم استعدادٍ لتقديم عرائس. لن يكلفك ذلك مالًا يُذكر، ولكنكم جيلٌ متمرِّد يُفضِّل الحرام. أسمع وأتألم وأصمت، يا للَّعنة! ما قدَّرتُ أبدًا أن الحياة تدَّخر لي هذا المأزق. ويومًا تدخل أمي حجرتي وتجلس إلى جانبي على الكنبة في جلباب الحداد. نظَرت بين قدمَيها وقالت: أرجو ألا أكون أخطأت يا حليم.

قلتُ غير متوقِّع أي خبر: خير؟!

– ما باليد حيلة.

ثم مواصلةً بعد صمت: أم ملك زارتني صباح اليوم، إنها صديقة عمري، ولها الحق كل الحق في أن تطمئن على ابنتها، اقتَرحَت عليَّ إعلان الخطوبة، سألتني عن المستقبل. قلتُ لها أنتِ حبيبتي ولا سر بيننا، وملَك ابنتي ولن أجد لحليم خيرًا منها جمالًا وأدبًا وقرابة، ولكن إليكِ حالنا وما أنتِ بالغريبة.

وفصَّلتُ لها الأمر تفصيلًا، ثم قلتُ: ماذا تكون حالنا لو تخلى عنا؟

– والعمل؟

– العين بصيرة واليد قصيرة.

– ألا يمكن أن نعلن الخطوبة إسكاتًا لكلام الأهل والناس؟

– المسألة هي متى يستطيع أن يفتح بيتَين؟

وقالت لي أمي بأسًى: افترقنا، أنا آسفة وهي غاضبة، فهل أخطأتُ يا ابني؟

وقعتُ أسيرًا للغضب والاقتناع، لا أجد منفذًا للهجوم أو العتاب، الحقائق عنيدة كالصخور الصلدة. لا أستطيع أن أقاتل إلا شبحًا اسمه سوء الحظ. رغم ذلك حنقتُ عليها دون وجه حق. يا لها من أيام قرف ونكد! وبادرتُ بزيارة بيت حبيبتي. في بيت الوجد والورد طالعَني الجفاء لأول مرة، ملك متجهِّمة بلا إشراق ولا دلال، وتصدَّرتْ أمها المجلس وهي تتساءل في تهكُّم مُر: هل استأذنتَ والدتَك قبل أن تحضُر؟

أُخذتُ وتغيَّرتُ فقالت الأم بانفعال: ما كنت أتصور هذا الختام الغادر.

قلتٌ بصوتٍ منهزم: إنها ظروفٌ سيئة كما تعلمين.

– الله لا يرضى بأن يُضحِّي شاب مثلك بحياته من أجل سوء حظ غيره، على كل إنسان أن يتحمل نصيبه من الخير والشر، ثم ما ذنب ابنتي؟

– دعيني أشرح لك.

قاطعَتْني بحدَّة: لا يهمُّني الشرح، ما يهمُّني حقًّا هو مستقبل ابنتي وسُمعتها!

فقلت محتجًّا: سُمعتُها بخير دائمًا.

– كلا، زيارتك لها معنًى لم يعُد في صالحها.

وقالت ملك مُحتجَّة: ماما!

فصاحت بها: اسكتي أنت!

عميتُ عما أمامي، غادرتُ الشقة مطرودًا، أترنَّح تحت ضربات الإهانة واليأس والحزن، أتساءل في ذهول هل حقًّا انتهى كل شيء؟ الحب والأمل؟ ملك والزواج؟ وردمَتني عاصفةُ كراهية لكل شيء، خنقَتني الحقيقة البَشِعة وهي أنني منكوب بأُسرةٍ منكوبة، تبدَّى بيتنا مساء على مثل الحال التي كابدَها يوم وفاة أبي؛ أمي وفكرية وزينب على كنبةٍ واحدة في الصالة حائرات البصر من القهر والخجل والشعور بالذنب. تقول أمي: نحن حملٌ ثقيل، ولكن ما حيلتُنا أمام قدَرنا؟

وقالت فكرية وكانت أحنَّ عليَّ من أمي: أودُّ المستحيل لإسعادك، ولكني عاجزة.

وصمتَت زينب ولم تكن دونهما كربًا. غمغمتُ وأنا ماضٍ إلى حجرتي: ليفعل الله ما يشاء.

اليوم كلما نظرتُ إلى الوراء لم أَرَ إلا التفاهة والعقم والحرمان، وأحلام اليقظة حول المال والنساء، والسجن الخبيث في أبو خودة. وكلما آنس حمادة الطرطوشي مني شرودًا أو كآبة قال بين المزاح والجد: اذهب إليها، إنها وحيدة مثلك!

باتت تُثير رغبتي كالزمان الأول، وما أكثر ما عاشرتها في الخيال! ويقول حمادة أيضًا: لو كان الزمان غير الزمان لوجدتَ امرأةً تخدمك خدمةً شاملة!

ثم مواصلًا وهو يقهقه: أعني كالتنمية الشاملة!

العجوز رائق ويمزح عليه اللعنة، بل يقول: أتريد الحقيقة؟ .. كان بوسعك أن تتزوجها.

