الفصل الثاني

قصة إيران

أولًا: الحرب المقدَّسة

أثارت إيرانُ مشاعرَ غضب لا تزال متأجِّجةً في صدور الأمريكيين؛ أولًا بسبب الاستيلاء دون وجهِ حقٍّ على السفارة الأمريكية في طهران وبأسلوبٍ مُهين إلى حدٍّ بعيد، وهي التي احتلَّها الطلابُ الإيرانيون في ٤ نوفمبر ۱۹۷۹م، وثانيًا بسبب اهتمام أجهزة الإعلام بالحادثة، وتركيزها الشديدِ عليها، ووصفِ تفاصيلها بدرجةٍ لا تكاد تُصدق من الدقة. فمعرفة المرء أن الدبلوماسيِّين الذين يُمثلون بلادهم محتجَزون وأن الأمريكيِّين عاجزون عن تخليص أنفسِهم، أمرٌ يختلف تمامًا عن مشاهدة ذلك أثناءَ وقوعه ليلةً بعد ليلة على شاشات التلفزيون في ساعة الذُّروة. ولكننا وصَلْنا إلى المرحلة التي نحتاج فيها، في رأيي، إلى وضعِ تقييمٍ نقدي لمعنَى ما يُشار إليه الآن بتعبير «قصة إيران»؛ حتى نتفهَّم حضورَها في الوعي الأمريكي، بأسلوبٍ عقلاني ودون انفعال، خصوصًا لأن نسبةً تبلغ نحوَ تسعين في المائة من الأمريكيِّين قد عرَفَت ما تعرفه عن إيران في الآونة الأخيرة عن طريق الراديو والتلفزيون والصحف. إننا لا نستطيع مهما نفعلْ تخفيفَ الإحساس بالغضب الشديد وبالجُرح الذي أصابنا بسبب احتجاز الرهائن الأمريكيِّين، ولا بالاضطراب الذي أدَّت إليه الصراعاتُ الدائرة في العالم الإسلامي، ولكنني أرى أن علينا أن نشعرَ بالامتنان لأن الولايات المتحدةَ لم تلجأ إلى استعمال القوة المسلحة إلا في مناسبةٍ واحدة. وعلى أية حال، علينا أن نستعرضَ موقع إيران في عيون الأمريكيين، في السياق العامِّ لعلاقات الولايات المتحدة والبلدان الغربية بالعالم الإسلامي؛ لنرى الصورة التي ظهرَت وتظهرُ إيران بها، وكيف قدَّمَتها أجهزة الإعلام، حرفيًّا، وأعادت تقديمَها إلى الأمريكيِّين يومًا بعد يوم.

بدأت إيران تَشغَلُ جانبًا كبيرًا من نشرات الأنباء المسائية في الشبكات الإعلامية فورَ احتلال السفارة. وعلى امتدادِ شهور متعاقبةٍ خصَّصَت شركة إيه بي سي بَرنامجًا تليفزيونيًّا يوميًّا خاصًّا، يُذاع في وقتٍ متأخر من المساء، بعُنوان احتجاز أمريكا رهينة، وقدَّم برنامج تقرير ماكنيل/ليرار الذي تُقدمه هيئةُ الإذاعة العامة (بي بي إس) عددًا من الحلقات لم يسبق لها مثيلٌ عن الأزمة. وعلى امتداد شهورٍ ظل وولتر کرونكایت يُضيف إلى عبارته المميزة («هذا هو الواقع») عبارةً تُذكِّر المشاهدين بعدد الأيام التي قضاها الرهائنُ في الحجز، مثل «اليوم السابع بعد المائتين» وهلمَّ جرًّا. وفي غضون أسبوعَين تقريبًا أصبح هودنج كارتر، المتحدثُ باسم وزارة الخارجية في تلك الأثناء، يُعامَل معاملة النجوم، ومن ناحية أخرى، لم يَكثُر ظهور وزير الخارجية سايرس فانس، ولا مستشار الأمن القومي زبیجنیو برزنسکي، حتى وقعَت المحاولة الفاشلة لإنقاذ الرهائن في أواخر أبريل ۱۹۸۰م. وكانت إذاعة المقابلات التلفزيونية مع أبو الحسن بني صدر، ومع صادق قطب زاده، ومع آباء الرهائن، تُعرَض بالتناوب مع مَشاهد المظاهرات الإيرانية، والدروس التي لا تستغرق إلا ثلاثَ دقائق عن تاريخ الإسلام، والنشرات الطبية الصادرة من مستشفى الشاه السابق، وأوجه المُعلِّقين والخبراء المتجهِّمة وهم يُحلِّلون، ويتأمَّلون الموقف، ويتناظرون، ويخطبون، ويقدمون النظريات، ويقترحون الإجراءات اللازمة، ويَحْدسون تفسيرات الأحداث في المستقبل، والاتجاهات النفسية، والخطوات السوفييتية، وردود الفعل المتوقَّعة من المسلمين، ومع ذلك ظل الأمريكيون الذين يربو عددُهم على الخمسين في محبسهم.

واتضح خلال تلك الفترة أن الإيرانيِّين كانوا يستخدمون أجهزةَ الإعلام لما يرَون أنه في صالحهم، وهو الرأي الذي لم يَفُت قطعًا شبكاتِ وكالات الأنباء. فكثيرًا ما كان الطلاب في السفارة يُحددون مواقيتَ «الأحداث»؛ حتى تُدرك آخِرَ موعدٍ لبثِّها بالأقمار الصناعية، ويمكن إدراجُها في نشرات الأنباء الليلية في الولايات المتحدة. وكان المسئولون الإيرانيون يشيرون من وقتٍ لآخَر إلى أنهم يعتزمون بذلك تحريضَ الشعب الأمريكي على مُعارضة سياسة حكومته. ولقد كان ذلك سوءَ تقديرٍ خطيرًا في البداية. ولكن هذا أتى في وقتٍ لاحق بتأثيرٍ غريب، ومرغوبٍ فيه إلى حدٍّ ما، وهو حثُّ أجهزة الإعلام على اتخاذ موقف التحقيق الصادق في الأمر. ولكنني أريد أن أناقش هنا الصورةَ الذي ظهرَت بها إيران للأمريكيين في أشدِّ فترات الأزمة توتُّرًا، وأما الجانب الآخر للقصة فأضعُه في المرتبة الثانوية لما اهتممتُ به هنا.

كان جانبٌ كبير من الأخبار المثيرة التي حفل بها العَقدُ المنصرم، على نحوِ ما ذكرتُ في الفصل الأول، وهي الأخبار التي لا تقتصر على إيران بل تشمل الصراعَ العربي الإسرائيلي، والنفط، وأفغانستان، أخبارًا عمَّا يُسمى «الإسلام». ولم يبرز ذلك بصورةٍ أوضح من الصورة التي برَز بها في أثناء الأزمة الإيرانية الجديدة؛ إذ قدَّمَت أجهزةُ الإعلام إلى الأمريكيِّين الذين يُتابعون الأنباءَ غِذاءً متواصلًا من المعلومات عن شعبٍ معين، وثقافةٍ معينة، ودينٍ معين — وإن لم تَزِد تلك «المعلومات» عن تجريداتٍ ساء تعريفُها وساء فَهمُها إلى حدٍّ بعيد — فصورته دائمًا، في حالة إيران، في صورة المُنَاوِئ الخطر المُعادي لأمريكا.

أما ما جعلَ الأزمة الإيرانية مناسبةً ممتازة لفحص أداء أجهزة الإعلام فهو، على وجه الدقة، ما جعلها مصدرَ هذه الآلام التي لها ما يُبررها للكثير من الأمريكيين، وأقصد طولها وأن ما أصبحَت إيران ترمز له أصبح يُمثل العلاقات الأمريكية بعالم المسلمين. ومع ذلك، فأعتقد أن علينا أن نفحص بدقةٍ ما ظهَر واتضح، في الفترة الأولى التي امتدَّت شهرين أو ثلاثًا، في مواقفِ أجهزة الإعلام، وفي قيامها بأعمال من شأنها ترسيخُ هذه المواقف، على الرغم من التحديات الجديدة، والتغييرات والأزمات السياسية غير المسبوقة التي لا بد للغرب أن يُواجهها من الآن فصاعدًا. ومع ذلك، ومع مرور الوقت، بدأنا نلمحُ تغييراتٍ معينةً في معالجة أجهزة الإعلام للأنباء، وهي تغييراتٌ تبعث بصفةٍ عامة على التفاؤل أكثرَ مما شهدناه في البداية.

لا بد لمن يفحص الكمَّ الهائل من المادة «الإعلامية» التي أفرزَتها أزمةُ الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران، وعلى الأرجح أن قد تكون قد انفرجَت عندما يظهر هذا الكتابُ في الأسواق، أن تستوقفَه عدةُ أمور مهمة؛ أولها أن موقفنا «نحن» كان، فيما يبدو، موقفَ المحاصَر ومعنا نظام الحياة السويَّة الديموقراطية العقلانية. وبعيدًا عنا، في مكانٍ ما، يوجد «الإسلام» بصفةٍ عامة، وقد استولى على أصحابه جنونٌ نابع من ذَواتهم يدفعهم إلى التلوِّي هُياجًا، وهو ما يتجلَّى في هذه اللحظة في إيران المصابة باضطراب الأعصاب بصورة تدعو للقلق. فقد نشرت مجلة «تايم» في برواز خاصٍّ كلمةً موجزةً عن الإسلام الشيعيِّ في إيران بعُنوان «أيديولوجية الاستشهاد»، في عددِها الصادر في ٢٦ نوفمبر، وفي اليوم نفسِه نشرَت مجلة نيوزويك صفحةً كاملة عُنوانها «عُقدة الاستشهاد عند إيران»، فكأنما كانت تنقل ما تقول من المصدر نفسِه.
ويبدو أن الأدلة على ذلك كانت متوافرةً بكثرة. ففي يوم ۷ نوفمبر نشرت صحيفة سانت لويس بوست دسباتش محضرَ حلقة العمل التي عُقِدَت في مدينة سانت لويس حول إيران والخليج العربي، جاء فيه أن أحدَ الخبراء قال «إن ضَياع إيران، بقيام شكلٍ من أشكال الحكومة الإسلامية، يُعتبر أكبرَ نكسةٍ واجهَتها الولاياتُ المتحدة في الأعوام الأخيرة». وبتعبيرٍ آخر، يعتبر الإسلام، تعريفًا، مُعاديًا لمصالح الولايات المتحدة. ونشرَت صحيفة وول ستريت جورنال في ۲۰ نوفمبر مقالًا افتتاحيًّا تقول فيه إن «انحسار الحضارة» يرجع «بدايةً إلى تدهور القُوى الغربية التي كانت تنشر هذه المثُلَ العُليا [للحضارة]»، فكأنما كان عدم الانتماء إلى الغرب — وهو مصير معظم سكان العالم، ومن بينهم المسلمون — معناه الافتقار إلى أية مثُلٍ عُليا للحضارة. وعندما سأل أحدُ المذيعين بمحطة إيه بي سي، يوم ۲۱ نوفمبر، الأستاذ ج. سي. هوریفیتس، من جامعة كولمبيا، إذا ما كان اعتناقُ الإسلام الشيعي يعني «العداء لأمريكا»، رد الأستاذ عليه بالإيجاب القاطع.

