الفصل الخامس

إمكانات الخلايا

في الحيوانات والنباتات، تتجمع الخلايا معًا في أنسجة وأعضاء. وكلُّ عضو مكوَّنٌ من مزيج من الأنسجة التي تحتوي على العديد من أنواع الخلايا المختلفة التي تعمل معًا للقيام بالمهام المطلوبة لبقاء وتكاثُر الكائن. فالنسيج الضام يتميز بكميات كبيرة من مادة النسيج البيخلوية، التي تُفرَز من جانب الخلايا المنفصلة جيدًا؛ مما يوفر أنسجة هيكلية مثل العظام والأوتار والأربطة والغضاريف التي تكوِّن الهيكل البنائي للجسم. كلما زاد تعقُّد بناء الكائن، زاد تعقد وتعدد أنواع خلاياه. من الناحية التطورية، يسمح هذا بتكوين خلايا تخصصية يمكنها الاستجابة لمجموعة متنوعة من التحديات والنجاة منها. في هذا الفصل، سنعرض لأمثلة عديدة لمجموعات الخلايا التي تسمح لأي كائن بأن يحمي نفسه ويتفاعل مع بيئته.

(١) الخلايا على الأسطح

في الحيوانات والنباتات، هناك جوانب متشابهة تتعلق بكيفية تجمع وعمل الخلايا معًا. بدءًا من الخارج، هناك طبقة واقية من الخلايا. في النباتات، تسمى هذه الطبقة بطبقة البشرة التي تفرز قشرة أو غطاءً شمعيًّا يساعد النبات على الاحتفاظ بالماء. في الأنواع الخشبية التي تمر بمرحلة نمو ثانوي، تحل الأَدَمَة المحيطة، التي تعرف باللحاء، محل القشرة، ويتكون اللحاء من خلايا فلِّينية تعطي النبات حماية كبيرة من العوامل الممرضة وعزلًا حراريًّا. تختلف الحشرات في ذلك؛ حيث إنها تُنتج هيكلًا خارجيًّا يتكون من طبقات من الكَيتين، وهي مادة قرنية كثيفة مضادة للمياه توفر غطاءً واقيًا يتضاعف ليكوِّن الهيكل الخاص بها. والهيكل الخارجي، الذي يشبه بِزَّة مدرعة، يتكون من صفائح مفصلية، والأغشية التي تربط بين تلك الصفائح توفر مرونة لجسم الحشرة. ترتبط الأعضاء والعضلات بالأسطح الداخلية للهيكل الخارجي. في الفقاريات (الحيوانات التي لها عمود فقري)، يتكون بناء الجسم من هيكل داخلي مصمَّم جيدًا بواسطة مجموعة من الخلايا المنتجة للعظام (الخلايا البانية للعظام) في مرحلة مبكرة من النمو.

يتَّبع الجلد في الحيوانات إجراءات مماثلة للطبقة الواقية من الخلايا في النباتات، لكنه يتسم بمرونة وتعقيد وظيفيَّيْن أكبر بكثير. فكل أسطح أجسامنا مغطاة بأنسجة طلائية، ويمكن أن نقارن الوجود اليومي للخلايا الطلائية التي تشبه جنود المشاة على هذه الأسطح، في الخارج والداخل. فكلاهما يُستبدَل يوميًّا لكن بطرق مختلفة تتحدد بفعل الوظيفة التي يؤديها كلٌّ منهما.

