الفصل الأول

تصوير الإسلام في الأخبار

أولًا: الإسلام والغرب

عندما أرادت شركة إديسون المتحدة بنيويورك (شركة كون إيد) أن تُقْنع الأمريكيين بضرورة توفير مصادرَ بديلةٍ للطاقة، أذاعت إعلانًا تلفزيونيًّا مثيرًا في صيف عام ۱۹۸۰م، يتضمن لقطاتٍ متحرِّكةً قديمة لبعض الشخصيات المعروفة في منظمة البلدان المُصدِّرة للنفط (أوبك) — مثل الدكتور أحمد زكي يماني، والعقيد معمَّر القذافي، وبعض الشخصيات العربية التي تلبس الزي العربي وإن تكن أقلَّ شهرة — ويمزج بينها، بالتناوب، وبين بعض اللقطات الثابتة الأخرى، إلى جانب لقطاتٍ لشخصيات أخرى ارتبطتْ أسماؤها بالنفط والإسلام مثل الخوميني، وعرفات، وحافظ الأسد. ولم يُشِر الإعلان إلى أيٍّ من هذه الشخصيات بأسمائها، ولكن المذيع قال بصوت المنذر المحذِّر إن «هؤلاء الرجال» يتحكمون في مصادر النفط الأمريكية. وكان صوت المذيع القادم من الخلفية ذا نبراتٍ وَقورة، ولم يُفصح عن أسماء «هؤلاء الرجال» ولا عن البلدان التي ينتمون إليها، بل ترك المشاهدين يشعرون بأن هذه الكوكبة من الأشرار الذكور قد أوقَعوا الأمريكيِّين في قبضةِ من يتلذَّذ بتعذيبهم دونما ضابطٍ أو رابط. وكان يكفي أن يظهر «هؤلاء الرجال» على النحو الذي ظهروا به في الصحف والتلفزيون حتى يعتريَ الأمريكيِّين مزيجٌ من مشاعر الغضب والاستياء والخوف. وكانت هذه المشاعر هي التي عمدت شركة «كون إيد» إلى إثارتها واستغلالها فورًا لأسباب تجارية محلية، تمامًا كما حدث قبل عام واحد، عندما ألحَّ ستيوارت أيزنستات، مستشار الرئيس كارتر للسياسات المحلية، على الرئيس أن «يتخذ خطوات قوية لحشد الأمة والالتفاف حول أزمةٍ حقيقية وتحديد عدوٍّ واضح لنا؛ منظمة أوبك».

ويتضمن إعلان شركة «كون إيد» عُنصرَين يُشكِّلان معًا موضوعَ هذا الكتاب. الأول هو، بطبيعة الحال، الإسلام، أو بعبارة أخرى صورةُ الإسلام في الغرب بصفةٍ عامة، وفي الولايات المتحدة بصفة خاصة. والثاني هو استخدام هذه الصورة في الغرب، وخصوصًا في الولايات المتحدة. وكما سوف نرى، يرتبط العنصران بعضُهما بالبعض ارتباطًا يكشف لنا في النهاية عن الكثير في الغرب وفي الولايات المتحدة، مثلما يكشف لنا، بوسائل أقلَّ وضوحًا وطرافة، عن بعض جوانب الإسلام. ولكن لِننظرْ في تاريخ العلاقات بين الإسلام والغرب المَسيحي قبل أن ننتقلَ إلى فحص المرحلة الراهنة.

منذ أواخر القرن الثامنَ عشر، على الأقل، وحتى يومنا هذا، وردود الأفعال الغربية الحديثة إزاء الإسلام يُسيطر عليها نمط تفكير تعرَّض للتبسيط بصورةٍ جذرية ما زلنا نستطيع أن نُطلق عليها صفة التفكير الاستشراقي. والأساس العام للفكر الاستشراقي يقوم على هيكل جغرافي ينمُّ عن خيال خصبٍ وإن كان يتَّسم بالاستقطاب الجوهري، إذ يُقسِّم العالم إلى قسمَين غير متساويين، أما القسم الأكبر «المختلف» فاسمه الشرق، وأما القسم الآخر، الذي يُعرف أيضًا باسم «عالمنا» فهو الغرب.1 ودائمًا ما تنشأ أمثالُ هذه التقسيمات عندما ينزع أحد المجتمعات (أو إحدى الثقافات) إلى تأمُّل مجتمعٍ آخرَ مختلف أو ثقافة أخرى مختلفة. لكن الطريف هنا هو أن الشرق، حتى مع اعتباره وباستمرارٍ أدنى مرتبةً من الغرب، دائمًا ما تمتع بما أضفاه الغربيون عليه من تفوُّق على الغرب في الحجم وفي القوة الهائلة الكامنة فيه (والتي عادةً ما توصَف بأنها هدَّامة). ولما كان الإسلام ينتمي في نظرهم دائمًا إلى الشرق، أصبح مصيرُه الخاص داخلَ هيكل الاستشراق العام هو أن ينظروا إليه في أول الأمر كما لو كان وحدةً متجانسة جامدة، ثم ينظروا إليه بعد ذلك بمشاعرَ بالغةِ الخصوصية من العداء والخوف معًا. ولا شكَّ أن لذلك أسبابَه الدينية والنفسية والسياسية الكثيرة، ولكن كل هذه الأسباب ترجع إلى إحساس الغرب بأن الإسلام لا يقتصرُ على كونه منافسًا قويًّا بل يُمثل كذلك تحديًا حديثَ العهد للمسيحية.
كان الغربيُّون يعتقدون في معظم فتراتِ العصور الوسطى وفي إبَّان مطلع عصر النهضة في أوروبا أن الإسلام دینٌ شيطانيٌّ يتضمن الرِّدَّة والتجديف والغموض2 ولم يكن يَعْنيهم أن المسلمين يعتبرون محمدًا نبيًّا لا إلهًا، وأما الذي كان يَعني المسيحيين فهو أن يصفوا محمدًا بأنه نبيٌّ كاذب، رجل يبذر بذورَ الشقاق، ويحبُّ الملاذَّ الحسية، ومنافق وعميل للشيطان. ولكن هذه النظرة إلى محمد لم تكن تقوم على أُسس العقيدة، إن شئنا الدقةَ في التعبير؛ فالأحداث الواقعية في العالم الحقيقي من حولهم جعلتْ من الإسلام قوةً سياسية جبَّارة، إذا ستمرَّت الجيوش والأساطيل البحرية الإسلامية العُظمى على مدى قرونٍ طويلة تُهدد أوروبا، وتُدمر مواقِعَها المتقدمة، وتستعمر أملاكها. وبدا لهم كأنما برزَت في الشرق صورةٌ أخرى للمسيحية، أكثر شبابًا ورجولةً وطاقة، فتسلَّحَت بعلوم اليونان القدماء، وتدعمَت بعقيدةٍ حربية بسيطة لا تعرف للخوف سبيلًا فانثنَت تبغي هدم المسيحية. واستمر الخوف مما أطلق الغربيون عليه اسم «الديانة المحمدية» حتى بعد أن تعرَّض عالم الإسلامُ لفترة من التدهور، وبدأت أوروبا عصر الرُّقيِّ والنهضة، ولما كان العالم الإسلامي أقربَ إلى أوروبا من أي دين غير مسيحي آخَر، فقد أدَّت مُجاورته لأوروبا في ذاتها إلى إثارة ذكرياتِ غزواته لأوروبا وتذكيرها دائمًا بقدرته الكامنة على إزعاج الغرب، المرةَ بعد المرة. أما حضارات الشرق الكبرى الأخرى — ومن بينها الهند والصين — فيُمكن اعتبارها منهزمةً ونائية؛ ومِن ثَم فهي ليست مصدرَ قلق مستمر، وبدا لهم أن الإسلام وحده هو الذي لم يستسلم تمامًا في أي يوم للغرب، وعندما بدا أن العالم الإسلامي يوشك أن يُكرر انتصاراته القديمةَ من جديد في أعقابِ الارتفاع الكبير في أسعار النفط في أوائل السبعينيَّات، سرى في جسد الغرب كلِّه ما يُشبه رجفة الرعب.

ثم جاء عام ۱۹۷۸م لتحتلَّ إيران قلبَ مسرح الأحداث وتتسبَّب في إحساس الأمريكيين بمشاعرَ مُتزايدة من القلق والتوتر. ولم يسبِقْ لبلدانٍ كثيرة تبعد هذه المسافة وتختلف ذلك الاختلافَ عن الولايات المتحدة أنْ شغَلَت الأمريكيِّين بمثل هذا العمق، ولم يحدث من قبل أن أحَسَّ الأمريكيون، فيما يبدو، بمِثل هذا الشلل، إذ بدا أنهم لا يستطيعون أن يَحولوا دون تتابعِ وقوع تلك الأحداث الدرامية المتوالية، بل ولم يتمكَّنوا في غِمار ذلك كلِّه من نسيانِ أو تناسي إيران؛ إذ كان ذلك البلد يمدُّ يدَه بتحدٍّ سافرٍ، فيما يبدو، وعلى مستويات كثيرة، ليؤثر في حياتهم. فلقد كانت إيران من كبار مُوَردي النفط في فترةٍ شحَّت فيها مواردُ الطاقة. وهي تقعُ في منطقةٍ شاع اعتبارها غيرَ مستقرةٍ وذاتَ أهمية استراتيجية حيوية، وكانت حليفًا مُهِمًّا، لكنها فقدَت نظامها الإمبراطوري، وجيشها، وقيمتها في الحسابات العالمية التي وضعَتها أمريكا في غضون عام واحد من الاضطرابات الثورية الصاخبة التي لم يسبق لها مثيلٌ تقريبًا، وعلى مثل هذا النطاق الهائل، منذ أكتوبر ۱۹۱۷م، وكان النظام الجديد الذي وصف نفسَه بالنظام الإسلامي، ويتمتَّع بشعبية ويتَّسم بعَدائه للإمبريالية، فيما يبدو، يُكافح حتى يخرج إلى الحياة. واستولت صورةُ آية الله الخوميني واستولى حضورُه على أجهزة الإعلام التي لم تستطع إيضاحَ شيء عنه، سوى وصفِه بأنه عنيدٌ وقوي وغاضب أشدَّ الغضب من الولايات المتحدة. وأخيرًا، كان من نتيجة دخول الشاه السابق إلى الولايات المتحدة يوم ۲۲ أكتوبر ۱۹۷۹م أن قامت مجموعةٌ من الطلاب الإيرانيين باحتلال سفارة الولايات المتحدة في طهران يوم ٤ نوفمبر، واحتجاز عددٍ كبير من الرهائن الأمريكيين. وقد كادت الأزمة أن تنفرج وأنا أكتبُ هذا الكتاب.

ولكن ردود الفعل على أحداث إيران لم تقَع في فراغ؛ فوراء تُخوم الوعي الثقافي للجمهور كان يَكمُن الموقف الذي طال أمدُه تجاه الإسلامِ والعرب، والشرقِ بصفة عامة، وهو الذي كنتُ ولا أزال أُطلق عليه صفة الاستشراق. فسواءٌ قرأت رواية حديثة هلَّل لها النقادُ مثل رواية «مُنحنًى في النهر» التي كتبها ف. س. نايبول، ومثل رواية الضربة الرابحة التي كتبها جون أبدایك، أو كتب التاريخ المدرسية، أو القصص المرسومة بالكاريكاتير، أو مسلسلات التلفزيون، أو الأفلام أو الرسوم الكاريكاتورية، فسوف تجد التصوير الذي لا يختلف أبدًا للإسلام، وتحسُّ وجوده دون تغيير في كلِّ مكان، وترى أنه يستمدُّ مادته من نفس الصورة القديمة التي ثبَّتَها الزمنُ للإسلام، ومن هنا جاءت الصورة الكاريكاتورية المتواترةُ للمسلمين باعتبارهم مُورِّدين للنفط، وإرهابيِّين، وأخيرًا باعتبارهم جماهيرَ غوغائية متعطشةً للدم. وعلى العكس، لم تُفسِح الثقافةُ الأمريكية بصفةٍ عامة، ولم يُفسِح الحديث عن غير الغربيِّين بصفةٍ خاصة؛ مساحةً تذكر للحديث أو للتفكير، ناهيك برسمِ صورة الإسلام أو أيِّ شيء إسلاميٍّ بتعاطُف ووُدٍّ. ومن المحتمل أنك إذا سألتَ أحدًا أن يذكر اسم كاتبٍ إسلامي يعرفه، أن تلتقيَ معظم الإجابات حول خليل جبران (الذي لم يكن إسلاميًّا). وأما الخبراء الأكاديميون المتخصصون في الإسلام فقد دأبوا على تناول هذا الدين وشتى ثقافاته في إطارٍ أيديولوجي اخترعوه أو حدَّدَت الثقافةُ صورته، فامتلأ بالانفعال، وبالتعصب المعهود في الدفاع النفسي، وأحيانًا بالنفور. وهذا الإطار هو الذي يجعل تفهُّم الإسلام مهمةً بالغةَ الصعوبة. فإذا استندنا في أحكامنا إلى الدراسات المعمَّقة والأحاديث التي زخرَت بها أجهزةُ الإعلام عن الثورة الإيرانية في ربيع عام ۱۹۷۹م، فسوف نَلمح الاتجاه إلى عدم تقبُّلِ الثورة الإيرانية إلا باعتبارها هزيمةً للولايات المتحدة (وهو ما كانتْه الثورة من زاوية معينة وحسب، بطبيعة الحال) أو انتصارًا للظلام على النور.
وقد لعب ف. س. نايبول دورًا طريفًا في مجال المساعدة على توضيح هذا العداء العامِّ للإسلام؛ فقد أشار في مقابلةٍ صحفية نشرَتْها في الآونة الأخيرة مجلة نيوزويك إنترناشونال (۱۸ أغسطس ۱۹۸۰م) إلى كتابٍ يكتبه عن «الإسلام»، ثم قال، دون أن يسأله أحدٌ رأيَه: إن «الأصولية الإسلامية تفتقرُ إلى أيِّ جوهر فكري؛ ومن ثَمَّ فلا بد أن تنهار.» لكنه لم يُحدد الأصولية الإسلامية التي يَعنيها، ولا الجوهرَ الفكري الذي يُشير إليه، وإن كان يقصد إيران دون شك، وأيضًا — وبنفس الدرجة من الغموض — موجةَ العداء للإمبريالية من جانبِ الإسلام في العالم الثالث في الفترة التي تلَت الحرب العالمية الثانية، فالمعروف أن نايبول يُضمِر كراهيةً مريرة إلى أقصي حدٍّ لهذه الموجة. ففي آخرِ روايتين له، وهما رجال حرب العصابات ومُنحنًى في النهر، يُشكِّك المؤلفُ في الإسلام. وفي إطار إدانة نايبول العامة للعالم الثالث (وهي الإدانة التي يُحبها القراء الغربيون الليبراليون) نجده يجمعُ بين الفساد والشرِّ الكامن في عددٍ من الحكام الذين يرسم لهم صورًا بشعة مضحكة، وبين نهاية الاستعمار الأوروبي، وبين الجهود المبذولة بعد زوال الاستعمار في بناء المجتمعات الوطنية المحلية، باعتبار هذه الظواهر دليلًا على الفشل الفكريِّ الشامل في أفريقيا وآسيا. ويقول نايبول إن «الإسلام» يلعب دورًا كبيرًا، سواءٌ في الأسماء الإسلامية العائلية التي يتسمَّى بها رجالُ حرب العصابات في جزر الهند الغربية، وهو يرسم لهم صورةَ مَن يُرثى لحاله، أو في الآثار الباقية من تجارة الرقيق الأفريقية. وهكذا يتحول «الإسلام» عند نایبول وقراءه إلى عُنوان يشمل كلَّ ما يرفضه الإنسان من موقف العقلانية المُتحضرة والغربية.3

إننا نشعر كأنما يصبح من المحال التمييزُ بين العاطفة الدينية المشبوبة وبين الكفاح في سبيل قضيةٍ عادلة وبين الضعف البشري العادي وبين المنافسة السياسية وبين تاريخ الرجال والنساء والمجتمعات، عندما يتناول الرِّوائيون والصحفيون، وواضِعو السياسات، و«الخبراء» موضوع «الإسلام» أو الإسلام الذي نشهده الآن في إيران وغيرها من مناطق العالم الإسلامي، فمصطلح «الإسلام» لديهم يشمل، فيما يبدو، جميعَ جوانب العالم الإسلامي الشاسع المتنوِّع، واختزالها جميعًا في جوهرٍ خاص يُضمِر الشرَّ ولا يعرف التفكير. ولا يمكن أن نجنيَ من ذلك، بدلًا من التحليل والتفهُّم، إلا أشدَّ أشكالِ المواجهة سذاجةً بيننا وبينهم؛ أي صيغة «نحن» في مقابل «هم» وإذن فمهما يَقُل الإيرانيون أو المسلمون عن مفهومهم الخاصِّ للعدالة، أو عن تاريخ الظلم الذي تعرَّضوا له، أو عن رؤيتهم لمجتمعاتهم، فسوف يبدو ذلك لا صلةَ له بالموضوع. وأما ما يَعني الولايات المتحدة، بدلًا من ذلك، فهو ما تفعله «الثورة الإسلامية» الآن، وعدد الأشخاص الذين أصدرَت المحاكمُ الثورية الحكمَ بإعدامهم، وعدد الفظائع الغريبة التي أمر آية الله المذكورُ بارتكابها باسم الإسلام. ولم يحاول أحدٌ بطبيعة الحال أن يُوازيَ بين أيٍّ من ذلك وبين مذبحةِ جونز تاون، أو اللوثة الجماهيرية الهدَّامة في الحفل الغنائي الذي قدَّمه فريق «هُوُ» في سنسیناتي، أو الخراب الذي أحدثته المسيحيةُ في الهند الصينية، أو الثقافة الغربية أو الأمريكية بوجهٍ عام. فمثل هذا التوازي يقتصر على ما يُسمونه «الإسلام».

لماذا شهدنا كثيرًا إذن قيامهم بضغط شتى الأحداث السياسية والثقافية والاجتماعية بل والاقتصادية، على تنوُّعها الهائل، واختزالها بذلك الأسلوب البافلوفي في مصطلح «الإسلام»؟ تُرى ما الذي يتميز به «الإسلام» حتى يحدث ذلك الردُّ التلقائي السريع المنفلِت من كل عِقال؟ تُرى ما أوجه اختلاف «الإسلام» والعالم الإسلامي عند الغربيين عن بقية العالم الثالث مثلًا وعن الاتحاد السوفييتي؟ هذه أسئلة أبعدُ ما تكون عن البساطة؛ ولذلك فلا بد من تجزئة الإجابة عليها، وتبيان عناصرها ووصفِ كلٍّ على حدةٍ والتمييز في تمهُّل بينها.

تشتهر الأسماء العامة التي يُقصد بها الدلالة على شرائحَ بالغةِ الضخامة والتعقيد من دنيا الواقع بالغموض، على كراهيتنا له، وبأنها في الوقت نفسِه محتومة. فإذا كان صحيحًا أن مصطلح «الإسلام» اسم عامٌّ يفتقر إلى الدقة، إلى جانبِ ما يحمله من الشحنة الأيديولوجية، فمن الصحيح كذلك أن مصطلحَي «الغرب» و«المسيحية» من المصطلحات المشكلة كذلك. ومع ذلك فالسبيل غيرُ ميسَّر لنا لتجنُّب هذه الأسماء العامة، ما دام المسلمون يتكلمون عن الإسلام، والمسيحيون عن المسيحية، والغربيون عن الغرب، وما دام كلُّ طرفٍ يتكلم عن الأطراف الأخرى جميعًا بأساليبَ تبدو مقنعةً ودقيقة. وأظن أنه من الأجدى الآن علينا ألا نُحاول أن نقترح وسائل التفافٍ حول هذه الأسماء العامة، بل أن نعترف بدايةً بوجودها وبأنها ظلَّت تستعملُ ردحًا طويلًا من الزمن باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من التاريخ الثقافي لا باعتبارها تصنيفات موضوعية. وسوف أعود في هذا الفصل بعد قليلٍ إلى الحديث عنها باعتبارها تفسيراتٍ وضعَتها لنفسها المجتمعاتُ التي تأخذ بتفسيرات معينة، وهي التسمية التي سأضعُها لها. وهكذا فإن علينا أن نذكر أن مصطلحات «الإسلام» و«الغرب» بل و«المسيحية» تقوم كلٌّ منها بوظيفتَين مختلفتين، ويدلُّ كلٌّ منها على معنيَين اثنين على الأقل في كل مرة يُستخدم فيها المصطلح. فهي أولًا تنهض بوظيفة التعريف البسيطة، ومثال ذلك قولنا إن الخوميني مسلم أو إن البابا يوحنا بولس الثاني مسيحي. فأمثال هذه الأقوال تحمل الحدَّ الأدنى من الدلالة على ماهية الشيء في مقابل الأشياء الأخرى جميعًا. وعلى هذا المستوى نستطيع التمييزَ بين البرتقالة والتفاحة (مثلما نُميِّز بين المسلم والمسيحي) وإن كان ذلك لا يتعدَّى حدودَ معرفتنا أنهما فاكهتان مختلفتان، تنمو كلٌّ منهما على شجرة مختلفة، وهلم جرًّا.

وأما الوظيفة الثانية لهذه الأسماء العامة المتعدِّدة فهي الدلالة على معانٍ أشد تعقيدًا. فالحديث عن «الإسلام» في الغرب اليوم يعني الإشارةَ إلى الكثير من المساوئ التي ذكرتها. أضف إلى ذلك أنه من المحتمل أن يدلَّ مصطلح «الإسلام» على شيء يعرفه المرء معرفة مباشرة أو موضوعية. ويصدقُ هذا القول على استعمالنا لمصطلح «الغرب». ترى كم عدد الذين يستعملون هذه المصطلحاتِ بغضبٍ أو بثقة وهم يُحيطون إحاطةً مُحكمةً بجميع جوانب التقاليد الغربية، أو الفقه القانوني الإسلامي، أو اللغات المستعملة فعلًا في العالم الإسلامي؟ الواضح أن عددهم بالغُ الضَّآلة، ولكن ذلك لا يمنع الناس من وضع الصفات المميزة «للإسلام» أو «للغرب»، أو من الاعتقاد بأنهم يعرفون على وجه الدقة ما يتحدَّثون عنه.

وهذا هو ما يدعونا إلى أن نأخذ الأسماء العامة مأخذ الجِد. فالمسلمُ يتحدث عن «الغرب»، والأمريكيُّ يتحدث عن «الإسلام»، وكلٌّ منهما يرى وراء هذه التعميمات الهائلةِ تاريخًا طويلًا يُعينه ويَعوقه في الوقت نفسِه؛ فإن لها طابَعًا أيديولوجيًّا يزخر بمشاعرَ مشبوبةٍ جارفة، كما أنها نجحَت في البقاء بعد المرور بتجارِبَ وخبراتٍ كثيرة واستطاعت التكيُّف مع كل جديد من الأحداث والمعلومات وحقائق الواقع. ولقد اكتسب كلٌّ من مصطلحَي «الإسلام» و«الغرب» حاليًّا وجودًا حاضرًا مُلِحًّا وقويًّا في كل مكان، وعلينا أن نشير فورًا هنا إلى أن الطرفَين اللذين يجري تحريض أحدهما على الآخر دائمًا، فيما يبدو، هما الغرب والإسلام لا المسيحية والإسلام. وأما السبب فيكمن في افتراض أن «الغرب» أكبر من المسيحية وأنه تخطَّى مرحلة الدين المسيحي، وهو الدين الأساسي في الغرب، وأن عالم الإسلام — على الرغم من تنوُّع مجتمعاته وتواريخه ولغاته — لا يزال غارقًا في الدِّين، وفي الحياة البدائية والتخلف. والافتراض يَعني إذن أن الغرب حديثُ الطابع، وأكبر من مجموع أجزائه، وحافلٌ بالمتناقضات الثريَّة المثريَة، ومع ذلك فهو دائمًا ذو هُويَّة ثقافية «غربية»، وأما عالم الإسلام، فهو لا يتجاوز مصطلح «الإسلام»، ويقبل الاختزالَ في عددٍ محدود من الخصائص الثابتة رغم ما يبدو فيه من تناقضات وخبرات التنوع التي تبدو على السطح بالكثرة التي يتميز الغرب بها.

وهاك مثالًا قريب العهد على ما أعنيه، وهو مقالٌ منشور في باب «استعراض أنباء الأسبوع» من صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ ١٤ سبتمبر ۱۹۸۰م. والمقال كتبه جون كيفنر وهو مراسل الصحيفة الكُفء في بيروت، وموضوع المقال هو مدى تغلغل الاتحاد السوفييتي في العالم الإسلامي. وأما الفكرة التي يطرحها كيفنر فيدلُّ عُنوان المقال عليها بوضوح كافٍ، فالعنوان هو «لا يزال التنافر قائمًا بين ماركس والمسجد»، ولكن الجدير بالإشارة أنه يستخدم مصطلح «الإسلام» في إقامة رابطةٍ مباشرة ومُطْلقة، وكان يمكن أن تكون مرفوضةً في سياقاتٍ أخرى، بين أحد المفهومات المجرَّدة وبين حقائق الواقع البالغِ التعقيد. وحتى إذا سَلَّمنا بأن الإسلام يختلف عن سائر الأديان الأخرى في أنه دين جامع لا يفصل بين الكنيسة والدولة، أو بين الدين والحياة اليومية، فإن الفِقرات التالية من مقال كيفنر تتضمَّن ما يُعتبر دليلًا على الجهل وداعيًا للتضليل بصورةٍ فريدة، وربما بصورة متعمَّدة، وإن كان كلامًا تقليديًّا لا جديد فيه:

إن سبب انحسار نفوذ موسكو يتَّسم ببساطةٍ خادعة؛ ألا وهو أن ماركس والمسجد لا يتفقان [تُرى نفترض إذن أن ماركس أقربُ إلى الاتفاق مع الكنيسة أو مع المعبد؟].

وفيما يتعلَّق بالذهن الغربي [وهذا هو بيت القصيد كما هو واضح] فلقد تكيَّفَ منذ حركة الإصلاح الدينيِّ مع التطورات التاريخية والفكرية التي عملتْ بانتظام على تقليل الدور المنوط بالدين، وهكذا فهو يُواجه صعوبةً في تفهُّم القوة التي يُمارسها الإسلام [وإذن فالمفترض أنه لم يتكيَّف مع التطورات التاريخية أو الفكرية]، ومع ذلك فلقد ظلَّ الإسلام على امتداد قرونٍ طويلة يُمثل القوةَ الرئيسية في حياة هذه المنطقة، ويبدو، ولو مؤقتًا على الأقل، أن قوته في ازدياد.

لا يفصل الإسلامُ بين الدين والدولة؛ فهو نظامٌ جامع لا يقتصر على العقيدة، بل يشمل العملَ كذلك، وبه قواعدُ ثابتة تحكم الحياةَ اليومية، ودافعٌ روحي يدفع المسلمَ إلى مواجهة الكافر أو هدايته للإسلام. وفي نظر المتديِّنين، وخصوصًا العلماء وفقهاء الدين منهم، بل وفي نظر الجماهير أيضًا [أي لا استثناء لأحد] تبدو الماركسية، بنظرتها الدنيوية المحضة للإنسان مذهبًا غريبًا، بل ومذهب تجديف كذلك.

أي إن كيفنر لا يقتصر على تجاهل التاريخ وبعض التعقيدات الأخرى مثل سلسلة الموازَنات التي يُقيمها مكسیم رودنسون بين الماركسية والإسلام (ويدرسها في كتابٍ يحاول إيضاحَ سببِ نجاح الماركسية، فيما يبدو، في النَّفاذ إلى بعض المجتمعات الإسلامية على مرِّ السنين)4 بل إن كفنر يُقيم حجته على مقارنةٍ خفيَّة بين «الإسلام» و«الغرب» وهو الذي يتميزُ في نظره بتنوعٍ حتى ليصعب تحديدُ طابَعِه بالمقارنة بالإسلام الذي يُوحي کفنر بأنه يتَّسم بالبساطة والجمود والشمولية. والطريف هو أن كفنر قادرٌ على أن يقول ما يقوله دون المخاطرة بأن يبدوَ مخطئًا أو مغفَّلًا!
الإسلام في مقابل الغرب — هذا هو اللحن «القراري» الذي تُصاحبه مجموعةٌ من التنويعات ذاتِ الخصوبة المذهلة، ومن الأفكار الموسيقية التي تتضمَّنها هذه التنويعات فكرةُ أوروبا في مقابل الإسلام، وأمريكا في مقابل الإسلام.5 وإن كُنا نلمح الدور المهمَّ الذي تلعبه الخبراتُ العَملية المختلفة مع الغرب أيضًا، بصورة عامة؛ إذ لا بد من رصد وجه الاختلاف البالغ الأهمية بين الوعي الأمريكي والوعي الأوروبي بالإسلام. فحتى عهدٍ قريب كانت فرنسا وإنجلترا مثلًا تمتلكان إمبراطوريات إسلامية شاسعة، وسوف نجد في كلٍّ من هاتين الدولتين، وإلى حدٍّ أقلَّ في إيطاليا وهولندا اللتين كانتا تحتلان مستعمراتٍ إسلاميةً أيضًا، تراثًا طويلًا متصلًا من الخبرة المباشرة بالعالم الإسلامي.6 ويتجلَّى هذا في المبحث الأكاديمي الأوروبي المتميز الذي نُسميه الاستشراق، والذي ازدهر في البلدان ذاتِ المستعمرات، وكذلك في بعض البلدان الأخرى (مثل ألمانيا وإسبانيا وروسيا قبل الثورة) التي كانت تريد لنفسها مستعمرات، أو كانت قريبةً من الأقاليم الإسلامية أو كانت هي نفسُها دُولًا إسلامية. ويعيش اليوم في الاتحاد السوفييتي قرابة ٥٠ مليونَ مسلم، كما قام في أواخر عام ۱۹۷۹م باحتلال دولة أفغانستان المسلمة. ولن نجدَ نظائرَ لأيٍّ من ذلك كلِّه في الولايات المتحدة، وإن كنا سوف نجد عددًا هائلًا، بل لم يسبق له مثيل، من الأمريكيين الذين كتَبوا أو فكَّروا أو تحدَّثوا عن الإسلام.