وكان جميع كبار معلِّقي التلفزيون، ومن أهمهم وولتر كرونكایت (محطة إذاعة كولمبيا) وفرانك رينولدز (محطة إيه بي سي)، يتحدَّثون بانتظامٍ عن «كراهية المسلمين لهذا البلد»، أو، بألفاظٍ أكثر شاعرية، عن «هلال الأزمة، ذلك الإعصار الدَّوَّار فوق المروج» (رینولدز إيه بي سي، ۲۱ نوفمبر). وفي مناسبة أخرى جاء صوت رينولدز المصاحِب لصورة مظاهرة تهتف «الله أكبر» وهو يقول ما يَفترض أنه المقصدُ الحقيقي للجمهور «كراهية أمريكا». وجاء في البرنامج بعد ذلك مَن يُخبرنا أن النبيَّ محمدًا، عليه الصلاة والسلام، «هو الذي قال إنه نبي»، (ألم يقل كلُّ نبي قبلَه إنه نبي؟) ويُذكرنا بعد ذلك بأن تعبير «آية الله» «لقبٌ مِن ابتداع صاحبه في القرن العشرين» وأن معناه هو «صورة الله» (ويفتقر هذا وذاك، للأسف، إلى الدقة الكاملة). أما الدرس القصير في الإسلام (ثلاث دقائق) فقدَّمَته محطة إيه بي سي، وقد قدَّمَته في موقع أصحابه الذين لا يكادون يستحقُّون الظهورَ في الصورة، وقد أفتى كلٌّ منهم بالفتوى البغيضة نفسِها وهي أن ردَّ الفعل الصحيح على «الإسلام» هو الاستياء والاسترابة والاحتقار، وينطبق ذلك على «الديانة المحمدية»، ومكة، والحجاب، والشادور، والسُّني والشيعي (وكانت الصور المصاحبة للدرس تُصور بعض الشُّبان الذين يدقُّون صدورهم) والمُلَّا وآية الله الخوميني، وإيران. وتحوَّلَت عدسة البرنامج بعد هذه الصور مباشرة إلى مدينة جیمزفل، بولاية ويسكونسن، حيث يقوم بعض التلاميذ الصغار العقلاء والذين يَدْعون إلى الإعجاب — فليس بينهم محجَّبات أو من يدقُّ الصدرَ أو فقهاء — بتنظيم احتفالٍ وطني للتعبير عن «الوحدة».

«الإسلام المجاهد: الإعصار التاريخي» — هذا ما أعلنَته مجلة الأحد المصاحبة لصحيفة نيويورك تايمز يوم ٦ يناير ۱۹۸۰م، وأما مايكل وولتزر فكتب مقالًا بعُنوان «الانفجار الإسلامي» في صحيفة نيو ريببلك يوم ٨ ديسمبر. وقد حاول المقالان، شأنُهما في ذلك شأنُ غيرهما، إثباتَ أمورٍ لا تقتصر على أن الإسلام كِيانٌ لا يتغيَّر وأننا نستطيع أن نفهمه، علاوةً على التنوُّع الشديد في التاريخ والجغرافيا والهيكل الاجتماعي والثقافة الخاصة بأربعين أمةً إسلامية وما يقرب من ۸۰۰۰۰۰۰۰۰ مسلم يعيشون في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية (بالإضافة إلى ملايينَ كثيرةٍ في الاتحاد السوفييتي والصين)، بل تتعدَّى ذلك إلى «الكشف» — بتعبير وولتزر — عن أنه حيثما ارتكب القتل، ونشبَت الحرب، واندلَع الصراع المديد الذي يجرُّنا إلى بشاعاتٍ رهيبة «فالواضح أن الإسلام قد لعب في ذلك دورًا مهمًّا». ولم يكترث أحدٌ، فيما يبدو، لتجاهُل قواعد الأدلة المعمول بها عادة، أو بأن الكاتب لا يعرف اللغاتِ ولا المجتمعات التي يتحدث عنها، أو بأن المنطق السليم ينسحب خارجًا دون جلَبة كلما حانت مناقشةُ «الإسلام». وأما مقالة نيو ريببلك الافتتاحية فقد اختزلَت إيران في صورة «العاطفة الدينية المكبوتة التي انطلقَت في هُياج» وإلى صورة «الإسلام المستقتل» وقدَّمت كلامًا يوحي بالعلم والمعرفة عمَّا تقوله الشريعة الإسلامية بشأن التجسُّس، وحقِّ المرور الآمن (في أرضٍ الغير) وما شابهَ ذلك. وقد دعَم ذلك كلُّه الحُجةَ الرئيسيةَ وهي أنه إذا كان الإسلام في حربٍ معنا فالأفضل لنا أن ننزل الحَلْبةَ وعُيونُنا مفتوحة.
وقد لجأتْ جهاتٌ أخرى إلى وسائلَ أشدَّ دهاءً وخَفاءً لإلصاق الجرائم «بالإسلام» مما لجأتْ إليه نيو ريببلك، وتتمثَّل إحداها في إحضار خبيرٍ لمُواجهة الجمهور وجعلِه يقول إن الخوميني قد لا يكون في الحقيقة «ممثلًا لرجال الدِّين الإسلامي». (وكان هذا الخبيرُ هو ل. دین براون، السفير الأمريكي السابق في الأردنِّ والمبعوث الأمريكي الخاص إلى لبنان، والذي يعمل الآن رئيسًا لِمعهد الشرق الأوسط، وكان يتحدث إلى برنامج تقرير ماكنیل/ليرر يوم ١٦ نوفمبر) ثم يُضيف بعد ذلك أن المُلَّا «المدرَّع» يُمثِّل نُكوصًا إلى عصرٍ إسلامي أقدمَ (والواضح أنه يتميزُ بأصالةٍ أكبر) وأن الجماهير الغوغائية في طهران ذكَّرَت براون بأحداثِ نورمبرج (المعاديَةِ لليهود) تمامًا مثلما كانت المظاهرات في الطرقات أدلةً على «أن السيرك هو وسيلة التسلية الرئيسية» التي يُقدمها الحكام المستبدُّون في العادة.

ومن الوسائل الأخرى الإيحاءُ بأنَّ ثَمة خيوطًا خفيَّةً تربط ما بين شتى الجوانب الأخرى للحياة في الشرق الأوسط وبين الإسلام الإيراني، ثم إدانة هذا وذاك جميعًا، وقد يكون ذلك ضِمنًا أو صَراحةً وَفقًا لكلِّ حالة على حِدَة. فعندما قام عضوُ مجلس الشيوخ السابق جیمز أبو رزق بزيارة طهران، صاحَبَ الإعلانَ عن الزيارة في محطتَي إيه بي سي وإذاعة كولمبيا التذكيرُ بأن أبو رزق ينحدرُ «من أصول لبنانية». ولكنَّ أحدًا لم يُشِر مطلقًا إلى الخلفية الدانمركية لعضو مجلس النواب جورج هانسن، أو إلى أن أسلاف رمزي كلارك من أصولٍ أنجلوسكسونية بروتستانتية. ولكن رجال الإعلام رأَوا أهميةَ ما في الإيحاء بوصمةٍ إسلامية غامضة تشوب ماضيَ أبو رزق، على الرغم من أصوله المسيحية اللبنانية. (ويتَّصل بهذا استخدامُ صورٍ زائفة لبعض «الشيوخ» العرب؛ للتمويه في قضية أبسكام).