fig13
شكل ٥-١: (أ–ﺟ) منظر سطحي لخلايا جلد بدرجات تكبير متزايدة. (د) التنظيم السداسي المتراصُّ وإنتاج حرشفة واحدة. (ﻫ) قطاع عبر مجموعة من الخلايا؛ حيث المرحلة الأخيرة لإحدى الخلايا ذات النواة قبل التمايز إلى حراشف.
يطلَق على النسيج الطلائي الخارجي في الإنسان اسم البشرة، وعند النظر إليها من السطح فإنها تتكون من طبقات مسطحة من الكيراتين تسمى الحراشف (الشكل ٥-١). تبدأ الحراشف حياتها كخلايا طبيعية في الطبقات السفلى من البشرة، لكنْ مع تحركها تجاه السطح تفقد تدريجيًّا كل المحتويات التي يمكن تمييزها، وتصبح في الأغلب طبقات من بروتين الكيراتين، اعتمادًا على الترسب التدريجي للبروتين على الخيوط الوسطية للهيكل الخلوي. ولأن جلد الإنسان دافئ ورطب، فهو يوفر سطحًا جذابًا يمكن غزوه باستمرار من قِبَل البكتيريا والفطريات. ويستجيب الإنسان لذلك بإحلال الطبقة الخارجية من الحراشف بشكل يومي، إلى جانب الكائنات المتطفلة المرتبطة بها. تتم عملية الإحلال هذه في خلية واحدة في كل مرة، وليس بشكل كلي كما في حالة الثعبان. ومع تباعد الخلايا الموجودة على سطح الجلد، فإنها تُستبدَل عبر انقسام الخلية في الطبقة القاعدية للبشرة. وبين الطبقة القاعدية والسطح (نحو ١٤ طبقة في الإنسان)، تنظَّم الخلايا المتمايزة في أعمدة رأسية. وخلايا البشرة القاعدية لديها في السيتوبلازم الخاص بها العديدُ من حُزَم الخيوط الوسطية من الكيراتين، إلى جانب شبكات من الأنيبيبات الدقيقة والأكتين تتغير في الشكل من الشكل المكعب إلى الشكل المسطح مع تحرك الخلايا لأعلى، حتى تصل الخلية للطبقات العليا. في هذا الوقت يصبح السيتوبلازم بالكامل شبكةً مكدَّسة من خيوط الكيراتين متخلَّلةً بالحبيبات المجمعة المليئة بالدهون. وفي منتصف الطريق، تتحلل النواة ويُعاد امتصاصها. وعلى الرغم من أن سطح البشرة يبدو غير منظم إلى حدٍّ ما، فإنه إذا أُزيلَت الخلايا «السائبة»، سيظهر ترتيب هندسي مدهش؛ حيث يكون للحراشف شكل سداسي منتظم (الشكل ٥-١(ب)، (ﺟ)، (د)). ولا تكون الحراشف منبسطة بالكامل؛ إذ إن لديها نتوءات حول حوافها؛ حيث تتداخل مع جيرانها. إن سطحين منبسطين كبيرين و١٢ نتوءَ حَوَافَّ تجعل كل حرشف شكلًا صلبًا مكونًا من ١٤ جانبًا. يتشابه هذا تمامًا مع شكلِ أصغرِ مساحةِ سطحٍ تتخذه الفقاعات في رغوة ثابتة. يوضح هذا أن شكل الخلايا يتبع قوانين الفيزياء؛ مما يضمن أقصى تغطية للسطح مع أقل استخدام للمادة لكل حرشفة. ويضمن هذا الترتيب أيضًا أن الخلايا الموجودة في الجزء العلوي تنفصل عن الجلد كخلايا فردية؛ لأن كل خلية تستطيع الانفصال فقط عندما تختفي كل خلاياها المجاورة الست، وتكون كل جوانبها الستة حرة (الشكل ٥-١(د)). إن فقدان الخلايا السطحية واحدة في كل مرة يحافظ على السماكة الكلية المنتظمة دون حدوث شقٍّ قد يسمح للبكتيريا بالاختراق بدرجة أعمق. والحواف الحادة والهندسة الفراغية ليستا أول ما نربطه بالخلايا، لكنهما أفضل سبيل للحفاظ على سلامة الأسطح الخارجية، وهما نتيجة للجمع بين الانتقاء الطبيعي وقوانين الفيزياء.
في حين يوفر الجلد مانعًا لنفاذ الماء فائقَ الفاعلية وحاجزًا ميكانيكيًّا للبيئة الخارجية، فإن هذين العاملين هما بالضبط عكس المطلوب من ظهارة الأمعاء؛ حيث نحتاج إلى تحسين امتصاص المواد الغذائية، وفي نفس الوقت منْع امتصاص أي شيء قد يكون ضارًّا. يخضع أيُّ شيء نبتلعه لرحلة تقدر بنحو ٣٠ مترًا في فترة قدرها ٣٥ ساعة. يتعرض الطعام المبتلَع أولًا لبيئة شديدة الحمضية في المعدة، ثم لإنزيمات قوية في الأمعاء الدقيقة، ثم امتصاص السوائل في الأمعاء الغليظة والإخراج الأخير للفضلات. سنركز على الأمعاء الدقيقة؛ حيث تُمتص معظم المواد الغذائية. هنا، وفي تناقض كامل مع الطبقات المتعددة للخلايا التي تكوِّن حاجز الجلد، تكوِّن الخلايا طبقةً سُمكُها خلية واحدة فقط توجد مباشرة أعلى شبكة من الأوعية الدموية الرفيعة (الشعيرات الدموية)، التي تمتص المواد الغذائية مباشرة إلى مجرى الدم. إنَّ ما يحرس هذا الحاجز الذي يبلغ سمكه خلية واحدة ويمنع دخول البكتيريا التي تعيش بالأمعاء إلى مجرى الدم، هو النسيج الليمفاوي المرتبط بالأمعاء. ويُنتج هذا الجزء من الجهاز المناعي عددًا من الخلايا المناعية (لاحقًا في هذا الفصل) أكبر من أي مكان آخر في الجسم، في مناطق خاصة تسمى العقد الليمفاوية المجمعة التي تتفاعل مع أي تهديد محتمل في محتويات الأمعاء (الشكل ٥-٢(أ)). وهذا جزء مهم للغاية من جهازنا الهضمي؛ حيث يوجد نحو ١٠٠٠ نوع مختلف من البكتيريا في أمعائنا تزيد مجتمعة عن العدد الإجمالي للخلايا في جسمنا بنحو ١٠٠٠ مرة. وأغلب بكتيريا الأمعاء غير ضارة، بل ربما تكون نافعة ويتحملها النظام المناعي القوي الموجود في الأمعاء. عندما نتناول سهوًا كائنات ضارة، تتعامل معها أعداد كبيرة من الخلايا أحادية النواة التي تحفَّز بواسطة المستضدات الموجودة بالفعل في الأمعاء، والتي تبقي الأمعاءَ في حالة من الاستعداد الدفاعي الذي يسمى «الالتهاب الفسيولوجي». في أغلب الأحيان، وبعد عدة أيام من الأعراض السيئة، تعود الأمور لطبيعتها. إذن، هناك توازن دقيق بين التحمل والمناعة. والتفاعل المفرط من جانب الآليات الدفاعية المناعية الخاصة بنا تؤدي إلى حالاتِ حساسية وعدم تحمل لأنواع من الأطعمة أو حالات أكثر خطورة؛ مثل القُولُون العصبي أو المرض البطني.
fig14
شكل ٥-٢: نسيج طلائي بالأمعاء (أ) منظر سطحي لزغابات تحيط بثلاث عقد ليمفاوية مجمعة تشبه القبة. (ب) زغابة مشقوقة توضح سمكَها البالغ قدره خلية واحدة. (ﺟ) قطاع عبر زغيبة، يوضح طبقتين من الغشاء والخيوط الأكتينية الداخلية. (د) منظر سطحي وجانبي لإحدى الزغيبات.

تسمى الغالبية العظمى من الخلايا المبطنة للأمعاء الدقيقة الخلايا المعوية، على الرغم من أن هناك العديد من أنواع الخلايا الأخرى التي تؤدي وظائف مهمة. فالخلايا الكأسية تفرز المخاط الذي يغطي سطح الأمعاء الدقيقة بأكملها. وخلايا بانيت توجد في الغدد المعوية الطلائية (التي سنعرضها بتفصيل أكبر لاحقًا) وتفرز مجموعة متنوعة من الإنزيمات المضادة للميكروبات. ومن دون الوظيفة الامتصاصية للأمعاء الدقيقة، كنا سنموت جوعًا في وقت قصير، ومن دون الحاجز المضاد للميكروبات، كنا سنموت سريعًا بسبب العدوى.