وهكذا فإن عدم وجود الماضي الاستعماري أو الاهتمام الثقافيِّ الطويل الأمدِ بالإسلام في أمريكا يَزيد من غرابةِ انشغالها إلى حدِّ الهوس حاليًّا به، ويجعله أشدَّ تجريدًا، وأقربَ إلى أن يكون خبرةً نقلها عن الآخرين. إذ إن عدد الأمريكيين الذين يتمتعون بخبرةِ التعامل المباشر مع المسلمين بالغُ الضآلة نسبيًّا، فإن شئنا المقارنةَ وجدنا أن الدِّين الثانيَ في فرنسا، من حيث عددُ معتنقيه، هو الإسلام، وقد لا يكون في هذا سببٌ لحبه ولكنه بالتأكيد يَزيد المعرفةَ به. وكانت موجة الاهتمام الأوروبي في العصر الحديث بالإسلام تُمثل أحدَ عناصر ما وُصف بأنه «النهضة الاستشراقية»، وهي الفترة التي تمتدُّ من أواخر القرن الثامن عشر حتى مطلع القرن التاسع عشر، وقام فيها العلماء الفرنسيون والبريطانيون بإعادة اكتشاف «الشرق» — الهند والصين واليابان ومصر وبلاد ما بين النهرَين، والأراضي المقدسة. وسواءٌ كان ذلك خيرًا أم شرًّا، فإنهم كانوا ينظرون إلى الإسلام باعتباره جزءًا من الشرق، يُشاركه غموضَه وغرابته وفساده وقوته الكامنة. صحيحٌ أن الإسلام ظل يُشكل تهديدًا عسكريًّا مباشرًا لأوروبا على امتداد قرون سابقة، وصحيحٌ أيضًا أن الإسلام كان يُمثل مشكلةً للمفكرين المسيحيين في العصور الوسطى ومطلع النهضة بعد أن استمروا على مدى مئاتِ السنين ينظرون إليه وإلى نبي الإسلام محمد، على أنهما يُمثلان أحطَّ لونٍ من ألوان الرِّدَّة، ولكنه كان على الأقل يُمثل لكثيرٍ من الأوروبيين ضربًا من التحدي الثقافي الديني الذي لم يمنع الإمبرياليةَ الأوروبية من بناء مؤسساتها في الأراضي الإسلامية. ومهما يكن العداءُ بين أوروبا والإسلام، فلقد نشأت أيضًا خبرةٌ مباشرة به، كما أبدى كثيرٌ من الشعراء والروائيين والعلماء — مثل جيته، وجيرار دي نیرفال، وريتشارد بیرتون، وفلوبير، ولويس ماسينيون — افتتانَهم به الذي تجلَّى في إبداعاتهم وأعمالهم المُرهفة المستلهَمة من الإسلام.

ومع ذلك، وعلى الرغم من جهود هؤلاء والآخرين من أمثالهم، لم يكن الإسلامُ في يومٍ من الأيام موضعَ ترحيب في أوروبا، ولم يكن معظمُ فلاسفة التاريخ الكبار، من هيجل إلى شبنجلر، يُبْدون حماسًا شديدًا للإسلام. ولقد كتب ألبرت حوراني مقالًا يتميَّز بالوضوح والبعدِ عن الهوى بعنوان «الإسلام وفلسفة التاريخ» ناقش فيه الخطَّ المستمر، وإلى درجةٍ مثيرة، للإسلام باعتباره نظامًا من نُظم العقيدة.7 فإذا استثنينا بعضَ الاهتمامات العارضة بكاتبٍ من متصوفة الإسلام أو بإمامٍ من أئمة الصوفية، وجدنا أن موجات الإقبال الشعبيِّ في أوروبا على ما يُسمى «حكمة الشرق» نادرًا ما كانت تتضمن الحكماءَ أو الشعراء المسلمين، وتكاد معرفةُ الأوروبيين المحدَثين بالشخصيات الإسلامية الشهيرة تقتصرُ على عمر الخيام، وهارون الرشيد، والسندباد، وعلاء الدين، وحاجي بابا، وشهرزاد، وصلاح الدين، ولم يستطع حتى کارلايل أن يأتيَ بالقَبول على نطاقٍ واسع للنبي محمد، وأما جوهر العقيدة التي دعا إليها محمد، فلقد بدَت للأوروبيين ومنذ زمن بعيد غيرَ مقبولة لأسبابٍ مسيحية أساسًا، وإن كانت لم تَخْلُ من طرافةٍ لهذه الأسباب ذاتِها. وفي أواخر القرن التاسعَ عشر، ومع زيادة الوطنية الإسلامية في آسيا وأفريقيا، شاع الرأيُ القائل بأن المستعمرات الإسلامية كُتب عليها أن تبقى تحت الوصاية الأوروبية لسببين مجتمعَين: الأول أنها مُربِحة، والثاني أنها متخلِّفةٌ وتحتاج إلى الانضباط الغربي.8 فإذا تغاضَينا عن ذلك، وعن تواتُر دلائل العنصرية وأحداث العدوان على العالم الإسلامي، وجدنا أن الأوروبيين قد أفصَحوا فعلًا عما كان الإسلامُ يَعنيه لهم. ومن هنا تكاثرَت صورُ الإسلام في شتى مجالات الثقافة الأوروبية — في الدراسة العِلمية، وفي الفن والأدب والموسيقي والأحاديث العامة — منذ نهاية القرن الثامنَ عشر حتى يومنا الحالي.

ولن نجدَ في الخبرة الأمريكية بالإسلام شيئًا يُذكر من هذه الظواهر الملموسة؛ فلقد كانت صِلات الأمريكيين بالمسلمين في القرن التاسعَ عشر محدودةً إلى حدٍّ بعيد، وقد نذكر بعضَ الرحَّالة العابرين مثل مارك توين أو هرمان ملفيل، أو بعضَ رجال التبشير الدينيِّ المتفرقين، أو الحملات العسكرية التي لم تستمرَّ طويلًا إلى شماليِّ أفريقيا. وأما في المجال الثقافي فلم يكن الإسلامُ يَشغل مكانًا متميزًا في أمريكا قبل الحرب العالمية الثانية؛ إذ كان الخبراءُ الأكاديميون عادةً ما يقومون بدراساتهم للإسلام في أركانٍ هادئة في مدارس اللاهوت، بعيدًا عن الأضواء الباهرة للاستشراق وبعيدًا عن صفحات المجلات الكبرى. واستمرَّ على مدى المائة عام الأخيرة تقريبًا ضربٌ من التكافل الحيوي (المدهش رغم هدوئه) بين أُسَر المبشِّرين الأمريكيين في البلدان الإسلامية وبين رجال وزارة الخارجية وشركات النفط. وكان هذا التكافل يَلوح على السطح بين الفَينة والفَينة في صورةِ تعليقات مُعادية «للمستعربين» في وزارة الخارجية وشركات النفط، وقيل إنهم كانوا يُضمرون حُبًّا للإسلام يتميز بخُبثه ومعاداته للسامية. ومن ناحيةٍ أخرى فإن جميع كبار الخبراء في الإسلام الذين ذاع صيتُهم في الولايات المتحدة قد وُلدوا في بلدانٍ أجنبية، مثل اللبناني فيليب حِتِّي، بجامعة برنستون، والنمسَوي جوستاف فون جرونيباوم، في جامعة شيكاغو وجامعة كاليفورنيا بلوس أنجیلیس، والبريطاني ﻫ. أ. ر. جيب، في جامعة هارفارد، والألماني جوزيف شاخت في جامعة كولمبيا. ومع ذلك فلم يكن أيٌّ من هؤلاء الرجال يتمتعون بالتفوق النسبيِّ في المكانة الثقافية المهيبة مثل جاك بيرك في فرنسا أو ألبرت حوراني في إنجلترا.

ولكن هؤلاء الرجال أنفسهم — حِتِّي وجيب وفون جرونيباوم وشاخت — قد اختفَوا من المسرح الأمريكي، كما أنه من غير المحتمل أن يُعقب علماء مثل بيرك وحوراني خلفاءَ لهم في فرنسا وإنجلترا، فلا يتمتَّع اليوم أحدٌ بثقافتهم العريضة ولا باتِّساع المجالات التي يُعتبرون حجَّة فيها؛ فالخبراء الأكاديميون الغربيون في الإسلام اليوم عادةً ما يتخصَّصون في مدارس فقه القانون الإسلامي في القرن العاشر الميلادي في بغداد، أو في أنماط المدن المغربية في القرن التاسع عشر، دون أن يُحيطوا مطلقًا (أو بصورةٍ شبهِ مطلقة) بالحضارة الإسلامية كلِّها — بالأدب، وبالقانون، وبالسياسة، وبالتاريخ، وبعلم الاجتماع وهلمَّ جرًّا. ولكن هذا لم يمنع الخبراءَ من إطلاق الأحكام العامة من حينٍ إلى آخَر على «العقلية الإسلامية» أو «الولوع الشيعي بالاستشهاد»، وإن كانت مثلُ هذه الأقوال مقصورةً على المجالات الجماهيرية وأجهزة الإعلام، فهي التي كانت تطلبُ منهم أصلًا إبداءَ آرائهم. ومما يَزيد عن هذا في مغزاه هو أن فُرص المناقشات العامة للإسلام، من جانب الخبراء وغير الخبراء، لا تأتي بها في معظم الأحيان إلا الأزماتُ السياسية، ومن أندر النادر أن نجد مقالاتٍ توفر بعض المعلومات عن الثقافة الإسلامية في مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس (مجلة نيويورك لمراجعة الكتب) أو مجلة هاربر مثلًا. ولم يكَد موضوع «الإسلام» يبدو جديرًا بالتعليق العام إلا حين يتعرَّض استقرارُ المملكة العربية السعودية أو استقرار إيران لهزَّةٍ ما.
علينا إذن أن نذكر أن الإسلام قد وجد سبيله إلى وعي معظم الأمريكيين — بل إلى وعي أساتذة الجامعات وأصحاب الثقافة العامة الذين يُحيطون إحاطةً وافية بأوروبا وأمريكا اللاتينية — لسببٍ رئيسي، وإن لم يكن السببَ الأوحد، وهو ارتباط الإسلام بقضايا تَشغل وكالات الأنباء؛ مثل قضايا النفط، وإيران وأفغانستان والإرهاب.9 وما إن حَلَّ منتصف عام ۱۹۷۹م حتى اكتسب ذلك كلُّه صفةَ الثورة الإسلامية، وأصبح يُشار إليه باسم «أزمة الهلال» أو «قوس القلقلة» أو «عودة الإسلام». ومن الأمثلة ذاتِ الدلالة الكبيرة في هذا السياق ما فعله الفريق العامل الخاصُّ بالشرق الأوسط التابع لمجلس دول الأطلسي (وهو الفريق الذي كان يضمُّ برينت سكوكروفت، وجورج بول، وريتشارد هولمز، وليمان ليميتزر، ووالتر لیفي، ویوجین روستر، وکیرمیت روزفلت، وجوزيف سيسكو، وغيرهم)، فعندما أصدر الفريق تقريره في خريف ۱۹۷۹م وضع له عُنوانًا خاصًّا هو «النفط والبلبلة: اختيارات الغرب في الشرق الأوسط»10 وعندما خصَّصَت مجلة تايم موضوعها الرئيسي للإسلام بتاريخ ١٦ أبريل ۱۹۷۹م زينَت غلافها بلوحةٍ للفنان الفرنسي جیروم تُصور مؤذنًا مُلتحيًا يقف على مِئذنةٍ ويدعو المؤمنين بوقار إلى الصلاة، وكانت اللوحة تتميزُ بالتنميق الشديد والمبالغة الصارخة مثل جميع فنون الاستشراق التي شهدها القرنُ التاسعَ عشر، ومن دلائل التناقض الزمني أن تكون هذه اللوحة الوقورة مُزيَّنةً بكلمات لا علاقة لها بها وهي «إحياء الجهاد»، ولم أجد أفضلَ من هذا الغلاف للدلالة على الفرق بين موقف أوروبا وموقف أمريكا تجاه موضوع الإسلام، إذ حوَّلَت المجلة لوحةً هادئة زخرفية، كانت تعتبر في أوروبا جزءًا من الثقافة العامة لا أكثر، إلى صورة قادرة — بفضل الكلمتين المضافتين — على الدلالة على ما يَشغل العقل الأمريكي لحدِّ الهوس.
لكنني ولا شكَّ أبالغ؟ ألم يكن موضوعُ صورة الغلاف لمجلة تايم عن الإسلام نموذجًا وحسبُ للسوقية، يبتغي إرضاءَ ما هو مفترض من نِشْدان الإثارة؟ هل تُراه يكشف حقًّا عما هو أخطرُ من هذا؟ ومنذ متى كانت لأجهزة الإعلام أهميةٌ كبرى فيما يتعلق بالقضايا الخطيرة، أو قضايا السياسات، أو قضايا الثقافة؟ ثُم أليس صحيحًا أن الإسلام قد فرَض نفسه على اهتمام العالم وشغَل أنظاره؟ وماذا جرى للخبراء المتخصصين في الإسلام، ولماذا تتعرض إسهاماتهم للتجاهل التام أو للدفن تحت الصورة التي تُناقشها وتنشرها أجهزة الإعلام «للإسلام»؟
لا بأس أولًا من إيراد بعض الإيضاحات البسيطة. لم يحدث، كما سبق لي أن ذكرتُ أن تمتعَ أحد الخبراء الأمريكيين المتخصصين في العالم الإسلامي بجمهورٍ عريض من القراء. وباستثناء كتاب مغامرات الإسلام الذي يقع في ثلاثة مجلدات، وكتبه المرحوم مارشال هودجسون ونُشر بعد وفاته عام ۱۹۷٥م، لم يحدث أن وجد جمهور المثقفين كتابًا عامًّا عن الإسلام يعرضه عليهم بالأمانة المطلوبة.11 فإمَّا أن الخبراء كانوا على درجةٍ من التخصُّص لا تسمح لهم إلا بمخاطبة غيرهم من المتخصصين، وإمَّا أن عمَلهم لم يكن متميِّزًا فكريًّا بما يكفي لاجتذاب الجمهور الذي أقبل على الكتب المكتوبة عن اليابان أو أوروبا الغربية أو الهند. ولكن هذا الأمر يقابله أمرٌ مضاد. فإذا كان صحيحًا أننا لا نستطيع ذكر اسم «مستشرق» أمريكي يتمتَّع بأي صيت خارج نطاق الاستشراق، كشأن بيرك أو رودنسون في فرنسا، فمن الصحيح أيضًا أن دراسة الإسلام لا تتمتَّع بتشجيعٍ حقيقي داخل الجامعات الأمريكية، ولا تجد مَن يُساندها في مجال الشخصيات العامة التي تتمتع بذيوع الصيت والامتياز الذاتيِّ الكفيلَين بجعلِ خبرات هذه الشخصيات بالإسلام مهمةً في ذاتها،12 من هم النظراء الأمريكيون للكُتَّاب الأوروبيين من أمثال ربيكا وست، وفريا ستارك، وت. أ. لورنس، وولفريد ثيسنجر، وجرترود بل، وب. ﻫ. نیوبي، وأخيرًا جوناثان رابان؟ إنهم، في أفضل الحالات، من رجال المخابرات الأمريكية السابقين؛ مثل مایلز کوبلاند أو كيرمت روزفلت، ونادرًا ما يكونون من الكُتَّاب أو المفكرين المتميزين ثقافيًّا على الإطلاق.

والسبب الثاني لافتقار الساحة الأمريكية (وهو افتقارٌ له حساسيتُه) إلى آراء الخبراء في الإسلام هو هامشية الخبراء إزاءَ الأحداث الظاهرة في عالم الإسلام عندما بدأتْ هذه الأحداثُ تَشغَل مكانًا في نشرات الأنباء في منتصف السبعينيَّات من القرن العشرين. أما الحقائق المهمة، بل التي لا جدال في أهميتها، فهي أن دول الخليج المنتجة للنفط بدَت فجأةً بالغةَ القوة، واندلعَت حربٌ أهلية شرسة بصورة رهيبة ولا تبدو لها نهايةٌ في لبنان، واشتبكَت إثيوبيا مع الصومال في حربٍ طويلة الأمد، وأصبحَت المشكلة الكردية مشكلةً محورية من حيث لم نكن نتوقع، ثم انحسرَت وصفا الجوُّ بعد ۱۹۷٥م، من حيث لم نكن نتوقع أيضًا، وخلعَت إيران مَلِكَها (الشاه) في أعقاب ثورةٍ «إسلامية» هائلة فاجأَت الجميع، وشهدَت أفغانستان انقلابًا ماركسيًّا عام ۱۹۷۸م، ثم وقع الغزو السوفييتي في أواخر عام ۱۹۷۹م، واشتبكَت الجزائر مع المغرب في صراعٍ طويل الأجل حول قضية الصحراء الغربية (الجنوبية). وأعدمَت باکستان رئيسَها السابق، وجاءت إلى الحكم دكتاتوريةٌ عسكرية، كما وقعَت أحداث أخرى كثيرة، كان آخرها الحرب بين إيران والعراق، ولكن الأحداث المذكورة تكفي. وأعتقد بصفةٍ عامة أنه من الإنصاف أن نقول إن كتاباتِ خبراء الإسلام في الغرب لم تستطع إيضاحَ الكثير من هذه الأحداث. إذ لم يقتصر الأمرُ على عجز الخبراء عن التنبُّؤ بهذه الأحداث أو عدم تهيئة قرائهم لها، بل إنهم لجَئوا بدلًا من ذلك إلى كتابة نصوصٍ إذا قورنت بما يحدث بدَت كأنما تتناولُ إقليمًا نائيًا من المحال الوصولُ إليه في هذا العالم، ولا علاقة له تقريبًا بالقلاقل المستمرة وما تُمثله من تهديدٍ نشهده وهي تتفجَّر أمام أعيننا في أجهزة الإعلام.

هذا موضوعٌ أساسي، وإن لم يحاول أحدٌ مناقشتَه مناقشةً عقلانية حتى الآن، وإذن فعلينا أن نلتزم الحذرَ في تناوُلِنا له. فالخبراء الأكاديميون في مجال الإسلام قبل القرن السابعَ عشر كانوا يَدرُسون عالمًا ينتمي بصفةٍ أساسية إلى مجال الآثار، وإلى جانب هذا، فإنهم مثل سائر المتخصصين، كانوا يعملون في تخصصاتٍ بالغةِ الانفصال عن بعضها البعض، فلم يكونوا يريدون أو يحاولون أن يَشغَلوا أنفسهم بما ترتَّبَ على التاريخ الإسلامي من آثارٍ حاضرة في عالم اليوم. وكان عملهم مرتبطًا إلى حدٍّ ما بالأفكار الخاصة بالإسلام «الكلاسيكي» أو ما افترضوا أنه أنساقٌ لا تتغير للحياة الإسلامية، أو بعض المسائل القديمة في فقه اللغة. ولكنه كان من المحال، على أية حال، الانتفاعُ بما يدرسونه في تفهُّم العالم الإسلامي الحديث، وهو الذي يتطوَّر في حقيقة الأمر بصورٍ بالغةِ الاختلاف عما توقَّعه الناس في القرون الأولى للإسلام (أي من القرن السابع إلى القرن التاسع)، وإن تفاوتَ هذا التطورُ من منطقة إلى منطقة فيه.

وكان الخبراء الذين يعملون في مجال «الإسلام» الحديث — أو إن شئنا الدقة، في مجالٍ يضمُّ المجتمعات والأشخاصَ والمؤسسات القائمة داخل العالم الإسلامي منذ القرن الثامن عشر — يعملون في حدود إطارٍ متفَق عليه للبحث العلمي، وهو الإطار الذي تشكَّل وفقًا لأفكارٍ لا علاقة لها قطعًا بالعالم الإسلامي. ومهما كرَّرْنا وفصَّلْنا القولَ في هذه الحقيقة، على تعقيدها وتنوُّعِها، فلن نكون مُبالغين. فلا شك في أن الباحث الذي يمارس بحثه في أوكسفورد أو في بوسطن، يكتب ويُجري أبحاثَه استنادًا بصفة أساسية إلى معاييرَ وأعراف وتوقعات وضعَها أقرانُه لا المسلمون الذين يدرسهم، وإن لم يقتصر عليها. ربما كانت هذه بديهية، ولكننا لا بد أن نؤكدها على أية حال. فالدراسات الإسلامية الحديثة في الجامعات تنتمي إلى ما يسمَّى «برامج المناطق» بصفة عامة — أي أوروبا الغربية، والاتحاد السوفييتي، وجنوب شرقيِّ آسيا، وهلمَّ جرًّا. ومن ثَم فهي ترتبط بالآليات التي تُرسَم بها السياسة القومية. وهذا أمرٌ مطروح لاختيار الباحثين كلٌّ على حِدة. فإذا كان باحثٌ في جامعة برنستون يقوم ببحثه في المدارس الإسلامية المعاصرة في أفغانستان، فمن الواضح (خصوصًا في فترةٍ كالتي نمرُّ بها) أن مثل هذه الدراسة من المحتمل أن تترتَّب عليها فوائدُ للسياسات القومية، وسواءٌ شاء الباحث أم أَبَى فسوف يجد أنه قد ارتبط بخيوطٍ تشدُّه إلى الحكومة أو إلى الشركات أو السياسة الخارجية، وهو ما تنسحب آثاره على التمويل، ونوع الأشخاص الذين يقابلهم، وبصفة عامة، يجد أنه يواجهُ أنماطًا خاصةً من الثمار لعمله والتفاعل مع ما حوله. وهكذا يتحوَّل الباحث رغم أنفه إلى «خبيرٍ بالمنطقة».
والباحثون الذين ترتبط اهتماماتُهم ارتباطًا مباشرًا بقضايا السياسات (وهم أساسًا المتخصصون في العلوم السياسية، ولكنَّ مِن بينهم أيضًا المتخصصين في التاريخ الحديث، والاقتصاد وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا) يُواجهون مسائلَ حساسة، إن لم نقل خطيرة. فعلى سبيل المثال كيف يمكن التوفيقُ بين مكانة الباحث العلمي والمطالب التي تفرضُها الحكومة عليه؟ وحالة إيران نموذجٌ ينطبق عليه ذلك كلَّ الانطباق. ففي إبَّان حكم الشاه، كان المتخصصون في إيران يتوافر لهم التمويلُ من المؤسسة البهلوية، وكذلك أيضًا من المؤسسات الأمريكية، بطبيعة الحال. وكانت هذه الأموال مخصصةً للإنفاق على الدراسات القائمة على الوضع الراهن (وفي هذه الحالة وجود النظام البهلوي المرتبط عسكريًّا واقتصاديًّا بالولايات المتحدة)؛ ومِن ثَم أصبحت هذه الدراساتُ من زاويةٍ معينة النموذجَ البحثي المتاح لمن يدرسون ذلك البلد. وفي مرحلةٍ متأخرة من مراحل الأزمة أصدرَت لجنةٌ دائمة مختارة تابعة لمجلس النواب ومختصة بالعاملين في الاستخبارات دراسةً جاء فيها أنَّ تقييم الولايات المتحدة للنظام يتأثر في كل مرة بالسياسة القائمة «ليس بصورة مباشرة عن طريق التستُّر عمدًا على الأنباء غير المواتية، ولكن بصورة غير مباشرة … فواضِعو السياسات لم يتساءلوا عمَّا إذا كان نظام حكم الشاه سوف يستمرُّ إلى ما لا نهاية. وكانت السياسات توضَع على أساسِ ذلك الافتراض.»13 وقد أدَّى هذا بدَوره إلى ضآلةِ عدد الدراسات التي تتضمَّن التقييم الجادَّ لنظام حكم الشاه وتحديد مصادر المعارضة الشعبية له. وفي حدود ما أعلم، لم ينجح إلا باحثٌ واحد، هو حامد الجار، من بیرکلي، في وضع التقدير الصحيح للقوة السياسية المعاصرة للمشاعر الدينية الإيرانية، وكان وحده هو الذي ذهب في تقييمه إلى حدِّ التنبؤ باحتمال قيام آية الله الخوميني بإسقاط النظام. وكان هناك باحثون آخرون — من بينهم ريتشارد کوتام وإرفاند إبراهامیان — لم يلتزموا بالوضع الراهن فيما كتبوه، ولكنهم كانوا يُمثلون حَفْنةً ضئيلة إلى أبعدِ حد.14 (ومن الإنصاف أن نذكر أن الباحثين اليساريِّين الأوروبيين، الذين لم يكونوا يتَّسمون بالتفاؤل نفسِه إزاء بقاء الشاه، لم ينجحوا من جانبهم كذلك في تحديد المصادر الدينية للمعارضة الإيرانية.)15

وحتى لو نحَّيْنا إيران جانبًا، فسوف نجد نماذجَ كثيرة ومهمة للفشل الفكري في مناطقَ أخرى، ولقد كانت جميعًا نتيجة الاعتماد دون تمييز على ما أملَتْه السياسة الحكومية والكليشيهات، ولنا أن نتعلم دروسًا مهمة من لبنان وفلسطين؛ إذ ظلت لبنان على امتداد سنواتٍ طويلة نموذجًا لما ينبغي أن تكون عليه الثقافة التعدُّدية أو المركَّبة. ومع ذلك فلقد بلغَت النماذج البحثية المستخدَمة في دراسة لبنان درجةً من الجمود والثبات تعذَّر معها توقُّعُ ما صاحبَ الحربَ الأهلية من شراسةٍ وعنف (وهي التي استمرت من ١٩٧٥م حتى ١٩٨٠م على الأقل). ويبدو أن أعين الخبراء قد أصابها الشلل في الماضي بدرجةٍ غير معهودة أمام سحر صور «استقرار» لبنان، فوجَّهوا دراستهم إلى الزعماء التقليديين، والنُّخب، والأحزاب، والشخصيَّات القومية، ونجاح جهود التحديث في لبنان.

