سياسة العباسيين في تأييد سلطتهم

(١) القتل على التهمة

قد رأيت فيما تقدم أن بني العباس قاموا يدعون إلى أنفسهم وهم بين خطرين عظيمين: الأول أن يحاربوا بني أمية ويتغلبوا على أحزابهم، والثاني أن يأمنوا جانب العلويين في مسابقتهم إلى الخلافة. وكانت الحوادث قد علمتهم أن الدولة لا تقوم بالدين والتقوى فقط، كما قامت في عصر الراشدين وكما أرادها بنو علي، وأن العلويين إنما عجزوا عن نيلها لاعتمادهم في دعوتهم على شرف نسبهم وصدق تدينهم، وأن معاوية لم يغلب إلا بالدهاء والحيلة، وأن عبد الملك لم يستطع استبقاءها إلا بالفتك وشدة البطش. فلما انتقلت البيعة من العلويين إلى العباسيين، بمبايعة أبي هاشم بن محمد بن الحنفية لمحمد بن علي العباسي كما تقدم، ثم أفضت بعده إلى ابنه إبراهيم الإمام، وتوفق هذا إلى أبي مسلم الخراساني ورأى فيه الشدة والدهاء، جعله قائدًا على نقبائه ودعاته وأوصاه وصية هي محور سياسة العباسيين في تأييد دولتهم هذا نصها:
إنك رجل منا أهل بيت، أحفظ وصيتي: أنظر إلى هذا الحي من اليمن فالزمهم واسكن بين أظهرهم، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم. واتهم ربيعة في أمرهم، وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار. واقتل من شككت فيه. وإن استطعت أن لا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل. وأيما غلام بلغ خمسة أشبار واتهمته فاقتله١
فخرج أبو مسلم من عند الإمام إبراهيم بهذه الوصية، وقد عمل بها وعول عليها، فكان يقتل كل من اتهمه أو شك فيه، فبلغ عدد الذين قتلهم في سبيل هذه الدعوة ٦٠٠٠٠٠ نفس قتلوا صبرًا٢ بدون حرب في بضع سنين، وفي جملتهم جماعة من كبار الشيعة، وفيهم غير واحد من جلة النقباء وكبار الدعاة، كأبي سلمة الخلال الذي نصر الدعوة العباسية بماله كما نصرها أبو مسلم بسيفه، وكان يقال له: وزير آل محمد كما يقال لأبي مسلم: أمير آل محمد. فحالما استشار السفاح أبا مسلم في شأنه واتهمه بنقل الخلافة إلى العلويين، أشار أبو مسلم بقتله فقتلوه وقتلوا عماله على الأطراف. وفعل نحو ذلك أيضًا بسليمان بن كثر، وهو من أكبر دعاة الدولة العباسية قبله، وكان شيخًا جليلًا لم يدخر وسعًا في نصرة تلك الدعوة. فبعد قتل أبي سلمة بلغ أبا مسلم عنه مثل ما بلغه عن أبي سلمة، فأحضره إليه وقال له: «أتحفظ قول الإمام لي: من اتهمته فاقتله؟» قال: «نعم» قال: «فإني قد اتهمتك!» فخاف سليمان وقال: «أناشدك الله …» قال: «لا تناشدني، فأنت منطو على غش الإمام»، وأمر بضرب عنقه٣ ناهيك بمن قتلهم من غير الشيعة، وفيهم الأمراء والقواد. وقتل بعضهم بالحيلة والبعض الآخر بالغدر، ومنهم الكرماني وأولاده وكبار رجاله٤ وغيرهم بشر كثير، حتى سئم الناس فعله وملوا سفك الدماء، وأصبح المسلمون — حتى رجاله — لا يدعى أحدهم إلى مقابلته إلا أوصى وتكفن وتحنط. وثار من ذلك بعض الأمراء من شيعة بني العباس وصاح في رجاله: «ما على هذا اتبعنا آل محمد: أن سفك الدماء وأن يعمل بغير الحق …»، فتبعه على رأيه أكثر من ٣٠٠٠٠ رجل، فوجه إليهم أبو مسلم جندًا قاتلهم وقتلهم.

(٢) المنصور والدولة العباسية

فبهذا وأمثاله مهد أبو مسلم الخلافة لبني العباس، فساعدهم أولًا على إخراجها من بني أمية إلى أهل البيت، ولم يكتف ببيعة أبي العباس وقتل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ولكنه حرضهم على قتل من بقي من بني أمية بالإغراء أو التخويف على ألسنة الشعراء. ويقال: إنه هو الذي أوعز إلى سديف الشاعر مولى بني هاشم أن يقول ذلك الشعر في مجلس السفاح، وفيه سليمان بن هشام بن عبد الملك، وكان السفاح قد أمنه وأكرمه وأمن سائر بني أمية — فيقال: أن سديفًا دخل يومًا على السفاح وعنده سليمان بن هشام فأنشد سديف قوله:

لا يغرنك ما ترى من رجال
إن تحت الضلوع داءً دويّا
فضع السيف وارفع السوط حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويّا
فتأثر السفاح وأمر بسليمان فقتل. ودخل شاعر آخر فقال شعرًا آخر، وكان عند السفاح نحو سبعين من رجال بني أمية، فقتلهم وبسطت له النطوع على جثثهم فأكل الطعام وهو يسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعًا٥ وقل في كيفية قتلهم غير ذلك، وأن الذي قتلهم عبد الله بن علي عم السفاح، وهو مشهور بكرهه لبني أمية وشدة نقمته عليهم، ولكن لا خلاف في أنهم قتلوا غدرًا سنة ١٣٢ﻫ وهم آمنون كما قتل الأمراء المماليك بمصر في أوائل القرن الماضي.
والغالب أن أبا مسلم أوعز إلى العباسيين بقتلهم؛ لئلا يقفوا في سبيل دولتهم، فأشار إلى سديف أن يحرضهم على ذلك بشعره. ولم يقل سديف ذلك حبًّا ببني العباس بل كرهًا لبني أمية وانتقامًا لآل علي؛ لأنه من الشيعة العلوية وهو يظن الخلافة شورى بين الشيعتين. فلما رأى المنصور استقل بها بعد ذلك، نقم على العباسيين وهجاهم بأشعار بلغ خبرها المنصور، فكتب إلى عامله أن يأخذ سديفًا فيدفنه حيًّا ففعل.٦
وبعد أن قتل العباسيون من كان في قبضتهم من الأمويين، عمدوا إلى استئصال شأفتهم من سائر البلاد. ولم ينج منهم إلا قليلون، أهمهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، ففر إلى المغرب وأسس دولة بني أمية بالأندلس كما سيأتي. وتولى استئصال شأفة الأمويين من بني العباس عبد الله بن علي، فبالغ في ذلك حتى نبش قبورهم ومثل بجثثهم، انتقامًا لما فعلوه قبلًا بالأئمة من آل علي، وخصوصًا زيد بن زين العابدين. فاستخرج جثة هشام بن عبد الملك من قبره وهو لم يبل، فضربه ثمانين سوطًا ثم أحرقه.٧

وبعد أن تخلص المنصور من الأمويين، لم يدخر أبو مسلم وسعا في تخليص الدولة من أقربائه آل العباس أنفسهم، وفي جملتهم عبد الله بن علي المتقدم ذكره، وقد طمع في الخلافة فحاربه بأمر المنصور وغلبه، واستولى على ما في عسكره من الغنائم والأسلحة. فأراد المنصور أن يوجه همه إلى بني الحسن منافسيه في الخلافة، فاشتغل خاطره بأبي مسلم وأصبح خائفًا منه على سلطانه، بعد ما بلغ إليه من النفوذ والشهرة والدالة. ولم يكن همه إلا قتله ليفرغ للعلويين، فاتهمه بأنه ينوي إخراج الملك منهم فاستحق القتل عملًا بوصية الإمام.

وكان المنصور قد خاف أبا مسلم وعزم على قتله، من عهد خلافة أخيه أبي العباس، ولكن أبا العباس لم يرد الإقدام على ذلك. فلما مات السفاح وخلفه المنصور صمم على قتله، ولكنه استخدمه في حرب عمه عبد الله بن علي، فضرب عدويه أحدهما بالآخر، فأيهما قتل صاحبه انفرد فيسهل على المنصور قتله. فلما فرغ أبو مسلم من حرب عبد الله بن علي، احتال المنصور في استقدامه إليه من خراسان في حديث طويل، وأدخله عليه دخول الزائر الأمين، وقد أكمن له أناسًا بالسلاح وراء الستر، فأخذ سيفه منه وحادثه، وتدرج من العتاب إلى التوبيخ، حتى إذا أزفت الساعة صفق المنصور، فخرج الكامنون بأسلحتهم وقتلوه سنة ١٣٧ﻫ فأمر به فلفوه بالبساط، ثم دعا بعض رجال خاصته وشاورهم في قتله — ولم يقل: أنه قتله — فقال له أحدهم: «إن كنت قد أخذت من رأسه شعرة فاقتله ثم اقتله»، فأشار المنصور إلى البساط، فلما رأى أبا مسلم فيه وتحقق موته قال: «عد هذا اليوم أول يوم خلافتك …».٨
ولما فرغ المنصور من أبي مسلم، لبث يتوقع ما يبدو من رجاله الخراسانية؛ لعلمه أنه ركب بقتله خطرًا عظيمًا، فما عتم أن ثار عليه جماعة منهم يعرفون بالراوندية، وكادوا يفتكون به لو لم يدافع عنه معن بن زائدة. فقتل الراوندية جميعًا، ولكنه أصبح لا يأمن على نفسه من مثل هذه الثورة، فبنى مدينة بغداد بشكل حصين يقيه غائلة ذلك عند الحاجة، ثم عمد إلى تخليص الخلافة من آل علي، فحارب محمد بن عبد الله وقتله. ثم رأى من آل العباس من ينازعه عليها، منهم عمه عبد الله، وكان أبو مسلم قد غلبه ولكنه لم يتمكن من قتله، فاحتال المنصور في استقدامه بأمان بعثه إليه مع ولديه، فجاء فحبسه عنده. ثم علم سرًّا أن ابن عمه عيسى بن موسى ينوي الخروج عن طاعته، وكان واليًا على الكوفة، فتجاهل وبعث إليه وقد دبر أمرًا كتمه عن رجال بطانته، فلما جاء عيسى استقبله المنصور بالترحاب والإكرام، ثم أخرج من كان في حضرته من الحاشية واستبقاه وحده، وأقبل عليه وقال: «يا ابن العم … إني مطلعك على أمر لا أجد غيرك من أهله، ولا أرى سواك مساعدًا لي على حمل ثقله، فهل أنت في موضع ظني بك، وعامل ما فيه، بقاء نعمتك التي هي منوطة ببقاء ملكي؟» فقال له عيسى: «أنا عبد أمير المؤمنين، ونفسي طوع أمره ونهيه …»، فقال المنصور: «إن عمي وعمك عبد الله قد فسدت بطانته، واعتمد على ما بعضه يبيح دمه، وفي قتله صلاح ملكنا، فخذه إليك واقتله سرًّا …» فأطاعه عيسى، فسلم إليه عمه فمضى به إلى الكوفة. وأضمر المنصور أن ابن عمه عيسى إذا قتل عمه عبد الله ألزمه القصاص. وسلمه إلى أعمامه إخوة عبد الله ليقتلوه به، فيكون قد استراح من الاثنين معًا. أما عيسى فكأنه شك في نية المنصور، والناس يومئذ يتهمون بعضهم بعضًا خوفًا من وصية الإمام، فاستشار بعض ذوي مشورته فحذروه من عاقبة ذلك، فحبس عمه ولم يقتله. ولما طلبه المنصور منه دفعه إليه حيًّا، فقتله في بيت جعل أساسه على الملح.٩
وأمثلة ما أتاه المنصور من الدهاء والفتك في تأسيس دولته كثيرة. وكان يعطي الأمان ثم ينكث، كما رأيت فعله بعمه عبد الله، وكما فعل بابن هبيرة عامل بني أمية على واسط، لما بويع السفاح وأرسل أخاه المنصور لمحاربته، فجرت السفراء بينهما واتفقا على أن يدخل ابن هبيرة في أمان بني العباس، فكتب له المنصور أمانًا ظل ابن هبيرة أربعين ليلة وهو يشاور فيه العلماء حتى تحقق صحته ورضي به. فبعثه إلى أبي جعفر، فأنفذه أبو جعفر إلى أبي العباس فأمره بإمضائه. وكان رأي أبي جعفر في بادئ الأمر أن يفي بما أعطاه، ولكن أبا مسلم (وكان لا يزال حيًّا) أشار على السفاح أن يقتله قائلًا: «إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد. لا والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة …»، فبعد أن جاء ابن هبيرة إلى أبي جعفر مستأمنًا غدر به وقتله١٠ لأنه اتهمه. ثم اتهم أبا مسلم وقتله بعد أن أمنه كما رأيت. وشاع نكث الأمان والغدر عن المنصور وتحدث به الناس. فلما قام محمد بن عبد الله العلوي في المدينة، خافه المنصور كما تقدم، فبعث إليه يعرض عليه الأمان ويعده خيرًا، فأجابه محمد: «أي أمان تعطيني؟ أمان ابن هبيرة، أم أمان عمك عبد الله، أم أمان أبي مسلم؟».١١

وظل المنصور وأبو مسلم قدوة لمن جاء بعدهما في الدهاء والفتك. على أنهم لم يكونوا يبطشون أو يفتكون إلا بمن نازعهم على الخلافة، فهذا يقتلونه على الشك. أما أحكامهم فيما خلا ذلك ففي نهاية العدل والرفق، كما سيأتي أما من كان في نفسه مطمع في الخلافة أو ما يتعلق بها فحكمه حكم المجرمين، فكل من يطلب الخلافة لنفسه أو يسعى فيها لأحد كانت حياته في خطر، فإذا دعي للمثول بين يدي الخليفة اغتسل وتحنط استعدادًا للموت.

وكان المنصور أيضًا قدوة لعبد الرحمن بن معاوية، مؤسس دولة بني أمية في الأندلس، وقد فر من العراق فالشام إلى المغرب خوفًا من القتل، فنصره رجاله وخصوصًا مولى له اسمه بدر، سعي في تأييد سلطانه مثل سعي أبي مسلم في الدولة العباسية، فلما استتب له الأمر سلبه كل نعمة وسبحنه ثم أقصاه حتى مات، وفعل نحو ذلك في رؤساء الأحزاب الذين نصروه، وسيأتي الكلام على ذلك.

واشتهر فتك العباسيين بالذين ينصرونهم في تأييد دولتهم، حتى صار الخلفاء أنفسهم يشيرون إلى ذلك إذا أعوزهم الاستدلال به. فالأمين لما رأى طاهر بن الحسين يتفانى في نصرة أخيه المأمون، وقد تولى قيادة جند الخراسانيين وغلب على جند الأمين وكاد يذهب بدولته، كتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، اعلم أنه ما قام لنا منذ قمنا قائم بحقنا وكان جزاؤه إلا السيف، فانظر لنفسك أو دع …».١٢ وفي الواقع أن المأمون لما استتب له الأمر في الخلافة بسيف طاهر المذكور عمل على قتله بحجة مثل حجة المنصور بقتل أبي مسلم، فأهدى له خادمًا كان رباه وأمره أن يسمه ففعل.١٣

(٣) سياسة الدولة العباسية في معاملة الرعية

(٣-١) الموالي الفرس

قد رأيت أن الدولة العباسية قامت بالفرس وغيرهم من الرعايا، وفيهم الموالي وأهل الذمة وكانوا ناقمين على دولة بني أمية، فنصروا أهل البيت انتقامًا منها، والجمهور الأهم منهم الفرس.

(٣-٢) الفرس والعرب قبل الإسلام

الفرس أهل سياسة وسلطان، وقد أنشأوا الدول وساسوا الناس ووضعوا الأحكام من قديم الزمان. وضخمت دولتهم وقويت شوكتهم حتى حاربوا اليونان والرومان، ونبغ فيهم القواد والعلماء والحكماء، وترجموا العلم والفلسفة، وكان لهم شأن كبير في التاريخ القديم، واشتهر فيهم فضلًا عن الأسر المالكة والداهقين والأساورة بيوتات شريفة، أشهرها سبعة كان الشرف فيها. وعلى إطلال اصطخر عاصمة الفرس القدماء، وغيرها من بقايا مدنهم القديمة، نقوش كتابية، مثل التي خلفها الفراعنة واليونان والرومان وغيرهم.