من أجل زيادة المساحة السطحية المتاحة للامتصاص إلى أقصى حد، تنظَّم بطانة الأمعاء تنظيمًا دقيقًا في نتوءات إصبعية الشكل تسمى الزغابات المعوية، وكلٌّ منها مكوَّن من نحو ٢٠٠٠ خلية (الشكل ٥-٢). وكل خلية في الزغابة لها سطح لمعي مكون من زغيبات (الشكل ٥-٢(ﺟ) و(د)) مدعمة بِلُبٍّ مركزي من خيوط الأكتين؛ مما يؤدي إلى تكوين «الحافة الفرشاة». يزيد كل هذا من مساحة الامتصاص في الأمعاء الدقيقة لتصبح أشبه بملعب كرة قدم كامل. ويحدث امتصاص محتويات الأمعاء عبر الحافة الفرشاة للخلايا المعوية، ثم تنتشر عبر جدران الشعيرات الدموية وعبر مجرى الدم. إن كل هذا النشاط الأيضي المسْتَعِر إلى جانب التعرض للتهديد المستمر للغزو البكتيري، يؤدي إلى قِصر حياة الخلايا المعوية؛ حيث لا تعيش أيٌّ منها أكثر من يومين أو ثلاثة قبل أن تُستبدَل. ويأتي إمداد الخلايا المعوية الجديدة من انغلافات تشبه الجيوب الصغيرة توجد في قاعدة الزغابات، وتسمى الغدد المعوية. لكل زغابة غدد معوية تبلغ من ٥ إلى ١٠؛ حيث تنقسم الخلايا الطليعية بمعدل ينتج نحو ١٤٠٠ خلية يوميًّا. وتنتقل الخلايا المعوية الجديدة هذه أعلى الزغابة؛ حيث — بعد أن تمتص بشكل مفيد المواد الغذائية لمدة يومين — يتم إحلالها بمعدل واحدة كل دقيقة. وهذا الاستبدال المستمر (طوال الحياة) للخلايا يُسفر عن إنتاج هائل يكافئ سنويًّا وزن الجسم نحو ثلاث مرات (وذلك كما اتضح من خلال فحص الفئران). ما زالت الآليات المحدَّدة لتلك الهجرة الجماعية غير معروفة، وإن كانت هناك نظريات عديدة، بما في ذلك فكرة الضغط المتولد عن انقسام الخلايا في الغدد المعوية الذي يجبر الخلايا على الحركة لأعلى. أو ربما تتحرك الخلايا لأعلى عبر الغشاء القاعدي بنفس الطريقة التي تحدث بها عملية الانتقال في أي مكان آخر. بعد انقضاء الحياة القصيرة (لكنها مفيدة) للخلايا المعوية أعلى الزغابة، فإنها تفقد ارتباطها بالغشاء القاعدي؛ حيث تُطرَد الخلايا المنفصلة بواسطة حشد من الخلايا المحيطة بشكل يشبه إمساك قطعة من الصابون والضغط عليها قبل أن تنزلق من بين أيدينا.

(٢) خلايا الدم

يصنَّف الدم على أنه نسيج ضامٌّ (مثل العظام)، لكن مادته البيخلوية سائلة وليست صلبة. ينقل هذا السائل المواد الغذائية ويتخلص من الفضلات الموجودة في جسم الحيوان. عادةً ما يكون للحشرات والقشريات «دم» أصفر أو أخضر؛ إذ إنها تمتص الأكسجين مباشرة إلى أنسجتها بواسطة أنابيب صغيرة عبر أجسامها؛ ودماؤها ينقصها البروتين الأحمر الحامل للأكسجين الخاص بنا الذي يسمى الهيموجلوبين.

fig15
شكل ٥-٣: كرات الدم الحمراء (أ) خلايا متكونة حديثًا في النخاع العظمي، تدخل مجرى الدم عند الجيب الوريدي المركزي. (ب) كرة دم حمراء نامية تفقد نواتها الكروية. (ﺟ) مجموعة من كرات الدم الحمراء النامية على سطح خلية بالعة. (د) صفائح دموية تكوِّن زوائد طويلة لإحداث تجلط دموي. (ﻫ) كرات دم بيضاء في نخاع عظمي مستنبَت.
يتكون الدم من مجموعة من أنواع الخلايا (الكرات) المختلفة التي تُنتَج باستمرار من عدد صغير من الخلايا الجذعية (الخلايا القادرة على التحول إلى أنواع متعددة من الخلايا). وقد كان فهمنا لكيفية تطور خلايا الدم نموذجًا لفهم العديد من نظم الأنسجة الأخرى. في الثدييات البالغة، توجد خلايا الدم الجذعية في النخاع العظمي (الشكل ٥-٣)، وتتميز بانقسام «ذاتي التجديد»، وفيه يبقى نصف خلاياه الوليدة كخلايا جذعية، في حين يصبح النصف الآخر خلايا سلفية. وتنقسم الخلايا السلفية هذه عدة آلاف من المرات، وتقوم تدريجيًّا بعملية تَمايز تُغير الكيمياء الحيوية والشكل والحجم، حتى تتكون في النهاية خلية دم ناضحة. ويتغير موقع تكوُّن خلايا الدم البشرية طوال الحياة. ففي الأجنَّة، تتكون تلك الخلايا في تجمعات من خلايا الدم في الكيس المُحِّيِّ (تسمى الجُزر الدموية). ومع استمرار النمو، ينتج الدم في الطحال والكبد والعقد الليمفاوية. وعندما تنمو العظام، يبدأ إنتاج الدم في نخاع العظام الطويلة الصغيرة (الفخذ وقصبة الساق)، لكن في البالغين، تتحرك في نخاع الحوض وعظام الصدر. تُنتج الأجسام البشرية نحو ١٥٠ مليار خلية دم جديدة في الساعة، وأغلبها عبارة عن كرات دم حمراء تحمل الأكسجين عبر الجسم. وتتطور كرات الدم الحمراء غير الناضجة إلى مرحلتها الأخيرة — كراتِ الدم الحمراء — بفعل تأثير عامل نمو بروتيني (الإريثروبويتين) يحوِّل إنتاجها البروتيني إلى جزيْئَي بروتين الجلوبين المطلوبينِ لتكوين الهيموجلوبين (الشكل ٥-٣(ب) و(ﺟ)). تعيش كرات الدم الحمراء نحو ١٠٠ يوم في الجسم. إذا كنت تعيش أو تتدرب في مكان مرتفع تتناقص فيه مستويات الأكسجين، يتم تحفيز إنتاج الإريثروبويتين، ويحتوي دَمُكَ على المزيد من كرات الدم الحمراء. ومن أكبر التحديات التي تواجه اللعب «النظيف» في الرياضة، قدرة العلماء على اكتشاف كون الرياضي قد حصل على ميزة زائدة عن زملائه عن طريق تناول الإريثروبويتين بشكل اصطناعي لدعم أدائه.