وحتى عندما وُصف نظام الحكم في لبنان بالتأرجح، وعندما قام الخبراء بتحليل عدم اكتمالِ «تحضُّره»، كان الافتراض السائد والموحَّد هو أن مشكلاته كانت بصفة عامة قابلةً للحل، وأنها أبعدُ ما تكون عن التسبب في فَصْم عُرَى الوحدة بصورة جذرية.16 وكان الخبراء يصورون لبنان في صورة البلد المستقر في الستينيات لأن النظام القائم بين البلدان العربية كان مستقرًّا في نظر أحدِ الخبراء، وما دامت تلك المعادلة قائمةً في رأيه، ظلَّ لبنان في مأمن.17 ولم يفترض أحدٌ على الإطلاق أن يسودَ الاستقرار ما بين البُلدان العربية، وينهدمَ الاستقرار رغم ذلك في لبنان، والسبب الرئيسي هو — كما هو الحال في هذا المجال الذي يُعاني من آفةِ «اتفاق الآراء» — أن الحكمة التقليدية قررت بقاء «التعددية» واستمرارَ التوافق إلى الأبد في لبنان، على الرغم من انقساماته الداخلية وانتفاء تأثير جيرانه العرب فيه، كما قالت تلك الحكمة إن أي مشكلة للبنان لا بد أن يكون مصدرها المناخ العربي المحيط بلبنان، ولا يمكن أبدًا أن يكون مصدرها إسرائيل أو الولايات المتحدة، ولكلٍّ منهما أطماعُه المحدَّدة، وإن لم يتناولها أحدٌ بالتحليل، في لبنان.18 وإلى جانب ذلك فقد كان الخبراء مُغرَمين بصورة لبنان التي تُجسِّد أسطورة التحديث. وعندما نقرأ اليوم دراسةً راسخة من هذا اللون الذي يتميز بحِكمة النعامة، يروعنا كيف استمرَّت الأسطورة مطروحة حتى عام ۱۹۷۳م، وهو العام الذي بدأت فيه الحربُ الأهلية فعليًّا. قيل لنا إن لبنان يمكن أن تتعرَّض لتغيير ثوري، ولكن ذلك احتمال «بعيد» الوقوع. أما الأرجح فهو «التحديث في المستقبل الذي تُشارك الجماهير فيه [وهذه كنايةٌ ساخرة محزنة عن الحرب الأهلية التي سال فيها من الدماء أكثرُ مما سال في التاريخ العربي الحديث كله] في إطار الهيكل السياسي السائد.»19 أو كما قال عالِم أنثروبولوجي مبرز: «لا تزال «لوحة الفسيفساء الجميلة» في لبنان قائمةً لم يمسَسْها سوء. بل إن لبنان لا يزال أنجح بلد تَمكَّن من التحكم في انقساماته الأزلية العميقة.»20
وكان من نتائج هذا الاتجاه أنْ عجز الخبراء، بدليلِ أحداث لبنان وغيرها، عن أن يُدركوا أن جانبًا من الظواهر المهمة حقًّا في البلدان التي تحررَت من الاستعمار لا يمكن بسهولة أن يُجمع تحت عنوان «الاستقرار». أما في لبنان فإن الذي مزَّق البلدَ هذا التمزيقَ الوحشيَّ كان على وجه الدقة تلك القُوى غير الثابتة، وذات الحراك المدمِّر، التي أغفل الخبراءُ تسجيلها أو هوَّنوا من شأنها بانتظام، ألا وهي قُوى الانفصام الاجتماعي، والانتقالات الديموغرافية، والانتماءات الدينية، والتيارات الأيديولوجية.21
وعلى غِرار ذلك كانت الحكمةُ التقليدية على امتداد سنواتٍ تقول بأن الفلسطينيين لا يزيدون عن كونهم لاجئين من الممكن إعادة توطينهم، لا اعتبارهم قوةً سياسية ذاتَ عواقب لا مناصَ من تقدير أبعادها في أيِّ تقييم يتميز بدرجةٍ معقولة من الدقة للحالة في الشرق الأدنى. ومع ذلك فلقد أصبح الفلسطينيون، في نحو منتصَف السبعينيَّات إحدى المشكلات الكبرى المعترَف بها في سياسات الولايات المتحدة، وما زال العالم ينتظر منها الاهتمام العلمي والفكري الذي تقتضيه أهميتهم؛22 ولكن الاتجاه الذي لا يزال قائمًا هو معاملتهم باعتبارهم يمثلون بعضَ الملحقات المرفقة بسياسة الولايات المتحدة تجاه مصر وإسرائيل، بل وتجاهلهم تمامًا في الأحداث التي تفجَّرَت في لبنان. ولم تُواجه هذه السياسةُ ثقلًا موازنًا مُهِمًّا في دراسات الباحثين أو الخبراء، ومن المحتمل إذن أن تُواجه المصالحَ القوميةَ الأمريكيةَ عواقبُ وخيمةٌ نتيجةً لذلك؛ خصوصًا لأن الحرب الإيرانية العراقية فيما يبدو قد فاجأتْ رجال المخابرات أو أخذتهم على غِرَّة للمرة الثانية، وأثبتَت خطأهم الفادحَ في التقديرات التي وضَعوها للقدرات الحربية للدولتين.
وتُضاف إلى هذا التوافق بين الدراسات المطيعة التي تسير بخُطى السلحفاة وبين عدم الإدراك الحقِّ لمصلحة الحكومة، الحقيقة المؤسفة التي تقول إن عددًا أكبرَ مما ينبغي من الخبراء الذين كتبوا عن العالم الإسلامي لم يكونوا يُحيطون بلُغات البلدان التي تناولوها فاضطُرُّوا إلى الاعتماد على الصحافة أو غيرهم من الكتاب الغربيِّين في الحصول على معلوماتهم. وهكذا ازداد اعتمادُهم على الصورة الرسمية أو التقليدية للأمور، بحيث أصبحَت الفخَّ الذي وقعَت فيه أجهزةُ الإعلام في مُجمل تغطيتها لأخبار إيران قبل اندلاع الثورة. فلقد ساد الاتجاه إلى دراسة نفس الشيء وإعادة دراسته، والتركيز عليه المرة بعد المرة، مثل دراسة النُّخَب الاجتماعية وبرامج التحديث، والدور المنوط بالعسكريِّين، والزعماء الذين يتمتَّعون ببروز خاص، والاستراتيجية الجغرافية السياسية (من وجهة النظر الأمريكية)، والتدخلات الشيوعية.23 وربما كانت هذه المسائل تبدو في ذلك الوقت مهمةً للولايات المتحدة على المستوى القومي، ولكن الواقع يقول إن الثورة قد اكتسحَتها جميعًا في أيام معدودة في إيران؛ إذ انهار البلاط الإمبراطوريُّ برُمَّته، وتشتت الجيشُ الذي أُغدقت عليه مليارات الدولارات وتوارت النُّخَبُ المزعومة وتكيَّفَت مع النظام الجديد، ولا يمكن القول في أيٍّ من الحالين، على نحوِ ما كان يُقال قديمًا، إنها هي التي تُحدد السلوك السياسيَّ الإيراني. ولْنسمع ما قاله أحدُ الخبراء، الذي يرجع إليه الفضل في التنبؤ بما يمكن أن تؤدي إليه «أزمة ۱۹۷۸م» وهو جيمس بِلْ من جامعة تكساس الذي كان يُقدم المشورة إلى واضعي السياسات الأمريكيِّين فأشار عليهم في ديسمبر ۱۹۷۸م (وقد تأخر الوقت) بأنه ينبغي على حكومة الولايات المتحدة أن تشجع «الشاه .. على أن يبدأ في الأخذ بالانفتاح في نظام الحكم»24 وبعبارةٍ أخرى كان صوتُ الخبير المذكور الذي يُفترض فيه الانشقاق ما زال مُلتزمًا بالحفاظ على نظام كانت الملايينُ، دون مبالغة، قد هبَّت لمعارضته وخرَجَت تهتف ضدَّه في حركة تمردٍ من أكبر الحركات التي شهدها التاريخ الحديث، حتى في اللحظة التي كان يُسْدي تلك المشورةَ فيها.
ومع ذلك فإن بِلْ قد أبدى ملاحظاتٍ مهمة بشأن الجهل العام بإيران في الولايات المتحدة؛ فلقد أصاب حين قال إن تغطية أجهزة الإعلام كانت سطحية، وإن السياسة الإعلامية الرسمية كانت مُسخَّرةً لتحقيق ما يريده الشاه، وإن الولايات المتحدة لم تبذل الجهدَ اللازم؛ سواءٌ لاكتساب معرفةٍ عميقة بالبلد أو للاتصال بالمعارضة. ولقد كانت مظاهر الإخفاق المذكورةُ من أعراض الموقف العام الذي اتخذَته الولايات المتحدة وأوروبا إزاء العالم الإسلامي، وأيضًا، وعلى نحوِ ما سوف نرى، إزاء معظم بلدان العالم الثالث، وإن لم يصرح بذلك جيمس بِلْ، بَل إن عدم ربطه بين ما كان يقوله مُحِقًّا عن إيران بسائر العالم الإسلامي يدخل في إطار ذلك الموقف نفسِه. فلم يتعرَّض أحد، أولًا، لإجابة الأسئلة المنهجية الرئيسية وهي: ما قيمة الحديث عن «الإسلام» و«النهضة الإسلامية» (إن كانت للحديث قيمة)؟ وثانيًا: ما هي، أو كيف ينبغي أن تكون، العلاقةُ بين سياسات الحكومة والبحث العلمي؟ هل من المفترض أن يَسْموَ الخبير على مستوى السياسة أو يُصبح مُلحَقًا متصلًا بالحكومات؟ وقال بِل المذكور، وويليم بیمان، من جامعة براون، في مناسبتَين منفصلتين، إن أحد الأسباب الرئيسية للأزمة الناشبة بين الولايات المتحدة وإيران في ۱۹۷۹م هو عدم استشارة الخبراء الأكاديميين الذين أُنفِقَت على تعليمهم مبالغُ طائلة لهدفٍ محدد؛ وهو اكتساب المزيد من المعرفة بالعالم الإسلامي.25 أما الذي فات بِلْ وبيمان أن ينظرا فيه فهو ما يلي: ربما كان سعيُ الباحثين نفسُه للنهوض بهذا الدور، حتى وهم يُطلقون على أنفسهم لقب الباحثين، سببًا في أن يظهروا بمظهرِ مَن يفتقر إلى الوضوح والحسم فيفقدوا مِصداقيتهم في عيون الحكومة وفئة المثقفين جميعًا.26

ولنتساءل أيضًا، إلى جانب ذلك، عمَّا إذا كان المفكر المستقلُّ (وهو الذي لا بد أن يَكونَه كلُّ باحث أكاديمي على أية حال) يستطيع أن يحافظ على استقلاله وهو يعمل في الوقت نفسِه لحساب الدولة؟ وما الصلة بين المشاركة السياسية الصريحة وبين البصيرة الصائبة؟ هل تنفي إحداهما الأخرى، أم أن ذلك لا يَصدُق إلا في بعض الحالات؟ لماذا حُرم الباحثون في الإسلام جميعًا في أمريكا (على قِلة عددهم) من مخاطبة جمهورٍ أوسع؟ لماذا حدث ذلك في الوقت الذي بدَت فيه الولاياتُ المتحدة في مَسيس الحاجة إلى المشورة؟ ومن المحال إجابةُ هذه الأسئلة جميعًا، بطبيعة الحال، إلا بالرجوع إلى الإطار الفعلي، الذي يغلب عليه الطابعُ السياسي، ويحكم العلاقاتِ تاريخيًّا بين الغرب والعالم الإسلامي. فلننظر إذن إلى ذلك الإطار حتى نرى الدورَ المنوط بالخبير فيه.

لم أستطع أن أكتشف فترةً في التاريخ الأوروبي أو التاريخ الأمريكي منذ العصور الوُسطى ناقش أحدٌ فيها الإسلامَ أو فكَّر فيه خارج إطارٍ صاغَتْه العاطفةُ المشبوبة، والتعصب، والمصالحُ السياسية. وقد لا يبدو ذلك اكتشافًا يدعو إلى الدهشة، ولكنه يضم في ثناياه جميع ألوان المباحث العلمية والأكاديمية التي كانت منذ مطلع القرن الثامن عشر تُطلق على نفسها اسمًا كُلِّيًّا هو مبحث الاستشراق أو كانت تحاول، بانتظام، دراسةَ الشرق. ولن يختلف أحدٌ مع القول بأن أوائل الذين علَّقوا على الإسلام، مثل بطرس المبجل، وبارتلیمی دربیلو، قد اتخَذوا موقفَ المجادلة المسيحية المشبوبة فيما قالوه. ولكنَّ أمامنا افتراضًا لم ينظر أحدٌ في صحته يقول إنه حين تقدمَت أوروبا والغرب فاتخذَت خطواتها في العصر العلمي الحديث، وحرَّرَت نفسها من الخرافة والجهل، كانت مسيرتها بالضرورة تتضمَّن الاستشراق. أليس صحيحًا أن سيلفستر دي ساسي، وإدوارد لين، وإرنست رينان، وهاملتون جِبْ، ولويس ماسينيون، كانوا من الباحثين والعلماء الموضوعيين، وأليس صحيحًا أن مِن آثار التقدم الذي شهده القرن العشرون بشتى ألوانه في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا واللغويات والتاريخ أنْ أصبح الباحثون الأمريكيون الذين يقومون بتدريس الشرق الأوسط والإسلام في جامعاتٍ كُبرى مثل برنستون وهارفارد وشيكاغو، بالضرورة، غير منحازين ولا يُمارسون الدعوة إلى شيء فيما يفعلونه؟ أما الإجابة عندي فهي بالنفي. وليس ذلك لأن الاستشراق أكثرُ تحيُّزًا من العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى؛ لكنه وحسب، مثلَ غيره من المباحث المذكورة، له سِماتُه الأيديولوجية ويتأثر مثلَها بالعالم من حوله. أما الفارق الأوحد فهو أن باحثي الاستشراق يُبادرون باستخدام مواقعهم، باعتبارهم خبراء، في إنكار (وأحيانًا حتى في إخفاء) مشاعرهم العميقة تجاه الإسلام بلغة الثقات التي تهدف إلى الشهادة «بموضوعيتهم» وكذلك «بحيادهم العلمي».

هذه واحدة. أما الأخرى فهي ما يتميز به هذا النسقُ التاريخي المعين، ولولاه لتساوت مظاهرُ الاستشراق جميعًا واستحال تمييزُ أحدِها عن سِواها. وأما هذا النسق فهو أنه كلما شعر الناس، في العصور الحديثة، بتوتر سياسيٍّ حادٍّ بين الغرب والشرق التابع له (أو بين الغرب وبين الإسلام التابع له) ظهر النزوع في الغرب إلى العزوف عن اللجوء إلى العنف مباشرة، بل اللجوء أولًا إلى رسم صورة الخَصم بالأدوات والوسائل الهادئة التي تتمتَّع بالتجرُّد النسبي والتي يتميز بها كلُّ رسم عِلميٍّ شبه موضوعي، وهكذا يزداد وضوحُ صورة «الإسلام» ويظهر «الطابع الحقيقي» لما يُمثله من تهديد، وهو ما يوحي ضمنًا بالخطوات التي سوف تُتَّخَذ إزاءه. وفي مثل هذا السياق، يبدو للكثير من المسلمين، الذين يعيشون في ظل ظروفٍ بالغة التنوُّع، أن العلم والعنف المباشر شكلان من أشكال العدوان على الإسلام.
وفيما يلي مثالان بارزان يشهدان على صحة القضية التي أطرحها. فنحن حين نسترجع التاريخَ القريب نرى أن فرنسا وإنجلترا سبَقَتا احتلالهما في القرن التاسعَ عشر لبعض أجزاءٍ من الشرق الإسلامي بفترةٍ تعرَّضَت فيها شتى الأساليب العلمية المستخدَمة في تحديد ملامح الشرق وتفهمه لقدرٍ باهر من التحديث والتطور التقنيين.27 فلقد جاء الاحتلال الفرنسي للجزائر عام ۱۸۳۰م في أعقابِ مرحلة امتدَّت قرابة عَقدَين أحال العلماءُ الفرنسيون فيها دراسةَ الشرق من مجال الآثار إلى مبحثٍ علمي حديث. وكان قد سبق هذا، كما هو معروف، قيامُ نابليون بونابرت باحتلال مصر عام ۱۷۹۸م، ونحن نذكر أنه قد مهَّد لحملته بأنْ جمع حشدًا من العلماء النابهين حتى يكفل لمشروعه النجاح. ولكن ما أقوله هو إن احتلال نابليون لمصر الذي لم يَطُل عهده كان بمثابة انتهاءِ فصل، وأما الفصل الجديد فقد بدأ بالفترة الطويلة التي تولَّى فيها سيلفستر دي ساسي رعايةَ المؤسسات الفرنسية للدراسات الشرقية، فأصبحَت فرنسا تتزعَّم العالمَ في الاستشراق، ثم وصل هذا إلى ذروته بعد قليلٍ حين قامت الجيوش الفرنسية باحتلال الجزائر عام ۱۸۳۰م.
ولا أريد على الإطلاق أن أُوحيَ بوجود علاقة سببية بين شيءٍ وآخر، أو أن أتخذ الموقفَ المناقض للعقلانية الذي يقول إن المعارف العلمية تؤدِّي بالضرورة إلى العنف والمُعاناة. فكل ما أريد قوله هو إن الإمبراطوريات لا تولد في التوِّ واللحظة، كما أنها لم تعتمد على الارتجال في إدارتها في العصر الحديث. فإذا كان تطورُ العلم يتضمن إعادةَ تعريف وإعادة تشكيلِ مجالات الخبرة البشرية على أيدي علماء يتسامَون على المادة التي يدرسونها، فليس من قبيل الخروج عن موضوعي أن أرى التطور نفسه عند السياسيين الذين يُعاد تحديد وتعريف نِطاق سلطانهم حتى يضمَّ مناطق العالم «الأدنى» منزلةً حيث يمكن اكتشاف مصالح «قومية» جديدة. وينتهي الرأي في وقتٍ لاحق إلى أنها تحتاج إلى الإشراف الوثيق عليها.28 وأشك كثيرًا في أن إنجلترا كان يمكن أن تحتلَّ مصر تلك الفترة الطويلة احتلالًا قائمًا على مؤسساتٍ هائلة لولا استثمارُها الثابت الطويل للدراسات الاستشراقية التي بذَر بذورَها بعضُ الباحثين أولَ الأمر؛ مثل إدوارد وليم لين، وويليم جونز. فأمَّا ما أثبته المستشرقون بشأن الشرق فهو أنهم أتاحوا المعرفة به، ويُسْر الوصول إليه، وسهولةَ تصويره في عيون الغرب. أي إن الشرق يمكن أن يُرى، وأن يُدرَس، وأن يخضع للإدارة، ومن ثَمَّ فلا حاجة بنا إلى أن نصبر على استمرار بُعد ذلك المكان الحافل بالأعاجيب والزاخر بما يستعصي على الفهم، وهو المكان البالغ الثراء! وإذن فمن الممكن لنا أن ننقله إلى ديارنا، أو بعبارةٍ أبسط، تستطيع أوروبا أن تجعله امتدادًا لأوطانها، على نحوِ ما فعلتْ في الواقع بعد ذلك!
أما المثال الثاني الذي أسوقه فهو معاصر. فالشرق الإسلامي اليوم ذو أهمية واضحة؛ إما بسبب موارده أو بسبب موقعه الجغرافي، وإن كان كلٌّ من هذين السببين لا يتفق مع المصالح أو الحاجات أو الآمال الخاصة للشرقيين من أبناء تلك البلدان. ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية والولايات المتحدة تحتلُّ مواقعَ السيطرة والهيمنة التي كانت تَشغلها بريطانيا وفرنسا يومًا ما في العالم الإسلامي. وقد صاحب الإبدالَ المذكورَ لنظام إمبريالي بنظام إمبريالي آخر بروزُ ظاهرتين؛ الأولى هي تفتُّح براعم الاهتمام العلمي والأكاديمي بالإسلام، وهو الاهتمام الموجَّه للتعامل مع الأزمات، والثانية هي الثورة الهائلة في التقنيات المتاحة للصحافة التي يملكها القطاعُ الخاص بصفة رئيسية وصناعات الصحافة الإلكترونية. فلم يسبق في التاريخ أنْ قامت أجهزة الإعلام بتغطية أنباء بقعةٍ من بقاع التوتر مثل إيران بمثلِ هذه السرعة والانتظام حتى بدا كأنَّ إيران قد دخلَت حياة الأمريكيين، وإن كانت غريبةً عليهم، بعُمق وتركيز غير مسبوق. وتضافرت هاتان الظاهرتان — وتأثير الثانية أكبرُ من الأولى — وهما اللتان جعَلتا جانبًا ضخمًا من جهاز خبراء الجامعة والحكومة وقطاع الأعمال التجارية يتولى دراسةَ الإسلام والشرق الأوسط، حتى أصبح الإسلام موضوعًا مألوفًا لكل «مستهلِك» للأنباء في الغرب؛ أقول إنهما تضافرتا حتى جعلتا الإسلام نزيلًا في منازل الغربيين، أو على الأقل جوانبه التي تعتبر جديرةً بتناقُل أخبارها. ولم يقتصر الأمرُ على أن أصبح ذلك العالمُ موضوعًا لأعمق حالات التشبُّع الثقافي والاقتصادي الغربي في التاريخ — إذ لا يوجد إقليمٌ غيرُ غربي يتعرض لسيطرة الولايات المتحدة اليوم مثل العالم العربي الإسلامي — بل إن ميزان المبادلات بين الإسلام والغرب (الذي تُمثله الولايات المتحدة في هذه الحالة) يميل مَيلًا شديدًا إلى جانبٍ دون الآخر، كما أنه يتسم كذلك بالانحراف الشديد عن ميزان المبادلات بين الغرب وسائر مناطق العالم الإسلامي التي لا تَشغَل نشرات الأنباء.
وقد لا أبالغ إلا مبالغةً طفيفة إذا قلتُ إن المسلمين والعرب يتعرضون للتغطية الإعلامية، وللمناقشة، وللخشية منهم بصفة أساسية؛ إما باعتبارهم مُورِّدين للنفط أو بسبب احتمالِ مُزاولتهم للإرهاب. ولم يتسرب إلا أقلُّ القليل من تفاصيل الحياة العربية الإسلامية وكثافتها الإنسانية ومشاعرها المشبوبة إلى وعيِ أحد، حتى أولئك الأشخاص الذين يحترفون نقل أنباء العالم الإسلامي، وبدلًا من هذا لا نجد إلا سلسلةً محدودة من الصور الكاريكاتورية العامة والفجَّة للعالم الإسلامي، وهي تُقدَّم بأسلوب يُعرِّضه، فيما يعرِّضه له، للعدوان العسكري.29 ولا أعتقد أنه كان من قبيل المصادفة أن يكون الحديث الذي دار في الآونة الأخيرة عن قيام الولايات المتحدة بالتدخُّل العسكري في الخليج العربي، أو ما يُسمى بمبدأ كارتر، أو المناقشات التي دارت حول قوات الانتشار السريع، قد سبقَته فترةٌ من التصوير العقلاني «للإسلام» من خلال البرامج التلفزيونية الهادئة، ومن خلال دراسة المستشرقين «الموضوعية» (ومن المفارقات أنها كانت على أحد حالين: إمَّا أنها «لم تكن لها صلة» بحقائق الواقع الحالي، أو أنها حين اتخذَت طابَع الدعاية «الموضوعية» لم تنجح إلا في تنفير الجمهور من ذلك «العالم»): إن الوضع الحاليَّ يتسم بعدة أوجُهِ شبَهٍ مثيرة للرِّعدة مع الوضع الذي نشأ في القرن التاسع عشر عندما قامت بريطانيا وفرنسا بغزو العالم العربي الإسلامي.

ولهذا أسبابٌ سياسية وثقافية أخرى. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، عندما نهضَت الولايات المتحدة بالدور الإمبریالي الذي كانت تنهض به فرنسا وبريطانيا، وضعَت مجموعة من السياسات اللازمة للتعامل مع العالم الخارجي والتي كانت مناسبة لخصائص ومشكلات كل إقليم يؤثر ويتأثَّر بمصالح الولايات المتحدة، فوضعَت مشروعًا لنهضة أوروبا من كَبْوة الحرب، واتخذَت له الخطوات المناسبة، ومن بينها خُطة مارشال وغيرها من السياسات المماثلة. وبرز الاتحاد السوفييتي بطبيعة الحال باعتباره أقوى منافسٍ للولايات المتحدة، وكما لا يحتاج أحدٌ إلى التذكير، أدَّت الحرب الباردة إلى وضع سياسات ودراسات، بل وإلى نشأةِ منهج في التفكير لا يزال يسيطر على العلاقة بين الدولتين العُظمَيَين. وكان مِن جرَّاء ذلك تركُ ما أصبح يُسمى بالعالم الثالث، فأصبح ساحةً للتنافس، لا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي فقط، بل أيضًا بين الولايات المتحدة وشتى الدول الوطنية بُعَيد حصولها على استقلالها من الاستعمار الأوروبي.

وكان واضعو السياسات الأمريكيون يعتبرون بلدانَ العالم الثالث، وبلا استثناءٍ تقريبًا، بلدانًا «متخلِّفة»، تسيطر عليها أساليبُ حياةٍ «تقليدية» قديمة بالية ثابتة دونما داعٍ، ويرون أنها تتعرَّض لأخطار التخريب الشيوعي والركود الداخلي. وهكذا وضعَت الولايات المتحدة «تحديث» العالم الثالث على قمة جدول أعماله؛ إذ كانت «نظرية التحديث»، كما يقول جيمس بك، «الإجابة الأيديولوجية اللازمة لعالمٍ تزداد فيه القلاقلُ الثورية، وتستمرُّ فيه معارضة النُّخب السياسية التقليدية.»30 وهكذا تدفَّقَت مبالغُ مالية هائلة إلى أفريقيا وآسيا بهدف وقف الشيوعية، وترويج التجارة الأمريكية، وقبل ذلك كلِّه، بِناء صفوف من الحُلفاء المحليِّين وهم الذين يرمي وجودُهم، فيما يبدو، وبصراحةٍ إلى تحويل البلدان المتخلِّفة إلى صورٍ مصغَّرة من أمريكا. وبمرور الزمن تطلَّب الأمر استكمالَ الاستثمارات المبدئية بمبالغَ إضافية وزيادة الدعم العسكري حفاظًا عليهم، وقد أدَّى هذا بدوره إلى التدخل المتكرر في شتى بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية، وهو الذي دمغ الولايات المتحدة بمُعاداة كل ضَرب من ضروب القومية المحلية تقريبًا.

ولن يتَسنَّى لنا أن نفهم الفَهم الكامل تاريخَ جهود الولايات المتحدة في سبيل تحديث وتنمية العالم الثالث إلا إذا أدركنا ما أدَّت إليه تلك السياسات نفسِها؛ فلقد نشأتْ عنها طرائقُ معينة في التفكير والنظر إلى العالم الثالث، كان من شأنها زيادةُ الاستثمار السياسي والعاطفي والاستراتيجي في فكرة التحديث ذاتِها، على نحوِ ما تُمثله خيرَ تمثيل حالةُ فيتنام. فما إن تقرَّر إنقاذُ ذلك البلد من الشيوعية بل من ذاته، حتى نشأ «عِلْمٌ جديد» خاصٌّ بتحديث فيتنام (ولقد عُرِفَت آخِرُ مراحله وأثقلُ المراحل تكلفةً باسم «الفَتْنمة»). ولم يقتصر المشاركون فيه على المتخصصين الحكوميِّين بل انضم إليهم خبراء الجامعات. وبمرور الوقت أصبح بقاءُ الأنظمة الموالية لأمريكا والمعادية للشيوعية شاغلًا يتمتَّع بالأولوية على كل ما عداه، حتى عندما اتَّضح أن غالبيةً كبيرة من السكان تعتبر هذه الأنظمةَ غريبةً وظالمة، وحتى حين أدَّى الدخولُ في حروب فاشلة لحساب تلك الأنظمة إلى تخريب المنطقة بأسْرِها وفِقدان ليندون جونسون رئاستَه لأمريكا. ومع ذلك فلقد صدَرَت كتاباتٌ بالغةُ الكَثرة عن فضائل ومحاسن تحديث المجتمع التقليدي حتى اكتسبَت تلك الكتاباتُ منزلة الحُجة التي يُستشهَد بها اجتماعيًّا (وثقافيًّا بالتأكيد) في الولايات المتحدة، بل لقد استمرَّ ذلك حتى حين ربط تفكيرُ الناس في كثير من مناطق العالم الثالث ما بين «التحديث» وبين سفَهِ الإنفاق، واقتناء أدوات حديثة وأسلحة لا لزوم لها، والحُكَّام الفاسدين، والتدخل الوحشي من جانب الولايات المتحدة في شئون البلدان الصغيرة والضعيفة.

ومن بينِ الأوهام الكثيرة التي كُتب لها البقاء في إطار نظرية التحديث وَهْمٌ يرتبط ارتباطًا خاصًّا فيما يبدو بالعالم الإسلامي، ألا وهو أن الإسلام كان يعيش، قبل قدوم الولايات المتحدة، في نوع من الطفولة اللازمَنية التي يتحصَّنُ فيها ضد التنمية الحقيقية بمجموعة بالية قديمة من الخرافات، وأنَّ له كُهَّانًا ونُسَّاخًا يتَّسمون بالغرابة ويَحُولون بينه وبين الانتقال من العصور الوُسطى إلى العالم الحديث. وفي هذا يتفق الاستشراقُ اتفاقًا دقيقًا مع نظرية التحديث. فإذا صح ما قالت به دراساتُ المستشرقين على مر السنين من أن المسلمين لا يَزيدون عن كونهم أطفالًا يؤمنون بالقضاء والقدَر، ويتعرَّضون لطغيان تكوينهم العقليِّ نفسِه، وطغيان «علمائهم» وقادتهم السياسيين ذَوي النظرات الوحشية، بحيث يُقاومون الغرب والتقدم، أفلا يستطيع كلُّ مَن يجدر بالثقة فيه من المتخصصين في العلوم السياسية والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع أن يُثبت أنه من الممكن الأخذُ بأسلوب حياةٍ شبيهٍ بأسلوب الحياة الأمريكية في إطار الإسلام، إذا سنَحَت فرصةٌ معقولة، عن طريق البضائع الاستهلاكية والدعاية المعادية للشيوعية والقادة «الصالحين»؟ ولكن الصعوبة في حالة الإسلام ترجع إلى أن الغرب لم ينجح يومًا في استرضائه أو هزيمته، بخلاف ما حدث في الهند أو في الصين؛ فلقد استمرَّ الإسلام (أو استمرت إحدى صوره) — ولأسبابٍ يَستعصي إدراكُها، فيما يبدو، دائمًا على الباحثين، في السيطرة على المؤمنين به، والذين تردَّدَ القول وبانتظام بأنهم عازفون عن تقبُّل الواقع، أو على الأقل ذلك الجانب من الواقع الذي يمكن إثباتُ تفوق الغرب فيه.

وهكذا استمرَّت جهود التحديث على امتداد العَقدَين اللذَين أعقَبا الحرب العالمية الثانية وأصبحَت إيران في الواقع قصةَ نجاح التحديث المثالية، وأصبح حاكمُها هو الزعيمَ الذي تفوَّق في «التحديث». وأما عن سائر العالم الإسلامي، سواءٌ كان الأمر يعني القوميِّين العرب، أو جمال عبد الناصر في مصر، أو سوکارنو في إندونيسيا، أو الوطنيِّين الفلسطينيين، أو جماعات المعارضة الإيرانية، أو آلاف المجهولين من الدُّعاة الإسلاميين، أو الجماعات الإسلامية، أو أرباب المذاهب الإسلامية المختلفة، فلقد كان مصيرُه جميعًا إما المعارضة أو التجاهل من جانب الدارسين الغربيِّين الذين وجَّهوا استثماراتٍ ثقيلةً إلى نظرية التحديث والمصالح الاستراتيجية والاقتصادية الأمريكية في العالم الإسلامي.