وكان في مملكة فارس قبائل كثيرة من العرب، يقيمون على حدودها بين النهرين في العراق والجزيرة، وكانت لهم دولة عربية تحت رعاية الفرس. وهم المناذرة في الحيرة، وكثيرًا ما كان الفرس يتعلمون لغة العرب وينظمون الشعر العربي، حتى ملوكهم فإنهم لم يكونوا يستنكفون من ذلك — حكي أن بهرام بن يزدجرد بن سابور نشأ بين العرب بالحيرة وتعلم العربية ونظم فيها شعرًا،١٤ وكانوا يستخدمون العرب في دواوينهم، للكتابة أو الترجمة بينهم وبين من يفد على ملك الفرس من عرب الحجاز أو اليمن أو نجد، وخصوصًا بعد أن دخلت اليمن في حوزتهم على عهد كسرى أنو شروان.
وأشهر كتاب العرب في دواوين الفرس آل عدي بن زيد من المضرية، وكان عدي وأبوه وجده من مهرة الكتاب، على قلة من يحسن الكتابة من العرب في ذلك العهد، وكانوا يخدمون الفرس في دواوينهم. فجده حماز بن زيد بن أيوب كان كاتبًا عند النعمان في الحيرة، وتقرب من الفرس وولد له زيد، فأوصى به إلى دهقان كان صديقًا له وهو من أهل الدولة، فرباه الدهقان وعلمه الفارسية فنبغ في اللسانين، فتقدم الدهقان إلى كسرى أن يوليه البريد. ولم يكن ينال هذا المنصب إلا أبناء المرازبة، فتقدم يزيد في الدولة حتى صار كسرى يستشيره في مهامه، وولد لزيد ابنه عدي وتثقف وتعلم مثل أبناء الأساورة، وأتقن ألعاب الفرس على الخيل بالصوالجة، فقربه كسرى وجعله كاتبًا في ديوانه بالمدائن، وصار من أصحاب السطوة والكلمة النافذة وكسرى يأذن له مع الخاصة ويبعث به في المهمات الكبرى إلى ملك الروم وغيره. وإذا فسد العرب على الفرس وتمردوا توسط عدي في إصلاحهم، وإذا مات ملك العرب في الحيرة لا يولي كسرى من يخلفه إلا بمشورة عدي. فشق ذلك على ملوك الحيرة حسدًا له؛ لأنهم يمنية وعدي مضري، فوشى به بعضهم إلى كسرى حتى قتل، وتولى بعده ابنه زيد بن عدي في المكاتبة عن كسرى إلى ملوك العرب في أمورها وفي خواص أمور الملك. وكانت لكسرى وظائف يؤديها إليه العرب كل عام، فكان زيد يتولى ذلك وغيره.١٥

وجملة القول: أن العرب كانوا يخدمون الفرس في أيام دولتهم قبل الإسلام، كما خدم الفرس العرب في أيام دولتهم بعد الإسلام، على أن الفرس بلغ من ضخامة سلطانهم وسعة ملكهم قبل الإسلام أن كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد ويعدون سائر الناس عبيدًا لهم، أي: أنهم أصيبوا بما أصاب العرب بعد ذلك، وبما يصاب به غيرهم من الأمم التي توفق إلى السيادة فيغلب عليها الغرور وتترفع عن سواها.

فلما ظهر الإسلام وقامت دولة الخلفاء مقام دولة الأكاسرة، كان ذلك شديدًا على الفرس، وخصوصًا بعد ما لا قوة من ضغط بني أمية، واحتقارهم، فكانوا ينتقضون فيحاربهم الأمويون، ويبالغون في إهانتهم وظلمهم ويضربن مدائنهم بالمجانيق ويقتلون أهاليها، حتى أفنوا أكثر البيوتات القديمة ووجوه الأساورة الذين كانوا يأوون إلى أصخر١٦ فلا لوم عليهم بعد ذلك إذا نصروا كل قائمة على الدولة الأموية. على أنهم لم يفوزوا إلا بطلبها للعباسيين كما رأيت، وكانوا يعدون ذلك فوزًا لأنفسهم، تخلصًا من عصبية العرب عليهم، وطمعًا في الرجوع إلى ما كانوا عليه من السلطة والشوكة.

(٣-٣) استخدام الموالي الفرس

فلما قبض العباسيون على أزمة الملك، جعلوا عاصمة مملكتهم بين شيعتهم في العراق، فأقاموا أولًا في الكوفة ثم في الهاشمية، حتى بنى المنصور مدينة بغداد على دجلة فجعلوها دار الخلافة. وقربوا الموالي الفرس، وخصوصًا أهل خراسان، فجعلوهم بطانتهم ورجال دولتهم، ولاسيما الذين حاربوا مع أبي مسلم في طلب الخلافة لهم. وأشهرهم خالد بن برمك جد الوزراء البرامكة، فإنه كان من قواد جند أبي مسلم، وشهد معه الوقائع وأبلى بلاءً حسنًا في نصرة أهل البيت، وكان أبوه برمك من مجوس بلخ، وكان يخدم بيتًا من بيوت النار هناك اسمه النوبهار، اشتهر هو وبنوه بسدانته، وكان برمك عظيم المقدار عند الفرس. فأسلم خالد ودخل في جند أبي مسلم، وكان عاقلًا حازمًا فلم يجعل للعباسيين محلًّا للشك في صداقته، كما فعل أبو مسلم. فقدمه أبو العباس وولاء الوزارة، ثم تولاها للمنصور وخدمه بعد مقتل أبي مسلم في محاربة الأكراد، وكانوا قد تغلبوا على فارس١٧ وتوالت الوزارة في أعقابه إلى يحيى ابنه، فجعفر ابن ابنه، وهو الذي نكب البرامكة على عهده لسبب سنذكره.
وكذلك فعل العباسيون في استخدام الموالي في مهماتهم. وأول من استخدمهم لذلك المنصور، فإنه استعمل مواليه وغلمانه وصرفهم في مهماته وقدمهم على العرب، فاقتدى به الخلفاء بعده حتى سقطت دولة العرب، كما سيجيء. ولما حضرته الوفاة أوصى بثلث ماله لمواليه١٨ وأوصى بإكرامهم. ومن أقواله في وصيته لابنه المهدي: «وانظر إلى مواليك فأحسن إليهم وقربهم واستكثر منهم، فإنهم مادتك لشدتك إن نزلت بك … وأوصيك بأهل خراسان، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولتك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم، أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم عما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده».١٩

ولا غرو إذا أكرم العباسيون أهل خراسان، بعد أن آثروهم على أهلهم وأبنائهم وقتلوا من خالفهم. ولكن العرب كانوا يستغربون ذلك لأول وهلة، فكانوا إذا جاءوا مجلس الخليفة رأوا الخراسانيين يذهبون ويجيئون ويدخلون على الخليفة كأنهم من أهله، والعرب يقفون ببابه لا يؤذن لهم إلا بمشقة — ذكروا أن أبا نخيلة الشاعر العربي وفد على أبي جعفر المنصور، ووقف ببابه واستأذن فلم يؤذن له، وهو يرى الخراسانية تدخل وتخرج وتهزأ به، فيرون شيخًا أعرابيًّا جلفًا فيعبثون به، فسأله صديق له رآه في تلك الحال: «كيف ترى ما أنت فيه من هذه الدولة؟»، فقال:

أكثر خلق الله من لا يدري
من أي خلق الله حين يلقى
وحلة تنشر ثم تطوى
وطيلسان يشترى فيغلى
لعبد عبد أو لمولى مولى
يا ويح بيت المال ماذا يلقى٢٠
وكان المهدي بن المنصور إذا أراد الشورى جمع خاصته للمداولة، وأول من يتكلم منهم الموالي٢١ وقس على ذلك في سائر الأحوال. فأصبحت بطانة الخليفة ورجال دولته وخاصة حكومته من الموالي الفرس، وهم نظموا الحكومة ودواوينها، ورتبوا أحوالها ومنهم الوزراء والقواد والعمال والكتاب والحجاب كأنها دولتهم؛ لأن الغالب في هذه المناصب أن تنتقل من الرجل إلى بعض أولاده، مثل منصب الخلافة، فاشتهر بعض البيوتات بالوزارة أو الولاية، كآل برمك وآل وهب وآل قحطبة وآل سهل وآل طاهر وغيرهم.

وكانت أمور الدولة ترجع إلى الوزراء: يولون ويعزلون، وإذا تولاها أحدهم ولى الأعمال رجالًا من أصحابه أو مريديه، ومن ناحية أخرى تغيرت الأحوال على أهل البلاد، واطمأنت خواطرهم وتفرغوا للعمل في التجارة أو الصناعة أو الزراعة، ونسوا ما كانوا فيه من ضغط بني أمية واستبدادهم، وأطلقت حرية العمل وحرية الدين، وذهبت عصبية العرب، ورتع الناس في بحبوحة الأمن.

ولما استبد الأتراك في الدولة وضعفت شوكة الفرس، بعد المأمون كما سيأتي، ظل الموالي من أصحاب النفوذ في دولة الخلفاء، يعتمد عليهم الخليفة في أموره الخاصة والعامة من الكتابة إلى القيادة، ولم يعد التقدم فيهم للفرس بنوع خاص، ولكنهم أصبحوا أخلاطًا منهم ومن سواهم، وإنما تجمعهم كلمة الموالي ويتفانون في خدمة الخليفة أو الأمير.

(٤) أهل الذمة في الدولة العباسية

لما أخذ الموالي الفرس في تنظيم الحكومة وترتيب دواوينها، أحسوا بافتقارهم إلى من يعينهم على ذلك من أهل الذمة في العراق والشام، وكانوا أهل معرفة في الحساب والكتابة والخراج فضلًا عن العلوم، فأطمعوهم بالرواتب والجوائز وسهلوا لهم أسباب المعيشة وقربوهم وأكرموهم. فاطمأنوا لتلك الدولة وتقاطروا إلى بغداد، وخدموا العباسيين بعقولهم وأقلامهم، بما آنسوه من تسامحهم وإطلاق حرية الدين لهم، فاستخدمهم العباسيون في دواوينهم وولوهم خزائنهم وضياعهم.

فالجهابذة (الصيارف) كان أكثرهم من اليهود، والكتاب كان فيهم جماعة كبيرة من النصارى. وكثيرًا ما كان النصارى يتقلدون ديوان الجيش، وربما عظمت منزلة صاحب هذا الديوان — وهو نصراني — حتى يتسابق أكابر رجال الدولة من المسلمين إلى تقبيل يده. وممن تقلدوا ديوان الجيش من النصارى في الدولة العباسية ملك بن الوليد، قلده إياه المعتضد بالله، وإسرائيل النصراني، قلده إياه الناصر لدين الله. وقد أدرك بعضهم رتبة الوزارة، فتقلد أمرها أبو العلاء صاعد بن ثابت في أيام المتقي بالله.٢٢
وسرى ذلك الاعتدال والتسامح في الدين إلى الدولة الفاطمية بمصر، وكان لأهل الذمة فيها شأن عظيم، فتقلد الوزارة أو الكتابة (وهي كالوزارة في مصر) غير واحد منهم، وقويت شوكتهم في الدولة، فاستوزر العزيز بالله الفاطمي رجلًا نصرانيًّا اسمه عيسى بن نسطوروس، وآخر يهوديًّا اسمه منشا، فعز النصارى واليهود في أيامهما٢٣ ومن نافذي الكلمة في الدولة الفاطمية من أهل الذمة، فهد بن إبراهيم النصراني كاتب برجوان، صاحب النفوذ الأعظم في أيام الحاكم بأمر الله. فكان فهد هذا يوقع عن برجوان، ويخاطب بالرئيس. وله نفوذ عظيم. وارتفع شأن النصارى في أيامه، حتى كادت الدولة تكون في أيديهم٢٤ على أن الكتابيين — أهل الذمة — كانوا في أيام الحاكم هم أهل الدولة، وكذلك في أيام الحافظ٢٥ وكتاب الجيش في أكثر الأحايين من اليهود.

ناهيك بمن كان الخلفاء والأمراء يستخدمونهم من أطباء أهل الذمة وحكمائهم وتراجمتهم وكتابهم، وخصوصًا نصارى الشام، فإنهم خدموا التمدن الإسلامي في نقل العلوم من اليونانية والفارسية والسريانية وغيرها إلى اللغة العربية، على ما فصلناه في الجزء الثالث من هذا الكتاب، وبينا ما كان من محاسنة الخلفاء لهم تقديمهم ورعاية جانبهم وإكرامهم، وفيهم النصراني واليهودي والمجوسي والسامري والصابي وغيرهم، والكل راتعون في بحبوحة السكينة والطمأنينة يتكسبون من خزائن الخلفاء والأمراء.

وكان الخلفاء في صدر الدولة العباسية يكرمون الأساقفة ويجالسونهم، فالهادي كان يستدعي إليه الأسقف تيموثاوس في أكثر الأيام ويحاوره في الدين، ويبحث معه ويناظره، ويطرح عليه كثيرًا من المشكلات، وله معه مباحث طويلة ضمنها كتابًا ألفه الأسقف المذكور في هذا الموضوع. وكذلك كان يفعل معه هرون الرشيد٢٦ وغيره، وأغضوا عن بعض ما في عهد عمر بن الخطاب من التضييق على النصارى، كمنعهم من أحداث الكنائس٢٧ أو الاحتفال بالأعياد، أو منعهم من خدمة الدولة، وسهلوا لهم الاختلاط بهم وأظهروا احترام مذهبهم، حتى أصبح النصارى يهدون الخلفاء أيقونات بعض القديسين فيقبلونها منهم، وكثيرًا ما كان الأساقفة يطلبون من الخلفاء أن يثبتوهم في مناصبهم للاعتزاز بذلك على أخصامهم أو منازعيهم.