فحدَجتُه بغضب، فقال: لو كنتُ مكانكَ لجهَّزتُ حجرتي ولو بالتقسيط وضممتُ البنت إلى الأُسرة، وليفعل الله ما يشاء.

قلتُ بحدَّة: هذه الأفكار لم تكن تَرِد على الخاطر في ذلك الزمان.

– لا تغضب، أرى أنكَ سلَّمتَ للهزيمة دون مقاومةٍ حقيقية.

فقلتُ بصرامة: من فضلك لا تحمِّلني مسئولية سوء حظي.

ولم يقنع بيتنا بسوء حظه، ولكنه أضاف إليه نكدًا وقرفًا، كأنما الكراهية تهيمن عليه؛ فكرية وزينب في مشادة، فكرية وأمها في شجار، زينب وأمها في نقار. تقول فكرية: لو تعلَّمنا وتوظَّفنا لتغيَّر حالنا، الله يسامحكم.

فتصيح أمي: زمان المرحوم غير هذا الزمان، دعوه يرقد بسلام.

فتقول زينب: ليتني أملك الشجاعة لأعمل خادمة.

فتهتف أمي: ربنا يريحني بالموت!

آه يا بيت النكد والكآبة! أما من نهاية لهذه الاتهامات المتبادلة؟ أما معي فكن يقدمن خير ما تنطوي عليه مشاعرهن من رقة وحب، أنا رب البيت وضحيته، وبقَدْر ما أسخط عليهن أعطف وأحزن، كم كانت أمي ربة بيت ممتازة، وكم كانت سعيدة في علاقتها مع أبي، ولكنها لم تتصوَّر تلك النهاية الكآبية لأسرتها، تساءلتُ مرةً بضيق: لماذا لا يخلو بيتنا من عنف؟

فقالت أمي: كيف تستخرج العسل من الخل؟ .. أنت نفسك …

فقاطعتها متحفزًا: أنا نفسي!

– الحق أني أتمنَّى الزواج لهما من أجلكَ أنت.

تساءلتُ بسخرية: هل لو جاء العريس المعجزة سأجد ما أُجهِّزهما به؟

فتنهَّدتْ ولاذت بالصمت، فقلتُ بحدة: وأنا، ما ذنبي؟

فقالت بعصبية: اذهب وتزوج واتركنا لمصيرنا.

فصحتُ بحدَّة: حتى هذا لا أستطيعه.

بيت النكد الذي أزداد مع الأيام مقتًا له؛ نفس الوجوه، نفس الأسى، نفس الحرمان، أليس لهذه الحياة من نهاية؟ فكرية عنيفة، وزينب أنانية، لا يبرحان البيتَ كرهًا في العالم ولخلو صوانهما من أي ملابسَ لائقة، والحرب تشتَد والأسعار تتصاعَد والقلق يتجمَّع. أقول لأمي: مأساتنا الأصلية أصبحَت ترفًا، علينا أن ننضبط في الإنفاق لأقصى حد.

– إني أبذل كل ما في وسعي.

– لم يحتَطْ أبي الله يرحمه للمستقبل!

هبَّت للدفاع كعادتها قائلة: لم يكن في وُسْعِه أن يفعل خيرًا مما فعل.

– أنفق عن سَعَة، وبالغ في تدليلي فأَفسَد عليَّ حياتي!

– أتلومُه لأنه أحبَّكَ أكثر من أي شيء في الدنيا؟

– ألم يكن من الأصوب أن يوفِّر نقودًا لزواج ابنتَيه؟

– كان في نيته أن يستبدل جزءًا من معاشه كلما احتاج إلى تجهيز واحدة.

وذات يومٍ استدعاني رئيسي لمكالمةٍ تليفونية، وجاءني صوتٌ خفق له قلبي بعنف، ملك حبيبتي دون غيرها، وسمَّت لي موعدًا عند الأصيل بشارع السرايات. التقينا وليس في قلبي نبضة أملٍ واحدة، بعد عام فراقٍ معذب طويل حزين، ها هو من جديد الوجه الجميل والجسم المترع بالجاذبية. وفي شيء من الارتباك والحياء قالت: نيستَني طبعًا!

فسرنا، وأنا أقول: لم تخطُر لي هذه النهاية ببال.

– وأنا كلما تقدَّم لي رجل رفَضتُه، ولكن كيف لي بالصمود أمام العواصف؟

– أنا خجلان يا ملك.

– ألا تُوجد بارقة تحسُّن؟

– من سيِّئ إلى أسوأ!

فسكتَت بائسة، وقالت: لا يصح أن أخدعك.

وتقدَّمنا صامتَين كأننا نشيع ميتًا حتى شارفنا ميدان المستشفى الفرنسي فتمتمَت: بوسعي أن أفعل ما تُشير به عليَّ.

فقلتُ في استسلامٍ نهائي: لا أشير عليك بشيء، حسبي شعوري بالإثم على ما ضيَّعتُ من عمرك.