ولقد قدَّم الإسلام في عَقد السبعينيَّات المتفجر دليلًا جديدًا على العناد المتأصِّل فيه، فلقد شهد ذلك العَقد، مثلًا، الثورةَ الإيرانية، التي لم تكن مُواليةً للشيوعية أو للتحديث، وكان من المحال تفسيرُ ما فعَله مَن أسقطوا الشاهَ وَفقًا للقواعد التي تفترضها سَلفًا نظرية التحديث؛ إذ لم يُظهروا امتنانهم، فيما يبدو، للمزايا التي جاء بها التحديثُ للحياة اليومية (مثل السيارات، والجهاز العسكري والأمني الهائل، والنظام المستقر) ولم يكترثوا، فيما يبدو، لِمُداهنات الأفكار «الغربية» على الإطلاق،31 أما ما أقضَّ مضجعَ الباحثين في موقف هؤلاء، وخصوصًا في موقف الخوميني، فهو رفضهم بضراوةٍ تقبُّلَ أيِّ أسلوب سياسي (أو حتى عقلاني) لم يضَعوه بأنفسهم. وقبل كل شيء، كان استمساكهم بالإسلام يتضمن قدرًا محيِّرًا من التحدِّي. ومن المفارقات أنه لم يفطن إلا قلةٌ ممن تحدَّثوا في الغرب عن البدائية «الإسلامية» واعتماد الإسلام على طرائق المنطق السائدة في العصور الوسطى، إلى أن إسرائيل التي يحكمها بيجين، والتي تقع على مَبْعدةِ أميالٍ إلى الغرب من إيران، تُطبق نظامًا على استعدادٍ كامل لإقامة أفعاله على أسُس السلطة الدينية ووفقًا لمذهبٍ لاهوتي بالغ الرَّجعية.32 بل ولم يفطن إلا أقلُّ من هذه القِلَّة من المعلقين، الذين كانوا يَنْعون الفورة الظاهرة للتديُّن عند المسلمين، إلى ارتباطها بفورةٍ مُماثلة في «أديان التلفزيون» والتي اعتنقَتها الملايين، في الولايات المتحدة، أو إلى أنَّ اثنين من المرشَّحين الرئيسيِّين لرئاسة الجمهورية عام ۱۹۸۰م أخذا يُعلنان أنهما وُلِدا من جديد في كنَف المسيحية التي يُخلصان لها أعمقَ إخلاص.
وهكذا لم تَعُد الحميَّة الدينية تُنسَب إلى أي دين سوى الإسلام، حتى بعد انتشار المشاعر الدينية الفيَّاضة وبروزها في كل مكان، ويكفي أن نذكر كيف أسرَفَت الصحف «المتحررة» في الحديث عن الشخصيات الدينية التي تُقِرُّ بعدم «تحررها» مثل سولجنتسين أو البابا يوحنا بولس الثاني حتى نُدرك مدى الانحياز في الموقف العدائيِّ تجاه الإسلام.33 وهكذا أيضًا تمكَّن الغربيون من تفسير سلوكِ معظم الدول الإسلامية قائلين إنه يُمثل «تقهقرًا» للاحتماء بالإسلام، من المملكة العربية السعودية التي رفضَت المصادَقةَ على اتفاقيات كامب دافيد فافترض المُعلِّقون أنها لجأتْ في ذلك إلى تطبيق منطقٍ إسلامي خاص، إلى باكستان وأفغانستان والجزائر. وهكذا نرى كيف أصبح العالمُ الإسلامي يختلف، في العقل الغربيِّ بصفة عامة وفي عقل الولايات المتحدة بصفة خاصة، عن سائر مناطق العالم التي يمكن تحليلُ مواقفها من زاوية الحرب الباردة. وعلى سبيل المثال بدا من المحال الحديثُ عن المملكة العربية السعودية والكويت باعتبار أنهما ينتميان «للعالم الحر»، بل وحتى إيران إبَّان حُكم الشاه، وعلى الرغم من التزامها القاطع بمُعاداة الشيوعية؛ إذ كان من المحال أن نعتبرها تنتمي حقًّا إلى «جانبنا» بالصورة التي تنتمي بها فرنسا وبريطانيا مثلًا. ومع ذلك فقد دأب واضِعو السياسات في الولايات المتحدة على الحديث عن «فقدان» إيران، مثلما كانوا يتحدَّثون في العُقود الثلاثة الأخيرة عن «فقدان» الصين وفيتنام وأنجولا. زِدْ على ذلك أنه كان من سوء الحظ الشديد للبلدان الإسلامية في منطقة الخليج العربي أن ينظر إليها الأمريكيُّون المتخصصون في إدارة الأزمات باعتبارها أماكنَ جاهزةً للتدخل العسكري الأمريكي. وهكذا قال جورج بول في مجلة نيويورك تايمز ماجازين بتاريخ ۲۸ يونيو ۱۹۷۰م، بلهجة التحذير، إن «مأساة فيتنام» يمكن أن تؤدِّيَ إلى «الاسترضاء والعُزلة» الداخلية، ولكن للولايات المتحدة مَصالح بالغة الأهمية في الشرق الأوسط، إلى الحد الذي يقتضي من الرئيس «تعليم» الأمريكيين ما يلزم بشأن إمكان التدخل العسكري هناك.34
ولا بد من ذكر أمرٍ آخَر هنا، ألا وهو الدور المَنوط بإسرائيل في تمثيل رؤية الغرب، وخصوصًا رؤية الولايات المتحدة للعالم الإسلامي منذ الحرب العالمية الثانية. ففي المقام الأول يَندُر أن تُشير الصحافة الغربية إلى الطابَع الديني لإسرائيل، وهو الطابَع الذي تُصرح به إسرائيل نفسُها، ولم نشهد إلا في الآونة الأخيرة إشاراتٍ سافرةً إلى التعصب الدينيِّ الإسرائيلي. وكانت كلُّها خاصةً بمتحمِّسي منظمة غوش إمونيم الدينيِّين، والذين كان نشاطهم الرئيسي ينحصر في استخدام العنف لإنشاء مستوطنات غيرِ مشروعة في الضفة الغربية. ولكن معظم الإشارات إلى غوش إمونيم في الغرب تتجاهل ببساطةٍ حقيقةً «مزعجة» وهي أن حكومة حزب العمل «العلمانية» كانت أولَ مَن أقرَّ إنشاء المستوطنات غير المشروعة في الأراضي العربية المحتلة؛ أي إن الأمر لا يقتصر على المتعصبين الدينيين الذين يُثيرون القلاقلَ حاليًّا. وأعتقد أن هذا الإعلام المنحاز دليلٌ على الأسلوب الذي استخدمه الغرب في الإيحاء بأن إسرائيل — التي يقولون إنها «الديموقراطية الوحيدة» في الشرق الأوسط ويؤكدون أنها «حليفنا الوثيق» — تمثل النموذجَ المقابل للإسلام.35 وهكذا ظهرَت إسرائيل بمظهر مَعقِل الحضارة الغربية الذي أُقيم (مع قدرٍ كبير من التهليل له وتهنئة ذواتهم عليه) وسط البريَّة الإسلامية. وثانيًا نجد أن عيون الغرب أصبحت ترى أن أمن إسرائيل يُوازي صدَّ غائلة الإسلام، وهو ما يُريح الغربيين، وترسيخ الهيمنة الغربية إلى ما لا نهاية، وتبيان فضائل التحديث ومزاياه. وهكذا نرى أن ثلاثَ مجموعات من الأوهام تدعم وتُولِّد بعضُها البعض في سبيل تعزيزِ صورة الغرب لذاته ونشرِ سيطرة الغرب على الشرق؛ وهي: صورة الإسلام، وأيديولوجية التحديث، وتأكيد القيمة العامة لإسرائيل عند الغرب.

وبالإضافة إلى ذلك، وحتى تُصبح «مواقفنا» إزاء الإسلام في غاية الوضوح؛ نشأ جهازٌ كامل للإعلام ووضع السياسات في الولايات المتحدة بحيث يعتمد على هذه الأوهام وينشرها على نطاق واسع. فإذا بشرائحَ عريضةٍ من المثقفين المتحالفين مع رجال الاستراتيجيات الجغرافية السياسية يشتركون في الإدلاء بآراء مفصَّلة مُسهبة عن الإسلام، وعن النفط، وعن مستقبل الحضارة الغربية، وعن الكفاح في سبيل الديموقراطية ضد القلاقل والإرهاب. وللأسباب التي ناقشتُها آنفًا، يقوم المتخصِّصون في الإسلام بتغذية هذا التيار الكبير، على الرغم من الحقيقة التي لا يمكن إنكارها؛ وهي أن جانبًا مما يجرى في الدراسات الإسلامية الأكاديمية قد أصابته عدوى الرُّؤَى الثقافية والسياسية التي نجدها في الجغرافيا السياسية وأيديولوجيا الحرب الباردة. وتحت ذلك المستوى بقليلٍ تأتي أجهزة الإعلام الجماهيرية، وهي التي تأخذ من الوحدتين الأُخرَيَين من وحدات الجهاز ما يمكن ضغطُه بأقصى سهولةٍ ممكنة في صور محدَّدة، ومن هنا تأتي الصور الكاريكاتورية، والجماهير الغوغائية المخيفة، والتركيز على الحدود (أي العقوبات) «الإسلامية» وهلمَّ جرًّا. وتترأَّس هذا كلَّه المؤسساتُ ذاتُ النفوذ الجبار، مثلُ شركات النفط، والشركات العملاقة، والشركات المتعددة الجنسيات، وأجهزة الدفاع والاستخبارات، والفرع التنفيذي للحكومة. وعندما قضى الرئيس كارتر عطلة رأس السنة الأولى بعد تولِّيه منصبَ رئيس الجمهورية عام ۱۹۷۸م مع شاه إيران، وقال إن إيران «جزيرة استقرار» كان يتحدَّث بلسان القوة المحتشِدة لهذا الجهاز الجبَّار، وهو الذي يُمثل مصالح الولايات المتحدة، ويُغطِّي الإسلامَ في الوقت نفسِه.

ثانيًا: جماعات التفسير

ومن الجدير بنا في هذا السِّياق أن ننظر في أساليب «انتفاع» واضِعي الاستراتيجيات السياسية الجغرافية والمثقفين الليبراليين بصورة الإسلام في الولايات المتحدة؛ فليس من قبيل المبالغة أن نقول إن ذكر «الإسلام» نادرًا ما كان يردُ في المجالات الثقافية أو الإعلامية قبل الارتفاع المفاجئ في أسعار النفط الذي أعلنَته منظَّمة «أوبك» في أوائل عام ١٩٧٤م. كنا نشاهد ونسمع عن العرب والإيرانيين، وعن الباكستانيين والأتراك، لكنه كان من النادر أن يشير أحدٌ إلى «المسلمين». لكن الارتفاع الهائل في تكلِفة النفط المستورَد أصبح يرتبط في عقول الجماهير بمجموعةٍ من الأمور الكريهة: اعتماد الأمريكيين على النفط المستورَد (وهو ما كان يُشار إليه عادةً بعبارة «الوقوع تحت رحمة مُنتجي النفط الأجانب»)، والخوف من أن ينتقل التشدُّد من الخليج العربي إلى الفرد الأمريكي، وقبل هذا وذاك إشارة — كأنما هي صادرةٌ من قوةٍ جديدة لم نكن نعرف هُويتها قبل الآن — تقول إن الطاقة لم تَعُد «ملكًا لنا» ما علينا إلا أن نمدَّ أيديَنا فننالَها. وسرعان ما أصبحَت بعضُ الكلمات، مثل «الاحتكار» و«الكارتيل» (أي اتفاق المنتِجين) و«التكتُّل»، شائعةً بصورة مفاجئة وإن كان شُيوعها مقصورًا على سياساتٍ مختارة، رغم أنه كان من أندرِ النادر أن يُشير أحدٌ إلى المجموعة الصغيرة من الشركات الأمريكية المتعدِّدة الجنسيات باعتبارها «کارتيل»؛ إذ اقتصَر الكُتَّاب والمتحدِّثون على إطلاق تلك التَّسْمية على أعضاءِ منظَّمة «أوبك». ولكن أهم ما في الأمر هو أنَّ تَعرُّض الاقتصاد لهذه الضغوط الجديدة قد أدَّى فيما يبدو إلى نشوء موقفٍ ثقافي وسياسي لا يقلُّ عن هذه الضغوط جِدَّةً. فبعد أن كانت الولايات المتحدة هي القوةَ المُهيمِنة في العالم؛ أصبحَت تتعرض لحصارٍ مثير أعلن انتهاء فترة «ما بعد الحرب» على حدِّ وصف فريتز ستيرن للموقف الحاليِّ في مجلة «كومنتاري».36
وكان من أهم الكتابات الأولى التي تحدَّثَت عن التغيير الناشئ، سلسلةُ المقالات التي نشرَتها مجلة كومنتاري في النصف الأول من عام ۱۹۷٥م. جاءت أولًا مقالةٌ كتبَها روبرت و. تاكر بعُنوان «النفط: قضية التدخُّل الأمريكي» (يناير) ثم جاءت مقالةُ دانيل باتريك موینیهان بعُنوان «الولايات المتحدة تُواجه المعارَضة» (مارس)، وعنوان كلِّ مقالة يُفصِح بوضوح قاطع عمَّا تدعو إليه. ثم أصبح موينيهان مندوبًا يُمثِّل الولايات المتحدة في الأمم المتحدة حيث ألقى خطاباتٍ كثيرةً يحذر فيها العالم قائلًا إن «الديموقراطيات الغربية» لا تملك أن تقفَ مكتوفةَ الأيدي إزاءَ ما تتعرضُ له من إذلالٍ على أيدي مجموعة من الدول ذات النُّظم الاستبدادية، وهي من المستعمَرات السابقة، ولا تُمثل إلا أغلبيةً [في الجمعية العامة]. ولكن حدود القضية كان قد سبق للكاتبَين وضعُها في مَقالتَيهما بمجلة «كومنتاري».
ولم يُشِر أيٌّ من الرجلين إلى الإسلام على الإطلاق، ومع ذلك فإن «الإسلام»، بالصورة التي ظهر بها بعد ذلك بعام واحد، بدأ يلعب الدورَ الذي رسمَته له التغيراتُ المفاجئة وغير المقبولة التي وصفَها تاكر وموینیهان. وأدَّت هذه بدَورها إلى رسم صورةِ ما كان الكثيرون من الأمريكيين يمرُّون به في الواقع، ومعاني الألفاظ التي يُعبِّرون بها عنه، وبناء التركيب «الدرامي» لعناصره. وهكذا بدا أن الولايات المتحدة، ولأول مرة في تاريخها، تتعرضُ لتطبيق مبدأ المساواة عليها من الخارج، بتعبير تاكر، وإذ بنا نُواجه بعضَ البلدان الأجنبية التي وصَفها موينيهان بأنه في جوهرها كِياناتٌ أوجَدَتها الإمبرياليةُ البريطانية، وقد استعارت أفكارَها وهُويتَها من الاشتراكية البريطانية، كما أنها تُقيم فلسفاتها على أساسِ نزع الملكية أو توزيع الثروة إذا لم يتيسَّر نزعُ مِلكيتها، ولا يُهمُّها سوى المساواة، لا الإنتاج، ولا الحرية فيما يبدو. وقال موینیهان: «إننا حقًّا من حزب الحرية» ثم أضاف بنبرة غطرسة عسكرية: «وقد ندهَش لمدى الطاقات الهائلة التي نستطيع إطلاقَها إذا رفعنا هذه الرايات».37 وقال تاكر إن هذه البلدان الجديدة، ومن بينها الدول المنتجة للنفط، تريد إزالةَ أوجُه التفاوُت «بيننا» و«بينهم»، وذلك — في رأي تاكر — من شأنه أن يأتيَ بما يُنذِر بالسُّوء من «تكافل»، وحبَّذا لو أخذنا أُهبتَنا لمقاومته، بغزو هذه الدول، إذا دعَت الضرورة.38
ويجدر بنا الإشارة بصفةٍ خاصة إلى عددٍ من «الاستراتيجيات» المُطبَّقة في هاتين المقالتين؛ إذ يتجاهل تاكر في حديثه تحديدَ أيِّ دولة من الدول المنتجة للنفط، مثلما يتجاهل موينيهان في حديثه ذِكْر بلدٍ بعينه من بلدان العالم الثالث الجديدة، أي إنه يتجاهل أن لأيٍّ منها هُويةً، وتاريخًا، ومسارًا وطنيًّا خاصًّا بها. فالكاتبان يشيران إليها وحسب، ويوجزان خصائصَها باعتبارها وَحدةً جماعية، ثم لا يعودان إلى ذكرها. ولا تزيد المستعمَرات السابقة لديهما عن كونِها مستعمراتٍ سابقة، والبلدان المنتجة للنفط تظلُّ دائمًا بُلدانًا منتجة للنفط. وفيما عدا هذين الوصفين، تظهر هذه البلدان في صورة البلدان المجهولة وذات العناد الغريب، بل والذي يُنذر بالخطر، كما أن مجرد وجودها يبدو كأنما يُمثل خطرًا مُضمَرًا أو ضِمنيًّا «لنا». ونرى ثانيًا أن هذه البلدان لا تَزيد عند الكاتبين عن صورٍ مجردة يضَعان في مقابلها صفًّا من دول العالم التي سبق لها الرسوخ؛ إذ يقول تاكر في مقالٍ لاحق عن النفط والقوة «إننا نواجه فجأة احتمال قيام مجتمع دوليٍّ يستحيل فيه ضمانُ التوزيع المُنظَّم لما اصطُلِح على تسميته ﺑ «الناتج العالمي»؛ وذلك لأن الأطراف الرئيسية التي تتمتَّع بالقوة بين الدول المتقدمة والرأسمالية قد لا تُصبح الأطرافَ الرئيسية التي تبتكرُ أصول النظام وتُرسي قواعدَه.»39 وما دامت هذه البلدان الجديدة لا تأتي بالنظام ولا تُرسي قواعده، فلا بد أن تكون عواملَ زعزعةٍ له. ونرى ثالثًا أنها عواملُ زعزعة لأنها، كمجموعة، لا تُمثل — ولا تستطيع أن تكون — سوى قوةٍ مُعادِلة عكسية ومضادَّة في الاتجاه «لنا».
وكان ما يقوله تاكر وموينيهان يتبع إلى حدٍّ ما منطقَ الترنيمة «المقدسة» للحالة النفسية في الغرب، من حيث الشعورُ بالحصار، وهي الترنيمة التي تُعاود الظهورَ من وقتٍ إلى آخَر في التاريخ الحديث للغرب. فنحن نراها مثلًا في كتاب هنري ماسیس بعُنوان الدفاع عن الغرب (١٩٢٧م)، وفي المقال الذي كتبه أنتوني هارتلي منذ عهدٍ قريب بعُنوان «الرابطة الهمجية: عن «العنصر المدمِّر» في تاريخ الحضارة»40 ولكن الذي يقف ضدَّ الغرب عند تاكر وموینیهان ليس شيئًا معروفًا «لنا»، على نحوِ ما يستطيع الإمبرياليُّ الأوروبي أن يتحدث عن «الشرقيين» باعتبارهم «أُناسًا نعرفهم»؛ وذلك «لأننا» كنا نحكمهم في الواقع في يومٍ من الأيام فعلًا. وأما أفضلُ ما يصف به موینیهان هذه الدولَ الجديدة في العالم الثالث فهو أنها صورٌ مُقلِّدة، لا نعرفها إلا من خلالِ النموذج الذي تُقلِّده، لا بخصائص ذاتية تُحدد هُويتها المستقلة. ولا يبدو أن تاكر يشير إلى شيء محدَّد حين يتحدث عن «المجتمع الدولي» الجديد إلا القولَ بأنه ينتهك النظامَ القديم. ولكن تُرى مَن يكون هؤلاء الناس، وما هي رغباتهم الفعلية، وما أصولهم الجغرافية، ولماذا يفعلون ما يفعلون؟ هذه أسئلةٌ لم تُطرح؛ ومِن ثَم فلا إجابة لها.
وفي الوقت نفسِه على وجه التقريب، كانت الولايات المتحدة آخذةً في التقهقر والخروج من الهند الصينيَّة. وعلى كَثرة ما كُتب في الآونة الأخيرة عمَّا يُسمي «بالظواهر المَرَضيَّة لفترةِ ما بعد فيتنام» في السياسة الأمريكية، فما أقلَّ عددَ الذين لاحَظوا أن تطبيق المزاعم القائلة بأن المصالح الأمريكية في البقاع النائية القَصِيَّة تحتاج إلى الدفاع العسكري عنها؛ قد انتقل برُمَّته من فيتنام إلى مكان أقرب، وهو العالم الإسلامي! وصاحَبَ ذلك تضَعْضُعُ ثقة الليبراليين تدريجيًّا بقضايا العالم الثالث بصفةٍ عامة، وخصوصًا تلك القضايا التي لم تُحقِّق فيما يبدو ما انْعقَد عليها من رجاء. ويخطر على البال في هذا الإطار مثلًا الكتابُ الذي كتبه جيرارد شالیاند بعُنوان ثورة في العالم الثالث، والذي كان بمثابة صرخةِ ألم من قلبِ رجل شهير، ساندَ حركاتِ التحرير الفيتنامية، والكوبية، والأنجولية، والجزائرية، والفلسطينية. وقد اختتم هذا الكتاب الذي وضَعه عام ۱۹۷۷م بنتيجةٍ مَفادُها أن معظم الجهود المناهضة للاستعمار قد أدَّت إلى نشوء دولٍ غير متميزة، تتوسَّل بالقمع، ولا تكاد تستحقُّ حماسَ أبناء الغرب لها.41 وقد يخطر على البال أيضًا ما نشرَته مجلة «دیسنت» (الانشقاق) في عددها الصادر في شتاء عام ۱۹۷۸م، ويتضمَّن الندوةَ التي دعَت المجلةُ إلى عقدها ودارت حول السؤال التالي: «هل تُبرر الأحداثُ الأخيرة في كمبوديا [أي انتصار قوات الخميريين الحُمر وما ورد من أنباء الفظائع التي تلَتْه] إعادةَ النظر في معارضتنا للحرب في فيتنام؟» وقد يدلُّ السؤالُ نفسُه، وإن لم تدلَّ الإجابةُ أيضًا، على حالة التراجع عن الحماس الذي امتازت به الستينيَّات، وما حلَّ مَحلَّه من ضيق يُثير القلق إزاء الحقائق الدولية الجديدة، وهي التي تُنذر في مجموعها بكارثةٍ وشيكةِ الوقوع. وقد استند المعلقون، مُحقِّين، في إقامة هذه الحُجة إلى الفشل العامِّ للنظام الاقتصادي الدولي.
وباختصار، كان الإحساس الذي راودَ مَن يسمعون الأنباءَ ويستعملون النفط إحساسًا غيرَ مسبوقٍ بإمكان ضياع شيءٍ ما وزعزعة شيءٍ قائم، دون أن يكون له وجهٌ معروف أو هُوية ظاهرة. فكل ما عرَفْناه هو أننا نوشك أن نفقد شيئًا لم نتساءل يومًا عن إمكان ضياعه. وإذن فلن نستطيعَ بعد الآن قيادةَ سياراتنا كما كنا نفعل، وأسعار النفط ارتفعت كثيرًا؛ ومن ثَم فإن أسباب راحتنا وعاداتنا تتعرَّض، فيما يبدو، لتغيُّر جذري وثقيل الوطأة. بل إن النفط نفسَه، وهو موضوع القضية في الواقع، ظلَّت صورتُه غامضةً بالمقارنة بخطرِ فِقدانه، فلم يكن أحدٌ يعرف، فيما يبدو، إذا ما كانت إمداداتُ النفط قد تناقصَت فعلًا، أو إذا ما كانت الصفوف الطويلة من السيارات في مِحطَّات الوقود قد أتى بها الفزَع، أو إذا ما كانت هوامشُ الربح التي ترتفع ارتفاعًا باهظًا في أيدي أصحاب شركات النفط لها صلةٌ ما بالأزمة.42 بل بدا أن الأزمة كانت تتصل اتصالًا أوثقَ بأشياءَ أخرى. فلقد بدأتْ صورُ العرب بأرديَتِهم التقليدية، وأموالهم الخيالية، وأسلحتهم الشاكية، تقتحمُ العيون في كلِّ مكان في الغرب. وعندها تيسَّر إرجاعُ التأكيد الجديد على الذات الإسلامية إلى ما أطلق عليه البعضُ حرب رمضان في أكتوبر ۱۹۷۳م، ففي تلك الحرب تمكَّن الجيش المصري من قهر وعبور خطِّ بارليف المنيع الرهيب، ولم يَفِرَّ الجنود العرب على نحوِ ما حدث في عام ۱۹٦۷م، بل أجادوا القتالَ بصورةٍ أدهشَت الجميع. ثم ظهرَت منظمة التحرير الفلسطينية في الأمم المتحدة في عام ١٩٧٤م، وأصبح الشيخ يماني شخصًا ذا مَهابة وسُلطان، دون أن يُعرَف لذلك سببٌ سوى أنه مسلم وأنه ينتمي إلى المملكة العربية السعودية ذاتِ النفط الوفير. وأصبح شاه إيران أيضًا زعيمًا عالميًّا، ولننظرْ إلى إندونيسيا والفلبِّين ونيجيريا وباكستان وتركيا، وبلدان مختلفة في الخليج العربي، والجزائر والمغرب، ولنتأمَّلْ كيف كانت قدرتُها المفاجئة على «تعكير صفو» الولايات المتحدة في منتصف السبعينيَّات، تتلازم بصورةٍ تدعو إلى القلق مع نُدرة المعلومات المتاحة عن ماضيها وهُويَّتها. فإذا بأعدادٍ كبيرة من الدول الإسلامية، وشخصياتها البارزة، وحضورها على المسرح الدولي، تنتقل في وعي الجماهير، ودون أن يُدرك ذلك أحد، من مكانة مَن لا يكاد يُدرك الناسُ وجودَه إلى مكانةِ مَن يتصدر نشراتِ الأخبار.
ولكن الانتقال لم يحدث في الواقع من مكانةٍ إلى مكانة، ولم تكن أيُّ شريحة يُعتدُّ بها من السكان على استعدادٍ لتفسير أو تحديد ما بدا في صورة الظاهرة الجديدة، باستثناء البعض — مثل موينيهان وتاكر — الذين استنبَطوا نتائجَ تاريخية عالمية منها، في إطارٍ يقتصر على ذكر الإسلام دون أن يأخذه حقًّا في اعتباره. وكان من نتائج صورةِ الإسلام اليوم أن أصبحَت، في كل مكان يُصادفها المرء فيه، صورةً طَليقة ومباشرة. فالافتراض الذي لا يَذكره أحد هو أولًا أن اسم العَلَم «الإسلام» يدلُّ على شيءٍ بسيط يمكن للمرء أن يشير إليه مباشرةً مثلما يشير إلى «الديموقراطية»، أو إلى شخصٍ من الأشخاص أو إلى مؤسسة مثل الكنيسة الكاثوليكية. ونحن نرى هذا الطابَع المباشر مثلًا في قصة غلاف مجلة تايم التي أشَرنا إليها آنفًا، وإن كان يتجلَّى بصورةٍ تدعو إلى قلقٍ أشدَّ في كل ما يظهر بصورةٍ منتظمة عند الإشارة إلى الإسلام في المستويات العُليا من المناقشات الثقافية العامة، وذلك في معظم الأحوال باعتباره موضوعًا من الموضوعات التي تَحظى بالتأمُّل الرزين الجادِّ في المجلات المهمة للعلوم الإنسانية، والتي أصبحَت لا تختلف كثيرًا في هذا الصدد عن أجهزة الإعلام الجماهيرية بسبب التغيُّرات التي سبق لي وصفُها في التفكير الثقافي والسياسي الجغرافي.
ومن المقالات الجديرة بالذكر المقالُ الذي كتبه مايكل وولتزر في مجلة نيو ريببلك، العدد الصادر بتاريخ ٨ ديسمبر ۱۹۷۹م، بعنوان «الانفجار الإسلامي»، ويناقش فيه باعتباره «غير متخصِّص» على حد قوله، عددًا هائلًا من أحداث القرن العشرين المهمة رغم أنها (كما يقول) تتَّسم بالعنف ويؤسَف لها في معظمها — في الفلبين وفي إيران وفي فلسطين وغيرها — ويقول إننا نستطيع تفسيرها باعتبارها نماذجَ لشيء واحد وهو الإسلام. ويقول وولتزر إن جميع هذه الأحداث تشترك في أنها أولًا تكشف عن نسقٍ دائم للقوة السياسية التي تتعدَّى على الغرب، وفي أنها جميعًا، ثانيًا، من إفراز حَميَّة مَعنوية مُخيفة (إذ يؤكد وولتزر بنبرات قاطعة أن مقاومة الفلسطينيين للاستعمار الإسرائيلي ذاتُ طابَعٍ ديني؛ أي إنها غيرُ سياسية أو مدَنية أو إنسانية)، وتشترك هذه الأحداث ثالثًا في أنها «تُحطم الواجهة الاستعمارية الهشَّة من الليبرالية أو العلمانية أو الاشتراكية أو الديموقراطية». ويُضيف أن هذه الخصائص المشتركة الثلاثة تكشف عن شيءٍ واحد هو «الإسلام»؛ فذلك «الإسلام» قوةٌ تتجاوز المسافاتِ الزمنيةَ والمكانية وهي التي كان يمكن أن تَفصل بين هذه الأحداث جميعًا. ولنا أن نَلحَظ أيضًا أنك — حسَبما يقول ولتزر — إذا أشرتَ إلى الإسلام فإنك تُلغي، تلقائيًّا، كُلًّا من المكان والزمن، وتستبعد التعقيداتِ السياسيةَ مثل الديموقراطية والاشتراكية والعلمانية، وتستبعد الضوابط الأخلاقية. وبنهاية المقال نجد أن وولتزر قد أقنَع نفسَه (على الأقل) أنه عندما يذكر كلمة «الإسلام» فإنه يشير إلى شيءٍ حقيقي مادي يُسمَّى الإسلام؛ أي إلى شيء له وجودٌ حاضر إلى الحدِّ الذي يجعل من اتخاذ أيِّ وسيط أو وضع أيِّ صفات مميزة بمثابة اهتمام بتوافِهَ لا داعيَ لها. ويرتبط بافتراض هذا الطابع المباشر نُزوعٌ يُمثل القرينَ المحتوم، ألا وهو النزوع إلى الحديث عن الإسلام باعتباره شيئًا بلا تاريخ خاصٍّ به، وأما إذا سلَّم أحدٌ بأن له تاريخًا، فسوف يبدو أن هذا التاريخ لا علاقة له بالموضوع. وهكذا تَكتسب حُجج المحافظين، مثل موينيهان وتاكر، ما يؤكدها ويُغذِّيها على أيدي الليبراليين اليساريين.
ومن الجوانب الأخرى للصورة الجماهيرية للإسلام في الإطار الفكريِّ والجغرافي السياسي الجديد هو أنه دائمًا ما يظهر في علاقة مواجهةٍ مع كل ما يُعتبر طبيعيًّا، غربيًّا، مألوفًا في الحياة اليومية، وينتمي «إلينا». وهذا ولا شكَّ هو الانطباع الذي نخرج به من قراءة ما يكتبه كُتَّابٌ مثل وولتزر، أو من قراءةِ ما كتبه الباحثون الذي يعتمد عليهم وولتزر. بل إن مفهومَ وجود عالم إسلامي — وهو الموضوع الذي تناولَته فلورا لويس في أربعِ مقالات متتابعة في صحيفة نيويورك تايمز في ۲۸، ۲۹، ۳۰، و۳۱ ديسمبر ۱۹۷۹م (والذي سوف أتحدث عنها في الفصل الثاني) — هذا المفهوم نفسه يقوم ضِمنًا على عَدائه لعالمنا «نحن». بل إن الدافع على كتابة المقالات نفسَه كان وقوفَ الإسلام (أي أولئك الإيرانيين الذين يحتجزون الرهائنَ الأمريكيين) ضدَّنا «نحن»، وتعمَّق هذا الإحساسُ عندما قامت فلورا لويس بتعديد انحرافات الإسلام الظاهرية عن المعايير «الطبيعية» مثل الخصائص التي تتميز بها اللغةُ العربية، و«غرائب» معتقَداته، والشمولية المتزمِّتة التي يسيطر بها الإسلامُ على المؤمنين به، وهلمَّ جرًّا. فإذا كان الحضور المباشر للإسلام يجعله يبدو قريبَ التناول بصورةٍ مباشرة، فإن انحرافه عن الواقع المألوف والمعايير المعهودة يجعله يقف ضدنا مباشرة، وبصورة جذرية، ويُمثل تهديدًا لنا. والنتيجة المجرَّدة هي أن الإسلام قد اكتسب مكانةً متعددةَ الأشكال لواقعٍ ملموس يَسهل التعرف عليه ويُتيح لمن يريد أن يُصدر الكثيرَ من الأقوال بشأنه ويضع له استراتيجيات منطقيةً كثيرة (معظمها يُضفي عليه صفاتٍ بشرية) وذلك دون قيودٍ أو ضوابط.
وهكذا تستطيع بيُسرٍ في رأي هؤلاء أن تُعادل بين الإسلام وبين أي مسلم، وأقربُ مرشَّح لهذه المعادلة هو آية الله الخوميني. وبعد ذلك لك أن تمضيَ في مقارنة الإسلام بكل شيء تُنفر منه، بغضِّ النظر عمَّا إذا كان قولك يتَّسم بالدقة الواقعية أم لا. والمثال على ذلك قيامُ دار نشر مانور بوکس بطبع نسخةٍ شعبية من كتاب الحكومة الإسلامية الذي كتبه الخوميني، ووضعتُ له عُنوانًا خاصًّا هو «كفاحي بقلم آية الله الخوميني»، والمعروف أن كفاحي هو عنوان الكتاب الذي وضَعه أدولف هتلر عن حياته، كما أرفقَ الناشرُ بالكتاب مقدمةً كتبها رجلٌ يُدعى جورج کاربوتزي، وهو من كبار الصحفيِّين في نيويورك بوست، وهو يزعم لأسبابٍ لا يعرفها أحدٌ سواه أن الخوميني عربي وأن الإسلام نزل في القرن الخامس قبل الميلاد، كما يبدأ تحليلَه بعباراتٍ يحلُو وقْعُها في السمع على النحو التالي:
إن آية الله روح الله الخوميني، مثل أدولف هتلر وإن اختلف الزمَن، طاغيةٌ يُضمر الكراهية ويبثُّ الغواية ويُمثل تهديدًا للنظام والسلم في العالم، والفرق الرئيسي بين صاحب كفاحي ومؤلف هذا الكتابِ الغث، أي الحكومة الإسلامية، هو أن الأول كان مُلحدًا والثانيَ يتظاهر بأنه مؤمنٌ بالله.43