(٤-١) اضطهاد أهل الذمة في العصر العباسي

على أن ذلك لم يمنع تضييق بعض الخلفاء على النصارى، بمقتضى عهد عمر، وهدم كنائسهم — فإن الملوك المستبدين تختلف سياستهم باختلاف أخلاقهم وأطوارهم، فقد يتراءى لبعضهم التضييق على النصارى لسبب أو لغير سبب، كما فعل هرون الرشيد والمتوكل من خلفاء بني العباس، فالمتوكل المتوفى سنة ٢٤٧ﻫ كان شديد الوطأة على النصارى، ولعله أشد الخلفاء العباسيين وطأة عليهم؛ لأنه أمر بهدم الكنائس المحدثة بعد الإسلام، ونهى أن يستعان بهم في الأعمال، أو أن يظهروا الصلبان في شعانينهم، وأمر أن يجعل على أبوابهم صور شياطين من الخشب، وأن يلبسوا الطيالسة العسلية، ويشدوا الزنار، ويركبوا السروج بالركب الخشب بكرتين في مؤخر السرج، وأن يرقعوا لباس رجالهم برقعتين تخالفان لون الثوب، قدر كل واحدة أربع أصابع ولون كل واحدة غير لون الأخرى، ومن خرج من نسائهم تلبس إزارًا عسليًّا، ومنعهم عن لبس المناطق وغير ذلك.٢٨
ولا يستغرب هذا التضييق من المتوكل، فإنه نقم مثل هذه النقمة على سائر أهل الدولة وغيرهم، وشدد النكير على الشيعة وأهلك العلماء والكتاب، وكان شديد التعصب على الشيعة، فاضطهدهم وعذبهم، ولاقى أهل الذمة منه الشدائد٢٩ على أنه لم يرتكب هذا الشطط بغير سبب دعا إليه، فقد حمله عليه انتصار النصارى لأعداء الدولة — وذلك أن أهل حمص المسلمين وثبوا بعاملهم سنة ٢٤١ﻫ فأعانهم النصارى عليه، فكتب العامل إلى المتوكل فأمره بإخراج النصارى وهدم كنائسهم، وكان هذا من أسباب نقمته عليهم.٣٠
ويقال نحو ذلك فيما صدر في أيام الرشيد من الأوامر بهدم الكنائس في الثغور، وأخذ أهل الذمة بمخالفة هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم٣١ — فعل الرشيد ذلك على أثر رجوعه من حرب الروم في هرقلة، فالظاهر أن نصارى الثغور (الحدود بين مملكة الروم ومملكة الإسلام) ساعدوا أبناء طائفتهم الروم في التجسس على أحوال المسلمين واستخدموا الكنائس لهذه الغاية، فأمر الرشيد بالتضييق عليهم انتقامًا منهم، وخصص أمره هذا بأهل الثغور على الحدود، وشدد على الخصوص في مخالفتهم هيئة المسلمين في لباسهم، دفعًا لتنكرهم وتجسس أحوال المسلمين — وإلا فالرشيد من أحسن خلفاء بني العباس عدلًا ورفقًا بأهل الذمة، وكان أحد عمال أخيه الهادي قد هدم بعض الكنائس بمصر، فلما أفضت الخلافة إليه أمر بإعادة بنيانها.٣٢
وهكذا يقال في اضطهاد النصارى بمصر على عهد الدولة الفاطمية، مع ما تقدم من منزلتهم وحرية الدين عندهم، وأقدم ما قاسوه من تضييق الحكام في طقوسهم وكنائسهم في أيام الحاكم بأمر الله سنة ٣٩٥ﻫ، وسبب ذلك ما ذكرناه من تقدم النصارى في مصالح الدولة في أيامه حتى صاروا كالوزراء، وتعاظموا لاتساع أحوالهم وكثرة أموالهم، فتزايدت مكايدتهم للمسلمين على عهد عيسى بن نسطوروس وفهد بن إبراهيم النصرانيين، فغضب الحاكم بأمر الله — وكان إذا غضب لا يملك نفسه فيبلغ غضبه إلى حد الجنون. فأمر بقتل هذين الرجلين وشدد على النصارى فأمرهم بلبس ثياب الغيار وشد الزنار في أوساطهم، ومنعهم من عمل الشعانين والتظاهر بما كانت عادتهم فيه، وقبض على ما في الكنائس وأدخله في الديوان، ومنع النصارى من شراء العبيد، وهدم كنائسهم وأجبرهم على الإسلام، وغير ذلك من التشديد والعنف٣٣ مما لا يقاس النصارى مثله من قبل، ولعله أعظم ما أصابهم من الاضطهاد في إبان التمدن الإسلامي. ولا جناح على التمدن الإسلامي منه؛ لأن مرتكبه أتاه عن حمق أو جنون.
وقد سوغ للحاكم المبالغة في اضطهاد النصارى حرب كانت بين الروم والمسلمين يومئذ، فخرب الروم بعض جوامع المسلمين ومنها جامع كان في القسطنطينية، فانتقم الحاكم منهم بالتضييق على أهل مذهبهم في بلاده، وكان في جملة ما هدمه من الكنائس كيسة القيامة بالقدس. فلما تولى الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله بعد الحاكم، عقدت الهدنة بينه وبين ملك الروم سنة ٤١٨ﻫ واتفقا على إعادة بناء جامع القسطنطينية، وأن يعاد بناء كنيسة القيامة، وأن يؤذن لمن أظهر الإسلام في أيام الحاكم أن يعود إلى النصرانية إذا شاء، فرجع إليها كثيرون.٣٤
وربما كان السبب الذي حمل الحاكم على ذلك التضييق طفيفًا، فعظمه تعصبه وحمقه فأمر بالهدم والقتل. على أنه كثيرًا ما كلف رعاياه من المسلمين وغيرهم أمورًا مضحكة تشبه الجنون الصريح، كإصداره المنشورات بمنعهم من أكل الملوخيا أو من البقلة المسماة بالجرجير، أو منعهم من عمل الفقاع، ومنع النساء من التبرج أو المسير في الطرق، والأمر بسبب السلف ولعنهم، ونقش ذلك على المساجد وأبواب الحوانيت على المقابر، ونحو ذلك من الأوامر التي تدل على اختلال في عقله. على أننا قلما نراه أتى أمرًا إلا لسبب، وإن كان ضعيفًا — فالسبب في منعه الناس من أكل الملوخيا مثلًا أن معاوية بن أبي سفيان عدو الشيعة كان يحبها، والدولة الفاطمية شيعية. ومنعهم من أكل بقلة الجرجير؛ لأنها منسوبة إلى عائشة أم المؤمنين، ومنعهم من أكل المتوكلية؛ لأنها تنسب إلى المتوكل وهو من أعداء الشيعة. ومنع الناس من شرب الفقاع لأن علي بن أبي طاب كان يكرهه٣٥ وقس على ذلك سائر ضروب الحماقة والغرابة، ومن هذا القبيل اضطهاد النصارى وتخريب كنائسهم. على أنه عاد، لسبب طفيف أو بلا سبب، فأمر ببناء تلك الكنائس٣٦ وخير النصارى في الرجوع إلى دينهم فارتد كثير منهم — وقد تقدم أن ذلك كان في أيام ابنه الظاهر. ومن أعماله الغريبة أنه ابتنى المدارس، وجعل فيها الفقهاء والمشايخ ثم قتلهم وخربها، وألزم الناس بإغلاق الأسواق نهارًا وفتحها ليلًا، فظل الناس على ذلك دهرًا طويلًا٣٧ فمن كانت هذه أعماله لا يستغرب منه اضطهاد، ولا يعد اضطهاده عارًا على الدولة أو الأمة.
على أن أفظع ما قاساه النصارى واليهود من الاضطهاد، إنما كان في دور الاضمحلال أو التقهقر في العصور الإسلامية الوسطى، وخصوصًا بعد الحروب الصليبية؛ لأنها كانت سببًا كبيرًا في إثارة التعصب بين الأمتين. فالنصارى تذكروا تقدم المسلمين عليهم واضطهاد حكامهم لدينهم، وزاد حقد المسلمين على رعاياهم النصارى لما كان من نصرتهم الإفرنج سرًّا، فبالغ أمراء المسلمين في الفتك بهم. فنصارى «قارا» مثلًا — بين دمشق وحمص — كانوا يسرقون المسلمين في أثناء تلك الحرب، ويبيعونهم خفية للإفرنج، فلما مر بها السلطان الملك الظاهر في أثناء عودته من بعض غزواته سنة ٦٦٤ﻫ أمر بنهب أهلها وقتل كبارهم، واتخذ صبيانهم مماليك فتربوا بين الأتراك في الديار المصرية، فصار منهم أجناد وأمراء٣٨ كما فعل العثمانيون بتجنيد الإنكشارية بعد ذلك بزمن غير بعيد.
وتزايدت الضغائن بعد تلك الحروب بين المسلمين وأهل الذمة في بلادهم، حتى أصبحت كل من الطائفتين تبذل جهدها في أذى الأخرى، ولما كانت الحكومة إسلامية فالنصارى هم المغلوبون. فإذا احترقت حارة للمسلمين اتهموا النصارى واليهود بإحراقها، فتأمر الحكومة بإحراقهم أو إحراق كنائسهم٣٩ وهذا التعصب من مقتضيات تلك العصور المظلمة؛ لأن الدول النصرانية كانت تعامل المسلمين في بلادهم مثل هذه المعاملة أو أشد منها. وكثيرًا ما كانوا يهددون أسرى المسلمين بالقتل أو يتنصروا٤٠ وإذا دخلوا بلدًا إسلاميًّا بالحرب عنوة ضربوا نواقيسهم في الجوامع،٤١ ولما تغلب نصارى الأندلس على المسلمين أجبروهم على حمل علامة كان يحملها اليهود وأهل الدجن، ولما غلبوهم في آخر الدولة خيروهم بين النصرانية والموت فتنصروا عن آخرهم.٤٢

(٤-٢) تعصب العامة على النصارى

قلنا: إن الخلفاء والأمراء قدموا النصارى في مصالح الدولة، وأغدقوا عليهم الأموال وأكرموهم ورفعوا منزلتهم، وإنهم فعلوا ذلك لاحتياجهم إليهم في إبان ذلك التمدن؛ لنقل العلوم أو الطب أو الحساب أو الكتابة أو غيرها مما تحتاج إليه الدولة في تنظيم شؤونها، لاشتغال المسلمين يومئذ بالرياسة. وكان أولو الأمر من الجهة الأخرى يقدمون المسلمين في المعاملات الرسمية على سواهم من أهل الذمة، كما كان الأمويون يقدمون العرب على غير العرب، فنشأ التحاسد بين عامة المسلمين وعامة المسيحيين. وذلك طبيعي في كل مملكة يتنازع العمل فيها ملتان أو طائفتان، ولا يزال ذلك جاريًا على نحو هذا الشكل إلى يومنا هذا.

نشأ هذا التحاسد أولًا بين العامة ونحوهم من أهل المهن العلمية أو الحرف الصناعية، الذين يحومون حول الخلفاء والأمراء للارتزاق بما يعوزهم من أسباب المدنية، أو يرضيهم من عوامل الرخاء والترف كالشعر والغناء والكتابة والحساب وغيرها. وأما أهل الطبقة العليا (الشرفاء) والأغنياء ورجال الدولة، فقلما كانوا يتعصبون أو يتباغضون، وإنما كانوا ينظرون إلى الرجال من حيث هم بقطع النظر عن مذاهبهم، فالشريف الرضي الذي كتب إلى الخليفة القادر بالله:

عطفًا أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت
أبدًا، كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني
أنا عاطل منها وأنت مطوق

رثى أبا إسحق الصابي بقصيدته المشهورة التي مطلعها:

أرأيت من حملوا على الأعواد؟
أرأيت كيف خبا ضياء النادي؟
فلم يقع ذلك موقع الاستحسان عند العامة، فعابه بعضهم لكونه شريفًا يرثي صابئًا فقال له: «إنما رثيت فضله».٤٣
وأما العامة ومن جرى مجراهم، أو استعان بهم على بعض المصالح أو المناصب، فكانوا يُظهرون التعصب على النصارى، ويسعون في أذيتهم لدى ولاة الأمور، فإذا كان صاحب الأمر حازمًا لا يصغي للوشاية — ذكروا أن رجلًا نصرانيًّا من أهل بغداد اتهمه بعض المسلمين سنة ٢٨٤ﻫ أنه شتم النبي فاجتمع أهل بغداد وصاحوا بالقاسم بن عبيد الله وزير المعتضد بالله يومئذ وطالبوه بإقامة الحد عليه، وكأنه اعتقد براءة الرجل فلم يجب طلبهم،٤٤ واتصل الأمر بالخليفة وكان له شأن كبير. والحكم صاحب الأندلس في أوائل القرن الثالث للهجرة صلب أحد عماله؛ لأنه ظلم أبناء أهل الذمة.٤٥
فلما اقتربت الدولة من الشيخوخة أخذ هذا التعصب يسري من العامة إلى الخاصة، لرغبة الناس يومئذ في التقرب من رجال الدولة بالتزلف والتملق التماسًا للكسب، فينتحلون الأسباب المساعدة على ذلك، ويتسابقون إلى دس الدسائس واختلاق الوشايات. وأسهل وسائل التزلف في الدولة الإسلامية التدين، لاشتراك الدين والسياسة في مصالحها، فكان بعضهم يستعينون في إظهار التدين والغيرة على الإسلام بالطعن في الأديان الأخرى، فإذا كان صاحب الأمر ضعيفًا انطلى عليه ذلك، واضطهد أهل تلك الأديان؛ ولذلك كان التعصب على أهل الذمة، ولا سيما النصارى، يزداد بتقدم الدولة الإسلامية نحو الشيخوخة. وقد اشتد في الأجيال الإسلامية الوسطى على أثر الحروب الصليبية، فأصبح الحكام وأرباب المناصب العلمية وغيرها يجاهرون باحتقار غير المسلمين، ويبالغون في اضطهادهم ويعاملونهم معاملة الأعداء. وتمكنت العداوة بين الفئتين، وكل منهما تحاول أذية الأخرى، حتى أصبح النصارى يودون التخلص من دولتهم بأية وسيلة كانت. فلما جاء التتر لفتح بغداد سنة ٦٥٦ﻫ كان هوى أهل الذمة معهم. وتعاظم هذا التباغض على الخصوص قبيل النهضة الأخيرة، أي: منذ قرن وبعض القرن، حتى في المعاملات الرسمية ولا سيما في البلاد البعيدة عن المدنية — فقد اطلعنا صديق عالم على صورة رخصة من جانب الشرع الشريف في ديار بكر، بدفن رجل مسيحي توفي فيها ننشرها لغرابة عبارتها وهي:

من جانب الشرع الشريف في ديار بكر إلى مطران طائفة كفرة السريان

«أيها المكروه بالنظر والمعتقد، أن يعقوب الكافر من طائفتكم المكروهة حيث إن الملعون قد فطس وهلك؛ فلأجل إدخال جثته الكريهة ضمن الأرض، قد صدر الاسترحام من مرشد محلته وجرى أخذ الخراج، وإن تكن الأرض لا تقبل جثته الخبيثة؛ ولكي لا تكون سببًا لفساد الهواء، قد أعطيناه الرخصة بعنوان الشرع الشريف أن تدفن، ضمن مدينتكم المخصوصة بموجب مذهبكم الباطل إلى زمرة جهنم. اقتضى إعطاء هذه الرخصة لكي لا يكون مانع من طرف أحد في ٢٦ جمادى الأولى سنة ١٢٠٣». انتهى.

فأي مسلم أو مسيحي من أهل هذا العصر يطلع على هذا ولا ينكره أو يستغربه؟ ولولا ثقتنا بصدق الناقل لأنكرناه نحن أيضًا. وقد هون علينا تصديقه أن صديقًا آخر مقيمًا في القاهرة أكد لنا وجود رخص كثيرة في بعض البطركخانات بمصر في مثل هذه العبارة. وقد أخذ هذا التعصب في الزوال من بدء هذه النهضة، ومتى نضجت نرجو أن يزول تمامًا بإذن الله.

(٤-٣) تحاسد النصارى

على أنك لو تدبرت ما كان يلحق النصارى من الأذى في إبان التمدن الإسلامي لرأيت سببه في كثير من الأحوال وشاية بعض طوائف النصرانية بالبعض الآخر، كالنساطرة واليعاقبة في العراق. وكثيرًا ما كان أهل النفوذ من النصارى أنفسهم أشد وطأة على أهل دينهم من حكامهم المسلمين، كما كان عيسى بن شهلا الطبيب لما تولى الطبابة. ونال منصبًا في دار الخلافة، فاغتنم تلك الفرصة وبسط يده على المطارنة والأساقفة يأخذ أموالهم لنفسه، حتى إنه كتب إلى مطران نصيبين كتابًا يلتمس منه فيه من آلات البيعة أشياء عظيمة المقدار ويهدده، ومن أقواله له: «ألست تعلم أن أمر الملك بيدي، إن شئت أمرضته وإن شئت عافيته؟»، فبعث المطران بالكتاب إلى الربيع حاجب الخليفة فانتقم الخليفة منه.