وكان المساء يهبط بثقله في كثافةٍ مركَّزة لا تخفِّفها المصابيح الملونة بالأزرق تنفيذًا لتعاليم الدفاع الجوي. وكان علينا أن نفترق قبل أن نصل إلى شارع العباسية، الفراق النهائي الذي يجرف معه كل شيء. وقفنا، سألتها بصوتٍ غريب: هل أستحق في نظرك أي لومٍ يا ملك؟

هزَّت رأسها دون أن تنبس، تلاقت يدانا، وآخر ما قلتُ كان: سأدعو لكِ دائمًا بالسعادة.

وذهبَت وبصري منغرز فيها، ما فعل اللقاء إلا أن جدَّد الأحزان، ونكأ الجرح. وتضاعَف سخطي على كل شيء حتى إنني صرتُ من قراء صحف المعارضة بلا أدنى اهتمامٍ حقيقي بالسياسة. وقلتُ لعلي يوسف: خبِّرني يا خبير، أمامي عزوبةٌ أبدية، فما العمل مع المشكلة الجنسية؟

فضحك عاليًا ونحن نتجوَّل في حديقة الأزبكية، وقال: جرِّب من جديد.

فقلتُ يائسًا: لا أطيق المُحترِفات ولا الخمر!

فإذا به يقول: لم يَبقَ لك إلا أم عبده!

هتفت بذهول: أم عبده؟!

قال ببساطة: تربَّت عندكم، منكسرة، وفيها رمق، لِم لا؟

– إنها تكبرني بعشر سنوات.

– لم أقترح عليك الزواج منها يا أستاذ!

ليس في الكون بقعةٌ محطمة بالعفونة وعامرةٌ بأحلام اليقظة مثل العمارة البالية بشارع أبو خودة ومقهى النجاح بميدان الجيش. ماذا بقي لمتقاعدٍ وحيد؟! لو تهيَّأَت لي وفرة في المال لقمتُ بسياحةٍ داخل القطر تغطيه من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه. ولو غمَرتْني ثروةٌ مباغتة لقريبٍ تركها لي في البرازيل مثلًا لشرَّقتُ في الأرض ولغرَّبتُ بلا حساب، ولتزوَّجتُ من فتاةٍ حسناء دون مبالاة بالعواقب. ما ألذَّ الأحلام وأقساها! على حين تقيمينَ يا ملك على مبعدةِ أمتارٍ مني ولا أحرِّك نحوك ساكنًا. نحن سلالة ذكرياتٍ واحدة، وفريسة شيخوخةٍ واحدة، وقلبي يحدِّثني بأنكِ ما زلت امرأة! وقال لي حمادة الطرطوشي بسرور: ابني رُقِّي إلى درجة مديرٍ عام.

فهنَّأتُه، وقلت: القهوة والسندوتش على حسابك هذا المساء.

فقال بحزم: عليَّ القهوة فقط!

– هل ما زلتَ تُعاشِر حرمكَ جنسيًّا؟

فضحك الرجل، وقال: سؤالٌ بارد.

– معذرة، ولكنه يهمُّني.

فقال باقتضاب: عندما أشاء.

ثم مواصلًا: كثيرًا ما تُوجد القدرة غير مصحوبة بالرغبة.

ثم قال برثاء: كيف فاتك الزواج؟ ما عرفتُ رجلًا له مثل حنينك إلى الزواج.

فقلتُ بمرارة: ما زلت أحمل أُسرتي حتى العام الأخير، وكلما ارتفَع المرتب درجةً ارتفع الغلاء درجتَين.

– يا للخسارة، وأم عبده رحلَت قبل الأوان!

– بل بعد الأوان، وبعد أن استحالت رجلًا!

– قسمتك. ماذا يُقعِدك عن مقابلة ملك؟

وراح علي يوسف يلاحقني بنظراته مستطلعًا، إني أعرف ما يريد أن يسأل عنه وأتجاهلُه، حتى سألني ونحن جالسان في مقهى الانشراح القديم الذي محله اليوم معرض للأثاث: ما أخبار أم عبده؟

ضحكتُ وقلت: مغامرةٌ غريبة ولكنها كُلِّلت بالنجاح.

فتساءل بشغف: كيف؟

– ماذا أقول؟ إنها عِشرةُ عمر، عرفتُها منذ الطفولة كأنما هي قطعة من أثاث البيت، وازدادت العلاقة احترامًا بعد أن خلفتُ أبي، ولعلها دُهشَت كثيرًا عندما آنست مني تغييرًا في النظر والكلام، ومثل هذه الأمور لا يغيب مغزاها إلا عن المعتوهين، وهي امرأةٌ طيبة ولكنها لحسن الحظ ليست معتوهة، لما مددتُ يدي ذُهلَت، تراجعَت، وتلاحقَت أنفاسها في اضطراب واضح، الآن كل شيء يمضي على أحسن وجه، ولكن في حذرٍ شديد.

– تخاف الفضيحة؟

– طبعًا.

– لقد حرموك من الزواج، فهل يُرِدن إعدامك أيضًا؟

– بل إنه الأدب والحياء من ناحيتي.

– المهم هل ارتاحت أعصابك؟

– نعم.

– ادعُ لي.