(٣) الخلايا المحاربة والمدافعة

لقد تطورت خلايا متخصصة لحماية الكائنات متعددة الخلايا من هجوم البكتيريا والفيروسات والطفيليات. وتقوم كرات الدم البيضاء بتلك الوظائف الدفاعية والهجومية داخل الجسم. تتكون تلك الكرات في النخاع العظمي، لكن بعضها ينتقل للطحال والغدة الزعترية والغدد الليمفاوية؛ حيث يحدث لها التمايز النهائي. إن أوقات الاستجابة الخاصة بإنتاج كرات الدم البيضاء مثيرة للدهشة، فعلى سبيل المثال، إذا أصِبْنا بالأنفلونزا، يمكن أن يزيد إنتاجنا لكرات الدم البيضاء ثلاثة أضعاف خلال ساعات من العدوى. وقد أدى فهم كيفية حماية الخلايا المناعية الدموية هذه للجسم من العدوى إلى ظهور مجال مهم من العلوم الطبية الحيوية، يسمى علم المناعة.

أهم خلايا النظام المناعي هي الخلايا الليمفاوية أو الخلايا التائية (وسميت هكذا؛ لأن تلك الخلايا تنضج في الغدة الزعترية — بالإنجليزية: thymus)، والخلايا البائية (وسميت هكذا نسبة لجراب فابريشس — بالإنجليزية: Bursa of Fabricius — وهو العضو الذي تنضج فيه تلك الخلايا في الطيور، أما في الحيوانات الأخرى، فتنمو الخلية البائية في النخاع العظمي) (الشكل ٥-٣(أ)). تنقسم الخلايا التائية بعد ذلك إلى فئات متعددة — خلايا ذاكرة ومساعدة وقاتلة ومنظمة أو كابحة. تحمل خلايا الذاكرة التائية المعلومات عن المواد الضارة والعدوى الحيوية (المعروفة بالمستضدات أو مولدات الأجسام المضادة) لفترة طويلة بعد مقاومة الجسم للعدوى، ويمكن أن تحفَّز بواسطة اللقاحات. وعادة ما تعيش هذه الخلايا طوال حياة الإنسان وهي تراقب باستمرار وجود مستضدات خاصة بأنواع من العدوى. وعند إعادة تعرضها لهذا المستضد، تنقسم خلايا الذاكرة التائية سريعًا، وتعطي إشارة للجهاز المناعي بوجود مشكلة عن طريق بروتينات على سطحها الخلوي. ونظرًا للأعداد الهائلة من تسلسلات المستضدات المحتملة التي يمكن أن تكون صغيرة، كاثْنين أو ثلاثة من الأحماض الأمينية المتوالية في بروتين أو جزيء سكري معدل كيميائيًّا، أو حتى في شكل بروتين؛ فهناك الملايين من خلايا الذاكرة التائية المختلفة.

تعد الخلايا التائية المنظمة مهمة في عمليةٍ تُعرَف بالتحمل المناعي، وفيها تُثبَّط الخلايا التائية النشطة إذا اعتبرت خطأً أن أحد بروتينات الجسم هو جسم غريب، وذلك بعد استجابة مناعية. أما عن الخلايا التائية المساعِدة، فإنها تحفِّز نمو الخلايا المناعية الأخرى. وإذا كانت أنواع الخلايا التائية الأخرى أشبه بالدبلوماسيين والقادة العسكريين في الجهاز المناعي، فإن الخلايا التائية القاتلة أشبه بجنود المشاة. فهي تحدد الخلايا المصابة بفيروس أَو ورم وتقتلها بحقنها ببروتينات تؤدي إلى موتها.

تنتج الخلايا البائية الناضجة بروتينات معقدة تسمى البروتينات المناعية التي تتجمع معًا لتكوين أجسام مضادة، يكون كلٌّ منها قادرًا على الارتباط بتركيب جزيئي محدد. يتكون المخزون الهائل بالضرورة للأجسام المضادة عن طريق دمج أجزاء منفصلة من الجينات البروتينية المناعية الكبيرة معًا لتكوين بروتينات مناعية ذات مواضع نشطة مختلفة، يكون كلٌّ منها قادرًا على الارتباط بمستضد محدد واحد (جزء واحد صغير من تركيب سكري أو بروتيني).