واعتبر ما أجراه بختيشوع بن خبرائيل الطبيب مع حنين بن إسحق المترجم الشهير، لما رأى من منزلته عند الخليفة المتوكل، فحسده عليها وعمل على الكيد له من طريق الدين، وذلك أنه اصطنع أيقونة (صورة) للسيدة العذراء وفي حجرها السيد المسيح. وأوعز إلى بعض خاصته أن يحملها هدية إلى الخليفة في وقت عينه له، وذهب إلى مجلس الخليفة في الميعاد المضروب، وكان هو المستقبل للأيقونة من يد الخادم والحامل لها، وهو الذي وضعها بين يدي المتوكل، فاستحسنها المتوكل جدًّا، وجعل بختيشوع يقبلها بين يديه مرارًا كثيرة، فقال له المتوكل: «لم تقبلها؟» فقال له: «يا مولانا إذا لم أقبل صورة سيدة العالمين فمن أقبل؟» فقال له المتوكل: «وكل النصارى يفعلون كذلك؟» فقال: «نعم يا أمير المؤمنين وأفضل مني؛ لأني أنا قصرى حيث أنا بين يديك. ومع تفضيلنا معشر النصارى، فإني أعرف رجلًا من النصارى في خدمتك، وأفضالك وأرزاقك جارية عليه، يتهاون بها ويبصق عليها، وهو زنديق ملحد لا يقر بالوحدانية ولا يعرف آخرة، يستتر بالنصرانية وهو معطل مكذب بالرسل»، فقال له المتوكل: «من هذا الذي هذه صفته؟» فقال له: «حنين المترجم» فقال المتوكل: «أوجه أحضره، فإن كان الأمر على ما وصفت نكلت به وخلدته في المطبق، مع ما أتقدم به في أمره من التضييق عليه وتجديد العذاب» فقال: «أنا أحب أن يؤخر مولاي أمير المؤمنين أمره إلى أن أخرج وأقيم ساعة، ثم تأمر بإحضاره»، فقال: «إني أفعل ذلك». وخرج بختيشوع توًّا إلى حنين وأخبره: «أن الخليفة أهديت إليه أيقونة كذا، وقد استحسنها. وإن نحن تركناها عنده ومدحناها بين يديه، احتقرنا وقال لنا: هذا ربكم وأمه مصوران. وقد سألني أمير المؤمنين عن رأيي فيها، فقلت له: مثلها يكون في الحمامات والكنائس وغيرها مما لا نبالي به. فطلب إلي أن أبصق عليها فبصقت، فإذا دعا بك أفعل مثل فعلي»، فصدقه حنين. ولما دعاه الخليفة فعل كما قال له بختيشوع، فحالما بصق على الأيقونة أمر الخليفة بحبسه، ووجه إلى ثيودوسيوس الجاثليق يومئذ فأحضره، فلما رأى الأيقونة وقع عليها وقبلها، ولم يزل يقبلها ويبكي طويلًا، ثم أخذها بيده وقام قائمًا فدعا لأمير المؤمنين وأطنب في دعائه، فدعاه إلى الجلوس والأيقونة في حجره، فطلب الجاثليق إليه أن يتركها له. ثم سأله الخليفة عما يستحق الذي يبصق عليها، فقال: «إذا كان مسيحيًّا عارفًا فإني أحرمه دخول الكنيسة ومن القربان، وأمنع النصارى من ملامسته وكلامه وأضيق عليه»، فأعطى الخليفة الأيقونة للجاثليق مع جائزة، وأمر بحنين فجلد بالسياط والحبال، وأمر بنقض منازله وحبسه، ولم ينج من ذلك حتى اعتل المتوكل واحتاج إلى مشورته فأفرج عنه.٤٦
فإذا كان هذا فعل المتوكل في هذه الحال، وهو كما وصفناه من شدة وطأته على النصارى وغيرهم من أهل الذمة، فكيف في غيره من الخلفاء المعتدلين؟ وقد رأيت من حديث حنين هذا أن الخلفاء كانوا يفرضون على النصارى صدق التدين في النصرانية، فضلًا عن إعفائهم من الإسلام، إلا من أراده باختياره. وكانوا أيضًا يشاركون النصارى في احتفالاتهم بالأعياد الكبرى، كالميلاد والشعانين، ويخرجون معهم إلى أماكن النزهة كأنهم أمة واحدة٤٧ ولم يكن ذلك مقصورًا على العراق والشام، فإن المصريين كانوا يحتفلون بأعياد النصارى السنوية كما يحتفل بها النصارى أنفسهم، وكان الخليفة يفرق في الناس الهدايا في عيد الميلاد والغطاس، ويفرح المصريون جميعهم معًا.٤٨
وكانت الحكومة إذا أنشأت معهدًا خيريًّا كان حظ أهل الذمة منه مثل حظ المسلمين، وخصوصًا المستشفيات ودور المرضى، فإنها كانت تبنى لمعالجة المسلم والذمي، فإذا لم يكن فيها ما يكفي الاثنين قدموا المسلم.٤٩
على أن المسلمين في إبان تمدنهم أطلقوا حرية الدين لرعاياهم، على اختلاف طوائفهم ونحلهم، فلم يسمع أنهم أكرهوا طائفة من الطوائف على الإسلام تعصبًا للدين، حتى في أيام بني أمية مع ضغطهم على غير العرب في طلب المال، فقد رأيت ما كان من خالد القسري وغيره. وأما بنو العباس فكانوا أقرب إلى الاعتدال وحرية الدين؛ ولذلك تعددت البدع الدينية في أيامهم من المجوس وغيرهم، ناهيك بالفرق الإسلامية وتعددها. وكان أكثر الخلفاء تسامحًا في الدين المأمون، فكان هو نفسه شيعيًّا، وكان وزيره يحيي بن أكثم سنيًّا، ووزيره أحمد بن أبي داود معتزليًّا٥٠ يكفيك من تسامحه في الدين انتصاره للمعتزلة في القول بخلق القرآن — وأول من قال بذلك رجل يهودي اسمه لبيد الأعصم، الذي يقال: إنه سحر النبي . فكان لبيد يقول: إن التوراة مخلوقة، ثم قال: بخلق القرآن، وعنه أخذ طالوت ابن أخته، وأخذه إبان بن سمعان عن طالوت، وأخذه الجعد بن درهم عن إبان في أيام هشام بن عبد الملك الأموي، وأظهر مقالته في خلق القرآن وإنكار ما فيه، وإن فصاحته لا تعجز الناس بل يقدرون على مثلها وأحسن منها٥١ فغضب عليه هشام وبعث به إلى خالد القسري أمير العراقيين وأمره بقتله، فحبسه ولم يقتله. فالح عليه، فأخرجه يوم الأضحى، وبعد أن صلى قال: «أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم، فإنه يقول: ما كلم الله موسى ولا اتخذ إبراهيم خليلًا، تعالى الله عما يقول الجعد علوًّا كبيرًا» ثم ذبحه.٥٢ ولما تولى مروان بن محمد كان يقول بخلق القرآن مثل الجعد٥٣ حتى إذا تولى المأمون نصر المعتزلة — ولعله أخذ الاعتزال من يحيي بن المبارك مؤدبه — وتبعه الواثق بالله فقال مثل قوله، فعظم ذلك على عامة المسلمين وأنكروه وسموا الواثق كافرًا٥٤ كما سموا المأمون أمير الكافرين٥٥ وكان ما كان من المحنة في ذلك أيام المتوكل. وانقسم المسلمون إلى حزبين، والخلفاء ضد المعتزلة وقد شددوا النكير على القائلين: بخلق القرآن، وتناشدت الشعراء ذلك طعنًا فيهم وتكفيرًا لهم، كقول أبي خلف المعافري:
لا والذي رفع السما
ء بلا عماد للنظر
ما قال خلق في القرآ
ن بخلقه إلا كفر
لكن كلام منزل
من عند خلاق البشر٥٦
وبالجملة فقد كانت الأفكار من حيث الدين مطلقة الحرية في تلك العصور، لا يكره الرجل على معتقده أو مذهبه، فربما اجتمع عدة إخوة في بيت واحد وكل منهم على مذهب. فأولاد أبي الجعد ستة، كان منهم اثنان يتشيعان واثنان مرجئين واثنان خارجيين.٥٧

فسياسة الدولة العباسية في معاملة الرعايا من المسلمين وأهل الذمة إنما هي المحاسنة والعدل والرفق. وقد أتينا بأمثلة من عدل الخلفاء الأولين من بني العباس ورفقهم في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وكانوا يحاسنون الفرس وسائر أهل النفوذ من الموالي على الخصوص، ولاسيما بعد أن صارت الحكومة إليهم وقبضوا على جندها ومالها، فكان الخلفاء يقدمونهم ويكرمونهم ويطلقون أيديهم في شؤون الدولة، فإذا داخلهم شك في إخلاصهم ولو على سبيل الوشاية فتكوا بهم فتكًا ذريعًا، كما اتفق للبرامكة وغيرهم من وزراء العصر العباسي الأول.

(٥) العصبية العربية في العصر العباسي

(٥-١) سياسة التقسيم

على أن المنصور كان همه منصرفًا إلى العرب؛ لأنهم أهل عصبية إذا اجتمعوا تغلبوا على الدولة وفعلوا ما أرادوه، لما يعلمه من جرأتهم في طلب الحق وتقبيح الظلم جهارًا ولا يحملون ضيمًا، وهو كما علمت بما ارتكبه في تأسيس دولته من الغدر والفتك، مما لا تصبر عليه النفوس الأبية. وقد زاده حذرًا منهم ما كان يسمعه من أقوالهم الدالة على إباء الضيم ولو كان فيه ما يسوءه، كما اتفق له وهو في بعض حجاته، وكان يطوف بالكعبة ليلًا، إذ سمع قائلًا يقول: «اللهم أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع»، فخرج المنصور إلى ناحية من المسجد ودعا القائل وسأله عن قوله، فطلب أن يؤمنه حتى يقول الحق فأمنه. فقال له: «إن الذي حال بين الحق وأهله هو أنت يا أمير المؤمنين». قال المنصور: «ويحك! وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟». فقال الرجل: «لأن الله تعالى استرعاك المسلمين وأموالهم، فجعلت بينك وبينهم حجابًا من الجص والآجر، وأبوابًا من الحديد وحجابًا معهم الأسلحة وأمرتهم ألا يدخل عليك إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف ولا الجائع والعاري ولا الضعيف والفقير، وما أحد إلا وله من هذا المال حق … إلخ».

فهذا وأمثاله نبه المنصور لجرأة العرب، فجعل يفكر في إذلالهم ويستنبط له الحيل، وكان للعرب ديوان خاص لهم فيه الرواتب على أنسابهم ومراتبهم، وفيهم اليمنية والمضرية. فلما فرغ المنصور من تأييد دولته بمقاتلة العلويين والخوارج وغيرهم، وقد بنى بغداد وحصنها وأنشأ فيها منازل الجند، نظر إلى من حوله منهم على الإجمال، فإذا هم ثلاث فرق كبرى: اليمنية والمضرية والخراسانية، فاتفق سنة ١٥١ﻫ أن بعض الجند شغبوا عليه وحاربوه على باب الذهب، وهو قصره في بغداد، فأوجس خيفة من تكرار ذلك؛ لعلمه أن دولته إنما قامت بالجند، فإذا اجتمعوا عليه أخرجوها من يده، وهو يعلم أيضًا أن لكل من هذه الفرق هوى مع بعض دعاة الخلافة العلويين أو غيرهم، فليس أهون عليهم من ردها إلى دولة جديدة.

وكان كبير بني العباس يومئذ قثم بن العباس بن عبيد الله بن عباس، وهو شيخهم وله الحرمة والتقدم عندهم، فاستشاره المنصور في ذلك قائلًا: «أما ترى ما نحن فيه من التياث الجند علينا؟ وقد خفت أن تجتمع كلمة هؤلاء فيخرج هذا الأمر من أيدينا، فماذا ترى؟». قال: «يا أمير المؤمنين عندي رأي إن أظهرته لك فسد، وإن تركته أمضيته وصلحت خلافتك وهابك جندك». قال له: «أفتمضي في خلافتي شيئًا لا أعلمه؟» قال له: «إن كنت عندك متهمًا فلا تشاورني، فإن كنت مأمونًا عليها فدعني أفعل رأيي». فقال له المنصور: «فأمضه». فانصرف قثم إلى منزله فدعا غلامًا له فقال: «إذا كان الغد فتقدمني واجلس في دار أمير المؤمنين، فإذا رأيتني قد دخلت وتوسطت أصحاب المراتب، فانهض وخذ بعنان بغلتي، واستحلفني بحق رسول الله وبحق العباس وبحق أمير المؤمنين إلا ما وقفت لك وسمعت مسألتك وأجبتك عنها، فإني سأنتهرك عند ذلك وأغلظ لك فلا تخف وعاود المسألة، فإني سأضربك فعاود وقل لي: أي الحيين أشرف، اليمن أم مضر؟ فإذا أجبتك فاترك البغلة وأنت حر». ففعل الغلام كما أمره، وفعل قثم به ما قاله، إلى أن قال: «مضر أشرف؛ لأن منها رسول الله وفيها كتاب الله، وفيها بيت الله، ومنها خليفة الله». فامتعضت اليمن من قوله؛ لأنه لم يذكر لهم شيئًا، وقال بعض قوادهم: «ليس الأمر كذلك مطلقًا بغير فضيلة لليمن». ثم قال لغلام له: «قم إلى بغلة الشيخ فاكبحها» ففعل حتى كاد يعقبها، فامتعضت مضر وقالوا: «يفعل هذا بشيخنا؟» فأمر بعضهم غلامه فضرب يد ذلك الغلام فقطعها، فنفر الحيان ودخل قثم على المنصور، وافترق الجند العربي من ذلك الحين، فصارت مضر فرقة واليمن فرقة والخراسانية فرقة، وقال قثم للمنصور: «قد فرقت بين جندك وجعلتهم أحزابًا كل حزب منهم يخاف أن يحدث حدثًا فتضربه بالآخر».٥٨

وكان المهدي بن المنصور قد جاء من خراسان، فقدم عليه أهل بيته من الشام والكوفة والبصرة وغيرها، فهنأوه بمقدمه فأجازها وكساهم، وفعل المنصور بهم مثل ذلك، فقال قثم للمنصور: «قد بقي عليك بالتدبير بقية، وهي أن تعبر بابنك «المهدي» فتنزله في ذلك الجانب من بغداد، وتحول معه قطعة من جيشك، فيصير ذلك بلدًا وهذا بلدًا، فإن فسد عليك أولئك ضربتهم بهؤلاء، وإن فسد عليك هؤلاء ضربتهم بأولئك، وإن فسد عليك بعض القبائل ضربتهم بالقبائل الأخرى» فقبل رأيه واستقام ملكه، وبنى المهدي بلدًا سماه الرصافة — فاستعان المهدي في استبقاء دولته بسياسة التقسيم.

وما زال شأن العرب يضعف في الدولة العباسية تدريجًا، وحزب الفرس يقوى حتى أصبحت الدولة في أيام الرشيد بين عاملين كبيرين: أحدهما فارسي والآخر عربي كل منهما يحاول الاستئثار بالسلطة. وكانت بطانة الخليفة أيضًا حزبين، أحدهما ينتمي إلى الفرس والآخر إلى العرب، مرجعهما إلى ابني الرشيد الأمين والمأمون؛ لأن الأول أمه عربية هاشمية (زبيدة) وأم الثاني أمة فارسية يقال: إن الرشيد اشتراها لتلد له؛ لأن امرأته زبيدة أبطأت الحمل، فولدت له عبد الله المأمون، ثم حملت زبيدة فولدت محمدًا الأمين٥٩ فوقع بين الوالدتين من التحاسد مثل الذي وقع بين سارة وهاجر امرأتي إبراهيم الخليل. وسرى هذا التحاسد في البطانة ومنه إلى سائر رجال الدولة، وهو بني هاشم وسائر العرب مع الأمين، وهوي سائر رجال الدولة من الفرس وغيرهم مع المأمون، وكان زعيم الحزب العربي الربيع بن يونس وأبناؤه من بعده.

والربيع يتصل نسبه بكيسان مولى الحرث مولى عثمان بن عفان، فجده مولى مولى. ودخل الربيع في جملة موالي المنصور، فولاه حجابته ثم جعله وزيره، وكان المنصور شديد الميل إليه حسن الاعتماد عليه، فسأله يومًا عما يتمناه منه فقال: «أن تحب ابني الفضل». فقال المنصور: «كيف اخترت له المحبة دون كل شيء؟». فقال: «لأنك إذا أحببته كبر عندك صغير إحسانه وصغر عندك كبير إساءته». ومات الربيع في أيام الهادي سنة ١٧٠ﻫ. ولما تولى الرشيد الخلافة واستوزر البرامكة، سقط في يد الفضل بن الربيع لخروج الوزارة من يده، فرام التشبه بهم ومعارضتهم، ولم يكن له من القدرة ما يدرك به اللحاق بهم، فكان في نفسه منهم إحن وشحناء، فسعى بهم عند الرشيد، وكان سعيه من جملة أسباب نكبتهم.