فقلتُ ضاحكًا: لا عدمتُكَ من قوَّادٍ كريم!

نعم، لقد حظيتُ بالراحة ولكن تضاعف شعوري بالقرف والعقم والتفاهة، وتساءلتُ: تُرى هل يحق لنا أن نحسد الأمم المشتبكة في الحرب؟ اعتدنا سماع الأهوال وصفارات الإنذار ورؤية جنود الحلفاء، وأذهلَنا تقلُّب الحظوظ وانكسار الجبابرة. وكنتُ ألقى علي يوسف مرتَين؛ مرة في مقهى الانشراح، والأخرى في المخبأ قبيل الفجر. وقال لي ذات مساء: أريد أن أعرف رأيكَ بصراحة في أمرٍ هام.

فتساءلتُ ولا فكرة لي عما سيقول: خير؟

فسألَني في شيء من الارتباك: ما العلاقة الآن بينك وبين ملك؟

اقتحمَتني المفاجأة، خرستُ دقيقة، ثم أجبتُ بصراحة: لا علاقة على الإطلاق.

– إني لا أسأل عن العلاقات الرسمية ولكن عن قلبك؟

– الماضي نُسي تمامًا.

– ألا يُحزِنك أن تتزوج اليوم أو غدًا؟

– بل أتمنى لها السعادة، ولعل زواجها يقتلع من قلبي رواسب الشعور بالذنب.

– سؤالٌ آخر.

فتساءلت مبتسمًا: أفندم؟

– ما رأيك لو أستأذنك في خطبتها لنفسي؟

فقلتُ ببساطة: ستجدني أول المهنئين.

– أطالبك بالصراحة التي لا تُعقِب ندمًا من ناحيتك أو ناحيتي!

– بالصراحة نطقتُ.

كنتُ صادقًا، مرت فوقي سحابة كآبة، لعل رياح الخيبة هي التي دفعَتْها ولكني لم أكابد حبًّا أو غَيرة، وجثم فوق صدري أكثر من الأول شعور الإحباط واليأس. ويوم رويتُ ذلك الموقف لعم حمادة الطرطوشي سألَني: أكنتَ شُفيتَ حقًّا من حب ملك؟

فأجبتُه بيقين: بكل تأكيد.

– ألم تكن تختارها زوجةً لو سمحت الظروف؟

– بلى، ولكن لصلاحيتها لذلك.

– إذن كانت وما تزال المرأة المفضَّلة؟

– وكان يمكن أن يقع اختياري على غيرها أيضًا!

فضيَّق عينَيه، وقال: أخبرتَني أنه كان يقيم معها في عمارةٍ واحدة؟

– نعم.

فقال بخبث: كان يحبها من قديمٍ ورب الكعبة!

فقلتُ بصراحة: خطر ذلك ببالي أيضًا.

– إنه ثعلب!

قلتُ بحرارة: لم يخطئ في حقي قَط، وظل لآخر يومٍ في حياته صديقي الأول.

– وهل وُفِّقا في الزواج؟

– كأحسنِ ما يكون التوفيق.

وأضفتُ من عندي: أنجب منها ولدَين نابهَين ولكنهما — مثل أبيهما — اندفعا في النشاط العام، وبخلاف الأب اندمجا في الإخوان، واضطُرا إلى الهجرة إلى السعودية فتزوَّجا وأقاما هناك بصفةٍ نهائية، وأنا أعتقد أن ملك تعيش اليوم عيشةً ميسورة بفضلهما.

– ومتى ترملَت؟

– منذ عشر سنوات تقريبًا، مات صديقي في عز قوَّته بالسرطان، عاش كريمًا نبيلًا حتى آخر يوم من حياته.

