الفصل الرابع عشر

مصر تحت حكم الدولة العثمانية المرة الأولى

أول من ملك مصر من بني عثمان هو السلطان سليم الأول، وذلك سنة ٩٢٣ﻫ/١٥٣٠م. وكان ملكًا شديد البأس مولعًا بمطالعة التواريخ بليغًا في اللغة الفارسية والرومية والعربية والتركية. وكان كثير السفك للدماء عظيم الكشف عن أحوال الملوك، وكان يتجسس بالليل والنهار متخفيًا، ويطلع على الأخبار، وكان قد توجه لقتال العجم فلم يتمكن من بلادهم شدة التمكن بسبب انقطاع القوافل التي أعدها لتتبعه بمؤنة العساكر، فبلغه أن سببه سلطان مصر «قانصوه الغوري»؛ لأن بينه وبين إسماعيل شاه العجم مودة ومراسلات، فكان ذلك سببًا في غزو بلاد مصر كما تقدم، وكان مقره بمصر في قلعة الروضة، وبني له كشك عند قاعة المقياس، وهو مشرف على النيل.

ولما أراد التوجه إلى الروم تقدم إليه خاير بك بمفاتيح البلد، فردها عليه وولاه عليها إلى أن يموت، فشاوره على أن أبناء الجراكسة يريدون الدخول في خدمة الدولة، فأجابه لطلبه وشاوره على إبقاء أوقاف الجراكسة، وهي نحو عشرة قراريط من أرض مصر، فأبقاها على ما كانت عليه، فغضب وزيره، وقال: «أفنوا مالنا وعساكرنا وتبقى لهم أوقافهم يستعينون علينا بها؟!» فأمر السلطان سليم بضرب عنق الوزير، وقال: «عاهدناهم على أنهم إن مكنونا من بلادهم أبقيناهم عليها، وجعلناهم أمراءها. فهل يجوز لنا أن نخون العهد ونغدر؟ وإذا أدخلنا أبناءهم في حيزنا فهم أولاد مسلمين، وتأخذهم الغيرة على ديارهم، وأما أراضيهم فأصلها ملك الغانمين، ومنهم من وقف ومنهم من قامت ذريته من بعده. فهل يجوز أن ننازعهم في أملاكهم؟ وأنا أزلت الوزير كراهة أن يغير عليَّ اعتقادي بتكرار كلامه.» وكانت مدة ولاية «خاير بك» سنتين ونصف تقريبًا، ومن بعده أرسلت الدولة العلية نائبًا من طرفها إلى سنة ١٧٦٥م أي في زمن السلطان مصطفى الثالث، فإنه قطع إرسال النواب إلى مصر وولاها للمماليك البادي ذكرهم آنفًا، بشرط أن يدفعوا نصف الأموال السلطانية إلى الأستانة العلية والنصف الثاني يصرف برسم المرتبات، وأقام بينهم أميرًا لصدور الأوامر، فكانت المماليك تصرف الأموال على شهواتهم ويدعون أنهم يصرفونها على المصالح الميرية، وفي آخر العام يرسلون الدفتر مسددًا عن يد الوزير المذكور الذي لم يكن في مصر إلا على سبيل الصورة فقط، وكانوا يظلمون الناس ولا يبالون في نجاح البلاد، وكان كبيرهم يسكن القاهرة ويلقبونه بشيخ البلد، ومع تمادي الأيام خرجوا عن طاعة الدولة العلية لما حكم كبيرهم «علي بك الكبير» الذي خطب على المنابر باسمه، واستمر العصيان إلى سنة ١٧٩٨م الموافقة سنة ١٢١٣ﻫ حين حضر الجنرال «بونابارت» وحاربهم وشتت شملهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