(٥-٢) ذهاب عصبية العرب بذهاب دولة الأمين

وكان المأمون، فضلًا عن نسبه الفارسي من أمه، قد ربى في حجر جعفر بن يحيي البرمكي، وهو الذي سعى له في ولاية العهد٦٠ ورباه على حب الفرس. والفضل بين الربيع سعى في تأييد بيعة الأمين. ولما توفى الرشيد بعد مقتل البرامكة، كان الفضل بن الربيع هو الذي حمل الأمين على نقض بيعة المأمون٦١ واختلف الإخوان على البيعة، وكان المأمون عند أخواله بخراسان، والأمين في أهله ببغداد، وانتشب القتال بين الفريقين — وهو قتال بين الفرس والعرب؛ لأن العرب في معظم المملكة العباسية كانوا من حزب الأمين.٦٢ وقد نصر الخراسانيون ابن أختهم المأمون، بتدبير الفضل بن سهل. وكان الأمين يحرض جنده في بغداد بمشورة الفضل بن الربيع. وكان العرب من الجند العباسي قد أنهكتهم الحضارة والترف، وتبددوا بسياسة التقسيم، فلم يستطيعوا دفاعًا. فلما ضاق الحال بالأمين، ولم يبق عنده مال للتجنيد، استنجد رعاع أهل بغداد، وفيهم العيارون والشطار وكانوا طوائف كبيرة. وأمر بعض قواده أن يتتبعوا أصحاب الأموال والودائع والذخائر من أهل الملة وغيرهم، فلم يزده ذلك إلا ضعفًا. وانقضت تلك الحروب بفوز المأمون، وسيأتي تفصيل ذلك. فأخرج الخراسانيون الخلافة من العرب وسلموها إلى المأمون، كما أخرجوها قبلًا من بني أمية وسلموها إلى أجداده.
فاستفحل أمر الفرس في أيام المأمون وازداد العرب ضعفًا، حتى كثيرًا ما كانوا يتعرضون له في الشوارع يشكون إغضاءه عنهم، ومن أقوالهم: «يا أمير المؤمنين، انظر إلى عرب الشام كما نظرت إلى عجم خراسان …».٦٣
فلما أفضت الخلافة إلى المعتصم سنة ٢١٨ﻫ، وقد جمع ما جمعه من الأتراك والفراغنة، كانت الضربة القاضية على العرب في الدولة العباسية؛ لأنه كتب إلى عماله في الأطراف بإسقاط من في دواوينهم من العرب وقطع العطاء عنهم، ففعلوا وهم يستعيذون بالله من ذلك، وانحط شأن العرب من ذلك الحين.٦٤ ومنعوا من الولايات. وآخر من ولي مصر منهم عنبسة بن إسحق، صرف عنها سنة ٢٤٢ﻫ٦٥ فتمكن الفرس من الدولة وزادت رغبتهم في نزعها من العرب على الإطلاق، فقام مرداويج في أصفهان سنة ٣٢٢ﻫ يريد أن يأخذ بغداد وينقل الدولة إلى الفرس، ويبطل دولة العرب٦٦ فلم يفلح، على أن النفوذ تحول بالتدريج إلى الخدم، كما سترى.

(٥-٣) الشعوبية والعرب

وفي أيام المأمون ومن جاء بعده تظاهر الشعوبية بالطعن على العرب، وكان المأمون يقربهم ويجعلهم من بطانته ويجيزهم، ومنهم سهل بن هارون قيم بيت الحكمة، وكان شديد التعصب على العرب — وأبو عبيدة الراوية الشهير، وعلان الشعوبي. وألف الشعوبية الكتب في ذكر مثالب العرب والرد على القائلين بتفضيلهم على سواهم من الأمم.

والشعوبية يقولون: بالمساواة بين بني الإنسان؛ ولذلك سموهم أيضًا: «أهل التسوية»، ومن أقوالهم في الرد على العرب: أن النبي نفسه ساوى بين المسلمين على اختلاف جنسياتهم بقوله: «المسلمون إخوة، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم». وقوله في خطبة حجة الوداع: «ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى». وما جاء في القرآن: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ. والشعوبية ينوبون بدفاعهم عن كل أمم الأرض في ذلك العهد، إلا العرب، فإذا افتخروا (أي: الشعوبية) بملوكهم ذكروا الفراعنة والنماردة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة، وافتخروا بسليمان الحكيم والإسكندر الكبير وبملوك الهند. وإذا فاخروهم بالأنبياء والمرسلين ذكروا الأنبياء من آدم إلى أيامهم، وإنهم جميعًا من غير العرب، إلا أربعة هم: هود، وصالح، وإسماعيل، ومحمد . وإذا فاخروهم بالعلم والصناعة والفلسفة، ذكروا اختراع لعبة الشطرنج ورمانة القبان والاسطرلاب، وفخروا بفلسفة اليونان وأشعارهم وسائر علومهم وعلوم الهند والفرس وغيرهم. وبلغ من جسارة بعض الشعوبية في بعض ردوده أن قال: «فما الذي تفخر به العرب على العجم؟ فإنما هي كالذئاب العادية والوحوش النافرة، يأكل بعضها بعضًا ويغير بعضها على بعض، فرجالها موثقون في حلق الأسر، ونساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل».٦٧ واستشهدوا على ذلك بأبيات من أقوال العرب تدل على ضعف غيرتهم على العرض وقالوا: «لا يفلح العربي إن لم يكن معه نبي ينصره».٦٨ وعيروهم باستلحاق الأدعياء ونظموا الأشعار طعنًا فيهم. وممن نظم المطاعن عليهم الحسن بن هانئ وبشار بن برد وغيرهما، على أن بشارًا كان تارة مع هؤلاء وتارة مع هؤلاء.

وقام المتعصبون للعرب فألفوا الكتب في الرد على الشعوبية. ومن أشهر ما ألف في ذلك كتاب «تفضيل العرب» لابن قتيبة، وقد رد الشعوبية عليه في مناظرات يطول شرحها. وعلى أي حال فإن السياسة وطبيعة العمران قضت بذهاب دولة العرب.

(٦) نكبة الوزراء الفرس

(٦-١) الوزراء الفرس قبل البرامكة

قد رأيت أن الخلفاء العباسيين قربوا الموالي الفرس وولوهم المناصب الكبرى، فاتخذوا منهم الوزراء والعمال، فاعتز الفرس وتاقت نفوسهم إلى الاستبداد بالدولة والرجوع إلى ما كانوا فيه على عهد الأكاسرة. وهم يعلمون أن ذلك لا يتيسر لهم في إسلام إلا بصبغة دينية تحت راية الخلافة الإسلامية. وربما كان ذلك الأمل في جملة ما حملهم على التشيع لأهل البيت في أيام بني أمية ونصرتهم في طلب الخلافة.

فلما انتقلت البيعة من العلويين إلى العباسيين وبويع هؤلاء بالخلافة، ثم جعلها المنصور محصورة فيهم دون العلويين، وقاتل آل الحسن وقتلهم بعد أن قتل أبا مسلم وغيره من شيعته، لم ير الفرس بدًّا من الرضوخ لسلطانه خوفًا من بأسه. على أنهم ظلوا على مذهب الشيعة، وتربصوا يتوقعون فرصة يثبون فيها على الدولة أو ينشؤون لأنفسهم دولة شيعية.

وكان الخلفاء يلاحظون ذلك ويحاذرون الوقوع فيه، فيستخدمون الفرس في أكبر مصالح الدولة على حذر. فإذا رأوا من أحدهم ميلًا إلى التشيع عزلوه أو قتلوه؛ ولذلك كان الوزراء يكتمون تشيعهم، والخلفاء يبثون عليهم العيون في منازلهم، كما فعل المهدي بوزيره يعقوب بن داود، وأصله من موالي العرب، وكان في بادئ أمره كاتبًا عند إبراهيم بن عبد الله العلوي الحسني أخي محمد بن عبد الله الذي قام في المدينة وقتله المنصور. وكان يعقوب قد خرج مع محمد هذا على المنصور، ثم رجع في جملة الراجعين، وكتم ميله واتصل بالمهدي فاستخدمه وأحبه كثرًا ووثق به، حتى آخاه وأعلن ذلك في الدواوين، فقال سلم الخاسر في ذلك:

قل للإمام الذي جاءت خلافته
تهدي إليه بحق غير مردود
نعم القرين على التقوى أعنت به
أخوك في الله يعقوب بن داود

وأحرز يعقوب المذكور نفوذًا عظيمًا، حتى غلب على أمور المهدي وسهل له الإسراف والاشتغال عن مصالح الدولة، وتفرغ هو للعمل، والعرب لا يعجبهم ذلك، فجعلوا يعرضون به بالأشعار ونحوها، والمهدي يسمع أقوالهم ولا يبالي بها — روي أن المهدي حج مرة فمر بمكان عليه كتابة قرأها فإذا هي:

لله درك يا مهدي من رجل
لولا اتخاذك يعقوب بن داود

فقال المهدي لمن معه اكتبوا تحته: «على رغم أنف الكاتب لهذا وتعسًا لجده».

فلما لم يجد أعداؤه حيلة في تغيير قلب المهدي عليه تحولوا إلى الوشاية من جهة لا بد للخليفة أن يتنبه لها، فقالوا له: «إن يعقوب يميل إلى العلوية، وأنه كان معهم عند قيامهم على أبيه» فاشتغل خاطره، وكان يعقوب يكتم ذلك عنه، فأراد أن يمتحنه. فدعا به يومًا وهو في مجلس فرشه موردة وعليه ثياب موردة وعلى رأسه جارية جميلة، ثم أظهر المهدي أنه مسرور منه فأهداه المجلس بما فيه والجارية أيضًا، ثم تقدم إليه بمهمة طلب قضاءها — وهي أن رجلًا من العلوية يريد المهدي أن يتخلص منه، فأوصى يعقوب أن يقتله، فوعده بذلك بعد أن أقسم الإيمان. وذهب إلى منزله واستقدم ذلك العلوي وكلمه فرآه لبيبا، وتوسل الرجل إليه أن يحقن دمه، فحن له يعقوب وعفا عنه وأوصاه بالفرار وساعده بالمال. وكانت الجارية في بعض جوانب البيت تسمع ما جرى، فنقلت الحكاية كما جرت. فبعث المهدي حتى قبض على الرجل وخبأه، وأتى بيعقوب فاعترف له بما فعله فحبسه بالمطبق عدة سنين، ولم يخرج إلا في السنة السادسة من خلافة الرشيد، شفع له يحيي بن خالد البرمكي؛ لأنهما من طينة واحدة ومذهب واحد، وكان يعقوب قد عجز فخيره الرشيد في الإقامة حيث يشاء، فاختار مكة فسيروه إليها وتوفي فيها سنة ١٨٧ﻫ وهي السنة التي نكب فيها البرامكة.

(٧) الوزراء البرامكة

(٧-١) مرتبتهم في الدولة

لما توفي المهدي والهادي وأفضت الخلافة إلى الرشيد استوزر البرامكة؛ لأن خالدًا جدهم من قواد أبي مسلم، وقد جاهد في نصرة العباسيين جهادًا حسنًا، فأستوزره أبو العباس واستعمله المنصور في الحروب كما تقدم. وكان خالد كبير العقل واسع الصدر، لم يبلغ أحد من ولده مبلغه في الجود والرأي والبأس والعلم، واشتهر ابنه يحيى بموفور العقل وسداد الرأي، وكان مقربًا من المهدي يعول على رأيه. وولد ليحيى سنة ١٤٨ﻫ غلامه الفضل، قبل ولادة الخيزران للرشيد بسبعة أيام، وربى الطفلان معًا فأرضعت الخيزران الفضل من لبن ابنها، فكان الفضل بن يحيي أخا الرشيد من الرضاعة، وفي ذلك يقول سلم الخاسر:٦٩
أصبح الفضل والخليفة هرو
ن رضيعي لبان خير النساء

ولما ترعرع هرون عهد المهدي إلى يحيى بتربيته، فشب الرشيد في حجره وكان يدعوه: «يا أبت»، فلما مات المهدي سنة ١٦٩ﻫ في جرجان كان أكبر رجال الدولة المقربين يومئذ يحيى بن خالد والربيع بن يونس. وخاف الرشيد اختلال الأمر إذا علم الناس بموت أبيه وهم في تلك الحال، فاستشار يحيى فأشار عليه برأي كان فيه الصواب، حتى رجعوا إلى بغداد وقد هاج الناس، وفيها الخيزران أم الهادي والرشيد، فبعثت إلى الربيع ويحيى لتشاورهما، فأجابها الربيع ولم يجبها يحيى، وأوصاه أن يقوم بأمر الرشيد كما كان في أيام أبيه ووبخ الربيع.

وأول شيء خطر للهادي بعد قبضه على أزمة الخلافة أن يخلع أخاه الرشيد من ولاية العهد، ويحول الإرث إلى ابنه لتبقى الخلافة في نسله، كما كان يفعل معظم الخلفاء في مثل هذه الحال. فأعلن الهادي عزمه لبعض خاصته فوافقوه، وخلعوا هرون وبايعوا جعفر بن الهادي، وتنقصوا من الرشيد في مجلس الجماعة. فأمر الهادي ألا يسار بين يديه بالحربة، على جاري العادة في المسير بين يدي ولي العهد، فاجتنبه الناس وتركوا السلام عليه، ورضي هو بذلك. ولكن يحيى لم يرض، بل حرضه على التمسك بحقه في ذلك، فوشى بعضهم إلى الهادي أن يحيى يفسد الرشيد عليه، فبعث الهادي إلى يحيى فقال له: «يا يحيى، ما لي ولك؟». قال: «ما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته». فقال: «لم تدخل بيني وبين أخي وتفسده عليّ؟» فقال: «من أنا حتى أدخل بينكما؟ إنما صيرني المهدي معه، ثم أمرتني أنت بالقيام بأمره فانتهيت إلى أمرك». فطابت نفس الهادي بهذا القول. فاغتنم يحيى رضاءه وقال: «يا أمير المؤمنين إنك إن حملت الناس على نكث الإيمان هانت عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعة أخيك ثم بايعت لجعفر بعده كان ذلك أوكد للبيعة»، قال: «صدقت» وصرفه.

فلما لقي الهادي القواد الذين خلعوا الرشيد حملوه على معاودة الخلع، فبعث إلى يحيى فحبسه، فكتب إليه يحيى وهو في الحبس: «إن عندي نصيحة»، فأحضره وسأله عما عنده فقال يحيى: «يا أمير المؤمنين، أرأيت إن كان الأمر الذي لا نبلغه ونسأل الله أن يعدمنا قبله؟ (يعني موت الهادي) أتظن الناس يسلمون الخلافة لجعفر وهو لم يبلغ الرشد، أو يرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم؟». وقال: «ما أظن ذلك». قال: «يا أمير المؤمنين، أفتأمن أن يسمو إليها أكابر أهلك مثل فلان، ويطمع فيها غيرهم فتخرج من ولد أبيك؟ والله إن هذا الأمر لو لم يعقده المهدي لأخيك لقد كان ينبغي أن تعقده أنت له، فكيف بأن تحله عنه وقد عقده المهدي؟ ولكني أرى أن تقر الأمر على أخيك، فإذا بلغ (جعفر) أشده أتيت بالرشيد فخلع نفسه له وبايعه». فقبل الهادي قوله وعمل به.٧٠

وتوفي الهادي ولم يملك إلا سنة، وأفضت الخلافة إلى الرشيد، ويحيى أول من بشره بها وأتاه بالخاتم وهو نائم، فعرف الرشيد فضله في ذلك وقال له: «يا أبت أنت أجلستني في هذا المجلس ببركتك ويمنك وحسن تدبيرك، وقد قلدتك الأمر». ودفع إليه خاتمه وجعل إصدار الأمور وإيرادها إليه. وكان يعظمه، فإذا ذكره قال: «أبي» وفي هذه الوزارة يقول الشاعر:

ألم تر أن الشمس كانت سقيمة
فلما ولي هرون أشرق نورها؟
بيمن أمين الله هرون ذي الندى
فهرون واليها ويحيى وزيرها

وخلف يحيى أولادًا أحسنهم الفضل في جوده ونزاهته، وجعفر في كتابته وفصاحة لسانه، ومحمد في بعد همته، وموسى في شجاعته وبأسه. وقد تولوا أرفع المناصب وتصرفوا في الدولة، وخصوصًا جعفر والفضل، فضلًا عما اشتهروا به من الجود والسخاء، وكان أبوهم يحيى جوادًا مثلهم، فاشتق الناس من اسمهم فعلًا للسخاء فقالوا: «تبرمك الرجل» أي: جاد وسخا.