تلقَّت أسرتي خبر زواج ملك بوجوم، وتضاعف شعورهن بالذنب فازداد البيت كآبة. وشَهِدتُ الزواج مع صديقي العريس وهنَّأتُ ملك، كأنَّ ما كان لم يكن، وعجبتُ للعواطف وخداعها العابث. ولأوهام الصبا وأحلام الشباب، وغُثاءة الواقع وصدقه ومرارته. وعلى أي حالٍ فعلي يوسف شخصٌ ممتاز، ودخله من المحاماة يفوق دخلي من الوظيفة عشر مرات، وقد هيأ لملك حياةً ناعمة وربى ابنَيه أحسن تربية وتاه بتفوُّقهما. أجل أزعجه نشاطهما السياسي لا لمخالفته لميوله الوفدية فحسب، ولكن للخطر المهدِّد لأمنهما من ناحية الحكومة. ولعله سعد بهجرتهما إلى السعودية ولكنه سرعان ما عذَّبه الشوق الدائم لهما وبخاصة وأنه كان فيَّاض الأُبوَّة. وهيهاتَ أن أنسى حربه القصيرة مع سرطان المثانة، ولا عذاب أيامه الأخيرة، ولا رحيله الذي خلَّف وراءه فراغًا في قلبي لا يُملأ بحالٍ من الأحوال. ولم يكن لي من عزاءٍ تلك الأيام إلا في تقدُّمي في الوزارة وعلاقتي السرية بأم عبده، وسلَّمتُ بالواقع المتجسد في نسوةٍ ثلاثٍ متوتِّرات الأعصاب منعَّمات بالسخط كأنهن الرمز الحي للزمن الموغل دومًا في الغلاء والتناقُضات وسوء الحال. وعقب قيام الثورة ساءت صحة أمي وتدَهورَت الحالة النفسية لأختي زينب فدهمَتني مصروفاتٌ جديدة للعلاج والدواء. واعتدتُ العزوبة ولازمَتني تَطَلعاتي القديمة نحو الزواج والإنجاب كحُلمٍ حزين دائم لا سبيل إلى تحقيقه. وجعلتُ أتساءل في ضيق: متى يُتاح لي التخلص من هذا الكهف المليء بالنفايات؟ وربما أحزنَني وسرني معًا استباقهن إلى خدمتي وتوفير الراحة لي، ليست هذه الراحة العفنة هي ما أنشُد. إنهن يُكبِّلنني بالحديد والعمر ينطلق ساخرًا. وكانت أم عبده أولى الراحلات، أما أمي وفكرية وزينب فلم يرحلن إلا في آخر عامٍ لي في الخدمة؛ سبقت أمي في قمة الشيخوخة، وتبعَتْها بعد أشهر فكرية في السبعين، ثم زينب في الثامنة والستين. وكل جنازة كلَّفَتني الشيء الفلاني حتى اضطُررتُ إلى الاقتراض، ثم وجدتُ نفسي وحيدًا في الستين في عالمٍ جُن جنونه وانقلبَت موازينه وأصبحَت الليمونة فيه بعشرة قروش. ويقول لي حمادة الطرطوشي: لن أسمح لك بالاستسلام لليأس، إن يكن مسكنك كريهًا فثَمَّةَ آلاف من سكان المدافن يحسُدونك، بيدك أيضًا أن تعمل في شركة استثمار وتُحسِّن مرتبك، وتُوجد سيدةٌ وحيدة مثلك فلِم لا تزورها؟

ويقول الرجل أيضًا وهو يضحك: صحتك والحمد لله ممتازة، وخواطرك الجنسية تُبشِّر بكل خير.

وقلتُ له ذات مساء: قرَّرتُ التحدي والقيام بالمغامرة.

فهنَّأَني العجوز على شجاعتي. وضاعَ أكثَرُ يومي الثاني في الاستعداد للمساء؛ حلقت شعر رأسي وذقني، أسلمت جسدي للدش طويلًا، ارتديتُ أحسن ما عندي من بنطلونات وقمصان، انتظرتُ المساء طلبًا للستر ثم عبَرتُ الشارع العمومي للضفة الشرقية، خطَر لي علي يوسف، قلتُ إنه لم يخُنِّي ولا أخونه. وقلتُ أيضًا لنفسي إنه لعارٌ أن يرتبك شخصٌ في مثل سني. وقفتُ أمام باب الشقة في الدور الثالث في ظلامٍ تام ضغطتُ على الجرس. سمعتُ أقدامًا آتية، وفُتحَت الشراعة، وتساءل الصوت القديم: من؟

أضاءت المصابيح في أعلى الباب فتجلَّى وجهي، لم تُصدِّق عينيها، هتفَت: أنت!

فتحَت الباب، وضح تلعثُم حالها، أشارت إلى حجرة إلى يمين الداخل هامسة: تفضَّل.

ذهبتُ وبقيت بمفردي واقفًا، الجو خانق، فتحتُ نافذةً تُطل على الشارع، نفس حجرة الاستقبال القديمة ولكن الأثاث جديدٌ وعصري. هل أندم على هذه الخطوة؟ لعلها الآن تغيِّر ملابس البيت، لم أَرَها من قريبٍ منذ زمنٍ طويل طويل. وقعُ الأقدام من جديد، رجعَت مطوِّقة الرأس بمنديل أبيض، في فستانٍ صيفي لَبني لكنه محتشم، لا يكشف إلا عن ساعدَيها وأسفل ساقيها. تساءلَت وهي واقفة: تشرب قهوة؟ .. عندي عصير برتقال أيضًا.

– لا داعي للكلفة والتعب.

ذهبَت. بَقِيَت صورتها؛ امتلأ الوجه أكثر من الماضي ولكنه متماسك ولا أثَر للتجاعيد فيه، حلت الرزانة محل ماء الشباب، ولكنه وجهٌ مقبول، تُرى هل شاب شعرها؟ أما الجسم فقد امتلأ، بينه وبين البدانة خيطٌ لا بأس، وهو داخل الفستان مثير؛ إي والله مثير، انهالت عليَّ أحلامي الجنسية كالشلال، آه لو أضمُّها إلى صدري ونتذاوب كما فعلنا كثيرًا في الماضي المليح، ولكن حذارِ فأنتَ لا تدري شيئًا عما يعتلج في باطنها، ربما أقامت واستقرَّت في وادي الأمومة والطهر، تمالَكْ نفسك وتجنَّب الخطأ، رجعَت بصينيةٍ فضية صغيرة عليها قارورة، ووضعَتْها فوق خوانٍ من الخشب المطعَّم بالصدف، ونقلَته أمام مقعدي، قلتُ لها: أتعبتك، اجلسي وارتاحي.