وأمثال هذه الصور المرسومة للإسلام ما فَتِئَت تشهد على الولَع بتقسيم العالم إلى قسمَين؛ أحدهما يُناصر أمريكا والثاني يُناصبها العَداء (أو بين مَن يُعادون الشيوعية وبين من يُناصرونها)، وعلى العزوف عن الإشارة إلى التحوُّلات السياسية، وعلى فرض أنساقٍ وقِيم إمَّا أنها تكشف عن تعصُّب عِرقي وإما أنها لا صلةَ لها بالموضوع، أو أنها تجمع بين هذا وذاك، وعلى التشويه الخالص للمعلومات، والتَّكرار، وتحاشي الدخول في التفاصيل، والافتقار إلى المنظور الأصيل. ويمكن إرجاع هذا كلِّه لا للإسلام بل إلى جوانبَ معينةٍ في المجتمع الغربي وإلى أجهزة الإعلام التي تتجلَّى فيها هذه الفكرة عن «الإسلام» مثلما تعمل هذه الأجهزةُ على نشرها. والنتيجة هي أننا أعَدْنا تقسيم العالم إلى شرقٍ وغرب، وهي الأطروحة الاستشراقية القديمة دون تغييرٍ يُذكر، وهو ما يَزيد من إحكام الغِشاوة التي تمنعُنا لا من رؤية العالم فقط، بل من رؤية أنفسنا أيضًا وإدراك ما آلت إليه حقًّا علاقتُنا مع ما نُسميه العالم الثالث.

وقد أدى ذلك إلى بعض العواقب التي تكتسبُ قدرًا ما من الأهمية، أولها أن الإسلام قد نشأتْ له صورةٌ معينة، لا تزيد عن كونها صورة. وثانيها هو أن معناها أو رسالتها قد استمرت، بصفةٍ عامة، أبعادُها المحدودة والنمطية، وثالثها نشأةُ وضع سياسي يقوم على المواجهة؛ إذ يضَعُنا «نحن» في مواجهة «الإسلام». ورابعها هو أن هذه الصورة المختزَلة للإسلام كان لها آثارُها التي نستطيع التحقُّقَ منها في عالم المسلمين نفسِه. وخامسها هو أن صورة الإسلام في أجهزة الإعلام والموقف الثقافي إزاءه يستطيعان أن يكشفا لنا عن الكثير، لا عن «الإسلام» فحسب، بل أيضًا عن المؤسسات القائمة في إطارنا الثقافي، والمناهج السياسية المتَّبَعة في الإعلام والمعرِفة والسياسات القومية.

ولكن رصدي لهذه الأشياء كلِّها عن الصورة العامة للإسلام التي تَشيع اليوم، لا يقصد به الإيحاء بوجود إسلام «حقيقي» في مكانٍ ما في دنيا الواقع، قامت أجهزة الإعلام بتشويهه مدفوعةً بدوافع دنيئة. لا أقصد هذا على الإطلاق. فالإسلام يُمثِّل للمسلمين مثلما يُمثِّل لغير المسلمين حقيقةً موضوعية وذاتية في الوقت نفسِه؛ فالناس يُنشئون هذه الحقيقةَ في عقيدتهم، وفي مجتمعاتهم، وتاريخهم، وتقاليدهم، وأما غير المسلمين من الأجانب فهم مضطرُّون إلى أن يُثبتوا، بمعنًى من المعاني، هُويةَ ما يشعرون أنه يُواجههم بصورةٍ جماعية أو فردية، وأن يُجسدوه وأن يَطبعوا هذه الهُوية بطابَعٍ ما — ومعنى هذا أن صور الإسلام عند أجهزة الإعلام، وعند الباحث الغربي، وعند الصحفيِّ الغربي، وعند المسلم، ثمرةُ فعلٍ إرادي وتفسير معيَّن، وهما من الأفعال التي لا تحدث إلا في سياق تاريخي، ولا يمكن لنا إلا أن ننظر إليها في هذا الإطار التاريخي باعتبارها من أفعال الإرادة والتفسير. ولستُ شخصيًّا متديِّنًا، كما أنني لا أنتمي إلى خلفيَّة إسلامية، ولكنني أعتقد أنني أستطيع أن أفهم مَن يُعلن أنه مقتنعٌ بعقيدة معيَّنة. ولكنني، في حدود رؤيتي لإمكان مناقشة العقيدة على الإطلاق، أرى أن ذلك يقع في حدود تفسيرات العقيدة التي تتجلَّى في الأفعال البشرية التي لا تقع بدَورها إلا في سياق التاريخ البشري والمجتمع البشري. فإذا تصدَّينا مثلًا لمناقشة الثورة «الإسلامية» التي أسقطَت نظام حُكم الشاه في إيران، فعلينا أن نُمسك عن القطع فيما إذا كان الثوار يُمثلون العقيدة الإسلامية الحقيقية؛ لكننا نستطيع أن نعرض لمفهومهم عن الإسلام، وهو الذي جعَلهم يُواجهون مواجهةً مربكة (أو مواجهة «إسلامية» إنْ صح التعبير) نظامًا رأَوا أنه مُعادٍ للإسلام، وظالم، ومستبد. وعندها نستطيع أن نُقارن تفسيرهم للإسلام بما قالته مجلة تايم أو صحيفة لوموند عن الإسلام، وعن الثورة الإيرانية.
وبتعبيرٍ آخَر فإن ما نَعرِضُ له هنا يعتبر، بأوسعِ معنًى من المعاني، مُجتمعاتٍ يعتمد كلٌّ منها تفسيرًا معينًا، يتناقض الكثيرُ منها مع بعضه البعض، وتُبدي الاستعدادَ في حالات كثيرة لمحاربة بعضِها البعض، وكل منها يُنشئ نفسَه ويُفصِح عن ذاته وعن تفسيره باعتباره من الركائز الأساسية لوجوده. لا يقيم أحد في حياته صلةً مباشرة مع الحقيقة أو الواقع، فكلٌّ منا يعيش في عالم صنَعه البشر في الواقع الفعلي، ونحن نرى فيه أن ما يُسمَّى «الأمة»، أو «المسيحية» أو «الإسلام» من ثمار الأعراف المتفَق عليها، والتحولات التاريخية، وقبل ذلك كله من ثمار الجهد البشري المبذول لوضع هُوية نستطيع التعرفَ عليها لكلٍّ من هذه الأسماء. وليس معنى هذا أن الحقيقة والواقع لا يوجَدان فعلًا، بل هما موجودان، ونحن نعرف ذلك حين نُشاهد الأشجار والمنازل من حولنا، أو عندما تنكسر إحدى العظام في الجسم أو حين نشعر بالحزن العميق لوفاة شخصٍ نُحبه. ولكننا بصفةٍ عامة ننزع إلى أن نتناسى أو نُهوِّن من مدى اعتماد إدراكنا للواقع لا على التفسيرات والمعاني التي يُشكِّلها كلُّ فرد لنفسه فحسب، بل أيضًا على التفسيرات والمعاني التي نتلقَّاها من خارجِ ذواتنا. فهذه التفسيرات المتلقَّاة تعتبر جزءًا لا يتجزَّأ من الحياة في مجتمعٍ ما. وقد عبَّر س. رايت ميلز عن ذلك بوضوحٍ قائلًا:

أولى القواعد اللازمةِ لتفهُّم حال الإنسان هو أن الناس يعيشون في عوالم سبَق لغيرهم «استعمالها»؛ ولذلك فهم يُدركون مُدرَكاتٍ أكثرَ كثيرًا مما خبَروه شخصيًّا. وخبراتهم الخاصة دائمًا ما تكون غيرَ مباشرة. ونوعية حياتهم تحددها المعاني التي تلقَّوها من الآخرين. وكل شخص يعيش في عالم من هذه المعاني. ولا يقف إنسانٌ وحده في مواجهةٍ مباشرة مع عالم من الحقيقة الصلبة؛ إذ لا وجود لمثلِ ذلك العالم. وأما أشدُّ اقترابٍ للإنسان منه فيكون في مرحلة الطفولة المبكرة أو عندما يُصيبه الجنون، فعندها، في مشهدٍ مرعب من الأحداث التي لا معنى لها والاختلاط المبهَم، كثيرًا ما يستولي عليه الذُّعر إزاء افتقاره شبهِ التام للأمان. وأما في حياته اليومية فهو لا يَخْبُرُ عالَمًا من الحقائق الصلبة، بل إن خِبراتِه نفسَها تختارها له مَعانٍ نمطيةٌ وتُشكلها تفسيراتٌ جاهزة. والصور التي تتكوَّن لديه عن العالم وعن ذاته يُقدمها إليه حشودٌ من الشهود الذين لم يسبق له أن قابلَهم ولن يُكتَب له أن يُقابلهم. ومع ذلك فإن هذه الصور التي يُقدمها الأغراب والموتى تُشكل أساسَ كل فردٍ باعتباره إنسانًا.

إنَّ وعي الإنسان لا يُحدد وجوده المادي، كما أن وجوده الماديَّ لا يُحدد وعيه؛ إذ تقف بين الوعي والوجود مَعانٍ وأشكالٌ ورسائلُ خلَّفها أناسٌ آخَرون، تتجلَّى أولَ الأمر في لغة البشر نفسِها، ثم تتضح في وقتٍ لاحق في الرموز المستعملة. وهذه التفسيرات المتلقَّاة والمتلاعَبُ بها تؤثِّر تأثيرًا حاسمًا في وعي الفرد بوجوده. فهي تُقدم له مفاتيحَ فَهم ما يرى، وكيف يستجيب له، ومشاعره إزاءه، وكيف يستجيب لهذه المشاعر. فالرموز تقوم بتركيز الخبرات، والمعاني تتولَّى تنظيم المعارف، فتُوجِّه مسيرة المدرَكات السطحية في لحظةٍ من اللحظات بنفس القوة التي توجه بها مسيرة طموحات عمرٍ بأكمله.

لا شك أن كلَّ إنسان يُلاحظ الطبيعة، والأحداث الاجتماعية، وذاته نفسها، ولكنه لا يُلاحظ، ولم يسبق له أنْ لاحظ مطلقًا، معظم ما يفترض أنه حقيقي، بشأن الطبيعة أو المجتمع أو الذات. وكل إنسان يُفسِّر ما يلاحظه، إلى جانب الكثير مما لم يلاحظه، ولكن المفاهيم التي يُطبقها في التفسير لا تنتمي إليه، فلم يَقُم بصياغتها بنفسه بل ولا باختبارها. وكلُّ إنسان يتحدث عن الملاحظات والتفسيرات للآخرين، ولكن اللغة التي يستخدمها في هذا الحديث ليست، على الأرجح، إلا العباراتِ والصورَ التي وضَعها الآخرون فأخذَها عنهم واعتبرها عباراتِه وصورَه. وكل إنسان يعتمد اعتمادًا متزايدًا في معظم ما يُسميه الحقائق الصلبة، والتفسيرات السليمة أو الصحيحة، وأشكال «التمثيل» المناسِبة، و«محطات الملاحظة»، ومراكز التفسير، و«مستودعات التمثيل» التي يُنشِئها في المجتمع المعاصر على ما سوف أُطلق عليه تعبيرَ الجهاز الثقافي.44

أما فرع الجهاز الثقافي الذي يقوم بنقل الإسلام إلى معظم الأمريكيين (ومعظم الأوروبيين بصفةٍ عامة) فهو يعتمد بصفة رئيسية على شبكات التلفزيون والراديو، والصحف اليومية، والمجلات الإخبارية الواسعةِ الانتشار، وتلعب الأفلام السينمائية دورًا هنا، بطبيعة الحال، وذلك في حدود ما يتأثَّر إدراكُنا المرئيُّ للتاريخ وللبقاع النائية بما تُقدِّمه السينما في هذا المجال. ويمكننا أن نقول إن هذا التركيز القويَّ لأجهزة الإعلام الجماعية يُشكِّل في مجموعِه جوهرًا مشتركًا للتفسيرات التي تُقدِّم صورةً معيَّنة للإسلام وتكشف أيضًا، بطبيعة الحال، عن المصالح القوية في المجتمع التي تخدمها هذه الأجهزةُ الإعلامية. وهذه الصورة، التي لا تقتصر على كونها صورةً بل تُمثل مجموعةَ المشاعر التي تُوحي بها الصورة، يصاحبها ما نستطيع أن نُطلق عليه تعبيرَ السياق الشامل لها. وأنا أعني بالسياق موقعَ الصورة، ومكانَها في دنيا الواقع، والقيم المضمَرة فيها، وليس بأقلَّ من ذلك أهمية «نوع» الموقف الذي تدفع المشاهد إلى اتخاذه حِيَالها. وهكذا فإذا دأب التلفزيون على تقديم الأزمة الإيرانية في صورة الجماهير «الغوغائية» التي يعلو هُتافها، بمصاحبة تعليق يتحدَّث عن العداء لأمريكا، فإن بُعْدَ المسافة، وعدم الأُلفة بما يحدث، وما يَكْمُن في المشهد من تهديد، يجعل «الإسلام» قاصرًا على هذه الخصائص، وهذا يؤدي بدوره إلى الإحساس بأن شيئًا مُنكَرًا وسلبيًّا في جوهره يُواجهنا. وما دام الإسلامُ فيما يبدو «ضدَّنا» وبعيدًا عنا في «ذلك المكان»، فلن يبقى مجالٌ للشك في ضرورة اتخاذ موقفِ مواجَهة للردِّ عليه. وإذا شاهدنا وسمعنا مُعلقًا مثل والتر كرونكایت وهو يضع عبارة «هذا هو الواقع» إطارًا لبرنامجه المسائي كلَّ يوم، فسوف نستنتج نحن أيضًا لا أن المشهد الذي نراه هو ما اختارت إحدى شركات التلفزيون أن تعرضه علينا بهذه الصورة، بل أن هذا هو الواقع حقًّا، وأنه أمر طبيعي، لا يتغيَّر، و«أجنبي» ومعارض «لنا». ولا غَرْو إذن أن يقول جان دانييل في صحيفة لونوفيل أوبزرفاتير في عددها الصادر يوم ۲٦ نوفمبر ۱۹۷۹م إن الولايات المتحدة تَشعر أن الإسلام يُحاصرها.

وعلى الرغم من شدةِ اعتمادنا على التلفزيون والصحف والراديو والمجلات، فليست هذه هي مصدرَنا الأوحد لما «نعرفه» عن الإسلام، بل لدينا الكتبُ والمجلات المتخصصة والمحاضِرون الذين يُدْلون بآراء أشدَّ تعقيدًا من المعلومات المشتَّتة في جوهرها والأنباء المباشرة التي تنقلها وسائلُ الإعلام الجماهيرية،45 ومن المهم أن نذكر أيضًا أن الصحف والراديو والتلفزيون أجهزةٌ تزخر بالتنوُّع فيما نَلحظه من اتجاهاتِ المحرِّرين، أو بين وجهات النظر المختلفة، أو بين الصور البديلة أو المضادَّة للأعراف الثقافية أو الصور التقليدية. أي إننا، بإيجاز، لا نعيش تحت رحمة جهاز دعائيٍّ مركزي، على الرغم من صدور كمٍّ كبير مما يُعتبر في حقيقته دعايةً من أجهزة الإعلام وحتى من أقلام الباحثين الذين يتمتَّعون بسُمعة طيبة. لكنه برغم التنوُّع والاختلافات، ومهما زعَمْنا العكس، فإن ما يَصدر عن هذه الأجهزة ليس تلقائيًّا ولا هو يتمتع «بحرية» كاملة، ولا يتصادف أن تأتيَ «الأخبار» بالصورة التي تأتي بها، ولا يتصادف أن تنبع الصور والأفكار من دنيا الواقع لتصبَّ في أعيننا وأذهاننا، ولا يتيسَّر لنا أن نجد الحقيقة حيثما نطلبها، وليس بين أيدينا ذلك التنوُّع المتوهَّم الذي لا يخضع لضابطٍ أو رابط، فإن التلفزيون والراديو والصحف، شأنها في ذلك شأن جميع طرائق التواصل، تُراعي قواعدَ وأعرافًا معيَّنة في توصيل الأفكار في صورٍ مفهومة، وكثيرًا ما تلعب هذه القواعدُ والأعراف دورًا أكبرَ من دور الواقع الذي تنقله أجهزةُ الإعلام في تشكيل مادَّتها. ولما كانت هذه القواعد المتفَق عليها ضِمنًا تُساعد بكفاءةٍ على اختزال الواقع، إذا اتَّسَم بالتعقيد، حتى يُصبح «أخبارًا» أو «موضوعاتٍ صحفية»، ولما كانت أجهزة الإعلام تجتهد حتى تصل إلى نفس الجمهور الذي تعتقد أن لديه مجموعةً من الأفكار والافتراضات الموحَّدة عن الواقع، فمن المحتمل أن تصبح صورةُ الإسلام (وصورة أي شيء آخر، في هذا الصدد) موحَّدة إلى حدٍّ بعيد، وتتَّسم باختزال بعض الجوانب، وتكتسي لونًا واحدًا. ومن البديهي أنه لما كانت أجهزة الإعلام شركاتٍ تسعى لتحقيق الربح، فإنها تهتمُّ بترويج صورٍ معيَّنة للواقع وتقديمها على غيرها، وهذا مفهوم. وهي تفعل هذا في سياقٍ سياسي يكتسب حيويتَه وتأثيره من أيديولوجيات قائمةٍ على مستوى اللاوعي، وهي التي تنشرها أجهزةُ الإعلام دون تحفُّظات أو معارَضة جادة.

ولا بد لنا الآن من وضع بعض الحدود اللازمة لموضوعنا؛ إذ لا يمكن الزعمُ بأن الدول الصناعية الغربية تنتهج سياساتٍ قمعيةً أو تحكمها الدعاية. فذلك بطبيعة الحال زعمٌ باطل. ففي الولايات المتحدة مثلًا، نجد الفرصة متاحةً للتعبير عن أي رأي، مهما يكن، تقريبًا، كما يتمتَّع المواطنون وتتمتع أجهزة الإعلام بطاقةٍ لا تُبارى على تقبُّل وجهات النظر الجديدة وغير التقليدية وغير «الجماهيرية». كما أن التنوع الهائل في الصحف والمجلات وبرامج التلفزيون والراديو المتاحة، ناهيك بالكتب والكتيبات، تنوعٌ يكاد يستعصي على الوصف أو تحديد طابَعِه، فكيف نستطيع إذن أن نقول، بأي درجة من درجات الإنصاف والدقة، إنها جميعًا تُعبِّر عن وجهةِ نظرٍ واحدة عامة؟

لا نستطيع بالقطع ذلك بل ولن أُقدِم على مجرد المحاولة. ولكنني أعتقد أننا نستطيع أن نَلمح، على الرغم من هذا التنوع الفذِّ، ميلًا کيفيًّا وكَميًّا إلى تحبيذ آراء معينة وتفضيل صورٍ معينة للواقع على غيرها. فلْأُقدِّم أولًا تلخيصًا سريعًا لبعض المسائل التي أثَرتُها قبل أن أبين كيف تتفق مع جوانبَ معينةٍ في أجهزة الإعلام: إننا لا نحيا في عالم طبيعي، فالصحفُ والأخبار والآراء ليست موجودةً في الطبيعة؛ بل إنها مصنوعة؛ أي إنها نتجَت عن الإرادة البشرية، والتاريخ البشري، والظروف الاجتماعية، والمؤسسات وتقاليد المهنة التي يُزاولها المرء. وأما الحديث عمَّا ترمي إليه الصحافة من موضوعيةٍ واقتصار على الحقائق والتغطية الواقعية وتَوخِّي الدقة، فهو حديثٌ عن مصطلحاتٍ نسبية إلى حدٍّ بعيد، وربما كانت تُعبر عن النوايا لا الأهداف القابلة للتحقيق. وعلينا، قطعًا، ألا نتصور أنها أمورٌ عادية، لمجرد أننا اعتَدْنا اعتبار صُحفنا صحفًا تنشر الحقائق، ويمكن الوثوقُ بها، واعتبار صحف البلدان الشيوعية وغير الغربية صُحفًا دعائية وأيديولوجية. أما الواقع فهو، على نحوِ ما يُثبته هيربرت جانز في كتابه المهمِّ البتُّ فيما يُعتبر خبرًا، أن الصحفيين ووكالات الأنباء وشبكات الأنباء هي التي تُقرر واعيةً ما ينبغي تصويره، والصورة التي يجب أن يتَّخذها وما إلى ذلك بسبيل.46 ولنا أن نقول إذن، بتعبيرٍ آخر، إن الأخبار لیست «معطيات» ذاتَ قصور ذاتي، بل هي ثمرةُ نشاط معقَّد عادة ما يتضمَّن الاختيار المتعمَّد والتعبير المقصود.
لقد توافرَت لنا الأدلة السابغة في الآونة الأخيرة على طرائقِ عمل الأجهزة الكبرى في مجالَيْ جمع الأنباء ونشرها في الغرب؛ إذ صدَرَت الكتبُ التي كتبها جاي تالیز وهاريسون سولزبري عن النيويورك تايمز، وكتاب دافيد هاربرستام بعنوان القُوى التي تتشكَّل، وكتاب توکنام بعنوان صناعة الأخبار، وشتى الدراسات التي أجراها هيربرت شيلر عن صناعة وسائل الاتصال، ومايكل شودسون بعُنوان اكتشاف الأخبار، وأخيرًا كتاب أرماند ماتلارت بعنوان الشركات المتعددة الجنسية والتحكم في الثقافة،47 وليست هذه سِوى مجموعةٍ محدودة من الدراسات التي أُجرِيَت من وجهات نظر مختلفة، والتي تؤكِّد مدى الالتزام في تشكيل الأنباء والرأي في المجتمع بصفةٍ عامة، بقواعدَ معيَّنة، ومدى اتخاذه أطُرًا وتوسله بأعرافٍ تمنح هذا العملَ هُوية شاملة واضحة كلَّ الوضوح. فالصحفي، شأنه في ذلك شأن كلِّ إنسان، يفترض افتراضاتٍ معينةً يراها عادية أو «طبيعية»، ولديه قيمٌ تَمثَّلَها في أعماقه حتى لم تَعُد تحتاج إلى اختبار صحتها في كل حالة، مثلما يعتبر المرء عادات مجتمعه من «المسلَّمات»، والمرء لا ينسى تعليمه وجنسيته ودينه أثناء وصفه للمجتمعات والثقافات الأجنبية؛ والوعيُ بأخلاقيات المهنة، وطرائق أدائها يلعب دوره في تحديدِ ما يقوله المرءُ وأسلوبِ التعبير عنه والجمهورِ الذي يشعر أنه يوجِّه إليه هذا الكلام. ولقد وصَف روبرت دارنتون هذه المسائلَ بطريقةٍ بالغة الجاذبية في مقالٍ له بعنوان «كتابة الخبر وقصُّ القصص»، حتى جعَلنا على وعي عميق لا بالواقع الحيِّ لعمل الصحفي فقط بل أيضًا ﺑ «التكافل والعداوات التي تنشأ وتنمو بين الصحفيِّ ومصادره»، وبالضغوط القائمة في «التوحيد والتنميط»، وبالأساليب التي «يُضيف بها الصحفي إلى الأحداث التي يُغطيها أكثرَ مما يستقيه منها».48

وتختلف أجهزةُ الإعلام الأمريكية عن أجهزة الإعلام الفرنسية والبريطانية بسبب الاختلاف البالغ بين المجتمعات، واختلاف الجمهور هنا وهناك، واختلاف المؤسَّسات والمصالح. فعلى كلِّ صحفي أمريكي أن يكون على وعيٍ بأن بلدَه دولة عُظمى، ولديها ما تنفرد به بين الدول من مصالحَ وطرائقَ خاصة؛ لتحقيق هذه المصالح. إن استقلال الصحافة شيءٌ رائع، عمَليًّا ونظريًّا، ولكن كل صحفيٍّ أمریكی تقريبًا يكتب عن العالم وفي أعماقه وعيٌ بأن الدار الصحفية التي ينتمي إليها شريكٌ في القوة الأمريكية، بحيث لو تعرَّضَت هذه القوة للتهديد من الدول الأجنبية أصبح استقلالُ الصحافة أمرًا ثانويًّا بالمقارنة بما لا يزيد في حالاتٍ كثيرة عن التعبير المضمَر عن الإخلاص والوطنية، أو عن التعبير البسيط عن الهُوية القومية. ولكن هذا لا يدعو للدهشة قطعًا، أما ما يدعو للدهشة فهو أن الناس في العادة لا يرَون أن الصحافة المستقلَّة تُشارك في السياسة الخارجية، على الرغم من مشاركتها الفعالة وبأشكال كثيرة. فإذا تغاضَينا عن استخدام وكالة الاستخبارات المركزية للصحفيِّين العاملين في الخارج، فسوف نرى أن أجهزة الإعلام الأمريكية تقوم، وهذا أمرٌ محتوم، بجمع معلوماتها عن العالم الخارجي داخل إطارٍ تُهيمن عليه السياساتُ الحكومية، فإذا نشأ تضاربٌ أو خلاف مع هذه السياسات، على نحوِ ما حدث في حالة فيتنام، قامت أجهزةُ الإعلام بتكوين آرائها المستقلَّة، ولكنه حتى في هذه الحال لا بد من مراعاة قُدرة هذه الآراء على التأثير في السياسات الحكومية وإن لم تُغيِّرها فعليًّا، فهذه السياسات هي التي تهمُّ الأمريكيِّين جميعًا، ومن بينهم رجال الصحافة.