وأراد الرشيد إكرام يحيى، فولى ابنيه الفضل وجعفر أعظم الأعمال، فقسم المملكة بينهما، فجعل جعفر عاملًا على الغرب كله من الأنبار إلى إفريقية، وقلد الفضل الشرق كله من شيروان إلى أقصى بلاد الترك. فشخص الفضل إلى خراسان سنة ١٧٦ﻫ فجعلها مركز عمله، وأزال سيرة الجور منها وبنى المساجد والحياض والربط وأحرق دفاتر البقايا، وزاد الجند ووصل الزوار والقواد والكتاب، لكنه لم يقم فيها إلا قليلًا، فاستخلف على عمله وشخص إلى العراق سنة ١٧٩ﻫ، فأكرمه الرشيد ثم ولاه الوزارة، ورأى بعد قليل أن ينقلها إلى جعفر فخاطب أباهما قائلًا: «قد أحببت أن أنقل ديوان الخاتم من الفضل إلى جعفر، وقد استحييت من مكاتبته في هذا المعنى فاكتب أنت إليه». فكتب يحيى إلى الفضل: «قد أمر أمير المؤمنين — أعلى الله أمره — أن تحول الخاتم من يمينك إلى شمالك»، فأجابه الفضل: «قد سمعت ما أمر به أمير المؤمنين في أخي، وما انتقلت عني نعمة صارت إليه، ولا غربت عني رتبة طلعت عليه».٧١
وتمكن جعفر عند الرشيد وغلب على أمره، وبلغ من علو المرتبة عنده ما لم يبلغه سواه، حتى اتخذ الرشيد ثوبًا له زيقان، فكان يلبسه هو وجعفر جملة. وتصرف جعفر في المملكة تصرفًا مطلقًا، لم يكن يمضي أمرًا إلا أمضاه الرشيد، ولو كان فيه هبة نصف مملكته أو تزويج بعض بناته. وفي حكايته مع عبد الملك بن صالح الهاشمي ما يمثل ذلك الإطلاق أحسن تمثيل: كان الرشيد متغيرًا على عبد الملك؛ لأنه من بني عمه وله طمع في الخلافة، فاتفق أن عبد الملك المذكور كان مرة في مجلس شراب بمنزل جعفر، فلما أراد الانصراف قال له جعفر: «اذكر حوائجك» فشكا إليه أن الرشيد متغير عليه، فقال له: «قد رضي عنك أمير المؤمنين وزال ما عنده منك»، فقال: «وعلي ٤٠٠٠٠٠٠ درهم دينا»، قال: «تقضى عنك وإنها لحاضرة، ولكن كونها من أمير المؤمنين أشرف بك وأدل على حسن ما عنده لك». قال: «وإبراهيم ابني أحب أن أرفع قدره بصهر من ولد الخلافة». قال: «قد زوجه أمير المؤمنين العالية ابنته». قال: «وأوثر التنبيه على موضع برفع لواء على رأسه». قال: «قد ولاه أمير المؤمنين مصر». وخرج عبد الملك والحضور يعجبون من إقدام جعفر على ذلك من عند نفسه، وخافوا أن يغضب الرشيد من هذه الجسارة، فما عتم أن علموا بإمضاء الرشيد كل ذلك وهو يقول: «أحسن أحسن».٧٢

ناهيك بما كان من إطلاق يده في خزائن الدولة وفي رقاب الناس. ومع ذلك فإن الرشيد حالما أوجس منه على سلطانه نكبه ونكب سائر أهله نكبتهم المشهورة، واختلف المؤرخون في سببها وهو ما نذكره.

(٨) نكبة البرامكة

(٨-١) الرشيد والشيعة

كان البرامكة من الشيعة، وكان جدهم خالد قد بايع للعلويين قبل العباسيين مثل سائر أهل خراسان وفارس. فلما غلب العباسيون وشاهد فتكهم بأبي سلمة ثم بأبي مسلم وسواه ممن يريد الخلافة للعلويين، رأى من الحكمة وسداد الرأي أن يغضي عن ذلك الأمر، وأخلص الخدمة للسفاح ثم للمنصور. وسار ابنه يحيى وأولاده على نحو ذلك، وهواهم لا يزال مع الشيعة العلوية من إيثار آل علي، لكنهم كانوا يكتمون ميلهم وخصوصًا في خلافة الرشيد؛ لأنه كان شديد الوطأة على العلويين وشيعتهم يتتبع خطواتهم ويقتلهم٧٣ وكان يكره الشيعة منذ صباه، وهم يخافونه من قبل الخلافة. فلما تولى الخلافة أمر بإخراج الطالبيين جميعًا من بغداد إلى المدينة.٧٤

واشتهر بذلك حتى أصبح الشعراء يتقربون إليه بهجائهم، وكان شعراء العلويين يهجونه لهذا السبب، وهم لا يجسرون على الظهور في حياته. فلما مات ودفن في طوس، قال دعبل بن علي يعرض بما ارتكبه العباسيون جميعًا بقتل العلويين، من قصيدة مدح بها أهل البيت وهجا الرشيد، وأشار إلى اجتماع القبرين في طوس — قبر الرشيد وقبر الرضا — قال:

وليس حي من الأحياء نعلمه
من ذي يمان ومن بكر ومن مضر
إلا وهم شركاء في دمائهم
كما تشارك أيسار على جزر
قتل وأسر وتحريق ومنهبة
فعل الغزاة بأرض الروم والخزر
أرى أمية معذروين أن قتلوا
ولا أرى لبني العباس من عذر
أربع بطوس على القبر الزكي إذا
ما كنت تربع من دير إلى وطر
قبران في طوس: خير الناس كلهم
وقبر شرهم، هذا من العبر!
ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا
على الزكي بقرب الرجس من ضرر
هيهات كل امرئ رهن بما كسبت
له يداه فخذ ما شئت أو فذر٧٥
وكان البرامكة يكرهون تعصب الرشيد على العلوية، ويعدون عمله حرامًا٧٦ ويكظمون. على أنهم كانوا يساعدون الشيعة سرًّا بما يبلغ إليه إمكانهم، وكان كبارهم يجتمعون إلى جعفر، وجيه البرامكة يومئذ وصاحب الصوت الأعلى عند الرشيد، ويذكرون أعمال الرشيد، وجعفر يحاذر أن يبلغ ذلك إليه، ولكن حساده في بلاط الخليفة — وأكثرهم من العرب أو من ينتمي إليهم — كانوا يسعون به إلى الرشيد، وأشدهم غيظًا منه وأقدرهم على الكيد به زبيدة أم الأمين؛ لأنه فضل ابن ضرتها المأمون على ابنها. وقد اضطغنت عليه منذ كانوا في الكعبة، وقد جاءها لتعليق كتابي العهد للأمين والمأمون، فلما حلف الأمين اليمين على جاري العادة وهم بالخروج من الكعبة، رده جعفر وقال له: «إن غدرت بأخيك خذلك الله»، وطلب إليه أن يحلف على ذلك ثلاثًا، فشق طلبه على أمه زبيدة فحقدتها عليه، وكانت من جملة من حرض الرشيد على الإيقاع به٧٧ فضلًا عما بينهما من العداوة العنصرية، وناهيك بمن كان يحسد البرامكة من أمراء العرب، وخصوصًا آل الربيع وآل مزيد الشيباني، فإن البرامكة أضعفوا نفوذهم في الدولة وأغروا الرشيد بهم٧٨ غير حسادهم من الفرس، حتى عمهم محمد بن خالد، فإنه كان من جملة حسادهم والساعين في أذاهم.٧٩
هؤلاء جميعًا كانوا يوغرون صدر الرشيد على جعفر، تارة من حيث تشيعه وطورًا من حيث استبداده بالدولة، وآونة من حيث استئثاره هو وأهله بالأموال، والرشيد يحفظ ذلك ويتدبره، وقد غلب عليه ما غرس في نفسه من أفضال يحيى عليه، وآثار أبنائه في تنظيم دولته وإحياء معالمها، وإن يكن ساءه ما يبديه جعفر أحيانًا من نصرة العلويين أو استنصارهم، فإن جعفر لما ولاه الرشيد المغرب استخلف على مصر رجلًا شيعيًّا٨٠ فكان الرشيد صابرًا على ذلك يترقب الفرص.

(٨-٢) الشيعة العلوية بخراسان

وكان الخراسانيون ومن والاهم من أهل طبرستان والديلم — قبل قيام العباسيين — من شيعة علي، وإنما بايعوا للعباسيين مجاراة لأبى مسلم أو خوفًا منه. فلما رأوا ما حل به من القتل غدرًا، غضبوا وتعاقدوا على الأخذ بثأره، ثم رأوا المنصور فتك بالراوندية إخوانهم وهم من أصحاب أبي مسلم، ثم بنى بغداد وتحصن فيها، فتربصوا وإذا هو قد حارب العلويين وبطش فيهم، وفر من بقي من ولد علي إلى أطراف المملكة الإسلامية في خراسان والمغرب، وأخذوا يبثون دعاتهم وينشرون دعوتهم سرًّا، فكان الخراسانيون من أقوى أنصارهم انتقامًا من المنصور، لقتله أبي مسلم وعملًا بتعاقدهم عليه.

فكان العباسيون إنما يخافون على دولتهم من خراسان؛ لأنها شيعة العلويين وأهلها أشداء ولهم رهبة في قلوب الناس، منذ نقلوا الخلافة من بني أمية إلى بني العباس. وكان داعية الشيعة هناك في أيام الرشيد يحيى أخا محمد بن عبد الله الذي حاربه المنصور وقتله. فظهر يحيى هذا في الديلم سنة ١٧٦ﻫ وقويت شوكته حتى خافه الرشيد، فسرح إليه الفضل بن يحيى، فاستنزله الفضل من بلاد الديلم بالحسنى، على أن يشترط ما أحب ويكتب له الرشيد بذلك خطه، فكتب له أمانًا أمضاه الرشيد وجلة بني هاشم، وجاء الفضل ومعه يحيى إلى بغداد، فوفى له الرشيد بكل ما أحب وأجرى له أرزاقًا سنية.

ثم خطر له أن يحبسه خوفًا منه، ولعل بعض الأعداء الشيعة حرضوه على حبسه، لكنه لم يكن يستطيع ذلك لعهد الأمان الذي بيده. فاستشار الفقهاء في الأمان فقال بعضهم: الأمان صحيح، فحاجه الرشيد فقال الآخر — وهو أبو البختري القاضي: هذا أمان منتقض من وجه كذا، فمزقه الرشيد وصمم على حبس الرجل، فدفعه إلى جعفر فحبسه وهو يرى أنه مظلوم؛ لأنه جاء على الأمان وقد نكث الرشيد الأمان، فحدثته نفسه أن يطلقه بما له من النفوذ والدالة، ولم يكن يظن الرشيد يسأل عنه. فبعث إلى يحيى المذكور من الحبس فخاطبه، فتوسل الرجل إليه وقال: «اتق الله في أمري ولا تتعرض أن يكون غدًا خصمك محمد ، فوالله ما أحدثت حدثًا ولا آويت محدثًا» فرق له جعفر وقال: «اذهب حيث شئت من بلاد الله». قال: «وكيف أذهب ولا آمن أن أؤخذ؟» فوجه معه من أداه إلى مأمنه.٨١

(٨-٣) الرشيد وجعفر

وكان حساد جعفر يراقبون حركاته، وخصوصًا الفضل بن الربيع؛ لأنه كان يرشح نفسه للوزارة بعد أبيه فسبقه إليها أولئك العجم، وكانت له عيون على جعفر فأخبروه بما فعله، فرفع الخبر إلى الرشيد فأنكره، ولكنه انتهر الفضل وأظهر أن جعفر إنما فعله بأمره. ثم بعث إلى جعفر فدعاه إلى الطعام معه، وجعل يلقمه ويحادثه ثم سأل عن يحيى فقال: «هو بحاله في الحبس» فقال: «بحياتي؟» ففطن جعفر فقال: «لا وحياتك …»، وقص عليه أمره وقال: «قد علمت أنه لا مكروه عنده»، فقال الرشيد: «نعم ما فعلت، ما عدوت ما في نفسي». وقد كظم غيظه وعزم على الإيقاع به من ذلك الحين، ولما قام جعفر عنه قال في نفسه: «قتلني الله إن لم أقتلك!» ولكنه مكث يترقب الفرص ويدبر الحيل، لما يعلمه من نفوذ البرامكة بما يبذلونه من الأموال للناس على اختلاف طبقاتهم، حتى بني هاشم أنفسهم.

وأراد أن يغالطه لئلا ينتبه جعفر لما في نفس الرشيد عليه، فأظهر أنه يريد أن يوليه خراسان، فأخذ الخاتم ودفعه إلى أبيه يحيى، وعقد له على خراسان وسجستان ثم عزله عنها بعد عشرين يومًا٨٢ فهو إما ولاه إياها تمويهًا أو ولاه ثم خافه.

وكان في جملة حساد البرامكة علي بن عيسى بن ماهان، فسعى بموسى بن يحيى أخي جعفر واتهمه في أمر خراسان، وأعلم الرشيد أنه يكاتبهم ليسير إليهم ويحرضهم على خلع الطاعة، فصدق الرشيد الوشاية فحبسه ثم أطلقه، ولكنه تغير على البرامكة جميعًا وظهر ذلك في بعض معاملاته. فكان يحيى بن خالد مثلًا يدخل على الرشيد بغير إذن، فعرض الرشيد في بعض حديثه استهجانه ذلك فكف يحيى عنه. وكان يحيى إذا دخل على الرشيد قام له الغلمان، فأوصى الرشيد مسرورًا خادمه ألا يقوموا له، فشعر يحيى بهذا التغير وتناقل الناس خبر ذلك، ولبثوا يتوقعون شرًّا يصيب البرامكة وليس من يجرؤ على إخبارهم به. على أنهم كانوا يعرضون في أثناء الغناء بما يخافون عليهم — ومن ذلك ما كان يغنيه ابن بكار أحيانًا:

ما يريد الناس منا؟
ما تنام الناس عنا؟
إنما همهم أن
يظهروا ما قد دفنا
وكان الرشيد يستعظم الإقدام على ذلك الأمر، ويخاف أنصار البرامكة إذا هو فتك بهم، فأراد أن يستطلع أفكار خاصته في هذا الشأن ليرى وقعه في قلوبهم، والمغنون أحسن وسيلة لذلك لمخالطتهم الناس في حال سكرهم وطربهم، والسكر يبعث صاحبه على الإفشاء بما في ضميره والتصريح بما يجول في خاطره، فسأل الرشيد مغنية إسحق الموصلى مرة: «بأي شيء يتحدث الناس؟» فقال: «يتحدثون بأنك تقبض على البرامكة وتولى الفضل ابن الربيع الوزارة» فأظهر الرشيد الغضب وصاح به: «ما أنت وذاك؟ ويلك!» فأمسك.٨٣

وكان للرشيد عيون على البرامكة في منازلهم ودواوينهم، يحصون عليهم أنفاسهم فلا يخلو أن تبدر منهم بادرة تلميحًا أو تصريحًا، والوشاة يعظمونها له.

وكان في جملة جواسيس الرشيد خادمان خزريان رباهما وأهداهما إلى جعفر، فكانا ينقلان إليه كل ما يدور في مجالس جعفر يوميًّا. وكان لجعفر مجلس أنس يعقده في منزله مرة في الأسبوع، يحضره أرباب الدولة وأهل الوجاهة من الفرس، يلبسون أثوابًا لونها واحد يخلعها عليهم جعفر ويلبس هو مثلهم. ففي أحد هذه المجالس دار الكلام على أبي مسلم وبطشه، وكيف استطاع وحده أن ينقل الدولة الإسلامية من عائلة إلى عائلة. فقال جعفر: «لا يستغرب ذلك منه ولا فضل له به؛ لأنه لم يدركه إلا بقتل ٦٠٠٠٠٠ نفس سفك دماءهم صبرًا، وإنما الرجل من ينقل الدولة من قوم إلى قوم بغير سفك دم»٨٤ وكان الغلامان الخزريان يسمعان قوله فنقلاه إلى الرشيد، وأفهماه أنه يعرض بنقل الدولة من العباسيين إلى الفرس أو العلويين، فازداد خوف الرشيد منه.

فلما كانت السنة التي نكبوا فيها (سنة ١٨٧ﻫ) كان الرشيد قادمًا من الحج وقد صمم على الفتك بجعفر، فأظهر رضاءه عنه وولاه كورة خراسان، أراد بذلك أن يطمئنه ليأخذ الخاتم منه بحجة الولاية، وخلع عليه وعقد له لواءً وعسكرًا بالنهروان، فضرب الناس مضاربهم هناك ومكثوا يتأهبون للسفر، وفيهم نخبة من أصحاب جعفر، وبقي هو ببغداد يتأهب للحاق بهم.