جلسَت على فوتيه في الجناح المواجه لي، وفي تلك اللحظة انتبهتُ إلى صورة الزفاف المثبَّتة في الجدار فوقها، وعلى جانبَيها صورتان، الأولى لعلي يوسف والأخرى لابنيها في زي العرب. هبَّت على عواطفي دفقة باردة وازدادت مهمَّتي عسرًا.

– خطوةٌ عزيزة، تذكرتَ أخيرًا أهلك!

فقلتُ بأسف: هي الحياة كما تعلمين، ولكنني قلتُ إنه غير معقول أن نكون في حيٍّ واحد ونعيش كالغرباء!

– أهلًا بك، هل ما زلتَ تعمل في الوزارة؟

– تقاعدتُ منذ أيام أو منذ ساعات!

– ربنا يطوِّل عمرك، ألا يُوجد من يخدمك؟

قلتُ ضاحكًا: أعيش وحيدًا مع الجدران القديمة.

– وأنا مثلك، لولا امرأةٌ بنت حلال، تزورني مرةً كل أسبوع، أمينة وماهرة.

– يُخيَّل إليَّ أنكِ لا تغادرين البيت أبدًا؟

– لا أخرج إلا كل حين ومين ولأسبابٍ قهرية.

– الوحدة قاسية، لديَّ المقهى والصديق، ولكنها قاسية جدًّا.

فقالت بتسليم: عندي التليفزيون وجارة أو جارتان.

– هذا لا يكفي.

– أفضل من عدمه!

– وكيف حال ابنَيك؟

– عال، استقرا هناك إلى الأبد، أصبح لي أحفاد،، هي قسمتي على أي حال.

نطقَت بها بأسًى واضح فسألتُها: ألم تسافري إليهما؟

– مرة، وأدَّيتُ العمرة.

قلتُ وقلبي يمعن في تراجُعه: مبارك يا حاجة.

– عقبالك.

ثم مواصلة: إن عزمتَ يومًا فستجدهما في انتظارك.

– كل شيء بمشيئة الله، وكيف صحتك؟

– كيف صحتك أنت؟

– على أحسن ما يكون، والحمد لله.

– وأنا كذلك، ولكني ركَّبتُ طاقم أسنان.

– هذا مفيد للصحة في ذاته.

– نسأل الله حسن الختام.

فقلتُ بحماس: أمامكِ عمرٌ مديد بإذن الله، وإني سعيد برؤيتك.

– وأنا كذلك، ولو أنَّني كنتُ أتمنى ألا تكون وحيدًا.

– أنتِ أيضًا وحيدة.

فقالت بمودة: أعني أنه كان يجب أن تكون لك زوجة وأولاد.

فقلتُ بأسَف: القسمة والنصيب.

وأمسكنا، ربما لنسترد أنفاسنا، أفرغتُ بقية القارورة في جوفي وغرقتُ في العرق. فارقٌ كبير بين الحقيقة والخيال، تصوَّرتُ أنني سأوجه الحوار إلى الهدف دون صعوبة، وأنني سأثب إلى جانبها مثقلًا بأشواق العمر، وأنه وأنه وأنه، وهذا مناخ الجلسة ينضح بالجدية والأدب، والسيدة مصونة لا تسمح بقدح شرارة عبث، وهذه الصور المطلة علينا تشاركنا الاجتماع وتصُد عنه النزق بل وتُغرِقه في الحزن، تُرى فيم تفكِّر؟! ألم تَرِد على خاطرها ولو صورة فاتنة واحدة من الماضي الجميل؟ هل تُهيمِن على خواطرها كما تُهيمِن على سلوكها؟ .. أودُّ أن تُطالِعني العينان بلمحة تذكُّر، أو مداعبة، أو حياءٍ عابر، أو ظل ابتسامة تتعدَّد التفسيرات لها، لكني لا أرى إلا نظرةً رزينة، نظرةَ قريبةٍ لقريبٍ تلاقيا في شيخوخة العمر. هل انتهت ملك وجفَّت ينابيعها؟ على أي حالٍ لن أغادر الشقة بجعبةٍ خاوية إلا من الفشل، ولن أسمح للجبن بأن يُحمِّلني الندم إلى آخر البقية من العمر. قذفتُ إلى الماء متسائلًا: هل يضايقك أن نخفِّف من وحدتنا بالزيارة من حين لآخر؟

فقالت بهدوء: أهلًا بك.

ثم مع تردُّد واضح: ولكن …

أدركتُ ما تُضمِر، فقلت: نحن أقارب، ولنا من عمرنا ما يصُد عنا الكلام.

فلاذت بالصمت، فقلت يائسًا: إذن لا توافقين على الزيارة!

قالت بسرعة: لم أقل هذا.

– لعلكِ توصين بالانضباط؟

– هذا ما يجدُر بنا أن نفكِّر فيه.

– أودُّ أن أعرف رأيك بكل صراحة.

– لو عندي رأيٌ آخر لصارحتُك به.