أما في الخارج فإن الصحفيَّ الأمريكي مضطرٌّ إلى الاعتماد على ما يعرفه خيرَ معرفة، وهذا أمر مفهوم، وهذا يحدث دائمًا عندما ينتقل أيُّ إنسان من بيئته ليعيش في ظل ثقافةٍ أجنبية، وهو يَصدُق بصفة خاصة على الصحفي الذي يشعر أنَّ عليه في الخارج أن يُترجم ما يحدث حوله إلى لغةٍ يفهمها مُواطنوه داخل أمريكا (ومن بينهم واضِعو السياسات): إنه يسعى لمصاحبة الصحفيِّين الآخَرين في الخارج، ولكنه يظلُّ على اتصالٍ بسِفارة بلده، وبالأمريكيين الآخَرين المقيمين في ذلك البلد، وبالأشخاص الذين عُرِف عنهم الارتباط بعلاقات طيبة مع الأمريكيين. وعلينا ألَّا نُهوِّن من أهمية أمرٍ آخر، وهو إحساس الصحفيِّ في الخارج أنه يعتمد لا على ما يعرفه سلفًا أو يكتسب عِلمًا به، فحَسْب، بل أيضًا على ما ينبغي لممثِّل أجهزة الإعلام الأمريكية في الخارج أن يعرفه، ويكتسب علمًا به، ويقوله. فمراسل صحيفة نيويورك تايمز يعرف حقَّ المعرفة طبيعةَ صحيفته وصورتها لذاتها بين المؤسسات الصحفية. وهكذا سوف نرى بالقطع فارقًا بالغَ الأهمية وربما يكون حاسمًا بين الموضوع الصحفي الذي يبعث به مراسل التايمز في طهران لنشره في صحيفته، وبين الموضوع الذي يُرسله مراسلٌ يعمل بالقطعة لنشرِه في صحيفة ذا نيشن (الأمة) أو في إن ذیس تايمز (في هذا العصر)، وهو في طهران. واختلاف الجهاز الإعلامي نفسه يُمارس ضغوطًا كبيرة، فتغطية الحدث تغطيةً مَيدانية مباشرة لبرنامَج الأخبار المسائية في محطة إن. بي. سي. تتطلَّب من المراسل في القاهرة صياغةً للخبر تختلف عن صياغة رئيس مكتب مجلة تايم لمقالٍ يكتبه ويستغرق في كتابته وقتًا أطول. وتُضاف إلى ذلك أيضًا أساليبُ إعادة الصياغة التي يقوم بها المحرِّرون في الوطن للأخبار التي يُرسلها المراسل من الخارج؛ إذ تتدخل هنا مجموعةٌ مختلفة من القيود السياسية والأيديولوجية، ولو دون وعيٍ من جانب هؤلاء المحررين.
وتغطية أجهزة الإعلام الأمريكية للبلدان الأجنبية تقوم بإثارة اهتمامات جديدة، إلى جانب تعميق الاهتمامات القديمة «لنا» بتلك البلدان. فوجهات النظر في أجهزة الإعلام تؤكد أشياءَ معيَّنةً للأمريكي، وتؤكد غيرَها للإيطالي أو الروسي. وتلتقي هذه كلُّها حول مركز مشترك، أو اتفاقٍ في الرأي، وهو ما تشعر جميعُ المنظَّمات الإعلامية شعورًا شِبهَ مؤكد بأنها تتولى إيضاحَه وبَلْورتَه وتشكيله. وهذا بيت القصيد. فلأجهزة الإعلام أن تفعل شتى الأشياء، وتمثل شتى وجهات النظر، وتُقدم أشياءَ كثيرة تتَّسم بالغرابة الشديدة أو الأصالة بصورةٍ غير متوقَّعة، أو حتى الانحراف، ولكنها في نهاية المطاف، ولأنها شركاتٌ تخدم وتُعزز هُويةً مشتركة — قُل إنها «أمريكا» أو حتى «الغرب» — فهي تضع نُصب أعينها هذا الاتفاق الأساسي نفسَه، وهذا، على نحوِ ما سوف نرى بعد قليلٍ في حالة إيران، هو الذي يُشكِّل الأنباء، ويَبُتُّ فيما يَصلُح خبرًا وكيف يُصبح خبرًا. ولكنه مع ذلك لا يُملِي أو يُحدد الأنباء بصورة قسرية؛ فليس نتيجةَ قوانين جَبرية، ولا نتيجةَ التآمر ولا الدكتاتورية. بل إنه من ثمار الثقافة، والأفضل أن نقول إنه ثقافةٌ معيَّنة، وهو، فيما يتعلق بأجهزة الإعلام في الولايات المتحدة، عنصرٌ مهم من عناصر التاريخ المعاصر. ولن يكون من المُجدي تحليلُ وانتقاد هذه الظاهرة لو لم يكن صحيحًا أن أجهزة الإعلام تستجيبُ حقًّا لما نحن عليه ولما نريد.49

والأفضل لنا أن نصفَ اتفاق الآراء المُشارَ إليه بأنه قائمٌ في الواقع، بدلًا من القول بأنه مقررٌ أو مجرَّد. وفيما يتصل بتغطية أجهزة الإعلام للإسلام وإيران، سوف أدعُ اتفاق الآراء المذكورَ يُفصِح عن ذاته حيثما يظهر في سياق التحليل الذي سوف أُقدِّمه في الفصل التالي. أما الآن فلا أريد إلا تقديمَ تعليقين ختاميَّين على هذا الموضوع.

علينا أن نتذكر أولًا أنه لما كانت الولاياتُ المتحدة مجتمَعًا مركَّبًا يتكون من ثقافات فرعية متعددة، وكثيرًا ما لا يتمشَّى بعضُها مع بعض، لا بد أن يستشعر الناس، بقوةٍ هائلة، ضرورةَ تقديم ثقافة مشتركة وموحَّدة إلى حدٍّ ما، عن طريق أجهزة الإعلام. ولا ترتبط هذه الظاهرة بأجهزة الإعلام في عصرنا فحسب، بل إنها من السِّمات ذات الأصالة الخاصة، وتمتدُّ جذورها التاريخية إلى تأسيس الجمهورية الأمريكية. لقد بدأ الأمر بما كان البيوريتانيون يُسمونه «الانطلاق في البرِّية»، وبُنيت على أساسه في هذا البلد لغةٌ أيديولوجية راسخة للتعبير عن كل ما هو أمريكي قُحٌّ، في الوعي والهُوية والمصير والدَّور المنوط بأمريكا، وكانت مهمةُ هذه اللغة هي أن تضمَّ معًا أكبرَ قدرٍ ممكن من العناصر المختلفة في أمريكا (وفي العالم)، وأن تُعيد تشكيلَها بأسلوبٍ أمریكي فريد. وقد لَقِيَت هذه اللغة، ولقيَ وجودُها الراسخ في الحياة الأمريكية، قدرًا كبيرًا من التحليل المُقْنع على أيدي العديد من الباحثين، كان من بينهم بیري ميلر، وآخِرهم سكبان بيركوفيتش50 وكان من نتائج هذه اللغة أنْ ساد وهمُ اتفاق الآراء، وإن لم يكن اتفاقًا فعليًّا في الرأي في جميع الأحوال، وهكذا، وفي إطار هذا الاتفاق الذي يكتسي صِبغةً قومية بصفةٍ رئيسية، تعتقد أجهزةُ الإعلام أنها تؤدِّي عملَها باسم المجتمع الذي تخدمه ولصالحه.
وتتعلَّق المسألة الثانية بالتأثير الفعليِّ لاتفاق الآراء المذكور، وأرى أن أبسطَ طريقة لتحديد هذا التأثير، بل وأدق الطرائق في اعتقادي، هي أن نقول إنه وضعُ الحدود والمحافظةُ على استمرار الضغوط.51 فاتفاق الآراء لا يُملي على أجهزة الإعلام ما تقوله، كما أنه لا يُمثِّل طبقةً معيَّنة أو المصالح الاقتصادية لفئةٍ معيَّنة. بل علينا أن نعتبر أنه العامل الذي يضع الخطوطَ الخفيَّة التي تُمثل الحدود التي لا يشعر الصحفيُّ أو المعلِّق أنه يحتاج إلى تجاوزها. وهكذا نرى أن القول باحتمال استعمال القوة العسكرية الأمريكية لتحقيق أغراضٍ خبيثة قولٌ محالٌ نِسبيًّا في إطار اتفاق الآراء المذكور، مثلما أصبح القولُ بأن أمريكا قوةٌ تعمل في سبيل الخير في العالم قولًا معتادًا و«طبيعيًّا». وعلى غِرار ذلك نجد أن الأمريكيِّين يتعاطفون تعاطفًا وثيقًا مع المجتمعات أو الثقافات الأجنبية التي تُظهر روحَ ريادة جديدة (مثل إسرائيل) في انتزاع الأرض من أيدي مَن يُسيئون استخدامها أو من أيدي الهمَجيِّين،52 لكنهم كثيرًا ما يتشكَّكون، ولا يُبْدون اهتمامًا كبيرًا بالثقافات التقليدية، حتى ما يُكابد منها عناءَ التجديد الثوري. ويفترض الأمريكيون أن الدعاية الشيوعية تخضع لقيود ثقافية وسياسية مماثلة، وأما في حالة أمريكا فإن أجهزة الإعلام تضعُ الحدود وتحافظ على الضغوط في إطارٍ لا يكاد يُفصح عن الإقرار بذلك أو الوعي به.53 ويعتبر هذا في ذاته مظهرًا من مظاهر وضع الحدود. ولْأضرب لذلك مثلًا آخَر. فعندما احتَجز الطلابُ الإيرانيون الرهائنَ الأمريكيين في طهران، بدأ اتفاقُ الآراء المذكورُ في ممارسة تأثيره فورًا، فأصدَر ما يُشبه الأمر بأن الأحداث الخاصة بالرهائن هي وحدها، تقريبًا، ما يُهم الناسَ بصدد إيران، وأما ماعدا ذلك، أي سائر أحوال إيران، من التحوُّلات السياسية إلى الحياة اليومية، والشخصيات العامة والملامح الجغرافية والتاريخية، فهو جديرٌ بالتجاهل إلى أبعدِ حدٍّ؛ أي إن تحديد صورة إيران والشعب الإيراني يقتصر على البتِّ فيما إذا كانا يُناصران الولايات المتحدة أو يُعاديانها.
وتكفي هذه التعليقاتُ العامة حول ما يمكن اعتباره الجوانبَ التي تؤكدها أجهزةُ الإعلام من حيث «الكيف» في نقلها للأنباء، ونشرها (أي ما يُسمى — اصطلاحًا — بالتوزيع) وأما ما نحتاج إلى قوله عن الجوانب «الكمية» للأنباء باعتبارها «تفسيرات» للواقع، فنستطيع أن نقول بصورةٍ مباشرةٍ إن أوسعَ انتشارٍ (أو توزيع)، ومِن ثَمَّ أقوى تأثير، تستأثر به حَفْنةٌ محدودةٌ من المنظمات، وكالتان أو ثلاث وكالات للأنباء، وثلاث شبكات تلفزيونية، ونصف دستة من الصحف اليومية، ومجلتان إخباريتان أسبوعيتان أو (ثلاث مجلات)54 ولن نحتاج إلى أن نذكر أكثرَ من أسماءٍ معدودة لإيضاحِ ما نقول: محطة كولمبيا برودكاستنج سیستیم (محطة إذاعة كولمبيا) (سي بي إس) التلفزيونية، ومجلة تايم، وصحيفة نيويورك تايمز، ووكالة يونايتد برس إنترناشيونال. إذ تستطيع هذه مجتمعةً أن تصل إلى عددٍ أكبر من أفراد الجمهور، وإحداث تأثير أعمق، ونشر أنواع معيَّنة من الأنباء على نطاقٍ أوسعَ مما تستطيعه أجهزةُ توزيع الأخبار الأصغر والأقل ثَراءً. أما معنى هذا فيما يتعلق بالأنباء الخارجية فهو واضح؛ فأمثال هذه الشركات لديها أعدادٌ أكبرُ من سواها من المراسلين الميدانيِّين؛ ومِن ثَم فإن هؤلاء المراسلين هم الذين يضَعون أُسس المادة الصحفية التي تقوم الأجهزةُ المشاركة، من صحف ومحطات تلفزيونية محلية ومحطات إذاعية، بتوزيعه على عُملائها مباشرة. ونُلاحظ هنا أن الكمَّ الهائل والكثافة الشديدة للأنباء الأجنبية التي تنقلها هذه الأجهزةُ الكبرى عادةً ما يُضفي عليها ثقةً أكبر؛ ومن ثَم فإن الذين يستخدمون الأنباء يُكثرون من الإشارة إليها، وهكذا نجد أن النبأ الذي تنشره نيويورك تايمز أو تُذيعه محطة سي. بي. إس. يتمتَّع بالمصداقية بفضلِ مصدره، وهيبة المؤسسة التي صدَر عنها وذُيوع صيتها، وكذلك بفضل تواتُر ترديده (یوميًّا أو كلَّ ساعة … إلخ) وبفضلِ ما يوحي به من خبرةٍ ودُرْبة. فإذا نظرنا إلى مجموع الأجهزة الرئيسية الصغيرة لنقل الأنباء، والأجهزة الأصغر التي تتَّسم بالتنوُّع الهائل والاستقلال، وإن كانت تعتمد رغم ذلك من زوايا كثيرةٍ على الأجهزة العملاقة، وجدنا أنها تُقدم مجتمِعةً صورةً أمريكية للواقع، تتميز بالتماسك الواضح لكل ذي عينَين.

ومن العواقب بالغةِ الخطورة لهذا الوضع هو أن الأمريكيِّين لا تكاد تُتاح لهم فرصة رؤية العالم الإسلامي إلا في تلك الصورةِ المختزَلة، والمقتسَرة، والمعارضة. ومصدر المأساة هنا هو أن هذا قد أدَّى إلى تفريخ مجموعةٍ من «الاختزالات المضادة» لدينا وفي العالم الإسلامي نفسِه؛ إذ لم يَعُد مصطلح «الإسلام» يدلُّ الآن إلا على أحد المعنيَين العامَّين التاليَين، وكلاهما مرفوضٌ ويسلبه بعض ثرائه. ففي عيون الغربيين والأمريكيين يمثل «الإسلام» نزعةً بدائية عادت للظهور، ولا تقتصر على الإيحاء بالتهديد بالعودة إلى العصور الوسطى، بل بخطرِ تدمير ما يُشار إليه بانتظام بمصطلح النظام الديموقراطي للعالم الغربي. وفي مقابل ذلك نجد أن «الإسلام» يُمثل لعددٍ كبير من المسلمين ردَّ فعلٍ مضادًّا لهذه الصورة الأولى للإسلام باعتباره تهديدًا أو خطرًا. وهكذا نجد أن أيَّ شيء يُقال عن «الإسلام» يتحوَّل، قسرًا إلى حدٍّ ما، إلى صيغة الدفاع عنه بتعديد أوجُهِ إنسانيةِ الإسلام، وذِكْر عطائه للحضارة، والتنمية، والصلاح الخلقي. وقد أدَّى هذا النوعُ من رد الفعل المضادِّ إلى ردٍّ مضادٍّ له، في بعض الأحيان، وهي حماقةٌ واضحة؛ إذ حاول البعض معادلة «الإسلام» بالأوضاع الآنيَّة القائمة في أحد البلدان الإسلامية، أو إحدى السلطات الإسلامية القائمة. ثم إذا بك ترى السادات وهو يصفُ الخوميني بأنه مجنون، وعارٌ على الإسلام، وترى الخوميني وهو يردُّ «التحية» بأحسنَ منها! وإذا بشتى الأشخاص في الولايات المتحدة يُناقشون نصيب كلِّ قضية منها من الصحة! ماذا يستطيع المدافعُ عن الإسلام من هذا المنطلق أن يقول حين يقرأ يوميًّا عن أعداد الذين أعدمَتهم اللجانُ الثورية الإيرانية، أو عندما يُعلن الخوميني، على نحوِ ما نقلته وكالة رويتر في ۱۹ سبتمبر ۱۹۷۹م، أنه سوف يقضي قضاءً مُبرمًا على أعداء الثورة الإسلامية؟ ما أرمي إليه هنا هو أن جميع هذه المعاني النسبية والاختزالية «للإسلام» تعتمد على بعضها البعض، وعلينا أن نرفضَها كلها، لأنها تعمل على استمرار التعقيد القائم.

أما مدى العواقب الوخيمة لهذا التعقيد القائم فيتَّضح حين نرى كيف اتخذ الإيرانيُّون من مناصَرة الولايات المتحدة للتحديث الذي أتى به الشاه نداءً لحشدِ الصفوف لمعارضته، وكانت ترجمةُ هذا تتمثل في تفسيرٍ للمَلَكية باعتبارها سُبَّةً في جبين الإسلام؛ كما حدَّدت الثورة الإسلامية بعضَ الأهداف، وكان أحدُها هو مقاومةَ الإمبريالية الأمريكية التي بدَت، بدورها، في صورةِ مَن يقاوم الثورة الإسلامية بإعادة تنصيب الشاه رمزيًّا في نيويورك. وتوالتْ بعد ذلك أحداثُ المسرحية كأنها وَفْقَ برنامج استشراقي، فالمستشرقون المزعومون يلعبون الدورَ الذي فرَضَته عليهم توقعاتُ الغربيين، والغربيون يؤكدون موقفهم في عيون أبناء الشرق باعتبارهم شياطين.55
بل ولا يقتصر الأمر على هذا. فالبرامج التلفزيونية التي تُنتجها الولايات المتحدة تَشيع في مناطقَ كثيرةٍ من العالم الإسلامي، كما يميل المسلمون، شأنهم في هذا شأن جميع أبناء العالم الثالث الآخَرين، إلى الاعتماد على مجموعةٍ ضئيلة من وكالات الأنباء التي تقوم بنقل الأخبار إلى العالم الثالث، حتى في الحالات الكثيرة التي تكون فيها هذه الأخبارُ أخبارًا عن العالم الثالث. وهكذا تحوَّلَ العالمُ الثالثُ بصفة عامة والبلدان الإسلامية بصفةٍ خاصة من مصادرَ للأنباء إلى جهاتٍ مستهلِكة للأنباء. وهكذا، ولأول مرة في التاريخ يجوز لنا أن نقول إن العالم الإسلامي يتلقَّى المعلوماتِ عن نفسه عن طريق الصور والقصص والأخبار المُصنَّعة في الغرب (أو قل لأول مرة يحدث ذلك على هذا النطاق الهائل). فإذا أضاف المرءُ بعضَ الحقائق إلى هذا، زادت دقةُ الصورة. وأولى هذه الحقائق هو أن الطلاب والباحثين في العالم الإسلامي ما زالوا يعتمدون على المكتبات والمؤسسات التعليمية في أمريكا وأوروبا فيما أصبح يُسمَّى دراسات الشرق الأوسط (ولا تنسَ أن العالم الإسلامي برُمَّته يخلو من مكتبة مركزية مكتملة حقًّا للمصادر العلمية العربية)، وثاني هذه الحقائق هو أن اللغة الإنجليزية أقربُ إلى العالمية من العربية والفارسية والتركية، وثالثها أن بُلدانًا كثيرة من بلدان العالم الإسلامي التي يعتمد اقتصادُها على النفط، تعتمد في تكوين الصفوة فيها على إعداد طبقةٍ إدارية من أبنائها تدين باقتصادياتها ومؤسساتها الدفاعية والكثير من فرصها السياسية إلى نظام سوقِ الاستهلاك العالمي الذي يتحكَّم فيه الغرب. أقول إن هذه الحقائق تَزيد من دِقة الصورة؛ على ما بها من دواعي الكآبة البالغة، ألا وهي صورة ما فعَلتْه ﺑ «الإسلام» تلك الثورةُ في أجهزة الإعلام التي لا تخدم إلا شريحةً صغيرة من المجتمعات التي أنتجتها.56
وليس معنى هذا أنه لا توجد في الواقع نهضة إسلامية بعيدًا عن ردود الأفعال التي أتحدَّث عنها. ولكنه من الأدقِّ أن نُقلل من اللجوء إلى التعميمات في الحديث عنها. فأنا، من ناحيتي، يزداد اطمئناني إذا تجنَّبتُ استعمال كلمتَي «الإسلام» و«الإسلامي»، إلا في حدود صارمة، ومع تمييز الكلمتين في كل سياق تَرِدَان فيه؛ وذلك، على وجه الدقة، لأن كلمة «الإسلام» قد أصبحَت في الكثير من مجتمَعات المسلمين ودُوَلهم (وفي الغرب أيضًا، بطبيعة الحال) غِطاءً سياسيًّا للكثير مما لا ينتمي على الإطلاق إلى الدين. كيف نستطيع إذن أن نبدأ مناقشتَنا، بروح المسئولية، لتفسيرات المسلمين للإسلام، وللتطورات التي شهدها؟
يجب علينا أولًا مثلما فعل مكسیم رودنسون، أن نرصد التعاليم الأساسية لدين المسلمين، على نحوِ ما ورد في القرآن الكريم، كلام الله، ونُنزلها منزلتها الفريدة.57 هذا هو الأساس الراسخ لهُوية العقيدة الإسلامية، وإن كانت صور تفسيرها وتطبيقها في الحياة الواقعية قد تُبعدنا عنها. ويضم المستوى الثاني شتى التفسيرات المتضاربة للقرآن الكريم التي نشأتْ عنها الطوائفُ الإسلامية المتعددة، وشتى المدارس الفقهية، والأساليب التفسيرية، والنظريات اللُّغوية، وما شابه ذلك. وسوف نَلْمح اتجاهًا رئيسيًّا داخل هذه الشبكة الهائلة من الآراء المُستقاة من القرآن الكريم، وهو الذي يُطلق عليه رودنسون «العودة إلى المنبع» (وقد بُنِيت على معظم هذه الآراء مؤسساتٌ كاملة، بل ومجتمعاتٌ كاملة في بعض الأحيان). ومعنى هذا هو تلك النزعة التي يُشبِّهها رودنسون ﺑ «ثورة دائمة» داخل الإسلام. وإن كان لا يذكر أن جميع أديان التوحيد، ومعظم الحركات الأيديولوجية، تضمُّ هذه النزعة في ثناياها، ومن أصعب الصعب أن نقول إن الإسلام أشدُّ اتساقًا في روحه الثورية من سِواه في هذا الصدد. وعلى أي حال فنحن نرى أن «العودة إلى المنبع» قد أدَّت إلى نشأة بعض الحركات (مثل الحركة الوهَّابية أو، كما هو واضح، العنصر الديني في الثورة الإيرانية)، التي يختلف تأثيرها في المجتمع الذي تنشأ فيه باختلافِ المكان وباختلاف الزمان. فالمهديَّة باعتبارها من أيديولوجيات القرن التاسع عشر في السودان تختلف عن المهديَّة القائمة الآن. وعلى غِرار ذلك نرى أن جمعية الإخوان المسلمين في مصر في الفترة التي امتدَّت من أربعينيَّات القرن الماضي إلى منتصف خمسينيَّاته كانت حركةً تتمتَّع بقوة أيديولوجية أكبر كثيرًا مما تتمتع به الحركةُ اليوم، وكلتا الحركتَين تختلفان في التنظيم والأهداف عمَّا يُسمَّى بالإخوان المسلمين في سوريا اليوم.
لقد تحدَّثنا حتى الآن من وجهة نظرٍ تَعتبر الإسلامَ بصفة أساسية، وإن لم يكن ذلك بصفةٍ حَصْرية، مذهبًا وعقيدة، فوجدنا أننا قد دخَلنا بالفعل مجالًا زاخرًا بالتنوُّع والتضارب. ووجدنا، باختصار، أن مصطلحَي «الإسلام» و«الإسلامي» لا بد لمن يستعملها أن يُحدد بطريقةٍ ما أيُّ صورة للإسلام يقصدها (بل وأيُّ فئة من فئاته)، ويزداد الأمر تعقيدًا حين نُضيف مستوًى ثالثًا لتحليلِنا، ومن جديدٍ وفقًا لرودنسون. ولكن الأفضل هو اقتطاف أقواله كاملة:

يضم الإسلام مستوًى ثالثًا، لا مناص من التمييز بينه بالحرص الواجب وبين المستويَين الآخرَين، وهو المستوى الذي يتضمَّن أساليبَ تطبيق الأيديولوجيات المختلفة في حياة الناس، والممارسات التي ارتبطَت بها هذه الأيديولوجيات وأثَّرت فيها حتى وإن لم تستلهِمْها أصلًا. وكان كل نظام من النُّظم التي أدَّى إليها الإسلام في العصور الوسطى يتخذ صورةً مختلفة عن صاحبه في الحياة الواقعية، ويمر بتغييرات داخلية مختلفة عن غيره، حتى عندما ظلَّت هذه النظمُ متطابقةً من حيث الإحالاتُ المرجعية لها والنصوصُ التي تستند إليها، ومن المحال اختزالُ القضية هنا بحيث تنحصر في مجرد التضادِّ بين المذاهب والنصوص الخاصة باتجاهات «المارقين» من ناحية، والصورة «الصحيحة» للإسلام التي يعترف بها معظمُ المسلمين من ناحيةٍ أخرى. ففي سياق الالتزام بالنص، هنا أو في أي مجالٍ آخر، كثيرًا ما يحدث أن تكون إعادةُ تفسير عبارةٍ وردَت في نصٍّ مقدَّس كافيةً لإحداث تغيير «وجودي» واتخاذ موقف النقد أو موقف الثورة، وقد يظلُّ هذا الموقفُ فرديًّا وقد ينتشر بين الآخرين. وفي مقابل هذا، كثيرًا ما يحدث أنه مع مرور الزمن تتحوَّل الانطلاقة الثورية أو التجديدية إلى اكتساب معنى المحافظة والالتزام والسلم. وبين أيدينا نماذجُ كثيرة على هذا التحول، ولنا أن نُطلق عليه حقًّا قانون الأيديولوجيات العام. والمثال الساطع على ذلك هو تطور المذهب الإسماعيلي؛ ففي العصور الوسطى دعا الإسماعيليون إلى انقلابٍ ثوري في النظام القائم. وأما اليوم فإن زعماءه هم الأغاخانات، أصحاب السَّطوة من المليونيرات، الذين ينحصر همُّهم في التمتع بأطايب الحياة في صحبة نجوم السينما والمشاهير، على نحوِ ما تنشره صحائفُ الفضائح عنهم دون كلل.