وأما أشدُّ ضروب استخدام الإيحاء صَفاقةً فقد بدأتْ بمَقالٍ قصيرٍ نشرَته صحيفة أتلانتا كونستيتيوشن في صفحتِها الأولى (بتاريخ ٨ نوفمبر)، ويزعم فيه دانييل ب. دروز أن منظمة التحرير الفلسطينية كانت من وراء الاستيلاء على السفارة. وأما مصادره فكانت، كما يقول، سلطات «الاستخبارات الدبلوماسية والأوروبية». وقال جورج بول، بلهجةِ مَن ينطق بالحِكَم والأمثال، في مجلة واشنطن بوست يوم ٩ ديسمبر «إنَّ ثمة أساسًا للاعتقاد بأن بعض الماركسيِّين الذين أُجيدَ تدريبُهم هم الذين يُنظمون هذه العملية كلَّها.» وفي ١٠ ديسمبر أذاعت محطة إن بي سي في برنامج يُسمى «توداي شو» مقابلةً مع عاموس بیرلیموتر، وهاسي کارمیل، وقالت إن الأول «أستاذٌ في جامعةٍ أمريكية» والثانيَ «مراسل مجلة الإكسبريس الأسبوعية الباريسية» (بصفةٍ أساسية) والحقيقة أن الرجلَين إسرائيليَّان. وسألهما روبرت أبيرنيثي عمَّا زعَماه بشأن «تلاقي مَصالح» الاتحاد السوفييتي، ومنظمة التحرير الفلسطينية، و«الأصوليِّين» المسلمين في إيران. وكان سؤاله هو: هل صحيحٌ أنَّ هذه القُوى الثلاث شاركَت فعليًّا في عملية احتلالِ السفارة؟ وأجابا بالنفي بعد تردُّدٍ طفيف ثم عادا إلى الإشارة إلى توافُق المصالح وتَلاقيها. وعندما قال أبيرنيثي بأسلوبه المهذَّب إن ما يقولانه يوحي بأنه محاولاتٌ إسرائيلية «لتلطيخ سُمعة منظمة التحرير الفلسطينية» اعترَض الأستاذ بیرلیموتر بغضَب، قائلًا إن رائده فيما يصدر عنه هو «الأمانة الفكرية» الجَليلة!
وأبَتْ محطة إذاعة كولمبيا أن يتفوق عليها أحدٌ في هذه المزايدات فقدَّمَت في نشرة أنبائها الأخيرة (واسمها نایتلي نیوز) يوم ۱۲ ديسمبر مسئولًا من وزارة الخارجية الأمريكية يُدعى مارفن کولب، فإذا به يستشهد (دون تحديدِ أسماء) بنفس المصادر «الدبلوماسية والاستخبارية» التي كان دروز قد أشار إليها قبل شهرٍ كامل، وإذا به يؤكد من جديدٍ أن منظمة التحرير الفلسطينية، والأصوليِّين الإسلاميين، والاتحاد السوفييتي قد تعاوَنوا في العملية. وقال كولب إن رجال منظمة التحرير الفلسطينية هم الذين وضَعوا الألغام في المجمع، ثم واصل حديثه، قائلًا بلهجة الحكيم الحَصيف، إن هذا قد تأكَّد بفضل «أصوات اللغة العربية» التي سُمِعَت داخل السفارة. (ونشرت صحيفة لوس أنجيليس تايمز في اليوم التالي موجزًا «للقصة» التي رواها کولب). ولم يبقَ إلا أن تأتيَ شخصيةٌ بارزة؛ أي كونستانتين منجيز، الخبيرُ بمعهد هدسون، لترديد هذه الأُطْروحة نفسِها، أولًا في عدد ١٥ مارس ۱۹۷۹م من نيو ريببلك، وبعد ذلك، مرتين في بَرنامج تقرير ماكنيل/ليرار. ولم تَزِد الأدلةُ عن ذلك، إلا بطبيعة الحال، تَكْرار الإشارة إلى الشيوعية الجَهَنميَّة المتحالفةِ بصورةٍ طبيعية مع «شياطين» منظَّمة التحرير الفلسطينية، و«أبالسة المسلمين». (ونحن نندهشُ لامتناع ماكنيل وليرار عن دعوةِ منجيز للعودة حتى يُعلق على غزو الاتحاد السوفييتي لأفغانستان أو على الانتقاد الإيرانيِّ الرسمي لهذا الغزو).
«حيثما وُجِدَت الشيعة وُجِدَت المتاعب»؛ هذا ما أفتى به دانييل ب. دروز في صحيفة أتلانتا جورنال-کونستیتیوشن يوم ۲۹ نوفمبر، وهو يُشبه ما قالت به نيويورك تايمز، وتحت عُنوانٍ أصغر، وبألفاظٍ أشدَّ تعقُّلًا، يوم ١٨ نوفمبر، «كان الاستيلاء على السفارة يرتبط بعاملَين: موافقة الشيعة على السُّلطة وغضَبهم لمسألة الشاه». ولم يمضِ أسبوعٌ على احتلال السفارة يوم ٤ نوفمبر حتى انتشرَت صورُ الخوميني المتجهِّم، والتي لا تُغير مطلقًا ما يُفترض أن تقولَه لمن يطَّلعُ عليها، مثلما انتشرَت صورٌ لا تنتهي للجماهير الإيرانية الغوغائية. وأصبح قيامُ الأمريكيين الغاضبين بإحراق الأعلام الإيرانية (وبيعها) من وسائل التسلية المعتادة، وتولَّت الصحفُ بإخلاصٍ نقْلَ أنباء هذا اللون من ألوان الوطنية. كما تواترَت أنباءُ لها طَرافتُها تدلُّ على الخلط في أذهان الجماهير بين العرب والإيرانيين، مثل النبأ الذي نشرَته صحيفة بوسطن جلوب يوم ۱۰ نوفمبر عن مظاهرةٍ غاضبة في مدينة سبرنجفيلد تُردِّد هُتافاتٍ تقول «عودوا إلى أوطانكم أيها العرب». وانتشرَت التحقيقات الصحفية الخاصة في كل مكانٍ عن الإسلام الشيعي، وإن كان من المدهش ألا تتعرضَ إلَّا مقالاتٌ محدودة نسبيًّا لتاريخ إيران الحديث، أو تُشير إلى المقاومة السياسية ذاتِ الأهمية الفريدة التي أبداها رجال الدين الإيرانيُّون للتدخُّل الأجنبي، وللحكم الملَكي منذ أواخر القرنِ الثامنَ عشر، أو تبحث قدرةَ الخوميني على إسقاط الشاه، والانتصار على جيش لم يُهزم في حربٍ من قبل، وكان أهمُّ ما توسَّل به الخوميني في ذلك الأشرطةَ الإذاعية وجماهيرَ الشعب العَزْلاء إلى حدٍّ كبير.
وربما وجدنا دلالةً رمزيةً ما لعجز وولتر كرونكایت عن النطق الصحيح بالأسماء؛ فلقد كان اسم قطب زاده يتغيَّر في كل مرة يُنطَق فيها تقريبًا، وعادةً ما كان يقرب من «جابوزاداي»، (وفي ۲۸ نوفمبر أطلقَت محطة إذاعة كولمبيا على بهشتي اسم «بشاتي»، وأرادت محطةُ إيه بي سي الانضمامَ إلى الرَّكْب فغيَّرَت — في ۸ ديسمبر — اسمَ منتصري إلى «منتسوري»). وكانت كلُّ «كبسولة» تاريخيةٍ عن الإسلام، تقريبًا، تتَّسمُ بدرجةٍ من الخلط تهبط بها إلى مستوى الهُراء، أو تفتقر إلى الدقة إلى الحدِّ الذي يجعلها تُثير الرعب. خذ مثلًا ما جاء في الحديث عن الإسلام الذي ورَد في برنامج محطة إذاعة كولمبيا «نایتلي نیوز» يوم ۲ نوفمبر، إذ جاء في حديث راندي دانييلز عن شهر المحرَّم: أنه الفترة التي يحتفل فيها المسلمون الشيعةُ «بتحدِّي محمدٍ لزعماء العالم»، وهو قولٌ يهبط الخطأُ به إلى مستوى السُّخف والسفَه؛ فشهر المحرَّم من الشهور الهجرية، والمسلمون الشيعةُ يُحْيون ذِكْرى استشهاد الحُسين بن عليٍّ — رضي الله عنه — في العشَرة الأوائل من هذا الشهر. وقيل لنا بعد ذلك إن الشيعة يُعانون من عُقدة الاضطهاد؛ ولذلك «فلا غَرْو أن يخرج من بينهم خوميني»، وكان مما يبعث على الاطمئنان، وإن كان لا يقلُّ تضليلًا، أن يُقال لنا إنه لا يُمثل الإسلام كلَّه. وقد أجرى البرنامَجُ نفسُه معي مقابلةً للإفادة من «حكمتي» وأخطأ المذيع في تعريف الجمهور بي؛ إذ وصَفني بأنني أستاذٌ للدراسات الإسلامية. وفي ۲۷ نوفمبر قال أحدُ مراسلي المحطة إن إيران كلها تُعاني من «صداع خَمر الثورة»، فكأنما كانت إيران هي السِّكِّيرَ الأول.
ولكن القوة التي «تحتجز أمريكا رهينة» لم تبرز كآبتها الحقيقية إلا حين تصدَّت صحيفة نيويورك تايمز للحديث عن الإسلام، فمارسَت أقصى سلطانٍ لها باعتبارها صحيفةَ النخبة المثقَّفة. ولكن الصورة التي رسمَتها تلك الصحيفةُ للإسلام ترجع في كثيرٍ من جوانبها إلى طابَع الصحيفة نفسِها. فلا يقتصر الأمرُ على كونها أولى وأهمَّ الصحف الأمريكية؛ إذ إننا إذا جمعنا بين الشمول الذي تتحلَّى به، ومستوى الخبرة الرفيع في نقل الأنباء، والإحساس بالمسئولية، وأهمُّ من ذلك كلِّه قدرتُها على الكتابة بمصداقية من وجهة نظر الأمن القومي، وجدنا أنها تتميز بقوةٍ ذات ثِقل فريد. وبعبارةٍ أخرى، تستطيع الصحيفة أن تكون موضعَ ثقةٍ إذا تحدَّثَت في موضوعٍ ما، وأن تجعله يهمُّ الأمة كلَّها في الوقت نفسِه: وهي تفعل ذلك عامدةً، وتنجح، فيما يبدو، في أدائه. وهكذا يقول هاريسون سولزبري في مذكراته: إن الرئيس كیندي قال في ربيع ۱۹٦۱م للصحفي تيرنر کتليدج، المحرر في التايمز: إن الصحيفة لو نشرَت المزيد من التفاصيل عن الغزو الوشيك لخليج الخنازير في كوبا (وهي التفاصيل التي جمَعَتها الصحيفةُ بنفسها) «لأَنقذَتنا من ارتكابِ خطأٍ فاحش.»1 ويقول سولزبري إنه لم يُدرك أحدٌ، بعد حادثة خليج الخنازير، لا في الصحيفة ولا في العالم، أنَّ ما كتبه تاد زولك عن الحادثة لم يكن يُمثل عملًا استثنائيًّا، بل وأن إنجاز الصحيفة كلَّه لم يكن خارجًا عن المألوف هو الآخر، بل لقد كان أمرًا معتادًا في الواقع. كانت التايمز قد أصبحَت مؤسسةً ذات قوةٍ فذَّة، وأصبحت تُمارس عملها بسلطانٍ عُمرُه يقارب عمرَ الأمة نفسِها. وهاك ما يقوله سولزبري:
كانت التايمز قد وصلَت آنذاك إلى مستوى الكتلة الحرجة، بلُغة الفيزياء، لا من حيث عددُ القرَّاء والمعلِنين، وإن كان هذا وثيقَ الصلة بذلك، بل من حيث مستوى العمل الصحفي والخبرة. فلقد كانت تقوم فعليًّا بالتغطيةِ الإعلامية للعالم، وتغطية واشنطن، والأمة، والمدينة، بالعاملين فيها من رجالٍ ونساء، ولم يكن عملهم يقتصر على المشاوير الصحفية، بل كانوا أفضلَ المُراسلين والمحرِّرين الذين يُمكن العثورُ عليهم. وقد تجمَّعوا في التايمز لا من أجل المكافأة المالية فقط؛ فجدولُ الأجور في التايمز لا بأس به. لكنه لم يكن بالغَ الجاذبية في يومٍ من الأيام. ولكنهم تجمعوا لأن التايمز كانت تُمثل مجالًا فريدًا لممارسة الإبداع في نقل الأخبار وتحريرها. ولم يكن يُضارع الصحيفةَ جهازٌ إعلامي آخَرُ في مستوى الأداء المهني والاحتراف، وكانت الكتلة الحرجة من الصحفيِّين قد وصلَت آنذاك [أي بعد حادثة خليج الخنازير] إلى مستوًى رفيع، من حيث الكَمُّ والكيف، حتى إنها كانت تُمارس عملها دون الوعي بأيِّ توجيه. كان رجال التايمز ينتشرون في أرجاء العالم كلِّه، وقرونُ الاستشعار الإخبارية حساسةٌ مُشْرعة، يبحثون ويُنقِّبون ويطرحون الأسئلة.2
وهكذا، جاء الوقت الذي أصبحَت فيه ممارسةُ السلطة الحاسمة تُمثل المهمة الجماعيةَ للصحيفة، وكان المُراسلون يُؤدُّون عملَهم الصحفي بما تُمليه العادةُ عليهم، على نحوٍ ما، «دون الوعي بأي توجيه». وفي عام ۱۹۷۱م، عندما بدأت التايمز تنشر أوراق البنتاجون (وزارة الدفاع الأمريكية) كانت قد مرَّت مائةُ عام على نجاحها في الإطاحة بعصابة «الريِّس تويد» (ولیام مارسي توید ۱۸۲۳–۱۸۷۸) في تاماني هول (المقر المحليِّ للحزب الديموقراطي) بنشرها الوثائقَ الحكومية ذاتَ الصلةِ بالقضية. وها هي تعود الآن، حسبما يقول سولزبري، لتجاوز القانونَ بما تتحلى به من بصيرةٍ معنوية نفَّاذة أصبحَت مَضرِبَ الأمثال، في سبيل المصلحة القومية، 3 وتبين للجميع قدرتها على أن تكشفَ الحقيقةَ وتدفع الحكومات إلى العمل. صحيحٌ أن نجاحها المالي، في ظلِّ مدير تحريرها الأخير أ. م. روزنتال، جاء نتيجةَ إضافة أبوابٍ جديدة مثل باب «المنزل» وباب «المعيشة» إلى الطبعة اليومية، ولكن الدخل الإضافي مكَّنها من التوسُّع في نقل الأنباء الخارجية أيضًا:
أتاحت الأبواب الجديدة للصحيفة بعضَ الموارد المالية التي هيَّأتْ لها موقعًا منيعًا، تقريبًا، في الوقت الذي كانت فيه صحيفتا نیوز وبوست تتعثَّران. وهكذا وبخلاف أي صحيفة أخرى في البلد، كانت التايمز تستطيع أن تُنفق ۳۰۰۰۰ دولار في الشهر، وربما ٥۰۰۰۰ دولار في الشهر، إلى جانب الرواتب والموظفين، على التغطية الإعلامية لسقوط إيران: كانت النقود جاهزة، دون التسبُّب في ضائقةٍ مالية.4
وفي آخر العام الذي «سقطت» فيه إيران، بدأت التايمز تلتفتُ أخيرًا إلى الإسلام. ففي ١١ ديسمبر خصَّصَت الصحيفةُ صفحتين كاملتين لنشر ندوةٍ عُنوانها «الانفجار في عالم المسلمين» وكان مِن بين المشاركين السبعة، ثلاثةُ باحثين من العالم الإسلامي، يُقيمون ويعملون في الولايات المتحدة، وكان الأربعة الآخرون من الخبراء البارزين في التاريخ الحديث للعالم الإسلاميِّ وثقافته ومجتمعاته، وكانت جميعُ المسائل التي طُلب إليهم أن يُناقشوها مسائلَ سياسية، وكانت جميعًا تتعرَّض لتهديد الإسلام للمصالح الأمريكية. وكان الخُبراء يُحاولون هنا وهناك أن يُناقشوا العالم الإسلاميَّ كما لو كان الماضي فيه يختلف من بُقعةٍ إلى بُقعة، شأنه شأن التحوُّلات السياسية وضروب المسلمين أنفُسِهم، ولكن هذه المحاولات كانت تتلاشى أمام قوةِ بعض الأسئلة، مثل السؤال التالي: «إذا كنا اكتسبنا هذه الصورة الشيطانية في أعين الكثيرين من المسلمين في هذه اللحظة، فكيف ينبغي لنا التعاملُ مع مَن نُحس بالتآلُف معه من القُوى والزعماء والحكومات؟ يأتي بازرجان ويُصافح برزنسكي فينتهي ويمضي. وبني صدر يقول إنه يريد أن يأتيَ إلى نيويورك فتكون في هذا نهايتُه. هل نستطيع أن نتعلم درسًا ما في التعامل مع النظم الأخرى؟ هل في هذا درسٌ في ضبط النفس أم ماذا؟» والواضح أن التايمز أحسَّت أنها تتَّجهُ بذلك إلى المنبع، فإذا كان المسلمون يخضعون ﻟ «حكم» الإسلام، فعليك أن تستجوبَ الإسلام وجهًا لوجه. والطريف هنا هو أن الخبراء كانوا يحاولون تقسيمَ «الإسلام» إلى أهمِّ العناصر التي يتكون منها، والتايمز تُعيد تجميع هذه العناصر وبِناءها في قُوًى عامة؛ إما أن تكون «مُعادية» لمصالح الولايات المتحدة أو «صديقةً» لها. وكانت النتيجة التي خلَص إليها الحوارُ في الندوة هي السخط والانزعاج؛ إذ إنَّ آخِر مجموعةٍ من المسائل التي طرحَتها التايمز قد أوحت بوضوحٍ بأن الإقناع والمنطق لن يُكتَب لهما النجاح، ومِن ثَم فقد يلزم استخدامُ القوة باعتبارها الملاذَ الأخير.
وقد انقشعَت الشكوك التي تكتنف ما عسانا «نحن» أن نراه في الإسلام عندما نشرَت «التايمز» في الأيام الأربعة الأخيرة من عام ۱۹۷۹م سلسلةً من أربع مقالات طويلة بقلم فلورا لويس، تُحاول فيها جميعًا أن تُعالج موضوع «أزمة الإسلام» («فورة الإسلام»، ۲۸، ۲۹، ۳۰، ۳۱ ديسمبر). وتتَّسمُ مقالاتها ببعض السِّمات الممتازة؛ مثل نجاحها في تصوير مدى التعقيد والتنوُّع في عالم الإسلام، ولكنها تتضمَّن نقاطَ ضعفٍ خطيرةً أيضًا، يَكْمن معظمها في جوهر النظرة المفترَضة إلى الإسلام اليوم؛ إذ لم تقتصر فلورا لويس على الحديث عن الإسلام وحده ودون غيره في الشرق الأوسط (فهي لا تكاد تذكر «الفَوْرة» المماثلة في اليهودية، أو في المسيحية في مصر ولبنان)، بل تنطلقُ إلى إصدار بعض الأحكام، خصوصًا في المقالة الثالثة، عن اللغة العربية (مستشهِدةً بآراء الخبراء التي تقول إن الشعر العربي «طنَّان وخِطابي، وليس حميمَ النبرة فرديَّ المشاعر»)، وعن الذهن الإسلامي (قائلةً إنه يَعجز عن «التدرُّج في التفكير»)، وهذه من الأحكام التي قد تُعتبر عنصريةً أو من قبيل الهُراء إذا أُطلِقَت على أيِّ لغة أخرى، أو على أيِّ دين آخر، أو على جماعة عِرقية أخرى. وهي تُكثِر من الاستشهاد بأقوالٍ لبعض المستشرقين الذين سبَق لهم الإفصاحُ عن آرائهم العامة. فقد اقتَطَفَت بعضَ أقوالِ إيلي قدوري الذي نشَر في أواخر ۱۹۷۹م دراسةً عن الثورة الإسلامية يحاول أن يُبين فيها أنها مُعادِلةٌ للماركسية اللينينية،5 واستشهدَت بقوله إن «الفوضى في الشرق عميقةٌ ومستوطنة» واقتطفَت أقوال برنارد لويس (وهو ليس من أقربائها) الذي كان قد أعلن «نهاية حريَّة التأمُّل والبحث» في العالم الإسلامي، ومن المرجَّح أن يكون ذلك نتيجةً لعلم التوحيد الإسلامي «الجامد» والقائم في رأيه على «النظرة الجبرية، والعَرَضيَّة، والتسلُّطية». ومن المُحال أن يخرج أحدٌ بنظرةٍ مُتَّسقة للإسلام من قراءة مقالات فلورا لويس، فإنَّ هرولتَها ما بين المصادر، وعدم إلمامها بالموضوع؛ يوحيان للقُرَّاء بطائر جارح يُحاول اصطيادَ صيدٍ متفرق مشتت؛ إذ كيف يُلمُّ المرء بأحوالِ عدة مئات من الملايين الذين ينطقون بكلماتٍ «أقرب إلى التعبير عن الأماني منها إلى تبيان الحقائق»؟ (قارِنْ بهذا ما نشرَته صحيفة أتلانتا کونستيتيوشن يوم ۱۹ نوفمبر عن «الطابَع المراوغ للُّغة الفارسية واستعصاء دلالاتها الدقيقة»). ولكن الكاتبة قد حقَّقَت مقصدَها من الحديث عن الإسلام على أي حال؛ فحتى لو لم يكن «الإسلام» واضحًا على الإطلاق، فلا شكَّ في وضوحِ مَواقفنا «نحن» إزاءه (أو قُل ما لنا الحق كل الحق في مساندته من المواقف).
وقد نشرَت مجلة إسكواير في عدد مایو ۱۹۸۰م مقابلةً مع فلورا لويس، تكشف فيها، ربَّما دون قصد، عن الافتراضات التي كانت لديها وما دفعَتها عليه من أعمالٍ أثمرَت تلك المقالاتُ عن الإسلام. وأما «الترقيع» الذي اتَّسَم به نقلُها الأنباء، وطابَعُ العجَلة والسرعة فيه، فيوحيان بأن صحيفة التايمز تستطيع أن تنجوَ من اللوم؛ لأن الإسلام هو الإسلام، والتايمز هي التايمز. وفيما يلي نَصُّ ما قالته: (ولاحِظ اللهجة «غير الرسمية» التي تشي بموقع الثقة والسُّلطة فيما توحي به عبارة «لا يدري أحدٌ ما يجري الآن في الإسلام»):

