الفصل الثالث عشر

دولة الجراكسة

حكمت هذه الدولة سنة ٧٨٤ﻫ، وانقضت سنة ٩٢٣ﻫ، وعدد سلاطينهم ٢٢ سلطانًا، وأولهم برقوق، ولنذكر من اشتهر منهم فنقول:

الظاهر برقوق

أصله من مماليك يلبغا المتقدم الذكر، ولما استقر برقوق في السلطنة أكثر في شراء المماليك وأمر لهم بالسكنة في القاهرة، وتزوجوا بنساء أهل المدينة، وتغيرت أحوال البلاد وعوائدها، ثم رفع نواب الشام لواء العصيان عليه، وجرت بينه وبينهم حروب شديدة، ودام الاضطراب حتى حضر «يلبغا الناصري» بعساكر من الشام، واقتتل مع عساكر برقوق خارج باب النصر، فانهزمت عسكر السلطان، واختفى برقوق، واستولى «يلبغا» على القلعة، وأخرج السلطان الصالح حاجي من السجن وولاه السلطنة ثانيًا، وأكثر القتل في مماليك السلطان برقوق، وما زال مجدًّا في طلبه حتى عثر عليه، فبعث به أسيرًا إلى الكرك، وحبس هناك وصار الحل والعقد بيد «يلبغا»، ثم حصلت فتنة من يلبغا والأمير منطاش، فتحاربا في الرميلة وآل أمرها بهروب يلبغا وأصحابه، وصار الحل والعقد بيد «منطاش»، فتمكن برقوق من الخروج من الكرك فخرج وانضم إلى بعض مماليكه وكثير من العرب، وحصلت وقعات بينه وبين نواب الشام والسلطان «حاجي»، انتهت باسترجاعه إلى السلطنة، وهرب «يلبغا» فصار يهجم على بلاد الشام إلى أن قُتل يلبغا وأُتي برأسه وعلقت على باب زويلة، وفرح السلطان برقوق لقتله. وفي ذلك الوقت كان ظهور «تيمورلنك» يعثو في البلاد بعساكره، وحصلت بينه وبين عساكر مصر وقعات عظيمة، واستولى على بغداد، فهرب صاحبها القان أحمد إلى مصر فقابله ملكها بالترحاب وأنزله بقصر الأمير «طقوزدمور» — وهو محل المدارس الميرية الآن بدرب الجماميز — وجهز جيشًا وسار معه إلى بلاد الشام، وكان تيمورلنك قد رحل عنها، فرجع السلطان برقوق إلى مصر وتوجه القان أحمد إلى مملكته، فكانت مدته كلها حروب وشدائد، فكانت سلطنته بالديار المصرية والشامية ست عشرة سنة وكسورًا، وكان كثير البر والصدقات، ومات سنة ٨٠١ﻫ.

الملك الناصر أبو السعادات فرج بن برقوق

تولى السلطنة وعمره عشر سنين، وفي مدته قام عليه الأمير «أيتمش» بمماليكه يريد خلعه من السلطنة، فتحزب عليه مماليك الظاهر مع كثير من الأمراء، واقتتلوا بالرميلة وحول القلعة، فانهزم «أيتمش» وفر إلى الشام، وقُتل في هذه الواقعة أناس كثيرون، ونهب العوام بيوت الأمراء الذين كانوا مع «أيتمش»، وأحرقوا باب مدرسة السلطان «حسن»؛ حيث كان أيتمش حاصر القلعة منها، وقام بدل «أيتمش» «بيبرس السيفي»، فهدد الناس وأصلح حال الرعية، وكان أيتمش هرب إلى الشام وعثا هناك بالقتل والسلب، فجهز إليه جيشًا جرارًا وسار إليه وقتله وجملة من أصحابه، وأتى إلى مصر بموكب هائل، وعلق رأسه ورءوس أصحابه على باب زويلة، وفي ذلك الوقت كان تيمورلنك قد قتل العباد وأحرق البلاد ونهبها، حتى قيل إنه بنى من الرءوس عشر منارات دور كل منارة عشرون ذراعًا، وكل ذلك وفرج المذكور في لهو وشرب، فسخط عليه الأهالي، فقام بيبرس السيفي وصمم على قتله فهرب.