وأقول في الختام إن النصوص المقدَّسة لا تتضمن أحكامًا صريحة. فالواقع هو أن التقاليد الثقافية بصفةٍ عامة (سواءٌ كان ذلك في صِيَغها الصريحة، أو فيما تُعلنه على الملأ، أو في نصوصها المذهبية، أو في المواقف التي تستلهمُ هذه النصوص) تتضمن جوانبَ بالغة التنوُّع، وتسمح للمرء أن يُبرِّر الأطروحات التي تتميز بأكبر قدرٍ من التناقض فيما بينها.58
هذا، إذن، هو النوع الثالث من التفسير، ولكنه من المحال له أن يقوم دون النوعَين الآخرين. لا بد للإسلام من وجود القرآن الكريم، وفي مقابل ذلك، لا بد للقرآن الكريم من مسلمين يقرَءونه ويُفسرونه ويُترجمونه إلى مؤسساتٍ وحقائقَ اجتماعية. وحتى حين يشتدُّ الاتجاه إلى الأخذ بالتفسير الصحيح، على نحوِ ما نرى في الإسلام السُّنِّي، والسنة نفسُها تعني الصحة القائمة على الإجماع، فما أيسرَ أن تنشأ القلاقلُ الثورية. فالصراع بين حكومة السادات في مصر وبين ما يُسمى بأحزاب المسلمين الأصولية، يجري في ميدان «الصحة» المختلَف عليها نفسها، فالسادات والسلطات المسلمة التابعة له تزعم أنها تُمثل السُّنة، ومُعارضوه يقدمون حُججًا قوية على أنهم هم أتباع السُّنَّة الحقيقيون.
فإذا أضفنا إلى هذه المستويات الثلاثة للإسلام أعدادَ المسلمين الهائلةَ في الماضي والحاضر والمستقبل، والامتدادَ التاريخي الهائل «لانتشار الإسلام» (من القرن السابع حتى الوقت الحاضر)، والظروفَ الجغرافية المُذهلةَ التنوُّعِ للمجتمعات الإسلامية (من الصين إلى نيجيريا، ومن إسبانيا إلى إندونيسيا، ومن روسيا وأفغانستان إلى تونس)؛ فسوف نتفهَّم فيما أرى، الدلالات السياسية المترتبة على ما تفعله أجهزة الإعلام الغربية، وكذلك المحاولات الثقافية، لإطلاق لفظ «الإسلام» على هذا جميعًا. وأرى أننا سوف نُدرك أيضًا أن شتى المحاولات الإسلامية للرد أو الاستجابة إلى الظروف الإسلامية والغربية، بكل ما تتَّسم به من تنوعٍ وتناقض، ذاتُ طابَعٍ سياسي لا يقلُّ عن طابَع هذه الدلالات، وأننا نستطيع أن نقوم بتحليلها هي الأخرى من حيث كونُها صورًا للتحول والكفاح واستراتيجيات للتفسير59 وسوف أحاول الآن أن أرسم الخطوط العريضة للصورة، حتى أُبيِّنَ مدى التعقيد المذهل فيها، وإن كان ينبغي لي في البداية أن أقول إن أكبر مشكلة هي أن جانبًا كبيرًا مما يتصدى المرءُ لتقييمه يستعصي أساسًا على التوثيق.
إننا أبعدُ ما نكون عن إمكان القطع في أمر وجود شيء نُسميه «تاريخًا إسلاميًّا» إلا باعتباره أسلوبًا بدائيًّا للتمييز بين العالم الإسلامي وبين أوروبا، مثلًا، أو اليابان. وأما فيما عدا ذلك، فالباحثون الإسلاميون والغربيون يختلفون حول ما إذا كان الإسلام قد ضرَب جذوره في بعض المناطق الجغرافية بسبب الظروف البيئية أو الهيكل الاقتصادي الاجتماعي، أو العلاقة الخاصة بين أنساق الحياة المستقرَّة والبدوية. وأما عن فترات التاريخ الإسلامي، فإنها على درجةٍ من التعقيد لا تسمح بإلصاق الطابع «الإسلامي» البسيط بها. فما هي أوجهُ التشابه بين الدول العَلَوية، والعُثمانية، والصَّفَوية، والأوزبَكية، والمغولية (والتي تُمثل النظم السياسية الكبرى في التاريخ الإسلامي، حتى القرن العشرين، في الهند وتركيا والشرق الأدنى والشرق الأوسط)، وبين الدول الإسلامية الحديثة؟ كيف نستطيع تفسير الفرقَ بين (أو حتى أصول) ما يُسمى بالشريحة الإيرانية التركية، والشريحة التركية العربية في البقاع الإسلامية؟ وباختصار، كما يُبيِّن ألبرت حوراني ذلك بوضوح، فإن مشكلات التعريف، والتفسير، وتحديد الطابَع، في إطار الإسلام نفسِه، مشكلات هائلة تُرْغم الباحثين الغربيِّين (ناهيك بغير الباحثين الغربيين) على التمهُّل. وهاك ما يقوله:
الواضح إذن أن بعض الكلمات مثل «التاريخ الإسلامي» لا تفيد المعنى نفسَه في السياقات المختلفة، وأنها لا تكفي في ذاتها لإيضاح كلِّ ما هو موجود، في أي سیاقٍ من السياقات. والواقع، بتعبيرٍ آخر، أن «الإسلام» والكلمات المشتقَّة من هذا اللفظ تُمثل «أنماطًا مثاليَّة» لا مناص من تَوخِّي الحرص في استعمالها، إلى جانب عددٍ لا يُحصى من التحفظات والتكييفات للمعنى، ولا بد من اقترانها بأنماطٍ مثالية أخرى، إذا كنا نريد لها أن تقوم بوظيفتها باعتبارها مبادئَ للتفسير التاريخي. ويتغير مدى إمكانِ استعمالها تبعًا لنمط التاريخ الذي نكتبه. فهي أقلُّ ما يصلح للتاريخ الاقتصادي؛ وعلى نحوِ ما بيَّن رودنسون في كتابه الإسلام والرأسمالية لا يمكن تفسيرُ الحياة الاقتصادية للمجتمعات التي يسود فيها الإسلامُ تفسيرًا يقوم على العقائد أو الشرائع الدينية في المقام الأول. فعلى الرغم من تأثير الشريعة الإسلامية في الأشكال التجارية، نجد أن ألوانًا أخرى من التفسير أقربُ إلى الواقع، وعلى نحوِ ما يقول كاهين وآخَرون، نجد أن بعض المفاهيم الأخرى، مثل مفهوم مجتمع «الشرق الأدنى» أو مجتمعات «البحر المتوسط» أو «العصور الوسطى» أو «ما قبل العصر الصناعي»؛ أكبرُ نفعًا من مفهوم المجتمع الإسلامي. فقد يستطيع الإسلامُ أن يُقدِّم بعض التفسيرات للتاريخ السياسي الاجتماعي، لكنه لا يُقدم جميع التفسيرات المطلوبة؛ إذ لا يمكن تفسير المؤسسات والسياسات القائمة حتى في أشدِّ الدول حماسًا «للإسلام» دون أن نأخذ في اعتبارنا الموقعَ الجغرافي، والحاجات الاقتصادية، ومصالح الأسر الحاكمة والحكَّام. بل إن تاريخ المؤسسات التي تقوم، فيما يبدو، على أساس الشريعة الإسلامية لا يمكن تفسيره من جميع جَوانبه في هذا الإطار وحده؛ إذ إن مفهومًا مثل مفهوم «الرِّق» سوف يتلاشى إذا أنعَم المرءُ النظرَ فيه، وعلى نحوِ ما بيَّن ميليوت في فحصه لكتابات «العمل» التراثية في المغرب الأقصى، دائمًا ما توافرَت الأساليبُ اللازمة لإدراج العادات المحلية في الشريعة الإسلامية عند تطبيقها عمَليًّا. ولا يمكننا أن نُفسر إلا بعض أنواع التاريخ الفكري، على الأقل في الفترة التي سبقَت العصر الحديث، في إطار المفاهيم الإسلامية أساسًا، باعتبارها عمليةَ تحوُّل؛ إذ تسربت أفكارٌ خارجية فاختلطَت بالأفكار المولَّدة من رَحِم الإسلام نفسِه، فشكَّلَت نظامًا يحافظ على نفسه ويطور نفسَه؛ بل لا بد من النظر إلى فلاسفة المسلمين لا باعتبارهم فلاسفةً يونانيين يرتدون ملابسَ عربية، بل باعتبارهم مسلمين يستخدمون مفاهيمَ الفلسفة اليونانية ومناهجَها في تقديم تفسيرهم الخاص للعقيدة الإسلامية.60

فإذا ضربنا في شِعابٍ أخرى لم نجد عند علماء الأجناس البشرية (الأنثروبولوجيا) إجابةً لسؤالنا عما إذا كان قد وُجد إنسان ينتمي عِلميًّا إلى «الجنس الإسلامي»، أو إذا كان لمثل هذا النمطِ قيمةٌ تحليلية أو معرفية على الإطلاق. إن معلوماتنا عن توزيع السلطة في المجتمعات الإسلامية أقلُّ كثيرًا مما نحتاج إلى الإحاطة به؛ بسبب كثرة هذه المجتمعات واختلافها الشديد على امتدادِ التاريخ والمواقع الجغرافية، وهي القِلة التي تمنعنا من البتِّ في أسلوب تقييم العلاقة ما بين المدونات الفقهية الإسلامية وبين تنفيذها في الواقع، أو بين مفاهيم الحكم وبين تطبيقها أو تحولاتها أو استمرارها. ولا نستطيع القطع بأي درجةٍ من درجات اليقين، مثلًا، فيما إذا كانت بعضُ المجتمعات الإسلامية، أو إذا كانت كلُّها أو كان أيٌّ منها قد غيَّر أسُسَ السلطة فيه فأحلَّ مفاهيمَ المذاهب القانونية محلَّ المفاهيم المقدسة. ولننظر إلى عوامل اللغة، والهياكل الجمالية، وسوسيولوجيات الذوق، ومشكلات الشعائر، وعوامل الحيِّز المدني، والتحولات السكانية، وثورات الأحاسيس والمشاعر: إنها جميعًا من العوامل المتصلة بالسياقات المختلفة والتي لم يشرع في دراستها عددٌ يُذكَر من الباحثين المسلمين أو غير المسلمين. هل يوجد شيء حقًّا يُسمَّى السلوك السياسي الإسلامي؟ كيف تتكوَّن الطبقات وتتشكل في مجتمعات المسلمين، وكيف تختلف هذه عن نظائرها في أوروبا؟ وما هي المفاهيم وأدواتُ البحث والأُطر التنظيمية والوثائق التي نستطيع بها رصْدَ أفضلِ مؤشرات الحياة اليومية للمسلم بصفةٍ عامة؟ وهل يُفيدنا استعمالُ مصطلح «الإسلام» في نهاية المطاف باعتباره فكرة، أم تُراه يُخفي أكثرَ مما يقول في الواقع أو يُشوهه أو يُحرِّفه أو يُضْفي عليه دلالاتٍ أيديولوجية أوسع؟ وقبل كل شيء، ما مدى تأثير موقع الشخص الذي يطرح أيًّا من هذه الأسئلة أو يطرحها كلَّها في الإجابات عليها؟ كيف يختلف موقف عالم الدين المسلم الذي يطرح هذه الأسئلةَ في إيران، وفي مصر، وفي المملكة العربية السعودية عن موقفه منذ عشر سنوات؟ وما العلاقة بين هذه الأقوال وبين الأسئلة التي يطرحها المستشرق السوفييتي، أو المتخصص في الدراسات العربية بوزارة الخارجية الفرنسية أو عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي في جامعة شيكاغو؟

وفي مجال السياسة نجد أن الاستجابة الإسلامية أو الرد الإسلامي الموحَّد الذي ظهر أخيرًا لا يقلُّ في «تشييئه» للأمر، ولا يقلُّ في اعتلاله، وفي كونه ستارًا يُخفي العديدَ من العناصر التي تتَّسم بالتناقض المدمِّر، عن استعمال مصطلح «الإسلام» في الغرب. ففي كل حالة تقريبًا نجد أن الدولة في المنطقة الإسلامية الوُسطى (التي تمتدُّ من شماليِّ أفريقيا إلى جنوبيِّ آسيا) تُعبِّر عن ذاتها واعيةً بعبارات إسلامية. وهذه حقيقةٌ سياسية مثلما هي حقيقة ثقافية، ولم يبدأ إدراكُها في الغرب إلا منذ عهد قريب.61 فالمملكة العربية السعودية، مثلًا (على نحوِ ما يدلُّ عليه اسمُها) هي دولةُ البيت الملَكي لآل سُعود وهو الذي أدَّى انتصاره على القبائل الرئيسية في المنطقة إلى نشأة الدولة. وما تقوله هذه الأسرة وما تفعله باسم الدولة وباسم الإسلام يُعبر عن سلطان الأسرة، بالإضافة إلى ما شهدته باعتبارها عضوًا من أعضاء المجتمع الدولي، وما كسبَته هي نفسُها من سلطةٍ وشرعية كبيرة فيما يتعلق بالشعب فيها. ويمكن ترديد أقوالٍ مماثلة عن الأردن، وعن العراق، وعن الكويت، وعن سوريا، وعن إيران قبل الثورة، وعن باكستان، باستثناءٍ واحدٍ وهو أن حُكم الأقلية في جميع هذه الحالات ليس في يدِ أسرة واحدة. ولكن الصحيح أن أقليةً نسبية — سواءٌ كانت طائفة دينية، أو حزبًا واحدًا، أو أسرة، أو تجمُّعًا إقليميًّا — هي التي تُهيمن على الآخَرين جميعًا باسم الدولة وباسم الإسلام، ويُستثنى من ذلك لبنان وإسرائيل؛ فكِلتاهما تنتمي إلى العالم الإسلاميِّ جُغرافيًّا، ولكن الحكم في أيدي أقليةٍ مسيحية في إحداهما، وفي أيدي أقليةٍ يهودية في الأخرى، ومع ذلك فكلٌّ منهما تُعبِّر عن جانبٍ كبير من هيمنتها تعبيرًا دينيًّا.

ولقد أحسَّت جميعُ هذه الدول إلى حدٍّ كبير، كلٌّ منها بأسلوبه الخاص، بأنها تردُّ على تهديداتٍ خارجية، ولجأت من ثَم إلى الدين أو التقاليد الوطنية على الترتيب، فاتخذَت بذلك صورة ردِّ الفعل على هذه التهديدات. ولكن كل دولة منها — وهذا هو جوهر الموضوع — تُواجه معضلة عسيرة الحلِّ إلى حدٍّ مذهل. فمن ناحية معينة نرى أن هيكل الدولة لا يستجيب استجابةً كاملة للتعدُّدية في القوميات والأديان والطوائف القائمة في كلٍّ منها. وهكذا نجد في المملكة السعودية أن قبائلَ أو عشائر مختلفة قد تشعر بالضيق لوجود دولةٍ تقول إنها دولة العرب التابعة لعشيرة آل سعود. ونجد في إيران كذلك، وحتى يومنا هذا، أن هيكل الدولة لا يُتيح مكانًا لأبناء أذربيجان، وبلوخستان، وللأكراد وللعرب وللآخَرين الذين يَشعرون بأن هُويَّتهم العِرقية الخاصة مُعرَّضةٌ للخطر نتيجةَ ذلك. ونرى التوتر نفسَه، وعلى جبهةٍ أعرضَ، وهو يتكرَّر في سوريا، والأردن، والعراق، ولبنان، وإسرائيل. ومن ناحية أخرى نرى أن السلطة المهيمِنة في كلٍّ من هذه الدول قد استخدمَت أيديولوجيةً وطنية أو دينية للإيحاء بمظهر الوحدة في مواجهةِ ما ترى أنه يُمثل تهديداتٍ خارجية. وهذا بوضوحٍ هو الحال في المملكة العربية السعودية، حيث يُمثل الإسلامُ التيارَ الأيديولوجي الذي يتميَّز بالسَّعة والمشروعية الكافية لضم صفوف الشعب تحت لوائه. وهكذا غدا «الإسلام» في المملكة العربية السعودية وفي إيران قبل الثورة مُعادلًا للأمن القومي. ولما كانت هذه الهياكلُ السياسية تتَّفق مع الأنماط الغربية للإسلام؛ فقد أصبحَت تتعرض للمزيد من الضغوط الخارجية والداخلية.

وهكذا فإن «العودة إلى الإسلام» أبعدُ ما تكون عن الحركة الموحَّدة أو حتى الحركة ذاتِ المعنى المُتسق، بل إنها تجسيدٌ لعددٍ من حقائق الواقع السياسية. فهي في عينَي الولايات المتحدة صورةُ انفصام لا بد من مقاومته في بعض الأحيان، وتشجيعِه في أحيانٍ أخرى. فنحن نتحدث عن المسلمين السُّنيِّين المعادين للشيوعية، وعن المسلمين المتمردين البواسل في أفغانستان، وعن المسلمين «المعتدلين» مثل السادات، ومثل الأسرة السعودية الحاكمة، ومثل ضياء الحق. ومع ذلك فنحن ننتقدُ المسلمين المناوئين من أتباع الخوميني، والطريق الإسلامي «الثالث» الذي يُنادي به القذَّافي، كما ننزع في افتتاننا المريضِ بإقامة «الحدود الإسلامية» (أي العقوبات الشرعية) مثل الحدود التي أمر بإقامتها خلكالي في إيران، إلى تضخيم سَطوتها كأنما يتَّخذها الحكامُ أداةً لاستمرار سُلطانهم. ولننظر إلى الإخوان المسلمين في مصر، وإلى المناوئين الإسلاميِّين في المملكة العربية السعودية الذين استولَوا على مسجد المدينة المنورة، وإلى جمعيات الإخوان المسلمين والطلائع الإسلامية التي تُعارض حزب البعث الحاكم في سوريا، وإلى المجاهدين في إيران، وكذلك إلى الفدائيِّين ودُعاة التحرير: إنهم يُمثلون جميعًا جانبًا صغيرًا مما يُمثل تيارًا معارضًا يجري في أرجاء الأمة، وإن كنا لا نعلم إلا أقلَّ القليل عنه. أضف إلى ذلك أن شتى القوميات التي ينتمي إليها المسلمون الذين حُرِموا من هُوياتهم في شتى الدول التي تخلَّصَت من الاستعمار ترفع أصواتها في طلب الإسلام الذي تَدين به. وتحت هذا كلِّه — في المدارس والمساجد، والنوادي وجمعيات الإخوان، والنقابات والأحزاب، والجامعات والحركات، والقُرى والمراكز الحضرية في جميع أنحاء العالم الإسلامي — تعلو أمواج المزيد من أنواع النزعات الإسلامية، والتي يزعم عددٌ كبير منها أنها تهدي أعضاءها حتى يعودوا إلى «الإسلام الحقيقي».62
ولا يحيط أبناءُ الغرب الذين تُطالبهم أجهزةُ الإعلام ويطالبهم المتحدثون بلسان الحكومات بالنظر في «الإسلام» إلا بقدرٍ بالغ الضَّآلة من هذه الطاقات المنوَّعة لدى المسلمين. وأما أخطر أنواع سوءِ التصوير فنراها حين يُطلب إلى الناس النظرُ في «عودة ظهور» الإسلام.63 فأما المستمسكون به فدائمًا ما كانت صورته تتميَّز قطعًا في أذهانهم وقلوبهم، بالانتعاش والحيوية والثراء الفكريِّ والشعوري والإنتاج الإنساني. ودائمًا ما كانت «الرؤية الإسلامية» (إذا استعَرْنا التعبيرَ المفيد الذي أتى به الباحث و. مونتجومري واط)64 تُثير في تفكير المؤمنين معضِلات خلَّاقة؛ ما العدالة؟ وما الشر؟ متى ينبغي الاستنادُ إلى النقل طلبًا للصحيح والمأثور؟ ومتى يجوز الاجتهادُ (الرأي الفردي)؟ وتتكاثر الأسئلة ويقوم العاملون بعملهم — ومع ذلك فنحن لا نكاد نرى أو نسمع في الغرب شيئًا عنه. والواقع أنَّ جانبًا كبيرًا من الحياة الإسلامية غيرُ مرتبط بالنصوص، ولا مقصورٍ على شخصيات بعينها أو على هياكلَ واضحة، حتى لقد أصبح مصطلحُ «الإسلام»، الذي زاد استعماله عمَّا ينبغي، دليلًا لا يُعتمَد عليه إلى ما نحاول أن نفهمه.
ومع ذلك فإن النزاع بين «الإسلام» و«الغرب» نزاعٌ جِدُّ حقيقيٍّ. ونحن نتناسى أن كل حرب من الحروب يُستخدَم فيها صفَّان متقابلان من الخنادق، وصفَّان من المَتاريس، وآلتان من آلات الحرب. وعلى نحوِ ما أدَّت الحربُ مع الإسلام، فيما يبدو، إلى توحيد الغرب حول معارضة قوةِ الإسلام؛ أدَّت الحرب مع الغرب إلى توحيد الكثير من القطاعات في العالم الإسلامي. فإذا كان الإسلام من العوامل الحديثة العهد نسبيًّا في الولايات المتحدة، فلقد بدا للكثير من المسلمين أن الولايات المتحدة جزءٌ من الغرب، وهو ما جعلها، مِن ثَم، من الظواهر التي كثيرًا ما نوقشت في العديد من الدوائر الإسلامية على امتداد عقودٍ طويلة. وأعتقد أن الكثير من الباحثين الغربيين في الثقافة الإسلامية يميلون إلى تضخيم تأثير «الغرب» في الفكر الإسلامي في المائتي عامٍ الأخيرة، وهم يفترضون خطأً من «الغرب» و«التحديث» يَشغلان بؤرةَ الوعي الإسلامي منذ عهد بعيد، من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي. ولكن هذا غيرُ صحيح؛ لأن المجتمعات الإسلامية، شأنها في ذلك شأن غيرها، تُركز على بعض الأشياء أحيانًا، وعلى سِواها في أحيانٍ أخرى. ولكن من الصحيح أن «الغرب» كان موضوعًا شَغل مئات الصفحات من المجادَلات والدراسات والتفسيرات الأصيلة، إلى جانب توفير شتى المشروعات والمهامِّ للعديد من الشخصيات العامة والأحزاب والحركات في العالم الإسلامي،65 ولكنه من الخطأ ومظاهر الغرور أن نتصوَّر أن العالم الإسلامي كلَّه لم ينشغل إلا بهذا الذي لا يَعدو أن يكون في نهاية المطاف من الشئون الخارجية.

ومما له أهميته البالغةُ أيضًا أن نتذكر أن إحدى الخصائص العظمى للثقافة الإسلامية تتمثَّل في ثَراء طاقتها على التفسير وحَذْقها الشاسع في هذا المجال. ربما يكون صحيحًا أن الإسلام قد خلَّف تراثًا بالغَ الروعة والإبهار في الفنون الجمالية البصرية، ولكن الأهمَّ من ذلك، وما لا يقلُّ عنه صحةً، هو أن الإسلام لا تكاد تُجاريه حضارةٌ أخرى في تشجيع فنون التفسير اللفظيِّ على مِثل هذا النطاق الواسع. فلقد بُنِيَت مؤسساتٌ كاملة، وتقاليدُ قائمة برأسها، ومدارسُ فكرية مستقلة، من بعض مذاهب الشرح والتعليق، والنظريات اللُّغوية، والإبداعات التفسيرية. وليس معنى هذا أن التقاليد الدينية الأخرى تخلو من ذلك؛ فهي لا تخلو منها، ولكن علينا أن نتذكر أن الخبرات الشفاهية واللفظية في الإسلام قد نمَتْ وتطورَت دون منافسةٍ تُباريها أو تُضارعها، وامتد نطاقها ليصبح أشملَ وأكثر تخصصًا من سواه. ولا غَرْو إذن أن يُطلق الدستور الإيراني الجديد على الفقيه صفةَ مرشد الأمة؛ فليس الفقيه هو الفيلسوفَ الملك الذي تتصوره أجهزةُ الإعلام، فيما يبدو، بل هو — حرفيًّا — أستاذ الفقه، أي أستاذ علوم التفسير للشريعة الإسلامية، أو هو، بتعبيرٍ آخَر، قارئٌ عظيم.

ومما يدعو للأسى أن المجتمع الإسلامي القائم على ما أخذ به من تفسير، والمجتمع الغربي أو الأمريكي الذي شكَّلتْه أجهزة الإعلام في المقام الأول، يُراهنان بجانبٍ كبير من طاقاتهما على نقطة الخلاف الضيِّقة والمواجهة بينهما، وفي غِمار ذلك يتجاهلان كلَّ ما يتصل بتلك المواجهة. ولما كنا على أتم استعداد لتصديقِ ما يُقال عن المسلمين الذين يُعارضون أمريكا «الشيطانية»، فمن المُجدي أن نلتفتَ إلى حقيقةِ ما حدث في الواقع. فإذا كان من المؤكد أن السيطرة على «الأخبار» و«الصور» في الغرب ليست في أيدي المسلمين، فمن المؤكد أيضًا أنَّ تأخُّر المسلمين الشاملَ في تفهُّمِ أسباب تبَعيتهم هو الذي يمنعهم من اتخاذ إجراءٍ ما بشأن ذلك. ولا تستطيع الدولُ الغنيَّة بالنفط من جانبها أن تشكوَ نقص الموارد، إذ لا ينقص حقًّا إلا بعد قرار سياسي متكاتفٍ بدخول العالم دخولًا جادًّا، وهو النقص الذي يُثبت أن الدول الإسلامية أبعدُ ما تكون عن تشكيل جبهةٍ موحَّدة؛ فهي لم تحتشد لذلك بل ولم تتماسك سياسيًّا حتى الآن. فعليها أولًا تشجيع العديد من المواهب المتوافرة، وليس أقلَّها شأنًا طاقتُها على رسم صورةٍ واضحة قوية واعية لذاتها، ولكن هذا معناه إجراءُ تقييمٍ جادٍّ للقيم الإيجابية التي يُمثلها المسلمون (أي عدم الاقتصار على الدفاع وردود الأفعال). ولقد دارت ولا تزال تدور مناظرةٌ كبرى حول هذا الموضوع في العالم الإسلامي، وهي عادةً ما تتخذ صورةَ مناقشاتٍ للتراث (والمقصود هو التراث الإسلامي دون غيره):66 وقد آن أوانُ نقلِ ما انتهت إليه من نتائج وما بحثَته من قضايا إلى سائر أقطار العالم. لم تَعُد أمامنا ذريعةٌ تُبرِّر النحيبَ على عداء «الغرب» للعرب والإسلام ثم القعود عن العمل والإحساس بغضبةِ صاحب الحقِّ المظلوم. فإذا أقدَم المسلمون على تحليل أسباب هذا العداء، دون خوف، وكذلك تحليل تلك العوامل التي تُشجعه في «الغرب»، فلسوف يتَّخذون خطوة مهمة على طريق تغيير الموقف، ولكن الخطوة لا تشمل الطريق كلَّه؛ إذ لا بد من إحلال شيءٍ ما محلَّه حتى لا تكون النتيجة موجةً جديدة من الدعاية المعادية للإسلام. ولا شك أن المسلمين يُواجهون اليوم خطرًا بالغًا يتمثَّل في فعلِ ما قد يُثبت صحةَ الصورة السائدة المعادية للإسلام، وإن كان ذلك حتى الآن مقصورًا على بعض المسلمين، وبعض العرَب، وبعض السُّود من أبناء أفريقيا. ولكن هذه الأفعال التي تُثبت صحة الصورة تؤكد أهميةَ ما لم يفعله المسلمون حتى الآن، وما عليهم أن يفعلوه.
أعتقد أن عددًا كبيرًا من البُلدان الإسلامية، في غمرةِ اندفاعها نحو التصنيع والتحديثِ والتنمية، قد استجابت، وبدرجةٍ أكبر مما ينبغي أحيانًا، لإغراء التحوُّل إلى أسواقٍ استهلاكية. وأما دحضُ أساطير الاستشراق وصُوَرِه النمطية، فيقتضي من أجهزة الإعلام ومن المسلمين أنفسِهم أن يُتيحوا الفرصةَ للعالم كلِّه لرؤية المسلمين وأبناء الشرق وقد أصبَحوا منتجين (لا مستهلِكين فقط). والأهم من ذلك أن ينشروا صورةً مختلفة للتاريخ، ونوعًا جديدًا من علم الاجتماع، ووعيًا ثقافيًّا جديدًا: وباختصار، لا بد للمسلمين أن يؤكدوا الهدفَ من أن يعيشوا في كنَفِ شكل جديدٍ للتاريخ، باستكشاف ما يُطلق عليه مارشال هودجسون «العالم الإسلامي المركَّب»67 ومجتمعاته الكثيرة المتنوعة، وأن يتسلَّحوا في سبيل ذلك بجِدِّية الغرض، وبالعجَلة والإلحاح اللازمِ لإبلاغ النتائج إلى خارج العالم الإسلامي. ولقد كان ذلك قطعًا ما قصَد إليه علي شريعتي في حديثه للمسلمين الإيرانيِّين عندما أضفى الطابَع العالميَّ على هجرة النبي محمدٍ من مكةَ إلى المدينة، فجعلها تنطبقُ على وضع الإنسان ذاتِه باعتباره «اختيارًا، وكفاحًا، وصيرورةً متواصلة. إنه هجرةٌ لا نهائية، هجرة داخل نفسِه، من الصَّلْصال إلى الإله، إنه مهاجرٌ داخلَ روحه نفسِها.»68
كانت أمثالُ هذه الأفكار التي أتى بها شريعتي تَغْذو الثورةَ الإيرانية في مراحلها الأولى، وهي التي وضَعَت نهايةً حاسمة للافتراض القديم الذي جمدَت عليه أذهانُ البعض، أي افتراض أن المسلمين عاجزون بصفةٍ أساسية عن القيام بثورة حقيقية أو عن تحرير أنفسِهم من أغلال الطغيان والظلم، وكان مما ازدادت أهميتُه حتى عن ذلك أن الثورة الإيرانية أثبتَت في مراحلها الأولى، على نحوِ ما كان يقول به شريعتي دائمًا، أن على المسلم أن يجعل من الإسلام في أعماقه تَحدِّيًا وجوديًّا يهَبُه القوة، لا استسلامًا سلبيًّا للسُّلطة، بشَريةً كانت أم إلهية. ففي الدنيا التي تفتقر إلى «المعايير الثابتة»، ولا يصحُّ فيها إلا الأمرُ الإلهي ﺑ «الهجرة» من الصلصال إلى الإله، يكون على المسلم، حسبما يقول به شريعتي، أن يشقَّ لنفسه طريقًا خاصًّا به وحده. بل إن المجتمع البشريَّ نفسَه هِجرةٌ، أو تأرجحٌ ما بين «قُطب قابيل»، (الحاكم، الملك، الأرستوقراطية؛ أي السُّلطة المُركزة في يدَيْ فردٍ واحد)، وبين «قطب هابيل» (طبقة العوامِّ أو ما يُطلِق عليه القرآنُ تعبير الناس: الديموقراطية، الذاتية، التواصل الاجتماعي).69 وكانت تعاليم الخوميني الأولى على نفس المستوى من القوة، وإن كان يقلُّ مرونةً عن شريعتي، فوصَف مِحنة المسلم بأنه قد كُتِب عليه دومًا أن يُواجه الاختيارَ بين الحلال والحرام (أو الخير والشر). ومن ثَم كانت دعوته إلى إقامةِ جمهورية «إسلامية» وكان يقصد بها ترسيخَ أسُسِ الخير وإنقاذ المستضعفين (أو المظلومين) مما يُكابدونه.
ولقد أدَّت هذه الأفكار، بطبيعة الحال، إلى قلقلةٍ رهيبة في إيران، ولكن الثورة الإسلامية لم تجتذب في الغرب أيَّ تعاطف. بل لقد واجَهَت الأحداثُ الإيرانية، حتى في الأقطار الإسلامية، الخوفَ من طاقتها، ومن حماسها، وتعصبها الديني المؤدِّي إلى التمزق، والذي يُشبه تعصُّب المؤمنين بعودة العصر الذهبي. وهكذا نرى في العالم الإسلامي اليوم انقسامًا عريضًا بين تيَّارَين؛ الأول يمثل الآراء «الصحيحة» الرسمية للحياة الإسلامية، والثاني يُعارضه ويتَّخذ أشكالًا كثيرة متفاوتة، ولْنَقُل إنه «إسلام ضد ثقافي»، وكانت الثورة الإيرانية من صور التعبير الرائدة عنه.70 والمفارقة هي أن الآراء الغربية في الإسلام تُفضِّل أن تَربط بين «الإسلام» وبين ما يُعارضه كثيرٌ من المسلمين أنفسِهم في الوقت الراهن، ألا وهو الحدود، والتسلُّط، وأساليب المنطق القُروسطي، وحكم رجال الدين.