منذ بضعة أشهر، على سبيل المثال، شاركتُ في القيام بمشروعٍ أبعادُه هائلةٌ مذهلة. إذ كانت نيويورك قد كلَّفَتني لتوها بالقيام بهذه المهمة الخاصة في المعمعة داخل العالم الإسلامي. كانوا قد عقَدوا اجتماعًا في نيويورك، وقال فيه أحدهم: «يا الله! لا أحد يدري ما يجري الآن في الإسلام. فلنُرسِل فلورا». وهكذا استدعَوْني، وذهبت. كان ذلك من قَبيل الجنون. ولم أكن واثقةً حتى من أسلوب استخدام المادة التي سأجمعها.

وكان عليَّ أن أنتهيَ من الترتيبات بسرعةٍ محمومة حتى أتأكدَ من مقابلةِ مَن أريد قبل السفر، ولم أستطع الذَّهاب إلى أي مكان أو المكوث في أي مكان لمدة ثلاثة أيام.

بدأت رحلتي في باريس ولندن. ثم ذهبتُ إلى القاهرة؛ فهي مقرُّ الجامعة الإسلامية الحقَّة، وكذلك إلى الجزائر وتونس. وعُدتُ أحمل عِشرين کَراسًا وأوراقًا وزنُها عِشرون رِطلًا، وجلستُ لأكتب.
وكانت مَزيَّة هذا، بطبيعة الحال، أنني أتعلَّم شيئًا جديدًا. اذكر طلب العلم مدى الحياة، وسوف تُقدم إليك نيويورك تايمز مِنَحًا دراسيةً متوالية.

أنا دائمًا ما أكتب التحقيقات الصحفيةَ بنفسي، باستثناءٍ واحد وهو عجزي عن الذَّهاب إلى مكانٍ ما بسبب ضِيق الوقت. فمثلًا، فيما يتعلَّق بموضوع الإسلام، كنت أحتاج إلى ملفٍّ ضخم إلى حدٍّ ما عن الفلبين. واتضَح أن مكتب [أخبار] آسيا لا يستطيع تدبير أحدٍ يقوم بإعداده لي — إذ كانوا غارقين حتى آذانِهم في أنباء الحرب في كمبوديا والورطة في جنوب كوريا والأزمة السياسية في طوكيو — وهكذا كان على شخصٍ آخَر أن يقوم بتجميع المادة التي أريدها قبل مغادرتي نيويورك.