المجموعة الرئيسية الأخرى من كرات الدم البيضاء هي الخلايا النخاعية، وهي أكثر تنوعًا في تركيبها من الخلايا التائية والبائية، وتتكون من الخلايا الحبيبية والخلايا النوَّاء والخلايا البالعة، وكلها لها دور في المناعة والتخلص من المواد الحيوية الغريبة عبر آليات مختلفة من الآليات الخاصة بالخلايا التائية والبائية. فالخلايا الحبيبية التي تحتوي على حبيبات تنقسم إلى الخلايا العَدِلة والخلايا الحمضة والخلايا القاعدية. يحتوي لتر واحد من الدم البشري على نحو ٥ مليارات من الخلايا العدلة (نحو نصف مجموع كرات الدم البيضاء). إذا حصلت الخلايا العدلة على إشارة من مكان به جرح، فإنها تأخذ نحو ٣٠ دقيقة حتى تترك الدم وتصل إلى مكان العدوى المحتمل. فهذه الخلايا من الخلايا القاتلة المهمة؛ إذ إنها تبتلع بضراوة البكتيريا المهاجمة التي استهدفها جسم مضاد ثم تهضمها. وما إن تُنهي مهمتها حتى تتحول إلى خلايا صديدية. أما عن الخلايا الحمضة الأقل وجودًا (يرجع اسمها إلى رد فعلها «المحب للحمض» للصبغات الكيميائية)، فهي مسئولة عن تدمير الطفيليات عن طريق حقنها بفوق أكسيد الهيدروجين (الذي يستخدم عمومًا كمادة مبيضة للشعر وكمطهر). لحسن الحظ، يمكن أن تعيش الخلايا الحمضة في الدورة الدموية فقط لعدد قليل من الساعات عند تنشيطها. وهي تعمل كوسيط في إحداث تفاعلات الحساسية، وتكون نشطة عند الإصابة بالربو. ولها دور أيضًا في العديد من العمليات الحيوية الأخرى، بما في ذلك رفض الجسم للخلايا الجديدة والسرطان. أما عن الخلايا القاعدية (التي تتفاعل مع الصبغات الكيميائية القلوية)، فتوجد بأعداد كبيرة في الموقع الذي يوجد فيه عدوى من الطفيليات؛ على سبيل المثال، القراد. لوحظت الخلايا البدينة لأول مرة على يد باول إيرليخ في أواخر القرن التاسع عشر. وبسبب وجود حبيبات كبيرة فيها، ظهرت فكرة أن مهمة هذه الخلايا هي تغذية الخلايا المحيطة، ولذلك سماها إيرليخ بالخلايا البدينة. تحتوي حبيبات هذه الخلايا على الهيستامين، الذي عند إفرازه يثير تفاعلاتِ حساسية مثل حمَّى القش.

الخلايا النوَّاء أكبر بعشر مرات من كرات الدم الحمراء، وتنتج كلٌّ منها أعدادًا كبيرة من الصفيحات الصغيرة المسئولة عن تجلط الدم، وهي تمثل عادةً ٠٫٠٠١٪ من خلايا النخاع العظمي. ومع نضجها يحدث تناسخ ﻟﻠ «دي إن إيه» عدة مرات لكن الخلية لا تنقسم، وهي حالة تسمى تعدد الصيغ الكروموسومية التي تؤدي إلى زيادة حجم الخلايا. لدى بعض الخلايا العديد من نسخ «دي إن إيه» تصل حتى ٦٤ نسخة (الخلية الطبيعية لها نسختان منه فقط). عند هذه المرحلة تنضج الخلية وتُنتج، استجابةً للهرمون البروتيني الثرومبوبويتين، أجسامًا تسمى «طليعة الصفيحات». يحدث «انفجار» متحكم فيه في الخلية النوَّاء بالكامل؛ مما يؤدي إلى تجزئتها إلى بضعة آلاف من الصفائح الدموية الصغيرة التي توجد عادةً في شكل أشرطة في الأوعية الدموية. ويُنتج الإنسان مليار صفيحة يوميًّا تعيش كلٌّ منها لمدة تتراوح من ٤ إلى ٥ ساعات. وتتجمع الصفيحات (وهي الخلايا الوحيدة بالإضافة إلى كرات الدم الحمراء التي لا توجد فيها نواة) ككتل في بطانة الخلايا البطانية لمنع فقدان الدم من الأوعية الدموية التالفة. وبعد تحفيزها للتجمع تغير من شكلها، فتمتد على هيئة نتوءات طويلة إصبعية الشكل يتداخل بعضها مع بعض (الشكل ٥-٣(د)). أما عن الخلايا النخاعية الأخرى، فهي خلايا كبيرة شبيهة بالأميبا تسمى الخلايا البالعة، ودورها تجميع الفضلات. فهي تمتص نفايات الخلايا والكائنات الممرضة وتبتلعها ككل (في عملية تسمى الابتلاع) قبل أن تحلل مكوناتها لإعادة استخدامها لاحقًا. يمكن لأي خلية بالعة عادية هضم ١٠٠ بكتيريا قبل أن تنفجر من كثرة ما تبتلعه. تُبتلَع المواد الغريبة بأكملها ويَحدث تحلل لأغشيتها بشكل كيميائي حيوي، منتجةً أجزاء بروتينية «غريبة» صغيرة (المستضدات)، وبعد ذلك تُنقَل إلى السطح الخارجي للخلية البالعة؛ حيث «تُقدَّم» للخلايا التائية. وما إن تتذكر الخلية التائية هذا التسلسل البروتيني حتى تنقسم سريعًا بفعل عامل نمو تنتجه الخلية البالعة.

بدا واضحًا من فحص أنواع الخلايا المناعية ووظائفها وآلياتها الجزيئية، خاصة في الثدييات، أنها كلها معقدة ومترابطة، وفي بعض الأحيان متكررة في الوظيفة. وهذا يسمح للجسم بتخليص نفسه من العدوى والتعامل مع معظم الخلايا الشاردة التي تمثل تهديدًا للكائن.

