الفصل العاشر

الدولة الأيوبية الكردية

صلاح الدين يوسف بن أيوب

قبل موت الأتابكي نور الدين لم يكن معتبرًا إلا كقائد أو عامل الأتابكي المذكور، وعند موت نور الدين الشهيد سنة ٥٧٠ﻫ أي سنة ١١٧٥م أشهر لواء الاستقلال، وصار سلطانًا. وفي حياة نور الدين اجتمع السودانيون في جمع كثير قاصدين ملك بلاد مصر، وحاصروا مدينة أسوان وقصدوا نهب قراها، وكان بها الأمير كنز الدولة، فبعث يعلم صلاح الدين ويطلب منه المدد، فأرسل له جزءًا من جيشه مع الشجاع البعلبكي، فلما وصل إلى أسوان وجد السودانيين قد رحلوا عنها بعد أن أخربوا أرضها فأتبعهم الشجاع المذكور وكنز الدولة، وحصلت وقعات عظيمة قُتل فيها من الفريقين عالم عظيم، ورجع الشجاع المذكور، ثم أنفذ الملك الناصر صلاح الدين أخاه شمس الدولة في عسكر كثيف إلى السودان، فوجد السودانيين دخلوا بلاد النوبة فسار قاصدًا بلادهم، وشحن مراكب كثيرة في النيل بالعساكر والذخائر وأمرهم بالمسير إلى بلاد النوبة، وساروا حتى وصلوا أبريم وافتتحوها بعد حصار ثلاثة أيام، وغنم منها أموالًا عظيمة.

ثم رجع شمس الدولة إلى أسوان وذلك سنة ٥٦٨ﻫ أي سنة ١١٧٣م بعد أن سلم قلعة أبريم إلى جماعة من الأكراد تحت قيادة إبراهيم الكردي، ثم خرج إبراهيم قاصدًا جزيرة زبدان، فغرق إبراهيم وجماعة من أصحابه، ورجع الباقي إلى قلعتهم أبريم، ثم أخلوها بعد ذلك بسنتين، ولما مات نور الدين صاحب الموصل سار صلاح الدين إلى الشام فحاصر كثيرًا من مدنها واستباح أهلها وفتح أرض الجزيرة، وهزم عز الدين صاحب الموصل واستولى عليها، وعاد إلى مصر وأمر ببناء القلعة الموجودة الآن بالقاهرة، وكان محلها يعرف وقتئذ بقصر الهواء، وقد ذكر العالم المدقق والجهبذ المحقق سعادة علي مبارك باشا في خططه ما نصه:

بنى قلعة الجبل لتكون له معقلًا وحصنًا يعتصم به من أعدائه، فإنه كان يحذر من شيعة الفاطميين، فاختار لها المحل الذي بنيت فيه، وأقام على عمارتها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، وبنى سور القاهرة في سنة ٥٧٢ﻫ، وهدم ما هنالك من المساجد وأزال القبور وهدم الأهرام الصغار التي كانت بالجيزة، وكانت كثيرة العدد، ونقل أحجارها وبقَّى بها السور، وبنى قناطر الجيزة لأجل سهولة نقل الأحجار، وقصد صلاح الدين أن يكون السور محيطًا بالقاهرة والقلعة فمات قبل أن يتم، فأُهمل العمل إلى أن كانت سلطنة الملك الكامل. انتهى.

وعاد صلاح الدين إلى الشام بجيش آخر وفتح بيت المقدس بعد وقعة عظيمة بالقرب من مدينة طبرية سنة ١١٨٧م سنة ٥٨٣ﻫ أسر فيها ملك بيت المقدس «جي لوزينيان» وسجنه ومعه جماعة من رؤساء المعابد والمضايف، وفتح كثيرًا من البلاد الشامية التي كانت بيد الإفرنج، وله حروب كثيرة مع الصليبيين سيأتي ذكرها، وكان شجاعًا كريمًا حليمًا حسن الأخلاق متواضعًا صبورًا. ومات بقلعة دمشق سنة ٥٨٩ﻫ أي سنة ١١٩٣م، ودفن بشمال الجامع الأموي.

الملك العزيز بن صلاح الدين

ولما مات صلاح الدين قام بالأمر بعده ابنه العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان، وكان ينوب عن أبيه بمصر في حياته، ولما قبض على زمام مملكة أبيه حصلت حروب بينه وبين أخيه الملك الأفضل استولى فيها على دمشق؛ لوحشة جرت بينهما، وكان العزيز حسن السيرة حميد الأخلاق، وإنما كان ضعيف الرأي حتى إن جماعة من أمراء مملكته وأعيانها أشاروا عليه بهدم الأهرام الكبيرة؛ لزعمهم أن بها دفائن وكنوز، فأصدر أمرًا بهدمها، فجمعوا لذلك العمال وصناع اللغم، وجعل عليهم بعض الأمراء، وأقاموا على ذلك ثمانية أشهر، وكان لا يمكنهم إلا خلع حجر أو حجرين في اليوم، فكف عن هذا الأمر بعد أن صرف عليه أموالًا جسيمة، وكان ذلك سنة ٥٩٣ﻫ/١١٩٦م، وفي سنة ٥٩٤ﻫ/١١٩٨م منع ما كان يحصل في موسم خليج القاهرة، وكان الناس قد اعتادوا على ذلك من القديم، فعظم الأمر عليهم وحصل الاضطراب، حتى هموا بخلعه والخروج عن طاعته لولا أن بلغهم خبر موته، وذلك سنة ٥٩٥ﻫ/١١٩٩م ودفن بتربة الإمام الشافعي.