ويزداد الأمر وضوحًا إذا قارَنَّا بين التحقيقات الصحفية التي تُغَطِّي «الإسلام» في التايمز، وصحيفة لوموند الفرنسية. إذ إن التايمز جعلَت فلورا لويس تقوم بإعداد التحقيق بسرعة، فهي لا تُناقش القضايا اللاهوتيةَ والمعنوية الكبرى التي يُناقشها الناسُ في شتى أرجاء العالم الإسلامي (كيف يمكن للمرء أن يتحدث عن الإسلام اليوم، ولا يشير ولو مرةً واحدة إلى الصراع المحتدِم بين أنصار الاجتهاد — أي التأويل الفردي — وأنصار التقليد — أي الاعتماد على تفاسير الثقات — باعتبارها من طرائق تفسيرِ القرآن؟) كما أنها لا تُناقش أيضًا تاريخَ وهياكلَ المدارس الإسلامية المختلفة التي تُلهب نيرانَ «الفورة» التي تحاول توثيقها، ولكنها تستعيض عن ذلك بالاعتماد على مقتطفاتٍ عشوائية، مقتبَسة من أفواهِ مَن اختارتهم بأسلوبٍ عشوائي، وتستخدم الحكايات التي تحلُّ في تحقيقها محلَّ التحليل، بل إنها لا تُقدم حتى الجوانبَ الحقيقية للحياة الإسلامية، سواءٌ كانت خاصةً بالعقيدة، أو بالمبادئ الميتافيزيقية، أو بالسياسة.
من المفيد، كما قلت، مقارنةُ ما فعَلَته كُبرى الصحف الأمريكية في هذا الصدد بما نشرَته كُبرى الصحف الفرنسية؛ إذ كانت لوموند، قبل هذا التاريخ بعامٍ كامل (في ٦، ۷، ۸ ديسمبر ۱۹۷۸م) قد كلَّفَت مكسیم رودنسون (وهو مستشرقٌ ماركسي فرنسي بارز، تقتطف فلورا لويس أقوالَه) بدراسة الظاهرة نفسِها.6 ولن نجد اختلافًا يفوق الاختلافَ بين هذين. فإن رودنسون يُلم بالموضوع إلمامًا تامًّا؛ فهو يعرف اللغات، ويعرف الدين، ويفهم السياسة. ولا يعتمد على حكايات، ولا على مقتطَفات مثيرة، ولا يُقيم «التوازن» في الاعتماد على الخبراء بالإسلام «المناصرين» أو «المعادين»، بل يُحاول أن يُبين طبيعةَ القُوى القائمة في المجتمع الإسلامي، وفي التاريخ الإسلامي، والتي تضافرَت مع «التشكيلات» السياسية الحاليَّة حتى أدَّت إلى الأزمة الراهنة. ومن ثَم فهو يُقدم لنا خبرةً متكاملة ذاتَ دلالة — عن الإمبريالية، والصراع الطبَقي، والنزاع الديني، والأخلاق الاجتماعية — وهي لا تَبرز في عمله في صورة المواقف التي يَعرضها «لفائدةِ» قرَّاء تعتريهم الشكوكُ والمخاوف.

ثانيًا: فقدان إيران

من المحتمل أن يلجأ مَن تشبَّع بالأنباء السطحية التي يَرويها الثَّرثارون عن إيران، إلى طلب «الخلاص» والبصيرة الصادقة في البرنامج الذي تُذيعه محطة الإذاعة العامة (التلفزيونية) كلَّ ليلة، وهو تقریر ماكنیل/ليرار، الذي يحظى بالتقدير، مثل نيويورك تايمز في عالم الصحافة المطبوعة باعتباره صفوةَ البرامج وأرقاها في دنيا الصحافة التلفزيونية، ومع ذلك فلقد وجَدتُ أن برامج ماكنیل/ليرار لا تُشبع النَّهم إلى حدٍّ بعيد، سواءٌ من حيث شكلُ التقديم الذي يتَّسم بالتقييد والروح المحافظة إلى درجةٍ تدعو للدهشة، أو من حيث اختيارُ الضيوف ونطاق المناقشة. ولْنتناوَلِ الشكل أولًا. لمَّا كان موضوع البرنامج يتناول منطقةً غير مألوفة من مناطق العالم، وهي إيران، فسوف يشعر المشاهد على الفور بالتفاوُت الشديد بين الجماهير الغوغائية «هناك» وبين الضيوف الذين يُراعون أدقَّ أصولِ الهندام، ويتَّسمون بالتوازن فيما بينهم، وإن كان يجمعهم مؤهلُ الخبرة، وليس بالضرورة عُمق البصيرة أو الفَهم. ولا غبار على محاولةِ تفهُّم موقفٍ ما تفهمًا عقلانيًّا، على نحوِ ما يحاول البرنامج تحقيقه، ولكن الأسئلة المطروحة على الضيوف تدل بوضوح وجِلاء على أن ماكنيل وليرار ينزعان إلى طلبِ ما يدعم الحالة النفسية السائدة في البلاد، أي الغضب الشديد من الإيرانيين، والتحليلات التي لا علاقة لها بالتاريخ لدوافعِ وسلوك الإيرانيين، ومحاولات إجراء المناقشة بحيث تُلائم إطار الحرب الباردة أو نموذج «إدارة الأزمات». وقد ظهَر مؤشرٌ عميقُ الدلالة على هذا في برنامجين (أُذيعا يومَي ۲۸ ديسمبر و٤ يناير)، وكان الضيوف فيهما مجموعتَين من رجال الدين المسيحي الأمريكيِّين الذين عادوا قبل مدةٍ قصيرة من طهران، وتحدَّثوا في البَرنامجَين عن تعاطفهم مع مشاعر الإيرانيين الذين عانَوا ما عانَوه من حكم الشاه المستبدِّ الذي استمرَّ خمسة وعشرين عامًا. وقد أعرب ليرار صراحةً عن التشكُّك، ولا أقول عن رِيبته، فيما يقولان. وعندما ظهر وزير الخارجية آنَذاك، بني صدر، ومن خلفه في المنصب، وهو قطب زاده (۲۳ و۲۹ نوفمبر) استمرَّ اتجاه الأسئلة قريبًا إلى أبعدِ حدٍّ من موقف الحكومة الأمريكية الذي كان قد اتَّضح، وينحصر في السؤال عن موعد إطلاق سَراح الرهائن، مع تجاهُل التنازلات ولجان التحقيق اللازمة للنظر في سوء تصرفات الشاه وجرائمه. ومن المفارقات أن بني صدر لم يَعُد يُصِر، ولأول مرة، على عودة الشاه السابق؛ بل إنه اقترح الصيغة التي نفَّذتْها فيما بعدُ لجنةُ الأمم المتحدة التي ذهبَت إلى طهران بعد ذلك بعدةِ أشهر. أما في البرنامج فقد تجاهل ماكنيل وليرار هذا الاقتراح — وهو الموقف المعهود منهما.

وأما قائمة الضيوف الذين ظهَروا في البرنامج من أوائل نوفمبر ۱۹۷۹م حتى منتصف يناير ۱۹۸۰م فكانت ذاتَ دلالة أكبر. فباستثناء المرات الخمس التي ظهر فيها إيرانيون، وباستثناء ظهور إقبال أحمد مرةً واحدة، وريتشارد فولك مرةً واحدة هو الآخَر، وهما المعروفان بمناصَرة قضايا العالم الثالث ومُعاداة الحروب؛ كان جميع المشاركين في الحوار من الصحفيين، والمسئولين الحكوميين، وخبراء الشرق الأوسط الأكاديميين، وبعض الأفراد المرتبطين بمؤسَّسات تِجارية أو شبهِ حكومية، أو بعض أبناء الشرق الأوسط الذين اشتهَروا بمواقفهم المعادية في جوهرها للثورة الإيرانية. ولم يدَعْ تواترُ ظهور بعض الأفراد مجالًا للشك. فقد ظهر منجیز من معهد هدسون مرتين، وظهر كلٌّ من روبرت نويمان، السفير الأمريكي السابق في أفغانستان، ول. دین براون مرتين أيضًا. وكانت المحصلة النهائية هي وضْعَ كلِّ ما قاله الإيرانيون وفعلوه خارج الحدود الأخلاقية، وهو ما زاد من مشاعر الغضب دون أن يُساعدنا في تفهُّم الأنباء. ولقد أذهلني هذا، وأدهشني ألَّا يُحاول ليرار أو ماكنيل النظرَ فيما كان بني صدر يعنيه، مثلًا، عندما أشار إلى ما يُحسُّه «المقهورون في العالم» قائلًا إن إجابة مطالبهم لا تقتضي تسليمَ الشاه للحكومة الإيرانية الجديدة (أي إن المسألة تتجاوزُ مجرد تراجع الولايات المتحدة)، ولكنها تقتضي مجردَ بادرةٍ من جانب الولايات المتحدة تعترف فيها بأنَّ للمقهورين مَظالمَ مشروعة.

وهكذا فإن أسلوب البحث نفسه في برنامج تقرير ماكنيل/ليرار كان، فيما يبدو، دليلًا على رقابته على ذاته، فحالَ دون خوض البرنامج في المجالات الأوسع للخبرة الإنسانية التي كان المتخاصمون أو المتحاورون يعتبرونها مهمة. لقد شاهدنا صفوفًا دقيقةَ التنظيم من المشاركين الذين يجلسون حول منضدةٍ يُسيطر عليها مُضيفان يطرحان الأسئلةَ بلا هوادة، ولاحظنا وجهاتِ النظر المتَّسمةَ بالتوازن العام، والتي لم تُتِحْ لأي ضيف أن يُسمِعَنا بصدقٍ تلك اللغةَ «الغريبة» في جوهرها، أي لغة الشعوب المقهورة والبعيدة عنا، والتي ظلت حتى عهدٍ قريب تُكابد التدخُّلَ الأمريكي الظالمَ في حياتها، في صمتٍ وعلى امتداد عقود طويلة؛ واستمعنا إلى الأسئلة التي دائمًا ما كانت تُركز على أسلوب التعامل مع هذه الأزمة، لا على محاولة فَهْم الآفاق الجديدة التي تتفتَّح في كل مكانٍ في عالم الأجناس غير البيضاء وغير الأوروبية؛ وأدركنا ذلك اللجوءَ شِبه الغريزي إلى «الحكمة» التقليدية عن الجغرافيا السياسية، والقَلاقل الطائفية، والنهضة الإسلامية، وتَوازُن القُوى، وكانت تلك جميعًا تُمثل إطار القيود التي يُمارس ماكنيل وليرار عملَهما في ظلِّها، ومهما تغيرَت الظروف، كانت تلك القيود نفسُها هي الإطارَ الذي تعمل الحكومة في ظله.
وفي هذا السياق الذي أوجَدَته الصحافة التي تُعاني من الحرص المفرِط على اتساق موقفها إزاء قضية إيران، وهو الاتساق الذي فرَضَته على نفسها، نستطيع أن نُقدِّر عُمق البصيرة المدهشَ الذي أبْداه أ. ف. ستون في مقالٍ له بعُنوان «هل تكون الخطوة التالية إنشاءَ اللوبي اللازم لمناصرة الشاه؟»، وهو الذي كتبه في ۱۷ يناير ۱۹۷۹م ونشرته صحيفة نيويورك ريفيو أوف بوکس (مراجعة الكتب) في ۲۲ فبراير. لقد تحدث في هذا المقال عن نجاح الشاه في «حشد أصدقاء أقوياء»، من مصرف تشيس مانهاتان إلى شركات صناعة الأسلحة، إلى احتكارات النفط، إلى وكالة الاستخبارات المركزية، و«دنيا الجامعات المتعطِّشة». أما وقد حضر الشاه «إلينا هنا شخصيًّا» فقد نُصادف احتمالَ اتخاذ إجراءاتٍ مُغْرية، على الرغم من أنه «كان ينبغي علينا أن نتعلم، لكننا لم نتعلَّم الابتعادَ عن الشئون السياسية الداخلية لإيران، وقد نتعلم درسًا آخرَ في القريب العاجل في إقصاء الشئون السياسية الإيرانية عن حياتنا السياسية». ولماذا؟ ويجيب ستون، مواصلًا تنبؤاتِه الغريبةَ قائلًا «ماذا يكون عليه الحال لو أن النظام الإيراني الجديد تقدَّم بمطالبَ خاصةٍ من جانبه … فزعم حقَّه في الاستيلاء على أملاك الشاه في الخارج والحسابات المصرفية له وللمؤسسة البهلوية؟ وماذا يكون الحال عليه لو أنه طلب عودةَ الشاه لمحاكمته بتهمة نهبِ ثروات البلد؟ وماذا يكون الحال عليه لو أنه اتهمه، باعتباره الحاكمَ المطلَق، بالمسئولية المطلقة عما لا حصر له من وقائع التعذيب والإعدام التي ارتكبَتها الشرطة السرية التابعة له؟».