فقلتُ بحرارة: أنا في أشد الحاجة إلى الزيارة، وحدتي لا تُطاق، وليس لي غيرك كما تعلمين، وطالما فكَّرتُ في ذلك ومنذ زمنٍ طويل.

لعلها ابتسمَت، ولكن وجهها تورَّد يقينًا، وهمسَت: أنا فاهمة ومُجرِّبة.

فقلت بشجاعةٍ متصاعدة: إذن فكلانا في حاجة إليها!

فضحكَت وآثرت الصمت، وشعرتُ بأننا انتقلنا من عصر إلى عصر، فقلت: الوحدة مرة، والحياة مرة، أتطلَّع إلى شيءٍ جديد، أنت جدَّدتِ أثاثك.

– شقتي تجدَّدتْ تمامًا، المرحوم ترك لي مبلغًا لا بأس به، وحيد أهداني حجرة نومٍ جديدة، وبكر حجرة الاستقبال، واشتريتُ أنا حجرة سفرة.

– والغلاء؟

– المعاش لا يُجدي، ولكن وحيد وبكر يمدَّانني بما أحتاج إليه، ماذا تفعل أنت؟

– يدي دائمًا على قلبي، ولا أحد يهتم بالمتقاعدين، ولكن أفكِّر في بدء حياةٍ جديدة!

– بعد التقاعد؟

– صحَّتي على ما يرام، ولديَّ مهارة في اللغة الإنجليزية وخبرة في الأعمال الإدارية، وسوف أجرِّب حظي في إحدى شركات الاستثمار.

– مرتَّباتهم كبيرة.

– وأملي كبيرٌ جدًّا.

– فكرةٌ جميلة.

– يسرني أنك تُشجِّعينني.

ورجعنا إلى الصمت فرأيتُ من المناسب إنهاء الزيارة، قلتُ: آن لي أن أذهب.

وكالعادة دعَتني للبقاء مجاملة ولكنَّني وقفتُ ومددتُ يدي للمصافحة. تمشَّيتُ في الهواء الساكن متلهفًا على نسمة من نسائم الصيف. إذا كان الخيال لم يتحقق فإنه أيضًا لم يتلاشَ. ومضيتُ إلى مقهى النجاح بروحٍ جديدة، ولما رآني حمادة الطرطوشي مقبلًا ابتسمَت أساريره، وقال: رجعتَ إلى شبابك، لم أَرَك كاليوم أبدًا.

وجعلتُ أُعيد على مسمعه ما دار بيني وبينها واجدًا في ذلك سعادةً جديدة. وعلق الرجل قائلًا: أنا متفائل، وأنت؟

فتفكَّرت قليلًا، ثم قلتُ: بنسبة ٥٠٪.

– لا، أكثر من ذلك.

– حقًّا؟

– كان بوسعها أن تجعل من الزيارة الأولى والأخيرة.

– لا شك في ذلك.

– ولا أظن أنه غاب عنها مقصدك.

– أتمنى ذلك.

– صدِّقني، أنا أدرى بالنساء منك، ولكن هل وجدتَها حقًّا صالحة؟

فقلتُ بحماس: أؤكِّد لك أنها ما زالت جذابة.

فقال الرجل وهو يضحك: على سبيل الحيطة لا تتمادَ في التفاؤل، المظهر في مثل سنها غير المخبر، قد يبدو الجسم مغريًا داخل الفستان، ولكن إذا عُرِّي تجلَّت به ثغرات وحفر مثل شوارع هذه الأيام؛ لذلك أنصحك إذا وُفِّقتَ إلى ما تريد أن تمارس حبك في الظلام!

ولم أتمالك من الضحك طويلًا، ثم قلت له: المهم أن أوفَّق أولًا.

لدى عودتي إلى شقَّتي أطبقَت عليَّ الكآبة. تضاعفَت كراهيتي لها وتمنَّيتُ لها النار. باتت الرغبة في التغيير قوةً قاهرة لا تُقاوم، وفتَرتْ متعتي بالمقهى والتليفزيون في الأيام التالية. الزيارة هي الأمل الباقي الوحيد، تكرارها بعد أسبوعٍ قليل، بعد شهرٍ غير محتمل، فلتكُن بعد أسبوعَين. في أثناء ذلك عرفتُ أن شركة جنرال إليكتريك في حاجة إلى وظيفة في فرعٍ منها يقوم بمشروع لبناء محطة مياه، مشروعٍ مؤقت مدته ثلاثة أعوام ولكن المرتب ٤٠٠ج.م، غير بدل الانتقال، وتقدَّمتُ للامتحان. وقع الاختيار على فتاة ولكن المدير عرض عليَّ وظيفة في العلاقات العامة بثلاثمائة جنيه، قبلتُ وأنا في منتهى السعادة. لم أتمكن في نطاق دخلي الجديد من الانتقال إلى حيِّ جديد ولكن الغذاء والكساء سيقفزان قفزةً خيالية. وانتظرتُ أسبوعين ثم مضيت في ميعاد الستر إلى بيت حبيبتي، الصبر نفَد، والشوق تأجَّج واشتعل، والعزيمة صمَّمتْ. أقنعتُ نفسي بأن الشيخ لا يجوز أن يتلعثَم كصبي أو يخجل كمراهق. ولما فتحَت لي حجرة الاستقبال رجوتُ أن نجلس في حجرة المعيشة، استزادةً من الألفة في الظاهر وهربًا من الصور في الحقيقة، وقلتُ لها بصدق: حياتي بفضلك أصبحَت مما أُغبط عليه.