الملك أبو النصر شيخ

ولما تولى السلطنة أمير المؤمنين الخليفة المستعين بالله أبو الفضل العباس وتولى النيابة المؤيد شيخ، فشاركه المؤيد في الخطبة، وصار الأمر للمؤيد فتغلب على السلطنة، وصار الخليفة له الاسم فقط ثم جمع القضاة والأمراء وخلع الخليفة من السلطنة ولم يخلعه من الخلافة، فأقام بالقلعة ثم خلعه من الخلافة أيضًا وبعث به إلى الإسكندرية، وسُجن هناك إلى زمن الملك الأشرف «برسباي» فأخرجه من السجن، وسكن هناك إلى أن مات سنة ٨٣٣ﻫ، ودفن هناك، ولما خلع الخليفة سنة ٨١٥ﻫ جلس هو بمفرده، وكان هذا الملك من مماليك الظاهر برقوق واسمه أبو النصر شيخ وتلقب بالمؤيد، ولما بلغ نوروز عامل الشام خلع المستعين، فلم يقطع خطبة المستعين، واستمر يخطب باسم الخليفة، فسار إليه المؤيد وحاربه وقتله ورجع إلى القاهرة، وولى منكلي بغا الشمسي محتسبًا، وكان هذا أول تركي تولى الحسبة، وعصى عليه نواب الشام، فسار إليهم ففروا هاربين وولى بدلهم وعاد إلى القاهرة، وصفا له الوقت، وأكثر من شراء المماليك، وقتل ابنه إبراهيم لما بلغه أنه مصمم على نزعه من السلطنة، ودفنه بالجامع الموجود بجوار باب زويلة، ثم مات ودفن معه، وكان أكثر إقامته ببولاق، ووقع في زمنه وباء عظيم حتى حصل للناس من ذلك ضرر، وكان كريمًا يحب العلم والعلماء، إلا أنه كان كثير السفك للدماء، قتل كثيرًا من النواب.

السلطان أبو النصر قايتباي

لما تولى أبو النصر قايتباي تلقب بالملك الأشرف، وهو أعظم سلاطين هذه الدولة، له عمارات عظيمة بمصر والمدينة ومكة وغيرها، منها جامع بجزيرة الروضة، وجامع بقلعة الكبش، والإيوان الكبير بالقلعة وغير ذلك، وهو من مماليك الظاهر «جقمق»، وأنشأ عدة قناطر وجسور في الأقاليم، ووقف أوقافًا كثيرة لعمارته. وفي سنة ٨٨٤ هجرية حج السلطان قايتباي، ولم يحج من سلاطين الجراكسة غيره، ورتب لأهل الحرمين ثمانية آلاف إردب قمح. وفي سنة ٨٨٧ هجرية توجهت عساكر مصر تحت قيادة يشبك إلى «حسن الطويل» ملك العراق، وجرى بينهما حروب كثيرة انهزم فيها العساكر المصرية ومات «يشبك»، ووقعت الحرب بينه وبين السلطان «محمد» ملك الروم من سلاطين آل عثمان، وسبب ذلك أن بعض تجار الهند أهدى هدية إلى السلطان محمد المذكور، فسمع بها قايتباي فأخذها. فلما بلغ ذلك السلطان محمدًا حاربه، فتظاهر عليه المصريون، ثم إن السلطان المذكور بلغه تظاهر بعض الأمراء المصرية عليه فأراد أن يتنازل عن السلطنة، فامتنع أمراء الأهالي من ذلك فرجع إلى السلطنة ثانيًا، ثم جاءت الأخبار بإغارة العساكر العثمانية على بلاد الشام تحت رياسة السلطان بايزيد خان من آل عثمان قاصدًا حرب قايتباي، وسبب ذلك أنه رحب بأخيه «جم» الذي كان منازعًا له في الملك، فجهز إليه سلطان مصر قايتباي العساكر مع الأمير أزبك الذي نسبت إليه الأزبكية، فانتصر المصريون عليه مرارًا، ثم حصل الصلح بينهما وترك قايتباي عدنة وطرطوس إليه، وكان سفير قايتباي جانبلاط بن يشبك السالف الذكر والبيان، ومات قايتباي سنة ٩٠١ﻫ، وكان محبًّا لجمع الأموال وغير عجول في الأمور.

السلطان قانصوه الغوري

هو أبو النصر قانصوه، تولى السلطنة سنة ٩٠٦ﻫ، ولقب بالملك الأشرف فأقام ١٥ سنة، ولما اتفق العساكر على توليته اشترط معهم أن لا يقتلوه وإن رغبوا عزله انعزل. وكان جبارًا كثير القتل والسفك، وله عدة مباني منها المنارة المعتبرة بالأزهر، والبستان تحت القلعة، والسبع سواقي لمجرى الماء من مصر العتيقة إلى القلعة، وعمَّرَ بعض أبراج الإسكندرية، وعمل بطريق الحج عدة خانات وآبار، وهو صاحب القبة الموجودة الآن بالبلدة التي سميت بها قرب المطرية، ومع ذلك فإنه كان كثير الطمع والظلم يأخذ أموال من يموت، ومماليكه يظلمون الناس، ووقعت بينه وبين السلطان «سليم الأول» من آل عثمان حروب بمرج دابق انهزم فيها الغوري ولم يعلم له حال، وسبب هذه الفتنة أنه رحب بأخيه كركود الذي كان ينازعه في الملك، ودخلت الشام من وقتئذ تحت حكم الدولة العلية، وقام السلطان سليم بالشام شهرًا ثم رحل إلى مصر، فوجد عسكر مصر قد ولوا عليهم «طومان باي» ابن أخ «الغوري»، ووقع بينهم حروب كثيرة، ثم ذهب طومان باي إلى السلطان سليم طائعًا، فقتله وأبقاه في باب زويلة مشنوقًا ثلاثة أيام، ودفن بمدفن الغوري المشهور، وبموت طومان باي انتهت دولة الجراكسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