وأنا لا أقتطف أقوالَ ستون لمجرد أن تنبؤاته تَصادفَ أنْ صدَقَت، لكنَّني أستشهدُ به أيضًا لأنه ليس من «الخبراء» في شئون إيران، ولم يلجأ إلى ادِّعاء ذلك يومًا ما، كما أنه رجلٌ لم يُعرَف عنه أي تعاطف مع المسلمين. وما عليك إلا أن تفحص مقاله حتى تتأكدَ من خلوِّه من أية إشارات إلى العقلية الإسلامية أو غَرام الشيعة بالاستشهاد أو سِوى ذلك من الهُراء الذي يُطالعنا باعتباره من «المعلومات» ذات الصلة بإيران. إنه رجل يفهم السياسة، ويفهم دون أن يُحاول أن يكذب بشأنِ ما يدفع الرجالَ والنساءَ للعمل في هذا المجتمع وفي غيره من المجتمعات، وقبل ذلك كلِّه، فإنه لا شك لديه في أن الإيرانيين، وإن لم يكونوا أوروبيين أو أمريكيين، قد تكون لديهم مظالمُ وطُموحات وآمالٌ مشروعة ومن الحماقة أن يتجاهلها الغربيون. لن تجدَ في المقال كناياتٍ أو مُبالغات. فما دام ستون لا يعرف الفارسية، فإنه لا يسمح لنفسِه بترَفِ تعويض النقص بإطلاق التعميمات عن «مراوغة» اللغة الفارسية واستعصاء معانيها على الفهم.

ولقد عبَّر جوزيف كرافت، بما يُميزه من واقعية، عن رؤيته الخاصة للقضية في مقالٍ بعُنوان «حان وقت استعراض القوة»، ونشرَته واشنطن بوست يوم ۱۱ نوفمبر، وكان ما كتبه في هذا المقال قد أوضح وألقى بأضواء تَزيد عمَّا ألقَته جميعُ الإشارات النمطية إلى الحصانة الدبلوماسية وقداسة سفارتنا، على بعض جوانب الأساس المنطقي الذي يقوم عليه كلُّ ما تقوله وما تفعله أجهزةُ الإعلام، وربما دون وعيٍ منها. كتب كرافت يقول: إن سقوط الشاه يُمثل «كارثة للمصالح القومية الأمريكية». إذ لم يقتصر الشاه على توفير كمِّيات النفط التي نحتاجها، بانتظام، لنا، بل إنه قد فرَض النظامَ على الهضبة الإيرانية من خلال «طموحات الإمبراطورية». وكان هذا خيرًا لأمريكا؛ فلقد حافَظ على تدفق النفط، وحافظ على تبَعية المنطقة له وإخضاعِ «الوطنيِّين الكامنين»، الأمر الذي أتاح لنا «نحن» أن نظهر بمظهر القوة. ويمضي كرافت في مقاله ليُوصيَ «بالعثور على مناسبةٍ لتأكيد قوة أمريكا بصورة لا يمكن إغفالها وحبذا لو كانت مفاجئة، لصالح وباسمِ النظم التي تشعر بتهديد آية الله لها» باعتبار ذلك جانبًا من جوانبِ محاولة «إعادة بناء السياسات الأمريكية إزاء إيران». وما الطرق الأخرى لتنفيذ ذلك؟ يقول كرافت:

قد يتخذ ذلك شكلَ مساعدةِ العراق في جهودها لبعث المقاومة المحلية داخل إيران. وقد يعني تقديم مساعدةٍ عسكرية إلى تركيا … وإيجاد هذه الفرص واستغلالها يتطلب تغييرًا داخليًّا حاسمًا في واشنطن. وعلى الولايات المتحدة أن تتمتعَ بالقدرة على أن تفعلَ ما يتجاوزُ إرسال مشاة البحرية وإلقاء القنابل، أي إنَّ عليها أن تُعيد بناء قدرتها (وهي القدرة التي دمَّرَت ذاتها منذ أعوام معدودة فحَسْب) على التدخُّل الخفيِّ المقنَّع.

ويتضح من مقال كرافت أنه يرفض أن يتقبَّل أن الثورة الإيرانية قد قامت أصلًا. ومن ثم فلا بد من «تنقيحها» بمعنى إعادة النظر فيها وفي كل ما يتصل بها — آية الله، والإسلام، والشعب الإيراني — باعتبارها انحرافًا يتمنَّى أن يقول به قرَّاؤه. وبعبارةٍ أخرى، نجد أن كرافت «يُسقِط» رؤيته الخاصة للواقع على واقعٍ إيراني وأمريكي معقَّد إلى درجة بعيدة، ويريد مِن ثَمَّ أن يستعيضَ بهذه الرؤية عن الواقع الفعلي. كما تتميز رؤية كرافت بمَزيَّةٍ «تعليمية» إضافية وهي مُجافاتها الكاملة للأخلاق: إنها تتعلق بالقوة، القوة التي تُمكِّن أمريكا من صَوْغ العالم وفقًا لشروطنا «نحن»، فكأنما لم نتعلم شيئًا من استمرارِ تدخُّلِنا، في الواقع، في إيران، على مدى السنوات الخمسِ والعشرين الماضية. وأما إذا وجد نفسه، في غِمار ذلك، يُنكر حقَّ الآخرين في إحداثِ ما يرَونه من تغييرٍ في شكل حكومتهم، بل وينكر حتى أن تغييرًا ما قد حدَث بالقطع، فذلك لا يُهمه كثيرًا. فهو يريد لأمريكا أن تعرف العالم (وأن يعرفها العالم) بما لها من قوة، ومن احتياجات ومن رؤية خاصة. وأما ما عدا ذلك فهو إساءةٌ بالغة.

وأما ما يَعيب هذه النظرةَ فهو أنها، حتى من الزاوية البراجماتية والأنانية المحضة، نظرة فظَّة وعمياء. ففي الوقت الذي كان كرافت ومن لفَّ لفَّه يُهاجمون الثورة الإيرانية وينعَوْن فقدان الشاه، كان الموقفُ في إيران قد أصبح مُزعزعًا ومُقلقلًا إلى أقصى حد؛ إذ كانت الجماهير التي أسقطَت نظام حكم الشاه تتصدَّر ائتلافًا سياسيًّا يرأسه آية الله الخوميني. كان يتمتع وحده بالسلطة وبالشرعية الروحية والسياسية القادرة على اجتذاب أنظار البلد. أما تحت السطح الذي يُهيمن عليه فكان الصراع يدور بين العديد من الفصائل، وكان من بينهم بطبيعة الحال رجالُ الدين (الذين انتظَم أتباعهم في الحزب الجمهوري الإسلامي)، وليبراليُّو الوسَط (ويتصدهم بازرجان)، وتَجمُّع عريض من أحزابٍ وشخصيات إسلامية تتفاوت مُيولها ما بين الليبرالية واليسار، (وقد برز بني صدر من بين هذه الشخصيات) واليسار غير الإسلامي، وهو الذي يتشكَّل من أحزابٍ وتجمُّعات كثيرة مختلفة. وقد ظلَّ الصراع على السلطة قائمًا بين هذه الفصائل المختلفة لما يزيد على عام كامل بعد قيام الثورة — أي من فبراير ۱۹۷۹م حتى مارس على الأقل أو أبريل ۱۹۸۰م — وكان يبدو أحيانًا أن بني صدر قد انتصر، وفي أحيان أخرى — أساسًا في أواخر أيام الشتاء وأوائل الربيع عام ۱۹۸۰ — أن رجال الدين (بزعامة آية الله محمد بهشتي) قد انتصَروا. ولم يُنشر في الولايات المتحدة من أنباء هذا الصراع أثناء احتدامه إلا قدرٌ بالغُ الضَّآلة. فلقد بلغ الالتزامُ الأيديولوجي بفكرة جمود الإسلام وثباته درجةً من القوة حالت دون ملاحظةِ التحوُّلات السياسية الجارية في داخل ذلك البلد المعيَّن. وعندما انتصر التجمُّع الإسلامي المحافظ نتيجةً لذلك الصراع بعد ذلك، بدا للناس أن الأوصافَ الأولى للإسلام كانت صحيحةً على أي حال. لكنه عندما فشِلَت محاولة إنقاذ الرهائن بالطائرات العمودية، وبعد أن قرَّرَت إدارة الرئيس كارتر تخفيضَ أولوية قضية إيران لفترة ما (ومن زاويةٍ معينة بعد أن فات الموعد)؛ بدأَت الصحافة تؤدِّي واجبَها في نشر أنباء الصراع على السلطة بين بهشتي وبني صدر. وكما جرَت العادة صوَّرَت بني صدر في صورة الشخص الذي نستطيع التعامل معه لولا وجودُ بهشتي، وأما حين كان نجمُ بني صدر ساطعًا صاعدًا في أواخر عام ۱۹۷۹م، فلم يكن يَلقى إلا التجاهلَ أو الازدراء.