(٤) الاستجابة للعالم الخارجي

كيف تطورت الخلايا للتعامل مع المؤثرات الحيوية والكيميائية والبيئية الخارجية والاستجابة لها؟ لا غرابة في أن الخلايا تستجيب للعوامل البيئية من ضوء وجاذبية، وتستفيد منها. تطورت عملية التمثيل الضوئي منذ مليارات السنين من خلال أسلاف بكتيرية قديمة للبكتيريا الزرقاء الحديثة. ابتُلعت تلك الكائنات القادرة على القيام بالتمثيل الضوئي من جانب خلايا أولية لإنتاج البلاستيدات الخضراء؛ مما أدى إلى تطور النباتات. والتمثيل الضوئي عملية تتكون من مرحلتين تنطويان على الاحتفاظ الكيميائي بالطاقة الضوئية، ثم تحويلها إلى مواد معقدة كربونية أو متحدة مع الكربون مثل السكريات. ويمكن استخدام تلك الجزيئات السكرية من جانب النبات في النمو، لكنها أيضًا، إما بشكل مباشر أو غير مباشر، تعمل كمصدر للطعام لنمو كل الكائنات غير القادرة على القيام بعملية التمثيل الضوئي على كوكب الأرض. إن بكتيريا أعماق البحار وأيضًا النظم الكهفية الأرضية العميقة هي الخلايا الوحيدة التي تستطيع الحياة في الغياب الكامل لضوء الشمس؛ حيث تستخدم الحرارة الأرضية الداخلية أو البركانية كمصدر للطاقة، ولها كيمياء حيوية معتمدة على الكبريت بدلًا من الأكسجين. ومع اكتشافنا المزيد عن العمليات التي حدثت في مليارات السنين الأولى من تاريخ الأرض، يبدو أن كل البكتيريا قد استطاعت البقاء في غياب الأكسجين. ومع انخفاض درجة الحرارة فيما بين المليار الثالث والرابع من عمر التاريخ، استطاعت البكتيريا البحرية استخدام ثاني أكسيد الكربون في المحيطات التي يصل إليها ضوء الشمس لإنتاج الأكسجين والكربوهيدرات المعقدة. وقد حدثت زيادة محتوى الأكسجين في الغلاف الجوي في مراحل متعددة، بدءًا بحدوث زيادة كبيرة منذ نحو ٢٫٥ مليار سنة، ويطلق عليها «حدث الأكسدة العظيم»، مع أنها حدثت فقط بعد زيادات أخرى بعد ذوبان ما يسمى بالأنهار الجليدية ﻟ «كرة الأرض الثلجية»، بحيث أصبحت مستويات الأكسجين كافية لبقاء الحيوانات متعددة الخلايا. وقد توافرت الظروف الكيميائية الملائمة لغالبية أشكال الحياة المعقدة منذ نحو ٦٠٠ مليون سنة، وهو حدث ربما يُعَدُّ من أهم التغيرات التي حدثت على الأرض.

تستجيب كل الكائنات الحية للضوء (الانتحاء الضوئي) والجاذبية (الانتحاء الأرضي). عادةً ما تنمو الأجزاء العلوية من النباتات بعيدًا عن الجاذبية وتجاه الضوء. وقد تأكد تأثير قوة الجاذبية الخاصة بالأرض على النباتات، عندما نَمَتْ الطحالب التي زُرعت على محطة الفضاء الدولية بشكل لولبي، بدلًا من تركيبها المستقيم الطبيعي. تعتمد آلية التحكم في النمو في النباتات العليا على وجود جسيمات كثيفة صغيرة مليئة بالنشا (البلاستيدات النشوية) وهي التي وُجدت تتحرك بِحُرية داخل سيتوبلازم خلايا تخصيصية تسمى خلايا استشعار الجاذبية. وتوجد تلك الخلايا في رأس الجذر والطبقة الباطنية للبراعم. وعادةً ما تجذب الجاذبية تلك الجسيمات لأسفل في الخلية، ولكن في ظروف الجاذبية متناهية الصغر في الفضاء، «تطفو» وتفشل في إنتاج نمط النمو المعتاد. ويُعتقد أن الترسب الطبيعي للبلاستيدات النشوية داخل الشبكة الهيكلية الخلوية لخيوط الأكتين الدقيقة ينشِّط مسار الإشارات الجزيئية، الذي يؤدي لإعادة توزيع هرمون الأوكسين النباتي. يتسم تغيير مستويات الأوكسين داخل الخلايا بالتعقيد؛ إذ يمكن أن يحفز استطالة الخلايا في البرعم لكنه يثبطه في الجذر.