ثالثًا: حادثة الأميرة في سياقها

لا تزال صورة الإسلام في أعيننا تتعرَّض لما يَسلبها القوةَ حتمًا، وأقصد بذلك قدرتَنا على تمثيل الإسلام في الصورة التي تُناسب أغراضَنا، وقد تقوم دولةٌ أو حكومة أو جماعة بالاستجابة لنا، فتختزل الإسلامَ حتى يتَّفقَ مع مناسبةٍ من المناسبات، وتُقدم لنا صورةً أبعدَ ما تكون عن الإسلام الحقيقي، وهكذا نجد أن التلاقيَ بين الجانبَين — «نحن» و«هم» — لا يُضفي الشرف السابغَ على أيِّهما. والأهم من ذلك أن هذه الصورة تُخفي في تغطيتها الإعلامية أكثرَ مما تكشف عنه صراحة. ولَسوف أضرب المثالَ لما أعنيه بحادثةٍ أتولَّى تحليلها بعد أن كَثُرَ فيها القيلُ والقال.

في يوم ۱۲ مايو ۱۹۸۰م عرَضَت محطة «هيئة الإذاعة العامة» فيلمًا بعُنوان «موت أميرة» أخرجه مخرجٌ سينمائي بريطاني يُدعى أنطوني توماس. وقبل ذلك بشهر، كان الفيلم قد تسبَّب في أزمةٍ دبلوماسية بين المملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية، أدَّت إلى سحب السفير السعوديِّ من لندن، ومقاطعةِ السُّياح السعوديِّين لإنجلترا، والتهديد بفرض المزيد من العقوبات. ولماذا؟ لأن الفيلم في نظر السعوديين يُمثل إهانةً للإسلام، ويُقدم صورةً خاطئة للمجتمع العربيِّ بصفةٍ عامة وللعدالة السعودية بصفةٍ خاصة. ويقوم الفيلم على حادثةٍ ذائعة، وهي حادثة إعدام إحدى الأميرات مع عاشقٍ لها من أبناء الشعب، ويتَّخذ شكل الدراما الوثائقية (التسجيلية) التي يبحث فيها أحدُ الصحفيين عن الحقيقة. فالصحفيُّ البريطاني يحاول أن يعرف ما حدث على وجه الدقة للعاشقين، ويسافر في سبيل ذلك إلى بيروت حيث يتحدث مع اللبنانيِّين والفِلَسطينيين، ثم يُسافر إلى المملكة العربية السعودية حيث يتعرَّض، بطبيعة الحال، للمُماطلة والمراوغة من جانب المسئولين. وفي غِمَار ذلك لا يخرج إلا بنتيجةٍ واحدة؛ وهي أن الذين قابَلهم وتحدث معهم يُفسِّرون قصة الأميرة باعتبارها رمزًا لمُعضِلاتهم السياسية والأخلاقية. فالفِلسطينيون يرَون أن الأميرة، مِثلهم، منبوذةٌ تسعى للحرية والتعبير عن نفسِها سياسيًّا. ويرى بعضُ اللبنانيين فيها نموذجًا للصراع فيما بين العرب، وهو الذي أدى إلى تمزيق لُبنان. ويرى المسئولون السعوديون أن القضية لا تخصُّ أحدًا سِواهم، ويقولون إن الغربيِّين لم يهتمُّوا بها إلا لأنها تُسيء إلى النظام الحاكم. وأخيرًا تقول حَفنةٌ من المُطَّلِعين على الخبايا إن مِحنتها تُوجه الاتهامَ لنفاق ذلك النظام، الذي يستغلُّ «الإسلام» وقانون القِصاص الإسلامي في التكتُّم والتستُّر على فسادِ الأسرة المالكة. وأما نهاية الفيلم فهي نهايةٌ مفتوحة؛ فكلُّ تفسير من هذه التفسيرات يتضمن قدرًا من الحقيقة، ولكنَّ أيًّا منها لا يكفي في ذاته لإيضاح ما حدث في الواقع.

وفي الولايات المتحدة أعلنَت الحكومةُ السعودية عن معارضتها لعرض الفيلم، وقد أدَّى ذلك إلى بعض النتائج التي لم يَقبلها الجمهور، من بينها أن وارین کریستوفر، من وزارة الخارجية الأمريكية، لفتَ نظرَ المحطة التلفزيونية المذكورة علنًا إلى استياءِ المملكة العربية السعودية، ومنها أن شركة إكس كون للنفط نشرَت إعلاناتٍ في الصحف الكبرى تدعو المحطةَ فيها إلى «مراجعة» قرارها. وقد ألغت المحطةُ عرضَ الفيلم في عدة مدنٍ، كما قامت، إقرارًا منها بطبيعةِ الفيلم الخِلافية، بإذاعة مُناقشةٍ تحليلية استمرَّت ستِّين دقيقةً عَقِب عرض الفيلم مباشرة، شارك فيها ستةٌ من المتحدثين إلى جانب رئيس الجلسة، وكان أحدُهم مندوبَ الجامعة العربية، والثاني أستاذًا للقانون في جامعة هارفارد، والثالث رجلًا من رجال الدين الإسلاميِّ يُقيم في منطقة بوسطن، والرابع أمريكيًّا شابًّا قيل إنه متخصصٌ في الدراسات العربية، (وكانت تلك تسميةً غريبة؛ نظرًا لأنه لم يكن أكاديميًّا ولا مسئولًا حكوميًّا) إلى جانب امرأة في مقتبل العمر تتمتَّع بخبرة في مجال التجارة والصحافة في الشرق، وأخيرًا صحفيٌّ بريطاني التزم بالأمانة في إبداء كراهيتِه لما يَجري في المملكة العربية السعودية. واشترك هؤلاء الستةُ في تقديم ساعةٍ كاملة من الكلام الذي كان يفتقر، دون مبالغة، إلى الترابط. فالذين كانوا يعرفون شيئًا عن المنطقة كانوا كثيرًا ما يلتزمون، بسبب مَناصبهم، بموقفِ الدفاع الرسميِّ الذي يلتزم به «المسلمون». والذين لا يعرفون إلا القليلَ أثبتوا ذلك، بطبيعة الحال، والباقون كانوا، إلى حدٍّ ما، يقولون كلامًا لا صلةَ له بالموضوع.

وكانت الضغوط المبذولة لمنع عرض الفيلم تستند مُحقَّةً إلى مسائلَ تتعلق بالتعديل الأول للدستور الأمريكي، وأعتقد أنه كان ينبغي عرضه. وأما أهم المسائل التي لم يُفصِح عنها أحدٌ بشأن الفيلم (وهو في رأيي عملٌ تافهٌ إذا قِيس بمقاييس الفن السينمائي)؛ فهي ما يلي: (أ) أن الذي صنع الفيلم ليس مسلمًا، و(ب) من الراجَّح أن يكون الفيلم الوحيد الذي يُحتمل أن يُشاهده المتفرج العادي، فإن لم يكن الوحيدَ فهو بالتأكيد أشدُّ الأفلام تأثيرًا، و(ﺟ) أن المناقشات التي دارت حول الفيلم، سواءٌ في البرنامج التحليلي الذي أعقَبه أو في أي مناسبة أخرى، كان من أندرِ النادر أن تتعرض لقضايا السياق، والسُّلطة، والتمثيل. فلقد تمتع عمل توماس، كما هو واضح، بقوة الجاذبية «الجاهزة» التي لا يتمتع بها فيلم عن اليمن، مثلًا؛ إذ إن الجنس، والحدود الشرعية «الإسلامية» (وخصوصًا تلك التي تؤكد أسوأَ ما نرتابُ «نحن» فيه بشأن همجية المسلمين) إذا تَزيَّتْ بأزياء الدراما الوثائقية (التسجيلية) قادرةٌ على اجتذاب جمهورٍ واسع من المشاهدين. وقالت مجلة ذا إيكونوميست في أبريل ۱۹۸۰م: «الشريعة الإسلامية لا تعني عند معظم الغربيين إلا الحدودَ الشرعية الإسلامية، وهذه أسطورةٌ مُبسَّطة قد يكون الفيلم قد دعَمَها.» وازداد اتساعُ نطاق الجمهور عندما تسرَّب نبأُ لجوء الحكومة السعودية إلى استخدام نفوذها في الكواليس لمنع عرضه (وكان من بينِ من استعانت به أيضًا شركة إكس کون). وقد أدَّى ذلك كلُّه إلى تأكيد أن فيلم «موت أميرة» ليس فيلمًا مِن صُنع المسلمين، بل فيلم لم يكن للمسلمين ما يقولونه بشأنه إلا ما هو جِدُّ محدود، وكريه نسبيًّا، ولا تأثيرَ له على الإطلاق.
ولا بد أن مُنتجي الفيلم والمحطة التي عرَضَته كانوا يُدركون، شأنهم في ذلك شأن أيِّ مسلم أو فردٍ من أفراد العالم الثالث، أنه مهما يَكُن مضمونُ الفيلم، فإن القدرة على إنتاجه أو صناعته؛ أيْ مجرد عرض المشاهد المتوالية في صور، كان مَزيَّةً ترجع إلى ما سبق لي أن أطلقتُ عليه القوة أو السُّلطة الثقافية، وهي في هذه الحال القوةُ أو السلطة الثقافية للغرب.71 كان امتلاك السعوديِّين للمزيد من المال، ببساطةٍ، أمرًا لا صلةَ له بالقضية؛ فإن إنتاجَ الأنباء والصور فعليًّا وتوزيعَها — عَمليًّا — أقوى من المال لأنها تُمثل القوة أو النظام الذي يُعتَدُّ به في الغرب أكثر من مجرد رأس المال. وفي مقابل هذا النظام، كانت الاعتراضاتُ السعودية على الفيلم باعتباره مُهينًا للإسلام تُمثل بدورِها محاولةً لحشد قُوَى نظام تمثيلي أو رمزيٍّ أضعف، أي صورة النظام الحاكم لنفسه باعتباره المدافعَ عن الإسلام؛ ابتغاءَ «تحييد» ما يُطلق عليه الصورة الغربية للإسلام (بمعنى إلغاء تأثيرها).
وأحرز النظام الغربي انتصارًا آخَر في المناقشة التحليلية التي أذاعتها المحطة التلفزيونية المذكورة؛ إذ استطاعت — من ناحيةٍ — أن تزعم صادقةً أنها قد استجابت لاستياءِ السعوديين بإتاحتها إذاعةَ تلك المناقشة للقضايا المطروحة، فأثبتَت حساسيتَها أو إدراكها للموقف، ولكنها استطاعت، من ناحيةٍ أخرى، أن تتحكمَ في المناقشة؛ وذلك بأن ضَمِنَت تحقيقَ «التوازن» بين الآراء المتباينة التي لم يُحسِن المتحدثون التعبيرَ عنها، وهم حَفنةٌ من الأفراد المجهولين نسبيًّا والذين لا يُمثلون حقًّا أصحابَ تلك القضايا، وبذلك ضمنَت أيضًا أن تَسلب أيَّ مناقشة عميقة أو مديدةٍ قوتَها أو حِدَّتها. بل إن إذاعة المناقشة في ذاتها كانت بمثابة البديل لأيِّ تحليل دقيق. وكان من الأدلة على نجاح تلك الحادثة عدمُ قيام أحدٍ بالتعليق على البناء غير المحكَمِ للفيلم، ولا على «التوازن» في المناقشة التحليلية، وهما العاملان اللذان انتهَيا نهايةً مفتوحة مُضلِّلة حالت دون الحكم الصائب على الموضوع الفعلي وهو أحوالُ أحد المجتمعات الإسلامية المعاصرة. فنحن لا نعرف حتى الآن (وربما لم يكن يُهمُّنا أن نعرف حقًّا) ما فعَلَته الأميرةُ في الواقع، مثلما سمعنا المشاركين في المناقشة وهم يقولون «إن الفيلم رديء» أو «إن الفيلم جيدٌ وصادق». ولكن الحقيقة التي لم يعترف بها أحد، والتي تكمن وراء الفيلم ووراء المناقشة، هي أن مِثل هذا الفيلم يُمكِن إنتاجُه وعرضه فيأتي بعواقبَ أخطر من أية عواقب يمكن أن يأتيَ بها فيلم سعودي يعتبر مُسيئًا إلى المسيحية أو إلى الولايات المتحدة أو الرئيس كارتر.
والواقع أن النظام السعودي الحاكم حين بذَل جهوده لمنع عرضِ الفيلم قد وجد نفسه في موقف من يُنكر وقوع شيء لا يستطيع حقًّا إنكارَ وقوعه (الحادثة نفسها)، وأيضًا موقف العاجز عن تقديم صورةٍ للإسلام تُناقض ما جاء فيه. وهكذا فإن التعقيد الشديد المصاحِبَ لاختزال صورة الإسلام، وهو ما سبَق إلى التحدث عنه، قد سلب أيَّ اعتراضات على الفيلم قدرتَها على التأثير؛ إذ أصبح الاختيار محصورًا بين أمرَين: إما أن يقول المشاهد «لا! ليست الأحوالُ حقًّا على هذا النحو» أو «ذلك هو الحال حقًّا»، وهذا يتطلب، بطبيعة الحال، توافر الفرصة لمن يقول بهذا أو ذاك فيُحدِث تأثيرًا ما، ووجودَ مكان يقول ذلك فيه. أما المتحدث الرسمي باسم المملكة العربية السعودية، فلم يتوافر له هذا ولا ذاك، ولم يجد سِوى الأسلوب الذي تُدينه ثقافتُنا، وهو محاولة منع عرض الفيلم على الإطلاق. وقد بذَل المسئولون السعوديون بعضَ الجهود التي لا تُفصِح عن الحماس الكامل للإشارة إلى جوانب الإسلام «الحسنة»، ولكن هذه الجهود لم تكن لها أصداؤها في المناظَرة الجارية. والأسوأ من ذلك أنه لم يتوافر على الساحة الأمريكية عددٌ من المتحدثين الذين يتمتعون بالقوة الكافية والقدرةِ على تِبيان الأسس الثقافية التي تُثبت أن الفيلم تافهٌ من الناحيتَين الفنية والسياسية معًا، بل أتفهُ من أن يستطيعَ أن يحمل أيَّ رسالة مهمة. ولم نشهد، لسوء الحظ، ما هو أسوأُ من أن يظهر معارضو الفيلم — في أمريكا وفي إنجلترا — بمظهر عُملاء للمصالح المالية السعودية (على نحوِ ما أشار إليه، وبألفاظٍ لا تُخفي احتقارَه، ج. ب. کیلي في صحيفة «نیو ريبليك» بتاريخ ۱۷ مایو ۱۹۸۰م)، وفي النهاية، فإن معارضي الفيلم لم تكن في أيديهم أجهزةُ النشر والإذاعة اللازمة للطعن في الفيلم على أسُسٍ نقدية. ولنا أن نتبينَ مدى سخافة الخلاف كلِّه، وبسرعة، إذا نحن قارَنَّاه بالمناظرة التي دارت حول فيلم ذكرى العدالة للمخرج مارسيل أوفلس، أو حول فيلم المحرقة، أو عند إعادة عرض الأفلام التي أخرجها لیني ریفستال.
ولقد مكَّننا عرضُ فيلم موت أميرة من ملاحظةِ ما هو أبعدُ من ذلك. لقد كانت أجهزة الإعلام الأمريكية، والأوساط الفكرية والثقافية من حولها، تعجُّ — دون مبالغة — بالإهانات الموجَّهة للإسلام والعرب قبل أن يسمع أحدٌ عن «الأميرة» بوقتٍ طويل. فلقد شهدنا في مناسبتَين سابقتين على الأقلِّ كيف وجَّه عُمدة مدينة نيويورك إهانةً مباشرة إلى عاهل المملكة العربية السعودية، حين رفَض تحيتَه أو مُجاملتَه بأبسطِ ألوان المجاملات وأكثرِها شيوعًا. وأظهر البحثُ الجادُّ أنه لا يكاد يخلو برنامجٌ تلفزيوني يُعرَض وقتَ الذروة من عدةِ قصص تتضمن صورًا هَزَلية للمسلمين وتتَّسم بالعُنصرية السافرة والإهانات المباشرة، ومن الاتجاه إلى تمثيل المسلمين جميعًا بصورٍ عامة قاطعة ودون تخصيص أو تحديد، بحيث يظهر كل مسلمٍ ممثلًا لجميع المسلمين وللإسلام بصفة عامة.72 ولننظر إلى الكتب المقرَّرة في المدارس الثانوية، وإلى الروايات والأفلام والإعلانات، ولنتساءل كم منها يتضمَّن حقًّا معلوماتٍ عن الإسلام، ناهيك بإظهاره في صورةٍ حسَنة؟ ما مدى انتشار المعرفة بالفَرق بين الإسلام الشِّيعيِّ والإسلام السُّني؟ لا يكاد يعرف الفرقَ أحد! ولننظر في العلوم الإنسانية التي تُدرَّس في جامعاتنا: إن معظمها، إن لم نقل كلها، تضع مقرَّراتها الدراسيةَ بحيث تُوازي بين «العلوم الإنسانية» وبين الروائع الأدبية التي تبدأ بالشاعر اليوناني هوميروس وكُتَّاب المأساة اليونانيين وتنتهي بالروائيِّ الروسي دوستويفسكي والشاعر ت. س. إليوت، مرورًا بالكِتاب المقدَّس، وشيكسبير، ودانتي، وثيربانتیس. وما مكانُ الحضارة الإسلامية المجاورة لأوروبا المسيحية وسط هذا المنهج الذي يتَّسم بالتركيز العِرقي؟ وإذا استثنينا الكتب الحديثة إلى أبعدِ حد مثل الإسلام المحارب أو خنجر الإسلام أو كتاب «كفاحي بقلم آية الله الخوميني»، فما هي الكتب العامة عن الحضارة الإسلامية التي يجري توزيعها على نطاقٍ واسع؟ أو يُرجع إليها؟ أو يَطلب قراءتَها أحد؟ هل من الممكن أن نقول إن بين السُّكان قِطاعًا محبًّا للإسلام مثلما نقول إن بينهم مَن يحبون الإنجليز أو الفرنسيِّين مثلًا؟
وبعد أن خفَّت حدة النزاع حول الأميرة، نسي السعوديون، لسوء الحظ، أن يغضبوا من مجلة أميريكان سبكتاتور التي نشرَت مقالةً كتبها إريك هوفنر بعنوان «كسل محمد» ووضع لها عُنوانًا فرعيًّا هو «محمد، رسول التثاقل».73 بل ولم يُدرجوا في القائمة التي تضمُّ نماذجَ لسوء إدراك الإسلام بعض ما يُذكِّر الناس بذلك، مثل ما نعرفه من أن البلدان الثلاثة التي لا تزال محتلةً في عالم اليوم وتحتلها قوات أحد حلفاء الولايات المتحدة بلدان إسلامية. ولم يُقْدِم النظام السعوديُّ الحاكم على التهديد بالعقاب إلا حين تعرَّضَت سُمعة الأسرة المالكة للتلطيخ مباشرة. فكيف تأَتَّى أن يكون الإسلام قد أُسيء إليه في حالةٍ واحدة دون الحالات الأخرى؟ لماذا لم يقم السعوديون حتى هذه اللحظةِ إلا بجهدٍ محدود نسبيًّا لتعزيز تفهُّم الإسلام؟ وحتى الوقت الحاضر لا يزال إسهامُهم الكبيرُ في مجال التعليم مقتصرًا على برنامج دراسات الشرق الأوسط بجامعة جنوبي كاليفورنيا، وهو الذي يُديره موظفٌ سابق في شركة أرامكو.74
ولكن السياق الكامل لحادثة فيلم موت أميرة أشدُّ تعقيدًا من ذلك. فلقد كان موضوع التدخُّل الأمريكي في الخليج موضوعًا شائعًا في المناقشات الدائرة لمدةٍ لا تقلُّ عن خمس سنوات. فمنذ أواخر عام ۱۹۷۸م عندما أحجَم السعوديون عن المشاركة في عملية كامب ديفيد السلمية، والمقالات التي تُبرز أخطاء النظام الحاكم المتعددة وعيوبه الكثيرة تنشر علينا بصورةٍ منتظمة (وبعضها محشوٌّ بالأكاذيب التي تكتسي مظهرَ الحقائق الصادقة). وقد اعترَف المسئولون في أواخر يوليو ۱۹۸۰م أن وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) كانت من وراء بعض تلك الموضوعات الصحفية: انظر التحقيق الذي نشَره دیفید لي بعُنوان «المعلومات التي تسرَّبَت من واشنطن فضَلَّت الطريق: هفوة السي آي إيه التي هزَّت المملكة العربية السعودية» (واشنطن بوست، ۳۰ يوليو ۱۹۸۰م). وفي الأعوام الستة عشر من عمر صحيفة نيويورك لمراجعة الكتب، كانت تتجاهل تقريبًا شئون الخليج العربي، ثم قامت في السنة التالية مباشرةً لكامب ديفيد بنشر عدةِ مقالات عن الخليج، وكلها تؤكد هشاشةَ «ترتيبات» الحكم السعوديِّ الحاليَّة. وفي الوقت نفسِه، بدا أن الصحافة قد اكتشفَت صعود نجم الإسلام، والخصائص القُروسطية للحدود الشرعية، والفقه الإسلامي، وصورة المرأة. ولم يُشِر أحدٌ في ذلك الوقت إلى أن الحاخامات اليهودَ يُعرِبون عن آراء مماثلة إلى حدٍّ مذهل في المرأة، أو في غير اليهود، أو في نظافة الجسم (الطهارة) وفي العقاب، أو إلى أن مُختلِف رجال الدين المسيحي اللُّبنانيين يتَّسمون بنظرة لا تقلُّ تعطُّشًا للدم وروحِ القرون الوسطى. وكان اختيار التركيز على النظام الإسلامي السعودي فيما يبدو يتميزُ بتوزيع الألحان المعزوفة على نَغْمتين؛ هما ضَعفه وغَرابته، ولم يؤدِّ أيُّ لحن منها إلى التقليل من ذلك الضعف وتلك الغرابة. ولكن المقصد من وراء ذلك كان، فيما يبدو، أن المملكة العربية السعودية قد تَحدَّتِ الولايات المتحدة، وعليها بسبب ذلك أن تُكابد مزيَّة الكتابة «بأمانة» عنها، وكذلك أن تخضعَ لمطلب رفع التكتُّم على ما تفعله الرقابة السعودية (ولكن لم يَشْكُ أحدٌ من الحقيقة المعروفة وهي أنه لا يخرج أيُّ نبأ من إسرائيل دون أن يمرَّ أولًا على الرقيب العسكري)، وانتشر التعبير عن مشاعر الغضب وانتظم ترديدها إزاء انعدام حُرية الصحافة في المملكة العربية السعودية (تُرى كم عددُ مشاعر الغضب التي عبَّر أصحابُها عنها إزاء القيود التي فرضَتها إسرائيل على الصحف والمدارس والجامعات العربية في الضفَّة الغربية؟) لقد أصبحَت المملكة العربية السعودية، فجأةً، حالة فريدة تعلو أصوات الليبراليين والصهيونيين في الجوقة المشتركة التي تُقرِّعها، وأصوات المادحين، ومَن يكادون يُدلِّلونها في الجوقة المشتركة الأخرى التي تضمُّ رجالَ المال المحافظين، وكبار شخصيات المؤسسة الاجتماعية. وقد أدَّى ذلك إلى زيادة خفضِ منزلة المملكة العربية السعودية، وزاد من النُّفور منها وظهورها بمظهر الشاذِّ فكريًّا.
وكان من نتائج ذلك أنه ما إنْ وقعَت حادثة فيلم الأميرة حتى ارتفعَت أصواتنا «نحن» لتَنعِيَ ما يتَّسمون «هم» به من نِفاق وفساد، كما أنهم، بدَورهم، أعرَبوا عن ضيقهم بما لدينا من قوة وما نفتقرُ إليه من الحساسية. وتدفَّقَت في تيار هذه المواجهة شتى جوانب الموازنة بيننا «نحن» وبين «هم»، الأمر الذي جعَل من المستبعَد فعليًّا إجراءَ مناقشةٍ حقيقية، وتحليل حقيقي، وتبادُل حقيقي. وهكذا فقد أخَذ وعيُ المسلمين بهُويتهم يزداد قوةً وهم يَخسَرون المقابلات مع كُتلةٍ صُلبة متحجِّرة، تُقدم نفسها باسم «الحضارة الغربية»، وعندما أدرك ذلك مُثيرو الدَّهماء في الغرب شرَعُوا في الانقضاض على التعصُّب القروسطي وقسوة الطغيان. ومن ثم يُصبح مجردُ تأكيد الهُوية الإسلامية، في ذاته، ولكل مسلم تقريبًا، بمثابة خطوةٍ يُعلن بها عن ضربٍ من التحدِّي الكَوني، بل وبمثابة ضرورةٍ من ضرورات البقاء. وتبدو الحرب في هذا السياق هي النتيجةَ المنطقية إلى حدٍّ بعيد.
ومن النتائج الأخرى غيرِ العسكرية، وغير المنظورة هذه المرة، أن بعض الناس هنا وفي العالم الإسلامي قد يكتشفون الحدودَ المؤسِفة التي تفرضُها بطاقاتُ العناوين القَسْرية مثل «الغرب» و«الإسلام». وربما تكون مُبالغين إذا توقَّعْنا أن يؤدِّيَ ذلك إلى أن تفقُّد هذه العناوين، والأُطُر التي تدعمها، قدرتَها على تكبيل الناس بها، ولكنه من المحتمل أن يؤدِّيَ ذلك الاكتشافُ إلى ظهور «الإسلام» بمظهرٍ أقلَّ تصلُّبًا وبثًّا للخوف، وأن يتَّضح أن «العنوان» أقربُ إلى أن يكون من عواقب التفسيرات التي تخدم أغراضنا السياسية المباشرة ومن ثِمار بواعثِ قلقِنا، سواءٌ كنا «نحن» مسلمين أو غيرَ مسلمين. فإذا ما توصَّلنا آخِرَ الأمر إلى إدراك مدى قوة التفسير وعناصره الذاتية، وإذا أدركنا أن الكثير مما نعرفُه (عن العالم) ينتمي إلينا من جوانبَ تَزيد عمَّا نُقر به في العادة، فلسوف نكون قد قطَعنا مسافةً كبيرة على طريق التخلُّص من بعض السذاجة، ومن قدر كبير من سوء النية، ومن أساطيرَ عديدة عن أنفسنا وعن العالم الذي نعيش فيه. وهكذا فإن تفهُّم «الأنباء» نفسَه قد يُوازي، من زاويةٍ معينة، تفهُّم ما نحن عليه، وكيف تجري الأمور في قطاع معيَّن من المجتمع الذي نعيش فيه. ولا بد لنا من تفهُّم هذه الأمور أولًا قبل أن نتخذ الخطوة التالية لفهم «الإسلام» الذي تُعرَض صوره علينا، والأشكال المختلفة من الإسلام القائمة لدى المسلمين.

فلنُحاول القيامَ الآن بتحليلٍ تفصيليٍّ للحادثة التي تسبَّبَت في أكبرِ قدرٍ من تكدير الصفو ما بيننا «نحن» وبين «الإسلام»: أزمة الرهائن في إيران. فالحادثة تُخفي الكثيرَ الذي لا بد لنا أن نُدركه، وتثير من اختلاط الفكر من الناحية السياسية ما لا بد لنا من إزالته؛ لأنها تسبَّبَت في صدمةٍ بالغةٍ لنا ويكتنفُها غموضٌ شديد، وكذلك لأنها تقول لنا الكثيرَ، إذا نظرنا إليها بعينِ الناقد، عن التيارات الجارية حاليًّا في عالم المسلمين. فإذا فرَغْنا من تناول مسألة إيران استطعنا أن نَمضيَ على الطريق لمناقشة القضايا الأشمل التي تربط ما بين الإسلام والغرب في هذه المرحلة الأخيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