لا شك أن القوة مسألة معقدة؛ فالقوة لا تلمحها العين في جميع الأحوال. وتتغير أشكالها بسرعة، إلا إذا اقتصرنا في تفكيرنا على القوة العسكرية، ومع ذلك فقد تنشأ مواقفُ تصعب فيها رؤيتها أو فهمها، على نحوِ ما أشار إليه كرافت بدقَّة، ويستعصي فيها استعمالُها مباشرةً (غارة، تخريب تُدبره وكالة الاستخبارات المركزية، ضربة تأديبية من لونٍ ما) ولا يمكن استعمالها إلا بصورةٍ غير مباشرة («احتجاز أمريكا رهينةً» هو النموذج الذي قدَّمه وأعاد تقديمَه جهازٌ إعلاميٌّ يتمتع بمواردَ لا حصر لها فيما يبدو). فمنذ زمنٍ بعيد وأجهزةُ الإعلام مشغولة بتأكيدِ ما تتمتع به هي من قوة مباشرة. ولا أرى أنه من المبالغة أن نقول إن الإحساس ﺑ «العجز القومي» الذي تحدَّثَ عنه كرافت كان بمثابة طغيانٍ مؤقَّتٍ لنوعٍ من أنواع القوة الأمريكية على نوعٍ آخَر: طغيان قوة أجهزة الإعلام التي حجبَت قوة العسكريين الذين أحَسُّوا بعد احتلال السفارة بالإحباط؛ إذ أحرَجَتهم قوةٌ أخرى كانت فيما يبدو خارجَ نطاقِ القوة العسكرية الأمريكية، (وهي الحقيقة التي أثبتَتها بوضوحٍ محاولةُ الإنقاذ الفاشلة في أواخر أبريل ۱۹۸۰م).

ولكن هذه القوة نفسها ظلَّت مع ذلك خاضعةً للحدود التي فرَضَتها عليها قُوى أجهزة الإعلام الغنية القادرة على الرمز والإيحاء. فمهما يكن ما كسَبَه الفرد الإيراني من حُرِّيته أو تحرُّره من الشاة ومن الولايات المتحدة، استمر ظهورُه على شاشات التلفزيون الأمريكي في خضمِّ جمهورٍ غوغائي كبير مجهولِ الاسم، فسلبَتْه الصورةُ فرديتَه وإنسانيته وعادت للتحكُّم فيه نتيجةً لذلك. وسواءٌ كانت أجهزةُ الإعلام على وعيٍ بما تفعله أم لا، فإنها كانت في الواقع تستخدم طاقاتها على التمثيل والرمز لتحقيق غرضٍ معيَّن، شبيهٍ بالأغراض التي قصدَت إلى تحقيقها حكومةُ الولايات المتحدة في الماضي: ألا وهو توسيع نطاق الوجود أو الحضور الأمريكي، أو ما كان لا يختلف معناه في نظر الإيرانيين؛ أي إنكار وجود الثورة الإيرانية. ولم يكن هذا يعني في المقام الأول تقديمَ الأنباء أو تقديم تحليلٍ أو تأمُّلٍ لمرحلةٍ جديدةٍ مهمة من مراحل العلاقات الخارجية الأمريكية، بل، وباستثناءاتٍ جِدِّ قليلة، كان غرضُ أجهزة الإعلام، فيما يبدو، أن تشنَّ حربًا من لونٍ ما على إيران.

وقد أعَدَّ صحفيان في صحيفة واشنطن بوست هما وولتر بنكاس ودان مورجان؛ مجموعة رائعةً من التقارير التي تتضمَّن ثمارَ بحوثهما وتحقيقاتهما ونشَراها في ديسمبر ويناير وفبراير ومارس ۱۹۸۰م، فكانت من باب الاستثناء للقاعدة؛ إذ وضَعا أمام القارئ أدلةً قاطعة على الصفقات المربحة التي عقَدَها الشاه مع شركات السلاح الأمريكية، وعلى ما يملكه في المؤسسة البهلوية، وعلى تَلاعُبه وقمعِه للشعب (وقد نشر روبرت جراهام تفاصيلَ بعضِها في كتابه إيران: وهم القوة)، ولكن أمثال هذه المقالات، إلى جانب المقال الذي كتبه برنارد نوسيتر في نيويورك تايمز بتاريخ ٢٦ نوفمبر ويُقارن فيه الخوميني بالشاه، كانت قليلةَ العدد، إذا قارَنَّاها بحالة الاستياء السائدة التي تنقلها أجهزة الإعلام وتنشرها مرارًا وتَكرارًا. ومن الغريب أن أحدًا لم يُحاول النظرَ إلى سياسات الولايات المتحدة في إيران في إطار ما يُسمى بامتيازات الأجانب التي كان معمولًا بها على امتداد قرنٍ كامل، وكانت هذه السياسة تمنح شتى الدول، ابتداءً بإنجلترا، امتيازاتٍ اقتصاديةً ودبلوماسية وقضائية خارج أراضيها، في إيران (وهكذا قال الخوميني في عام ١٩٦٤م «لو أن الشاه صدَم بسيارته كلبًا أمريكيًّا لتعرض للحساب، ولو صدَم طباخٌ أمريكيٌّ بسيارته الشاه … فليس لأحدٍ أن يُطالبه بأي شيء»).7 ولكن أجهزة الإعلام لم تُشِر قطُّ إلى هذه السياسة، وإن كان يمكن بوضوح أن نستخدمها في تفسيرِ الحدَّة الشديدة لمشاعر الإيرانيين ضد جميع «الشياطين الأجانب» وخصوصًا من الدبلوماسيين الأجانب، لا الولايات المتَّحدة فقط. وقد كان يمكن أن يؤدِّيَ ذلك إلى إسكاتِ صيحات الاستنكار والتظاهر بالتقوى التي سَمِعناها من الكثير من المعلقين الذين قالوا إن إيران قد ظلمَت أمريكا ظلمًا بيِّنًا فادحًا، وإن أمريكا بريئةٌ لم تُقدم إلى الإيرانيين إلا الخيرَ السابغ الفيَّاض.
وليس من المدهش إذن ألَّا يخرج القارئ بمعلومات كثيرة مما نُشِر عن الأزمة في شهورها الثلاثة الأولى؛ إذ لا تُقدم لنا أجهزةُ الإعلام إلا الإصرارَ على موقفها، بدلًا من التحليل أو التغطية المتعمِّقة للتعقيدات الحافلة التي تزخر بها القضية، وأظن أن الأمريكيين سوف يقولون إن أجهزة الإعلام قد قدَّمَت أدلةً كثيرة على قدرتها على الوجود، وهناك في طهران، وعلى طاقتها على حفز الأحداث على اتخاذ أشكال يسهل هضمها مهما بدَت ساذجة. ولكنها لم ترَ فائدة في تحليل الجوانب السياسية المعقدة للأحداث، ولم يشعر أحدٌ قطعًا بأن أجهزة الإعلام كانت تقوم بتسجيل وتوثيق التحوُّلات التاريخية المعقَّدة التي تُحير الألباب أحيانًا. ولكننا استطعنا أن نكتسبَ بعض المعرفة بأساليب عمل أجهزة الإعلام.
فإذا نحَّينا جانبًا ذلك التصويرَ الذي لا هوادة فيه لتجرِبة المواجهة التي أشرت إليها، فسوف نُقدِّر مدى ما أُنفق على تغطية أنباء إيران والكم الهائل لتلك الأنباء. فعلى امتداد الأسابيع العشَرة التي قمتُ فيها برصد ثماني صحفٍ يومية، والشبكات الثلاث، ومجلة تايم ومجلة نيوزويك ومحطة الإذاعة العامة، بدا لي أن كل صحيفة كبرى في البلد قد غطَّت وأبرزَت الأحداثَ الإيرانية، إلى جانب «لمحات عن خلفيَّتها» وبعض التحقيقات الصغرى المرتبطة بها. وقال جون كيفنر، المحرِّر في نيويورك تايمز في ١٥ ديسمبر ۱۹۷۹م إن فيلقًا من الصحفيِّين الغربيين، الذين لا يقلُّ عددهم عن ثَلاثِمائة، يُقيم في طهران (وكان معظمهم، إن لم يكونوا جميعًا، في حاجةٍ إلى مترجمين). وذكر کول ألن يوم ۱٦ ديسمبر ۱۹۷۹م في صحيفة ذي أستراليان أن مجموع ما تُنفقه الشبكات الأمريكية الكبرى في طهران يبلغ مليون دولار يوميًّا. وقال ألن إن محطة إذاعة كولمبيا كان لديها في طهران، إلى جانب رئيس مكتب المحطة «فريق يتكون من ۲۳ صحفيًّا، ومصوِّر تلفزيوني، وخبير تسجيل الصوت، وخبراء أفلام وفنيِّين يُساعدهم ۱۲ مترجمًا إيرانيًّا، وسائق ومرشد». وكانت تستخدم جَناحًا في أحد الفنادق، إيجاره الشهري ٦۰۰۰ دولار، مركزًا للعمليات، إلى جانب خمسٍ وثلاثين غرفةً أخرى إيجارُ الغرفة الواحدة ۷۰ دولارًا في اليوم للصحفيين والسائقين والمترجمين؛ وتضاف إلى هذا تكاليفُ الطائرات الخاصة، وآلات التليكس، والسيارات والتليفونات، إلى جانب قمر صناعي للاتصالات يستخدم أربعَ ساعات يوميًّا بتكلفةٍ قدرها ۱۰۰ دولار في الدقيقة، وترتفع التكاليف بمعدلٍ جدِّ كبير.
وعندما عاد فيرمونت رويستر إلى الولايات المتحدة من رحلة إلى الخارج، كتب في وول ستريت جورنال يقول، في ۱۹ ديسمبر ۱۹۷۹م، إن الكومة التي تجمَّعَت لديه من الصحف ومن برامج التلفزيون التي بدأ يستعرضُها كانت شاهدًا:

«على مدى ضآلةِ ما وجَدتُه من معلومات لم أكن أحيط بها سلفًا عن الأزمة الإيرانية على الرغم من التغطية الهائلة لأنبائها. وعندما استقرَّ بي المقام في المنزل وجدتُ نفسي أغرق في طوفانٍ يومي من التحقيقات التلفزيونية والإذاعية والصحفية عن إيران. كانت الصحف تنشر موضوعاتٍ مطوَّلةً بعناوينَ ضخمة، والتلفزيون يُخصص معظم نشرات الأنباء المسائية للقضية ثم يُذيع برامجَ خاصةً في وقتٍ متأخر كلَّ ليلة تقريبًا.

وخطرَت لي، استنادًا إلى ذلك، فكرةٌ كالزندقة وهي أن أجهزة الإعلام تقوم عمدًا بالمبالغة في التغطية لغايةٍ ما.

وقد يبدو ذلك ردَّ فعلٍ غريبًا بشأن قضيةٍ تتمتع بهذه الأهمية الواضحة … ولكن عدد الكلمات المستخدَمة في الحديث عن موضوعٍ ما لا يُعادل بالضرورة المعلومات التي يُقدمها الحديث. والحقيقة أن جانبًا كبيرًا من الكلمات المستخدَمة لم تكن له أيُّ قيمة إخبارية حقيقية على الإطلاق.

اليوم ۲۸ .. اليوم ۳۰ .. اليوم ٤٠ — لم أجد في معظمَ الأيام خبرًا يختلف عمَّا جاء به اليومُ السابق.»