وكان له صديق من الهاشميين غيور عليه اسمه إسماعيل بن يحيى، قد علم ما في نفس الرشيد على جعفر وأهله، فأراد أن يتوسط في إصلاح ما بينهما، فجاء جعفر في أثناء تأهبه للخروج إلى خراسان، وخلا به وحادثه في شؤون شتى حتى تطرق إلى الموضوع الذي جاء من أجله، فقال له: «يا سيدي أنت عازم على الخروج إلى بلدة كثيرة الخير واسعة الأقطار عظيمة المملكة، فلو صيرت بعض ضياعك لولد أمير المؤمنين لكان أحظى لمنزلتك عنده». فلما سمع جعفر قوله غضب كان ما يجول في نفس الرشيد لم يخطر بباله وقال: «والله يا إسماعيل ما أكل الخبز ابن عمك إلا بفضلي، ولا قامت هذه الدولة إلا بنا. أما كفى أني تركته لا يهتم بشيء من أمر نفسه وولده وحاشيته ورعيته، وقد ملأت بيوت أمواله مالًا، وما زلت للأمور الجليلة أدبرها حتى يمد عينه إلى ما ادخرته واخترته لولدي وعقبي بعدي، وداخله حسد بني هاشم وبغيهم ودب فيه الطمع؟» والله لئن سألني شيئًا من ذلك ليكونن وبالًا عليه!» كأنه يهدده بذهاب خراسان. فلما سمع إسماعيل تهديده ورأى غضبه، خرج من عنده واحتجب عنه وعن الرشيد؛ لأنه صار متهمًا عندهما.

فسمع ذلك الحديث أحد جواسيس الرشيد ونقله إليه، فصمم على الفتك به. ولعله كان ينوي القبض عليه وحبسه فقط، فلما بلغه هذا التهديد عزم على قتله. وأكبر الإقدام على ذلك، فاستشار زبيدة امرأته وصرح بما يجول في خاطره قائلًا: «إني خائف إن تمكن هؤلاء من خراسان أن يخرج الأمر من يدي» فحرضته على سرعة الفتك به، ويقال: إنها ذكرت له أمورًا ارتكبها جعفر في بيت الرشيد٨٥ تتعلق بالعباسية أخته. فاغتنم الرشيد بعد جعفر عن رجاله ومريديه، وهم في عسكره بالنهروان وهو في بغداد، وبعث خادمه مسرورًا ليأتيه برأسه، فذهب إليه وقتله كما هو مشهور. ووجه الرشيد من أحاط بأبيه يحيي وسائر أولاده وبأخيه الفضل ليلًا، فحبسهم وقبض ما وجده لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك، وأرسل إلى سائر البلاد يقبض على أموالهم ووكلائهم ورقيقهم وأسبابهم، ولم يتعرض لمحمد بن خالد؛ لأنه كان من جملة الساعين بهم، وأسند الوزارة بعدهم إلى الفضل بن الربيع عدوهم. ثم ندم الرشيد على قتل البرامكة وكان إذا ذكرهم بكى٨٦ وقد أصاب جعفر من الرشيد، كما أصاب بزرجمهر وزير كسري أبرويز، إذ اتهمه كسرى بالزندقة فقبض عليه وقتله ثم ندم على قتله.٨٧
فالرشيد فتك بالبرامكة؛ لأنه خافهم على سلطانه، عملًا بسياسة العباسيين في تأييد دولتهم، إذ اتهم جعفر وشك فيه فقتله، وهي غير سياستهم في معاملة رعاياهم، فإنها كانت مؤسسة غالبًا على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية ويستدعيه الحق، مع رفق وحلم وبذلك ومحاسنه. ولاسيما الرشيد فقد كان إذا وعظته بكى، وإذا استعطفته عفا وإذا استجديته سخا، حتى جرى خبره مجرى الأمثال. أما العلويون فكان لا يخاف الله فيهم٨٨ ولا فيمن يدعو إليهم أو ينصرهم.

(٩) الأمين والمأمون أو العرب والفرس

لما قتل البرامكة على هذه الصورة غضب أهل خراسان، وتضاعفت نقمتهم على الدولة العباسية، وتعاقدوا على الأخذ بثأر أبي مسلم والبرامكة، وتربصوا يترقبون الفرص. وتوجهت آمالهم إلى المأمون؛ لأن أمه فارسية، وقد شب في حجر جعفر البرمكي على الميل إلى الشيعة العلوية — ولم تكن الشيعة يومئذ مذهبًا دينيًّا كما هي اليوم، وإنما كانت حزبًا سياسيًّا يراد به جماعة الفرس أو غيرهم من أنصار العلويين. فتمكن حب الفرس ومذهبهم من نفس المأمون منذ نعومة أظفاره، وكان يحيى بن خالد قد اختار الفضل بن سهل السرخسي لخدمة المأمون. والفضل أصل من مجوس خراسان، أسلم على يد المأمون٨٩ سنة ١٩٠ﻫ وتشيع طمعًا في نصرة الفرس في خراسان، وكان همامًا فقدمه يحيي في الدولة حتى صار من خاصته، ثم جعله قهرمانا له. وتوسم الفضل في المأمون نجابةً وتعقلًا، فتوقع أن تصير الخلافة إليه فلزمه وخدمه وتقرب منه. وكان المأمون يجله ويقدمه، ولم يكن الفضل طامعًا في أقل من الوزارة — يحكى أن مؤدب المأمون قبل الخلافة لما رأى جميل رأيه في الفضل وإكرامه إياه، نقل ذلك للفضل وقال له: «لا أستبعد أن يحصل لك منه ١٠٠٠٠٠٠ درهم»، فاغتاظ الفضل وقال: «والله ما صحبته لأكتسب منه مالًا قل أو جل، ولكني صحبته ليمضي حكم خاتمي هذا في الشرق والغرب».٩٠
وكان الرشيد لما بايع لأولاده بولاية العهد جعل للأمين العراق والشام إلى آخر المغرب وهو الخليفة بعده، وجعل للمأمون خراسان وسائر المشرق٩١ على أن يتولى الخلافة بعد أخيه الأمين. وكل ذلك بتدبير جعفر وغيره من أحزاب الشيعة، وفي جملتهم الفضل بن سهل، وأراد الرشيد سنة ١٩٢ﻫ أن يسير إلى خراسان، فأمر ابنه المأمون أن يبقى في بغداد حتى يرجع وكان الرشيد مريضًا، فخاف الفضل أن يموت الرشيد في الطريق فيذهب سعيه هدرًا، فجاء إلى المأمون وقال له: «لست تدري ما يحدث بالرشيد، وخراسان ولايتك ومحمد الأمين المقدم عليك، وأن أحسن ما يصنعه بك أن يخلعك، وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها كما تعلم، فاطلب إلى أمير المؤمنين أن تسير معه». فطلب المأمون ذلك من أبيه فامتنع أولًا، ثم أجاب — ولا بد لامتناعه من سبب كان يجول في خاطره، وهو يتوقع قرب أجله ويرى لأولاده عليه رقباء٩٢ يحصون أنفاسه ويستطيلون بقاءه.

فسار المأمون مع أبيه والفضل معهما، واهتم الفضل في أثناء الطريق بتأييد أمر المأمون، فأخذ له البيعة على كل من في عسكر الرشيد من القواد وغيرهم، وأقر له الرشيد وهو في طوس والأمين في بغداد، وله عيون مع الرشيد أشدهم غيرة عليه الفضل بن الربيع، وزير الرشيد بعد البرامكة. فلما بلغ الأمين اشتداد المرض على أبيه بعث إلى ابن الربيع وغيره يستحثهم على بيعته. فلما مات الرشيد هناك سنة ١٩٣ﻫ احتال ابن الربيع على من كان في ذلك العسكر، والمأمون غائب في مرو وحرضهم على اللحاق بالأمين، فأطاعوه رغبة منهم في الرجوع إلى أهلهم وأولادهم في بغداد، وأغفلوا العهود التي أخذت عليهم للمأمون، وحملوا ما كان في عسكر الرشيد إلى الأمين، وتمت البيعة له. ثم حسن الفضل بن الربيع للأمين أن يخلع أخاه المأمون من ولاية العهد، ففعل.

(٩-١) الفضل بن سهل وعلي الرضا

فلما بلغ المأمون موت أبيه، ورجوع رجاله إلى أخيه بالأموال والأحمال، وقد نكثوا عهده، خاف على نفسه فجمع خاصته بمرو وشاورهم في الأمر، وأظهر لهم ضعفه وأنه لا يقوى على أخيه، فنشطوه ووعدوه خيرًا. وقال له الفضل بن سهل: «أنت نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم، اصبر وأنا أضمن لك الخلافة»، فاطمأن خاطر المأمون بهذا الوعد الصريح، وقال له: «قد صبرت وجعلت الأمر إليك فقم به» وسماه ذا الرياستين، أي: رياسة السيف ورياسة القلم.

فبذل الفضل جهده في نصرة المأمون؛ لأنه إنما يعمل لنفسه ووطنه وأمته، واستمال الناس وضبط الثغور، وتعاظمت العداوة بين الأخوين، وقطعت الدروب بينهما من بغداد إلى خراسان، وأبطل كل منهما اسم أخيه من الخطبة، وتجردت الجيوش وحدثت معارك هائلة فاز فيها جند المأمون، وهم الفرس بقيادة طاهر بن الحسين، وانتهت الحرب بفتح بغداد وقتل الأمين سنة ١٩٨ﻫ، وقد حملوا رأسه إلى المأمون في خراسان. فلما تحقق المأمون صدق ما عاهده الفضل عليه، أصبح آلة بيده لا يخالفه في شيء. فاستبد الفضل في الدولة، وولى أخاه الحسن بن سهل كور الجبال والعراق وفارس والأهوار والحجاز واليمن، على أن يكون مقامه في بغداد، ثم اغتنم هذه الفرصة لنقل الخلافة إلى العلويين. وكان داعيتهم يومئذ في خراسان علي بن موسى الرضا بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، المعروف بعلي الرضا. فبذل الفضل جهده في تحريض المأمون على بيعة علي الرضا بولاية العهد بعده، أي: أن يخرج الخلافة من بني العباس إلى العلويين. وربما جعل تلك البيعة شرطًا لمساعدته في استرجاع الخلافة له، أو أنه حسن له ذلك ولم يشترطه، فأجابه المأمون إلى طلبه، أما وفاء لوعده، أو مجاراة له للمكر به، أو أنه فعله عن حسن ظن في العلويين؛ لأنه رضع حب الشيعة من طفولته وكان يظهر التشيع٩٣ فبايع لعلي الرضا سنة ٢٠١ﻫ وجعله الخليفة بعده، ولقبه «الرضا من آل محمد»، وأمر جنده بطرح السواد لباس العباسيين ولبس الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق.

فلما بلغ ذلك الخبر إلى بغداد ضج الهاشميون وأتباعهم، وأعظموا الأمر وامتنعوا عن البيعة لعلي المذكور، وقالوا: لا تخرج الخلافة من ولد العباس، وقد تحققوا أن تلك البيعة إنما هي دسيسة من الفضل بن سهل، فأنكروا ولاية أخيه الحسن بن سهل على بغداد. وأقروا أخيرًا على خلع المأمون وبيعة عمه إبراهيم بن المهدي، فبايعوه ولقبوه «المبارك»، وبعث الهاشميون إلى المأمون يهددونه بالقتل إذا بقي على عزمه.

وكان الفضل بن سهل يخفي هذه الأخبار عن المأمون؛ لئلا يخاف فيندم وينكث البيعة فيخلع عليًّا فيذهب سعيه عبثًا. وكان علي الرضا مطلعًا على ما حدث في بغداد، وأبت نفسه أن يحدث ذلك بسببه، ولا يطلع المأمون عليه فجاءه بنفسه وأخبره بما صار إليه حال بغداد، وأنهم بايعوا إبراهيم بن المهدي. فاستغرب المأمون الخبر ولم يصدقه، وقال: «بل هم ولوه عليهم في أثناء غيابي، كذلك أخبرني الفضل». فقال له: «إن الفضل قد كذبك» فأدرك المأمون دسيسة الفضل، وأنه إنما نصره لهذا الغرض، وشك فيه فحل قتله عنده، فدس إليه أناسًا قتلوه في الحمام بسرخس مغافصة، ثم حاكمهم على قتله وقتلهم به.٩٤
وفكر في بيعة علي الرضا، فأعظم أن يرجع عنها وخاف إذا رجع أن يثور عليه أهل خراسان ويقتلوه، فعمد إلى سياسة الفتك فدس إليه من أطعمه عنبًا مسمومًا فمات٩٥ فذهبت الأسباب التي أغضبت أهل بغداد، فخلعوا إبراهيم بن المهدي وعادوا إلى بيعة المأمون. فهرب إبراهيم والفضل بن الربيع وسائر الذين كانوا مع الأمين في تلك الثورة، وجاء المأمون بغداد سنة ٢٠٤ﻫ واستقر بها. ودفعًا للشبهة فيما اشتهر به من حب آل أبي طالب، اضطهدهم ومنعهم من الدخول عليه وأمرهم بلبس السواد.٩٦
فاضطرب أمر الشيعة في بغداد، مع بقاء النفوذ للفرس وهم يكتمون تشيعهم إلى آخر خلافة الواثق، فلما تولى المتوكل سنة ٢٣٢ﻫ اضطهد الشيعة وشدد النكير عليهم؛ لأنه كان قد ربي من حداثته بين جماعة أهل عصبية عربية يكرهون الفرس أو الشيعة، منهم علي بن الجهم الشاعر الشامي من بني شامة، وعمرو بن فرخ الرخجي، وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة، الذي كان يت قرب إلى الرشيد يهجو العلويين وهو من موالي بني أمية. وكانوا يخوفون المتوكل من الشيعة على الإجمال، ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم، ثم حسنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علو منزلتهم في الدين. فأثرت أقوالهم فيه، وشب على كره الشيعة وكره الخلفاء الذين كانوا ينصرون الشيعة قبله، وهم المأمون والمعتصم والواثق٩٧ كما أثرت تربية البرامكة في المأمون وحببوا إليه الشيعة وأهلها.
فلما تولى المتوكل أمر بهدم قبر الحسين بن علي، وهدم ما حوله من المباني ومنع الناس من إتيانه، وبالغ في بغضه عليًّا وأهل بيته حتى جعله سخرية — ذكروا أنه كان في جملة ندمائه مخنث اسمه عبادة، كان يشد على بطنه تحت ثيابه مخدة ويكشف رأسه وهو أصلع تشبهًا بالإمام علي، ويرقص ويقول: «قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين» (يعني عليًّا)، والمتوكل يشرب ويضحك٩٨ وغلبت السنة في الدولة من ذلك الحين وقوامها الأتراك، كما سيأتي. وبذهاب أمر الشيعة من بغداد ذهب نفوذ الفرس منها، وبخلافة المتوكل ينقضي العصر الفارسي الأول.