(٥) عمل الخلايا معًا

يمكن أن نعرف الكثير عن كيفية عمل الخلايا معًا عن طريق دراسة الحيوانات البسيطة مثل كينورهابدايتس إيليجانس، وهي دودة مستديرة في حجم الفاصلة (من علامات الترقيم)، وطولها أقل من ملِّيمتر واحد. ربما قال عنها أستاذ علم أحياء النمو لويس وولبرت: «أكثر الحيوانات التي يمكن تخيلها إثارة للملل.» لكن شعبة الديدان الخيطية التي تنتمي إليها هذه الدودة ربما تمثل ٨٠٪ (رقميًّا) من الحيوانات في العالم. وعلى الرغم من أنها لا تمتلك دماغًا، فإن لديها نظامًا عصبيًّا بسيطًا وآلية اهتزاز وقناة هضمية وقدرة على وضع البيض. وكما ذكرنا في الفصل السابق، تبدأ الحياة بخلايا عددها ١٠٩٠ خلية، لكن تموت ١٣١ منها من خلال عملية الاستماتة أثناء النمو. ويعيش أعضاء تلك الشعبة داخل التربة، وتتغذى على البكتيريا وتتكاثر عادةً كخنثى، وذلك بالإنتاج المتعاقب للحيوانات المنوية ثم البويضات (هناك دودة واحدة ذَكَر من كل ٢٠٠٠ دودة). بالنظر لحجمها، تشتمل دودة كينورهابدايتس إيليجانس بشكل مثير للدهشة على عدد كبير من الجينات؛ نحو ٢٠ ألفًا (الإنسان لديه نحو ٢٤ ألفًا). والكثير من جيناتها مَعْنِيَّة بعملية انقسام الخلايا ٥٠٪ منها تشترك فيه مع ثمرة الموز. كما أن ثلثها له مثيل مباشر في الإنسان. كيف يمكن أن نفسر وجود هذا العدد الكبير من الجينات في كائن بسيط كهذا؟ أحد الافتراضات أن هناك عددًا مهولًا من جينات المستقبلات الكيميائية؛ مما يسمح للدودة بالاكتشاف الفعال للعديد من الروائح المختلفة عند اصطياد طعامها من البكتيريا. توجد الديدان الخيطية في كل مناخ ونوع تربة يمكن تخيله. وكي تبقى في هذه البيئات شديدة الاختلاف، فقد تطورت، وذلك بتجميع المزيد من الجينات الخاصة بالحماية أو التكيف، كي تسمح لها بالبقاء في ظل التحديات التي تفرضها كل الأنواع المختلفة التي تتغذى عليها من البكتيريا والفطريات وغيرها من أنواع الميكروبات الموجودة بالتربة. خضع نمو دودة كينورهابدايتس إيليجانس للدراسة بالكامل أكثر من أي كائن متعدد الخلايا آخر، ويرجع الفضل في ذلك إلى العمل الحائز على جائزة نوبل الذي قام به سيدني برينر وفريقه، ونحن نعرف الآن بدقة كيف تتطور الخلايا وتعمل معًا، بما في ذلك كيفية اتصال كل الخلايا العصبية البالغ عددها ٣٠٢ خلية معًا.

إذا تحركنا للأعلى على مقياس التطور، فسنجد أن نمو خلايا ذبابة الفاكهة سوداء البطن قد خضع أيضًا للدراسة الدقيقة. ففي غضون ثلاث ساعات من التلقيح، تبدأ خلايا الجنين في إظهار أولى علامات التمايز المرئية، ويعتمد الكائن أو النسيج الذي ينمو على المكان الدقيق لكل خلية. وقد رُصدت بدقة الكيفية الدقيقة لنمو الأعضاء والأنسجة المختلفة من الجنين، بما في ذلك الدماغ والدم والأنسجة الدهنية والصدر وشبكية العينين. فمن خلال جيناتها المحددة بدقة كبيرة، ساعدَنا هذا الكائن النموذجي أن نفهم على وجه الدقة تخطيط بطانة خلايا الحشرة بأكملها. وفي الفصل التالي سنعرض لكيفية نمو هذه الخلايا المأخوذة من الجنين لتصبح الخلايا البالغة الموجودة في جسم أي كائن.

(٦) الجهاز العصبي

لدى معظم الكائنات آلية حركة لإيجاد الغذاء أو الهروب من الخطر. والسوط البسيط في أي نوع من البكتيريا يسمح له بالسباحة، في حين أن الحشرات والأسماك والثدييات لديها مجموعات معقدة ومترابطة من العضلات والأوتار والأعصاب التي يمكن أن تحرك الجسم بالكامل بسرعة ورشاقة مذهلتين. ويبدأ الشعور بالمثيرات الخارجية والاستجابة لها بواسطة شبكة من الخلايا العصبية. إن الديدان الخيطية ليس لديها دماغ، لكن لديها مجموعة مترابطة من الخلايا العصبية سريعة الاستجابة، تقوم بوظيفة مماثلة للتنظيم بالغ التعقيد للدماغ والجهاز العصبي البشري.

يحتوي الدماغ البشري على نحو ١٠ مليارات خلية عصبية. تكوِّن كل خلية ارتباطات مع آلاف الخلايا الأخرى؛ مما يسمح للدماغ بتخزين ونقل المعلومات، وذلك بنقل الإشارات الكهربائية داخل الخلية والإشارات الكيميائية (الناقلات العصبية) بين الخلايا في شبكة معقدة تمتد عبر الجسم. وهناك ملايين من الخلايا العصبية الحسية بها مستقبلات تحوِّل المثيرات من البيئة (الضوء واللمس والصوت والرائحة) إلى إشارات كهربائية تنقل للدماغ. أيضًا ترسل خلايا عصبية حركية أخرى معلومات من الدماغ إلى العضلات والغدد المفرزة للهرمونات. تنقل الخلايا العصبية الوسيطة المعلومات بين الخلايا العصبية الحسية والحركية. وللخلايا العصبية نتوءات متخصصة تسمى التفرعات العصبية والمحاور. وتجلب التفرعاتُ العصبية المعلوماتِ لجسم الخلايا، في حين تأخذ المحاور المعلومات من جسم الخلايا. وتمتد المحاور لمسافات طويلة، وتكون محاطة بتركيب متخصص يسمى الغمد النخاعي المكون من خلايا تَلُفُّ المحور بطبقات متعددة من الغشاء. وهذا الغمد يعمل كمادة عازلة لتسهيل مرور النبضات العصبية وعزل المحور العصبي من التداخل الخارجي. والتشابكات العصبية هي نقاط الاتصال بين الخلايا؛ حيث تنتقل الإشارات الكيميائية أو الكهربائية. وتعد الخلايا العصبية أطول الخلايا وأكثرها عمرًا. فالخلايا العصبية القشرية النخاعية (التي تربط بين القشرة الحركية والنخاع الشوكي)، والخلايا العصبية الداخلة الأولية (التي تمتد من الأعضاء مثل الجلد والأمعاء إلى النخاع الشوكي، وحتى جذع الدماغ)؛ يمكن أن يصل طولها لعدة أقدام. وتعيش الخلايا العصبية طوال عمر الإنسان، لكن أعدادها تتناقص بمرور العمر. والخلايا الدبقية وثيقة الارتباط بكل الخلايا العصبية؛ حيث تؤدي دورًا في الحماية والتغذية. ولا يمكن فهم الوظائف المعقدة للرؤية والوعي والذاكرة على المستوى الخلوي فقط، ولكن فقط من خلال التفاعلات بين مليارات الخلايا، وهو أمر ربما يُعدُّ من أكثر الخواص المنبثقة تطرفًا في علم الأحياء. وقد توفرت رؤًى متعددةٌ في هذا المجال من خلال الدراسة المستمرة للجهاز العصبي في الديدان الخيطية وذبابة الفاكهة وغيرها من الكائنات البسيطة التي، بمرور الوقت، ستُظهر لنا كيف يعمل دماغنا.