فابتسمت قائلة: لا تبالغ.

فقلتُ بارتياح: التحقت بشركة جنرال إليكتريك.

– مبارك.

وحكيتُ لها عن المرتب وكل شيء وقلتُ: يمكنني الآن أن أُحقِّق هدفي.

وبدت أنها لم تفهم مقصدي فقالت: إن كنت تروم شقةً جديدة فأشك في تحقيق هدفك.

فقلتُ بجرأة: هدفي أهم من الشقة!

– حقًا؟!

– إني أفكِّر جادًّا في الزواج.

خيل إليَّ أنها أجهضَت دهشة بلباقة، وتمتمَت: الزواج!

فقلتُ بثقة: إني على أتمِّ ما يكون من الصحة.

فابتسمَت في ارتباك، وقالت: ربنا يزيدك صحة وعافية.

– وددتُ أن أعرف رأيك؟

– لِم لا، مثلك يتزوجون، وأكبر منك أيضًا.

– هذا ما قلتُه لنفسي.

فقالت بشيءٍ من المرح: دعني أبحث لك عن زوجةٍ مناسبة.

– ما الزوجة المناسبة؟

– لعلها سيدةٌ عاقلة لا تقل عن الأربعين.

– ستكون في تلك الحال أرملة أو مطلَّقة.

– وما المانع؟

– ولها أولاد، وربما في سن الحضانة.

– لا بد من الرضا بالواقع المتاح.

فركَّزتُ بصري الثمل في عينَيها الحائرتَين، وقلتُ: إني أعرف من أريد ولا حاجة إلى البحث.

فتساءلَت وهي تغوص في الحصار: ماذا تعني؟

فقلتُ باستسلام وضراعة: ملك، أنت الزوجة التي أريد.

غضَّت بصرها وقطَّبتْ دون أن تنبس، فرجعتُ أسأل في إلحاح: ما رأيك؟

– أهذا ما رجَعتَ من أجله؟

– أي نعم.

– يا للفضيحة!

– الفضيحة؟

– لا أدري ماذا أقول.

– إنه مطلبٌ طبيعي ولا فضيحة فيه على الإطلاق.

فقالت بصوتٍ متهدج: الزواج لا يمكن أن يخطر لي ببال.

– دعيه يخطر، كان أعز أمانينا.

فقالت وهي من الحياء في ضيقٍ شديد: ذاك تاريخٌ مضى وانقضى ونسي.

فقلتُ بحرارة: إنه يعيش معي الآن بكل قوة.

– أنتَ لا تدرك معنى ما تقول، الوحدة أطاحت بالحكمة، وسيتمخَّض الحُلم عن لا شيء.

– إني أعرف ما أريد.

فقالت بانفعالٍ شديد: لا .. لن أسمح بفضيحة.

– لماذا تردِّدين هذه الكلمة القبيحة؟

– هي الحقيقة، أنتَ تتناسى أنني أم وجدَّة.

فقلتُ بضراعة: الدهشة تعيش ساعةً واحدة، ثم يلوذ الإنسان بسعادته.

فغضَّت بصرها في أسًى، وهمسَت: لا تحرمني من سكينة القلب.

خُيِّل إليَّ أنها انقلبَت في نقاشها امرأةً لا أمًّا أو جدة أو قريبة فحسب.

انتفضتُ قائمًا وخطوتُ نحوها لأجلس إلى جانبها كالزمان الأول، ولكنها وثبَت هاربة وهي تهتف بجفاء: لا تلمسني.

كأنما تلقَّيتُ لطمة، تجمَّدتُ لحظات، في غاية من الانهيار واليأس، ثم همستُ وأنا أتحرك: أستودعك الله.

لم أذهب إلى المقهى، لم أرجع إلى البيت، سِرتُ طويلًا على غير هدًى، استرحتُ قليلًا في بعض مقاهي الأطراف، عُدتُ إلى مقبرتي مع الفجر. في اليوم التالي، وأنا في طريقي المألوف إلى مقهى النجاح، رفعتُ عيني إلى شرفة مسكنها، وإذا بها تقف فوق عتَبة الشرفة وكأنها تنظر نحوي. وبدافع الأدب والمجاملة أحنَيتُ رأسي تحيةً فإذا بها تُلوِّح بيدها مُحيِّية. خفَق القلب وتَسمَّرتِ القدمان، ماذا تعني يا تُرى؟ وفتحَت مصراعَي النافذة وتراجعَت قليلًا، ثم لوَّحَت بيدها مرةً أخرى واختفت. فسَّرتُ الإشارة على هواي، وعبَرتُ الشارع نحو العمارة يستخفُّني طربٌ غامر، لم أُبالِ هذه المرة بانتظار المساء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