(١٠) الأسرار في الدولة العباسية

واشتهر بنو العباس على الخصوص بحفظ الأسرار والتكتم فيما ينوونه، وكانوا يفرضون ذلك على مواليهم ورجال بطانتهم، ولا سيما فيما يحتاجون إليه لتثبيت دعائم دولتهم، كما رأيت من تصرف الخلفاء مع قوادهم ووزرائهم من أول دولتهم، وخصوصًا المنصور مع أعمامه وأبي مسلم وغيرهم، وتصرف الرشيد مع البرامكة، والمأمون مع الفضل بن سهل وعلي الرضا وطاهر بن الحسين. وكانوا يرون كتمان مشروعاتهم شرطًا من شروط نجاحها، كما فعل قثم بن العباس في التفريق بين فرق الجند بحيلة لم يشأ أن يطلع المنصور عليها. وكانوا يستعينون على ذلك بالعيون والأرصاد، وكل منهم يتجسس على صاحبه، فيبث الخليفة العيون على قواده ووزرائه، ووزراؤه يقيمون الأرصاد عليه. فربما كان خادم الرجل وجاريته عينًا عليه، وقد يقيم الخليفة الجواسيس والرقباء على أولاده أو إخوته، أو يقيم ولاة العهد الرقباء على آبائهم، كما فعل الأمين والمأمون بأبيهم الرشيد، فقد كان رقيب المأمون على أبيه مسرورًا الخادم، ورقيب الأمين جبرائيل بن بختيشوع الطبيب، وكانوا يحصون أنفاسه٩٩ كما تقدم.
ولما تولى المأمون الخلافة وأتى بغداد كان يتجسس على إبراهيم بن المهدي، فألزمه رجلًا ينقل إليه كل ما يسمعه من لفظه جدًّا أو هزلًا١٠٠ وهكذا كان سائر الخلفاء، وخصوصًا في أواخر الدولة؛ لأن التجسس يكثر إذا مالت الدولة إلى السقوط وتدانت من الهرم، كما سيجيء. وكان للوزراء عيون على الخلفاء، وللخلفاء عيون على العمال، هم أصحاب البريد أو أصحاب الأخبار، غير ما كانوا يبثونه من الخدم والجواري والمغنيات لهذه الأغراض — كانوا يفعلون ذلك خوفًا على سلطانهم، فبالغوا في التكتم إلى ما يفوق الوصف. فكان للمأمون على كل واحد صاحب خبر، وكان يغتفر كل شيء إلا الفدح في الملك وإفشاء السر والتعريض بالحريم.١٠١
وبمحافظتهم على الأسرار والتكتم في أعمالهم، أشكل على الناس كثير من الحوادث التي جرت في أيامهم ولم يفهموا أسبابها، فنكبة البرامكة مثلًا تكهن المؤرخون في تدوينها رجمًا بالغيب، وذهبوا في أسبابها كل مذهب. وكم من قتيل لم يعرف قاتله فحسبوه مات من أكلة عنب أو تمر أو غير ذلك، وإنما قتل مسمومًا بدسيسة بعض الخلفاء أو القواد أو ولاة العهد إلى طبيبه أو صاحب داره.١٠٢

(١١) اختلاط الأنساب بعد الإسلام

قد رأيت ما كان للعرب من العناية في حفظ أنسابهم حتى كانوا يحتقرون من لم يكن مولودًا من أبوين عربيين، فإذا كان أبوه غير عربي سموه المذرع، وإن كانت أمه أعجمية سموه الهجين. وإذا كانت أمه أمة استعبدوه، فإذا أنجب اعترفوا به، وإلا ظل عبدًا، والعرب لا تورث الهجين، وهو من قبيل احتقارهم غير العرب كما تقدم.

(١١-١) أبناء الإماء

ولما جاء الإسلام وغلب العرب على أمم الشرق من فارس والترك وغيرهما، وكثرت السبايا في أثناء الفتوح، اتخذوا من النساء أظئارًا ودايات ومراضع، واقتنوا الجواري للفراش، وكانوا في بادئ الرأي يكرهون التزوج بهن ويحتقرون أبناءهن، وخصوصًا في الحجاز مركز الجامعة العربية، حتى نشأ في المدينة ثلاثة من كرام الرجال أمهاتهم من الإماء، وهم علي بن الحسين والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله، وفاقوا أهل المدينة فقهًا وعلمًا وورعًا فرغب الناس في السراري.١٠٣

على أن بني أمية ظلوا يحتقرون أبناء الإماء، تعصبًا للعرب على العجم، فبلغ عبد الملك يومًا أن علي بن الحسن تزوج جارية له وأعتقها، فكتب إليه يؤنبه فأجابه علي: «إن الله رفع بالإسلام الخسيسة وأتم النقيصة وأكرم به من اللؤم، فلا عار على مسلم، وهذا رسول الله قد تزوج أمته وامرأة عبده»، فلما تلا عبد الملك جوابه قال: «إن علي بن الحسين يشرف من حيث يتضع الناس». على أن العرب أصبحوا بعد الإسلام يرفعون من شأن الهجناء، اعتمادًا على أن النسب ليس من قبيل الأم، وإنما النسب للآباء عملًا بقول الشاعر:

لا تشتمن امرأً من أن تكون له
أم من الروم أو سوداء عجماء
فإنما أمهات القوم أوعية
مستودعات، وللأحساب آباء
أم بنو أمية فظلوا على احتقارهم بني الإماء إلى أواخر دولتهم، وكانوا لا يستخلفونهم، وقالوا: لا تصلح لهم العرب؛ ولذلك لما قام زيد بن علي بن الحسين يطالب بالخلافة في أيام هشام بن عبد الملك عيره هشام بقوله: «أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة وأنت ابن أمة؟» قال: «يا أمير المؤمنين، إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل أمة لأم إسحق، فلم يمنعه ذلك أن بعثه الله نبيًّا وجعله للعرب أبًا، فأخرج من صلبة خير البشر محمدًا»،١٠٤ فالعلويون كانوا أقرب للاختلاط بغير العرب، استنكافًا من شدة تعصب بني أمية للعرب؛ ولذلك كان الموالي أكثرهم شيعة العلويين.

وكان العرب في صدر الإسلام بهذا الاعتبار طائفتين، فيهم من يحقر أبناء الإماء وفيهم من لا يجعل لنسب الأم قيمة — ذكروا أن عبد الملك بن مروان سابق ولديه سليمان ومسلمة، فسبق سليمان فقال عبد الملك:

ألم أنهكم أن تحملوا هجناءكم
على خيلكم يوم الرهان فتدرك
وما يستوي المرآن: هذا ابن حرة
وهذا ابن أخرى ظهرها مشترك
وتضعف عضداه ويقصر سوطه
وتقصر رجلاه فلا يتحرك
وأدركنه خالاته فنزعنه
إلا إن عرق السوء لا بد يدرك

وهاك ما قاله حاتم الطائي:

وما أنكحونا طائعين بناتهم
ولكن خطبناها بأسيافنا قسرا
فما زادها فينا السباء مذلةً
ولا كلفت خبزًا ولا طبخت قدرا
ولكن خلطناها بخير نسائنا
فجاءت بهم بيضًا وجوههم زهرا
وكائن ترى فينا من ابن سبية
إذا لقي الأبطال يطعنهم شزرا
ويأخذ رايات الطعان بكفه
فيوردها بيضًا ويصدرها حمرا
كريم إذا اعتز اللئيم تخاله
إذا ما سرى ليل الدجى قمرًا بدرا١٠٥
على أن طبيعة العمران غلبت على ما أراده الأمويون من حفظ النسب العربي، وقضى الاختلاط بالأعاجم باختلاط الأنساب، حتى في الخلفاء من بني أمية، فبايعوا في أواخر دولتهم لأبناء الإماء. وأول من تولى الخلافة من الخلفاء الهجناء يزيد بن الوليد بن عبد الملك سنة ١٢٦ﻫ، ولكن أمه كانت من نسل يزدجرد بن كسرى، سباها قتيبة ببلاد الصغد وأرسلها إلى الحجاج فقدمها الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك فأولدها يزيد،١٠٦ ويقال: أن بني أمية حظروا مبايعة بني الإماء، ليس لاستهانة بهم ولكنهم كانوا يرون زوال دولتهم على يد ابن أمة، فلما تولى يزيد المذكور ظنوه الذي يذهب ملكهم على يده، فلم يلبث سبعة أشهر حتى مات، ووثب مكانه مروان بن محمد وأمه أمة كردية، فذهب ملكهم على يده.

(١١-٢) الخلفاء الهجناء

أما بنو العباس فقامت دولتهم بالموالي، وقد ضعفت في أيامهم العصبية العربية لكثرة الاختلاط، فأصبحوا لا يعتدون بالأم على الإطلاق، وكان أكثر خلفائهم من بني الإماء من إبراهيم الإمام فما بعده، وفيهم الإماء من الفرس والترك والروم والأكراد والبربر والأحباش والزنج وغيرهم، وإليك أسماء بعض خلفاء بني العباس من أبناء الإماء:

اسم الخليفة جنس أمه اسم الخليفة جنس أمه
إبراهيم الإمام بربرية المأمون فارسية
المنصور بربرية المنتصر بالله حبشية رومية
الرشيد حرشية المستعين بالله صقلية
إبراهيم بن المهدي زنجية المعتز جارية؟
المهتدي رومية المستضيء أرمنية
المقتدر تركية الناصر تركية
المكتفي تركية

وقس على ذلك الخلفاء من الدول الأخرى. فإن المستنصر بالله الفاطمي أمه أمة سودانية، وعبد الرحمن الداخل الأموي أمه بربرية. ناهيك بأبناء الخلفاء الذين لم يتولوا الخلافة حتى في صدر الإسلام، فإن محمد بن الحنفية أمه جارية سندية سوداء.

فإذا كان هذا حال اختلاط النسب في الخلفاء، فكيف في سائر طبقات الناس؟ فالنسب العربي لم يكن خالصًا إلا في الجاهلية وصدر الإسلام إلى أواسط الدولة الأموية، وظل بعد ذلك محفوظًا من حيث الآباء فقط، أما من حيث الأمهات فإنه اختلط اختلاطًا عظيمًا. ونحن نعلم الآن أن الولد يرث من أمه كما يرث من أبيه، وربما كان من حيث الأخلاق أقرب إلى أمه مما إلى أبيه. فالعرب بعد القرن الثاني للهجرة قل فيهم الدم العربي الخالص، إلا في البادية أو حيث لم يكثر اختلاطهم بالأعاجم. فضلًا عما أثر فيهم من طبائع الأقاليم التي نزلوها وعادات أهلها.

فالعرب الحضر في القرن الثالث للهجرة هم غير العرب في صدر الإسلام، فكيف في حضر هذه الأيام وقد توالى فيهم الاختلاط والتزاوج؟ ناهيك بمن يتعرب وينتسب إلى البلاد، فأهل الشام ومصر والعراق والمغرب مثلًا يعدون من العرب، وهم في الحقيقة أخلاط من العرب والترك والديلم والجركس والروم والفرس والأرمن والكرج وغيرهم، ولكن الرجل إذا نزل بعض هذه البلاد عد في بادئ الرأي غريبًا، فإذا قطنها وتناسل فيها كان أولاده مولدين، فإذا توالت عليهم الأجيال سموًّا عربًا.

١  ابن الأثير ١٦٥ ج٥.
٢  ابن الأثير ٢٢٧ ج٢.
٣  ابن الأثير ٢٠٨ ج٥.
٤  ابن الأثير ١٨٣ ج٥.
٥  الفخري ١٣٤ والعقد الفريد ٢٧٩ ج٢.
٦  العقد الفريد ٣٢ ج٣.
٧  ابن خلكان ٢٠٥ ج٢.
٨  المسعودي ١٦٧ ج٢.
٩  المستطرف ٦٣ ج١ وابن الأثير ٢٥٧ ج٥.
١٠  ابن خلكان ٢٧٩ ج٢.
١١  ابن الأثير ٢٥٤ ج٥.
١٢  المسعودي ٢١٣ ج٢.
١٣  ابن خلكان ٢٣٧ ج١.
١٤  المسعودي ١١٣ ج١.
١٥  الأغاني ٢٠ ج٢.
١٦  ابن الأثير ٤٩ ج٣.
١٧  ابن خلكان ١٠٦ ج١.
١٨  الفخري ١٢٠.
١٩  ابن الأثير ٧ ج٦.
٢٠  الأغاني ١٤٨ ج١٨.
٢١  العقد الفريد ٥٣ ج١.
٢٢  تاريخ الوزراء ٩٥ والفرج ١٤٩ ج٢.
٢٣  ابن الأثير ٣٢ ج٩. والسيوطي ١٧ ج٢.
٢٤  المقريزي ٤ و٣١ ج٢.
٢٥  المقريزي ٤٠٦ ج١.
٢٦  تاريخ المشارقة (خط) ١٤٣.
٢٧  المقريزي ١١٥ ج٢.
٢٨  ابن خلدون ٢٧٥ ج٣ وابن الأثير ٢٠ ج٧ والمقريزي ٤٩٤ ج٢.
٢٩  تاريخ المشارقة (خط) ١٤٦.
٣٠  ابن الأثير ٢٩ ج٧.
٣١  ابن الأثير ٨٢ ج٦.
٣٢  المقريزي ٥١١ ج٢.
٣٣  المقريزي ٤٩٥ ج٢.
٣٤  المقريزي ٣٥٥ ج١.
٣٥  المقريزي ٣٤١ ج٢.
٣٦  ابن الأثير ٨٦ ج٩.
٣٧  السيوطي ١٧ ج٢.
٣٨  أبو الفداء ٤ ج٤.
٣٩  المقريزي ٨ ج٢ وأبو الفداء ١١٧ ج٤ وسراج الملوك ١٨٩.
٤٠  ابن الأثير ٢٩ ج٧.
٤١  ابن الأثير ٦٢ ج٨.
٤٢  نفح الطيب ١٢٦٩ ج٢.
٤٣  ابن خلكان ١٢ ج١ و٢ ج٢.
٤٤  ابن الأثير ١٩٢ ج٧.
٤٥  ابن الأثير ١٥٧ ج٦ ص ١٣٦.
٤٦  طبقات الأطباء ١٩٤ ج١.
٤٧  ابن الأثير ١١٣ ج٨. والفرج ١٥٦ ج٣.
٤٨  المقريزي ٤٩٤ ج١.
٤٩  طبقات الأطباء ٢٢١ ج١.
٥٠  ابن خلكان ٢٢٣ ج٢.
٥١  المقريزي ٣٤٦ ج٢.
٥٢  ابن الأثير ١٢٣ ج٥ و٢٨ ج٧.
٥٣  ابن الأثير ٢٠٤ ج٥.
٥٤  ابن الأثير ٨ ج٧.
٥٥  ابن الأثير ١٣١ ج٦.
٥٦  نفح الطيب ١٥٨ ج٣.
٥٧  المعارف ١٥٦.
٥٨  ابن الأثير ٢٨٥ ج٥.
٥٩  المسعودي ٢١١ ج٢.
٦٠  ابن الأثير ٩٤ ج٦.
٦١  ابن الأثير ٨٩ ج٦.
٦٢  المقريزي ١٧٨ ج١.
٦٣  ابن الأثير ١٧٦ ج٦.
٦٤  المقريزي ٩٤ و٣١١ و٣١٣ ج١ وابن خلدون ١٣٠ ج١.
٦٥  المقريزي ٢٩٤ ج٢.
٦٦  الفخري ٢٥٣.
٦٧  العقد الفريد ٦٩ ج٢.
٦٨  ابن الأثير ٥٧ ج٧.
٦٩  ابن الأثير ٢٧٧ ج٥.
٧٠  ابن الأثير ٢٩ ج٦.
٧١  الفخري ١٨٦.
٧٢  ابن خلكان ١٦ ج١.
٧٣  العقد الفريد ١٤٢ ج١.
٧٤  ابن الأثير ٤٧ ج٦.
٧٥  الأغاني ٥٧ ج١٨.
٧٦  الأغاني ٧٦ ج٢٠.
٧٧  المسعودي ١٩٥ ج٢.
٧٨  ابن الأثير ٥٧ ج٦ وابن خلكان ١٧٩ ج٢.
٧٩  ابن الأثير ٧١ ج٦.
٨٠  السيوطي ١٠ ج٢.
٨١  ابن خلدون ٨ ج٤ وابن الأثير ٥٠ و٧٠ ج٦.
٨٢  ابن الأثير ٦١ ج٦.
٨٣  الأغاني ١١٣ ج٥.
٨٤  زينة المجالس (فارسي).
٨٥  الأتليدي ١١٣.
٨٦  الأغاني ٧٤ ج١٧.
٨٧  المسعودي ١١٩ ج١.
٨٨  الفخري ١٧.
٨٩  ابن خلكان ٤١٣ ج١ وابن الأثير ٧٩ ج٦.
٩٠  الفخري ٢٠٣.
٩١  ابن الأثير ٦٩ ج٦.
٩٢  ابن الأثير ٨٣ ج٦.
٩٣  المسعودي ٢٢٤ ج٢.
٩٤  ابن الأثير ١٤٣ ج٦ والفخري ١٩٩ والأغاني ٣١ ج٩ وابن خلكان ٤١٤ ج١.
٩٥  ابن الأثير ١٤٤ ج٦ والفخري ١٩٩.
٩٦  ابن الأثير ١٥٦ ج٦.
٩٧  ابن الأثير ٢٢ ج٧.
٩٨  أبو الفداء ٤٠ ح ٢.
٩٩  ابن الأثير ٨٣ ج٦.
١٠٠  الأغاني ٨٢ ج٢٠.
١٠١  المسعودي ٢٢٥ ج٢ وطبقات الأطباء ١٧١ ج١.
١٠٢  طبقات الأطباء ١٨٢ ج١.
١٠٣  العقد الفريد ٢٣٩ ج٣.
١٠٤  المسعودي ١٣٠ ج٢.
١٠٥  العقد الفريد ٢٣٠ ج٣.
١٠٦  ابن الأثير ٢٧٥ ج٤ و١٤٧ ج٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