(٧) التغير الخلوي

بمرور الوقت، تجمِّع كل الخلايا تغيرات جينية تضاف إلى تسلسل اﻟ «دي إن إيه» الخاص بها. وعادةً ما تكون تلك التغيرات نتيجة لتلف بسبب التعرض للإشعاع (الأشعة فوق البنفسجية والأشعة الكونية والنشاط الإشعاعي)، أو التعرض لمستويات قليلة من المواد الكيميائية السامة. ومع حدوثها بشكل عشوائي، فإن غالبيتها لن تؤثر على ٢٪ من اﻟ «دي إن إيه» (النشط وراثيًّا) الذي يقوم بالتشفير للجينات، ومن ثم لا يكون لها تأثير كبير على الكائن. وقد تحدث الطفرات النادرة الأخرى التي قد تَنتج عنها تكيفات مفيدة من خلال تغيُّر الأحماض الأمينية الفردية لبروتين معين. ويمكن أن يعدِّل هذا من التركيب ثلاثي الأبعاد للبروتين الذي يمكن أن يزيد نشاطه الطبيعي أو يقلله أو يبطله. ويمكن أن ينتج عن التغيرات الأخرى حذف كامل أو جزئي للجينات (بما في ذلك تسلسلات التحكم في الجينات) أو نقصان أو مضاعفة أعداد الجينات؛ مما يؤدي إلى احتمال وجود كميات أكثر أو أقل من بروتين معين. وفي حالات نادرة، قد ينتج عن حدوث تغيير كبير في ترتيب اﻟ «دي إن إيه» في النواة ظهور جين مهجَّن جديد تمامًا. وهذه آلية تطور في أبسط صورها، وإذا أثرت تلك التغيرات الجينية بشكل عكسي على كائن وحيد الخلية، فسيؤدي ذلك إلى موته. وإذا كانت سمة إيجابية، فستنتقل إلى الأجيال التالية وتثبت في النهاية.

تتعرض الكائنات متعددة الخلايا لنفس الضغط التطوري من خلال تغيرات اﻟ «دي إن إيه»، لكن كل نسيج أو عضو به مليارات الخلايا، وفي أي لحظة ستكون نسبة منها فقط معرضة لاعتلال أو تغير جيني يؤدي إلى الإصابة بمرض ما. على سبيل المثال، إذا أدى مثل هذا التغير إلى زيادة معدل انقسام الخلايا، فبمرور الوقت ستنمو تلك الخلايا في نهاية الأمر بشكل مفرط مقارنةً بنظرائها من الخلايا الطبيعية (وذلك كما نرى في نمو الأورام). يعتمد التكيف على حدوث تغيرات أكثر دقة في خلايا معينة للاستجابة للتغيرات البيئية. وداخل الجينوم المعقد لمعظم الكائنات، هناك سبل متعددة بديلة للبروتينات يمكن أن تساعد الخلية الفردية في البقاء بعد التعرض لمجموعة متنوعة من عوامل الاعتلال؛ على سبيل المثال التعرض للإشعاع أو المواد الكيميائية السامة أو الحرارة أو نقص أو فرط الأكسجين. وعادةً ما يتم هذا بإصلاح التلف أو إبطاء عمل آلية نمو الخلايا، انتظارًا لاختفاء العامل المسبب للاعتلال. وقد تَطور العديد من سبل الاستجابة الكيميائية الحيوية هذه عن تلك الموجودة في جينومات الكائنات وحيدة الخلية التي ينحدر تكوينها الجيني من ماضٍ سحيق؛ حيث كان مناخ الأرض متطرفًا جدًّا. وفي بعض الأحيان لا يكون بإمكان الخلايا إصلاح التلف، وتموت من خلال عملية الاستماتة (كما أوضحنا في الفصل السابق). وبمرور الوقت تزيد الطفرات الضارة، ويصعب على الكائن التأقلم مع عواقبها. فإذا نتج عن تلك الأخطاء فشل نسيج أو عضو في القيام بمهامه، فإن هذا يعجِّل بموت الكائن. ويحدث اختفاء لجنس بأكمله إذا فشلت غالبية أفراده في التكيف. إن فكرة أن التغيرات التي تحدث في «الخلية» هي القوة الدافعة لعملية التطور تعدُّ مجرد تخمين؛ إذ إن جسم الديناصورات له نفس مكوناتنا البنائية، غير أنها اختلفت بشكل غريب، بعد تسوُّدها للأرض لفترة أطول بكثير منَّا؛ إذ إننا ظهرنا منذ ١٠ آلاف سنة فقط. يبدو أن الهيكل غير المنتظم بشكل متزايد للخواص المنبثقة الناتجة عن تجمع الخلايا لتكوين أنسجة، والأنسجة لتكوين أعضاء، والأعضاء لتكوين كائنات؛ في حد ذاته يجعل المنتج النهائي أكثر حساسية بشكل كبير للتغير البيئي المفاجئ من مكوناته البنائية الأساسية الفردية. ففي النهاية، نحن نعرف أن الخلايا الفردية (الحيوانات المنوية والبويضات) يمكن تجميدها بنجاح لعدة عقود، في حين أن الأفراد الذين يقومون بتجميد أجسادهم (أو ربما رءوسهم) على أمل العيش في المستقبل يضيعون أموالهم هباءً.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