الملك المنصور بن الملك العزيز

وبموته اشتدت الفتن؛ لأنه عهد لابنه الملك المنصور وعمره تسع سنين، فقام بأمور الدولة بهاء الدين قراقوش الأسدي (عبد خصي) الأتابكي، فاختلف عليه الأمراء وكاتبوا عنه الملك الأفضل علي، فقدم من «صرخد» واستولى على الأمور، فلم يبقَ للمنصور معه سوى الاسم، وولد سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه في ذلك الوقت، أي سنة ٥٩٦ﻫ/١٢٠٠م، وأراد الأفضل أخذ دمشق من عمه الملك العادل، فجهز الجيوش إليها، وحصل بينهما وقائع تمت بهزيمة الأفضل، فدخل العادل مصر وأعاد الأفضل إلى صرخد، وقام بكفالة المنصور ثم خلعه وحبسه بالقلعة حتى مات، واستبد بسلطنة مصر وبلاد الشام، وأخرج المنصور وإخوته من القاهرة إلى الرها، وأخذ في تدبير مملكته، وأعلى شأنها بمحاربة أعدائها والدفاع عنها، وكان جسورًا صبورًا على الأهوال حليمًا كريمًا جزيل العطاء، ومات سنة ٦١٥ﻫ/١٢١٨م.

الملك الكامل أبو الفتح ناصر الدين محمد

تولى بعد موت أبيه العادل، وهو الذي أتم بناء قلعة الجبل، وأنشأ بها الدور السلطانية في أثناء نيابته عن أبيه سنة ٦٠٤ﻫ، ولما مات أبوه انتقل من دار الوزارة الكبرى بالدرب الأصفر إليها، وهو أول من سكن القلعة، وجعلها منزلًا للرسل، ونقل سوق الخيل إلى الرملية، فأخذت الناس من وقتئذ في تعمير ما حولها من الدرب الأحمر والمحجر وجهة القطائع والصليبة، بعد أن كان بعضها بساتين وبعضها مقابر، وعمَّرَ القبة على ضريح الإمام الشافعي رضي الله عنه ومات سنة ٦٣٥ﻫ ودفن بدمشق.

سيف الدين أبو بكر

ولما مات الكامل قام بالأمر بعده ابنه سيف الدين، ولقب بالملك العادل الأصغر، فوقع بينه وبين أخيه الملك الصالح نجم الدين منازعات، انتهت بخنقه بيد الأمراء؛ لكونهم استوحشوا منه بسبب انهماكه على اللهو واشتغاله بالشهوات، وكان موته سنة ٦٣٧ﻫ ودفن عند الإمام الشافعي.

الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل

تولى بعد موت أخيه سيف الدين، وفي مدته سنة ٦٤٧ﻫ أخذ الإفرنج دمياط، تحت قيادة لويز التاسع ملك فرنسا، وهو المعروف عند مؤرخي الإسلام باسم «فرنسيس»، فمات بالمنصورة فأخفت زوجته شجرة الدر موته، وصارت تعلم بعلامته سرًّا، وحُمل إلى القاهرة ودفن هناك، وأرسلت إلى ابنه «توران شاه»، فحضر وكان بديار بكر، فحارب الفرنج وأسر ملكهم لويز التاسع السالف الذكر في واقعة فرسكور، وسجنه بالمنصورة بمحل يعرف بدار لقمان، ووكل بحفظه طواشي يقال له صبيح، وبقي أسيرًا إلى ولاية شجرة الدر، وقتل «توران شاه» المذكور بعد أن حكم شهرين، فقامت بالأمر بعده شجرة الدر، وكانت تحسن التدبير عن زوجها، وجعلت عز الدين أيبك التركماني نائبًا عنها، وأطلقت لويز من السجن بعد اتفاق بينها وبين الفرنج، وسلموا دمياط إلى المصريين، ودفعوا أموالًا جسيمة، وتركوها بعد أن أقامت بيدهم أحد عشر شهرًا، ثم تزوجت بنائبها المذكور، وبعد ذلك اتفق الأمراء على تولية الملك الأشرف موسى ابن الملك الصالح، وأشركوا اسمه مع شجرة الدر، وذلك سنة ٦٤٨ﻫ/١٢٥١م، وفي ذلك الوقت عظم أمر المماليك البحرية، وتسلطنوا على مصر، وكانوا ألف مملوك، قد اصطفاهم الملك الصالح لخدمته، وأسكنهم بالقلعة التي بالروضة، وكان لهم على شطوط النيل مراكب مشحونة بالسلاح، ومهمات الحرب، ولهذا كانوا يسمون المماليك البحرية.

وقبل التكلم على هذه الدولة أي دولة المماليك البحرية نذكر طرفًا من أخبار السلجوقيين، الذين بظهورهم ضعفت خلفاء بني العباس وزالت بالكلية والجزئية بإغارة المغول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