ربما لم يكن ردُّ فعل رويستر موجَّهًا فقط إلى تَشابُه الأخبار، بل كذلك إلى ضيقِ نطاق الافتراضات المستخدَمة في البحث عن الأنباء، والتي سريعًا ما تَنفَدُ، وهو أمرٌ غيرُ مُرْضٍ. فإلى أي مدًى زمني نستطيع الاعتمادَ على الخبراء أو الصحفيين الذين يُساورهم قلقٌ مفهوم بشأن الرهائن، وتُغضبهم بذاءة الحادثة، وربما أحَسُّوا بالغضب من الإسلام كذلك، ثم نأمُل رغم هذا أن نحصل على الجديد من المعلومات والأنباء والتحليل؟ لو أن شخصًا قرأ صحيفة شيكاغو تريبيون يوم ١٨ نوفمبر، واطَّلع على المقال المطوَّل الذي كتبه جیمز يانجر ويستشهد فيه بالخبراء الذين يقولون «إن هذا الأمر ليس مطروحًا للمناقشة على المستوى الوطني»، وإن الإيرانيين «متعطِّشون للاستشهاد»، وإنهم «يميلون إلى البحث عن كِباشِ فِداء»، ثم انتقل إلى قراءة مجلة تايم أو مجلة نيوزويك في الأسبوع التالي، ومنها إلى قراءة التحقيقات العديدة في نيويورك تايمز في الأسبوع الذي يعقبه، فإنه سوف يُواجه في كلِّ حالةٍ المعلوماتِ التي تقول إن الإيرانيين شيعيُّون يتحرَّقون شوقًا إلى الاستشهاد بقيادةِ رجل غير عقلاني هو الخوميني، وإنهم يكرهون أمريكا، وإنهم مصممون على تدمير شياطين الجواسيس، ولا يرغبون في حلٍّ وسط … وهلمَّ جرًّا. ألم تقع في إيران أحداثٌ قبل الاستيلاء على السفارة، ربما ألقت لنا الضوءَ على الوضع الراهن؟ ألم يكن لإيران تاريخٌ أو مجتمع جدير بالكتابة أو الحديثِ عنه دون ترجمته إلى الصور البشرية لإيران الملتاثة التي تقوم، دون سبب، بتعييرِ واستفزاز أمريكا وهي «البطل الصالح» في القصة؟ وقبل كل شيء، هل كان همُّ الصحافة ينحصر في نشر أنباءٍ تتَّفق، فيما يبدو، مع سياسة حكومة الولايات المتحدة الرامية إلى الحفاظ على «وحدة الصف» الأمريكيِّ في المطالبة بالإفراج دون قيدٍ أو شرط عن الرهائن، وهو المطلب الذي وصفه روجر فيشر، الأستاذ بجامعة هارفارد، في برنامج «توداي شو» يوم ۳ ديسمبر، وصفًا بارعًا قائلًا إنه يقع في المرتبة الثانوية بعد الأولوية الحقيقية، التي لا تتمثَّل في إطلاق سراحهم، بل «في الحفاظ على قوة أمريكا»؟
ومن المفارَقات أن يظهر ما يَشِي أحيانًا بالخُصومة بين الحكومة وأجهزة الإعلام، والمثال عليه هو الضجةُ التي أُثيرت عندما هاجمت الحكومةُ محطة الإذاعة العامة لأنها استخدَمَت مقابلة كاليجوس،8 أو الإشارات المتكررة الصادرة من دوائرَ تتحدث باسم الحكومة أو بلهجتها، والتي مفادها، بتعبير جورج بول في برنامج تقرير ماكنيل/ليرار يوم ۱۲ ديسمبر، «أن أعظم شبكة اتصالات في العالم أصبحت تعمل حقًّا في خدمة الحكومة المزعومة في إيران». ويرتبط بهذا الموضوع ما لمحناه من الطعن المتواصِل في الشهادات أو الأقوال أو التصريحات التي تُذيعها أو تطبعها أو تنشرها أو تُصورها أجهزةُ الإعلام، وهو الطعن الذي يقول إن زيدًا أو عَمرًا قد تعرَّض لغسيلِ مخ، أو إن س أو ص من الإيرانيين يُمارس الدعاية، أو يعتبر من الأعداء المتعصبين، إذ قال جیمز کوتس في صحيفة شيكاغوتريبيون يوم ۲۲ نوفمبر ما يلي. «يقول المسئولون في الإدارة الأمريكية إن الرهائن المحتجَزين في سفارة الولايات المتحدة في طهران يتعرَّضون لضغوط نفسية شبيهة بغسيل المخ الذي تعرَّض له أَسْرى الحرب الأمريكيين في الحرب الكورية وحرب فيتنام». وقد أقر المسئولون فيما بعدُ بأنهم «يُساورهم القلق بشأن بعض الأقوال التي أدلى بها الرهائنُ المفرَج عنهم منذ إطلاقِ سراحهم». وقال لويس تيمنيك في صحيفة لوس أنجيليس تايمز يوم ۲٦ نوفمبر: إن «على العالم أن يتوقَّع مشاهدةَ وسَماع مقابلاتٍ مسجَّلة بالفيديو مع بعض الرهائن الذين «يعترفون» بشتى ألوانِ الأخطاء، ويُدْلون بأقوالٍ تعود بالضرر عليهم، وعلى الولايات المتحدة».
وهاك مثالًا آخَر لنفس النزاع بين الزملاء وهو الهجوم الذي تعرَّض له السناتور إدوارد كیندي (مثلًا: إن طهران تشرب نخب إدوارد، نيويورك بوست، ٥ ديسمبر) بسبب تقديمه رأيًا آخرَ غير مطابق لآراء الحكومة وأجهزة الإعلام، أو «العلقة الساخنة» التي تلقَّاها جورج هانسن، عضوُ مجلس النواب، إذ تعرض لنبش ماضيه كله حتى يصدِّق الناس التهم التي وجَّهَها إليه تيب أونيل.
وأنا لا أقول إن أجهزة الإعلام كانت متواطئة تواطؤًا مباشرًا مع الحكومة، ولا إن جميع الأخبار الخاصة بإيران قد شوَّهتها «القيود» الأيديولوجية التي ناقشتُها، بل ولا أرى أيَّ سبيل على الإطلاق للموافقة على احتجاز الرهائن، وهو ما أقرَّ به منصور فرهانج نفسُه، السفير الإيراني في الأمم المتحدة، في برنامج تقرير ماكنيل/ليرار يوم ٥ نوفمبر، ولكنَّ أحدًا لن يشكَّ في أن أزمة الرهائن لعبت دورًا لم يلقَ التحليل اللازم حتى الآن في الديناميات المعقدة للثورة الإيرانية المستمرة، وإن كان قد بدا لنا أن الاحتجاز الذي طال أمده قد خدم قضيةَ العناصر المتخلِّفة الرجعية في المجتمع الإيراني. أما الآن وقد شارَفَت الأزمة على الحل والانفراج (أساسًا لأن الحرب مع العراق لم تعد تجعل لاحتجاز الرهائن أيَّ فائدة للسياسة الإيرانية الداخلية)، فقد بدأت تظهر أوضاعٌ جديدة. ومع ذلك، فإن ما أقصده هو أن العالم الذي نعيش فيه يتميز اليوم بالتعقيد البالغ، والاختلاف الشديد، بل ومن الأرجح أن يستمرَّ في إفراز أوضاع غير تقليدية — مهما تكُن على غيرِ هَوى الأمة في الولايات المتحدة — إلى الحد الذي تتعذر معه ترجمة كل شيء إلى ما يمكن اعتبارُه إساءةً إلى القوة الأمريكية، أو إعلاءً من شأنها. ولا ينبغي أن يواصل الأمريكيون اعتقادهم بأن أهمَّ ما يَعنيهم في «الإسلام» هو مُناصرته لأمريكا أو معاداته لها. فإن مثل هذه النظرة القائمة على كراهية الأجانب واختزالِ صُورهم كفيلةٌ باستمرار المواجهة بين الولايات المتحدة وسائر أفراد الجنس البشري العنيد، وهي سياسةٌ تعني توسيع نطاق الحرب الباردة بحيث يشمل جانبًا من الكرة الأرضية يفوق ما يمكن قَبوله. وأظن أنَّ بيننا مَن يعتبر هذه السياسة من باب الدعوة الإيجابية ﻟ «أسلوب الحياة الغربي»، لكنني أعتقد أيضًا أننا لن نُخطئ إذا قُلنا إن أسلوب الحياة الغربي لا يتضمَّن بالضرورة إثارةَ العداء والمواجهة، باعتبارهما من وسائل إيضاح مفهومنا للمكانة التي نَشغَلها في العالم.

ولا بد لي الآن من عرضِ آرائي الخاصة بإيجازٍ شديد عمَّا أصفُه بالموقف السياسي العالمي الناشئ (والذي تُمثل إيرانُ إحدى بَوادره الكبرى). يقول الكثيرون إن قوة أمريكا آخذةٌ في التدهور، لكني أقول إن الوعيَ السياسي قد انتشر في المزيد من مناطق العالم؛ فأدَّى إلى انحسار احتمالِ رِضَا هذه المناطقِ بمُواصلة الدوران في فلَك المستعمرات التابعة لغيرها، أو البقاء في صفوف الحلفاء دون تفكير. وإيران وأوروبا الغربية اليوم، على الترتيب، يُمثلان ما أعنيه. أضف إلى ذلك أنه لا حاجة بنا إلى الظن أن شعب أفغانستان كان يريد غزو الاتحاد السوفييتي لأراضيه، أو إلى الظن بأن الإيرانيين كانوا سعداء بمناصرة الولايات المتحدة للشاه السابق، فالحالان متماثلان. وأعتقد أنه من الخطأ والحمق أن تعتبر أن «الإسلام» كُتلةٌ موحَّدة، كما أعتقد أنه من قَبيل سوءِ الرأي السياسي أن نتعامل مع «أمريكا» كما لو كانت فردًا لحِقَه الضررُ لا باعتبارها نظامًا معقَّدًا. وأعتقد مِن ثَمَّ أننا في حاجةٍ لمعرفة المزيد عن العالم، لا العكس، وهكذا يجب أن نتوقعَ مستوياتٍ أرفعَ مما لدينا الآن لنقلِ الأنباء، ومزيدًا من الحَذْق الإعلامي، ومزيدًا من الحساسية والدقة في إبلاغنا بما يجري من حولِنا في العالم. ولكن هذا يعني، ولا شك، أن نتجاوزَ كثيرًا ما يُتاح عادةً للصحفيين العاملين في مجتمعٍ ما، وهو الذي (أ) يتشكَّل وعيُه أساسًا في ضوء الأزمات الطارئة أو بدوافع تعصُّب عِرقية غير مشروطة، و(ب) يتمتع بقدرةٍ مُذهلة على أن يبنيَ لنفسه هياكلَ بالغةَ التعقيد من المعلومات استنادًا إلى بعض القوالب اللفظية التي يلتقطها بسرعة، والمصالح الذاتية ذات التعريف الضيق و(ﺟ) لم يُشكِّل تاريخ تفاعله مع الشعوب الإسلامية البالغة التنوُّع، في الآونة الأخيرة، إلا النفط أو بعض الحكام الذين يعود عليهم تحالفُهم مع الولايات المتحدة (مثل الشاه السابق) بفوائدَ محدودة، وتتَّسم بالقصور الشديد في فحصها، مثل «التحديث» ومناهضة الشيوعية.

وأما تجاوز ذلك كلِّه فهو شاقٌّ عسير. وانظر كيف يخوض مُراسلو معظم كُبرى الصحف الأمريكية وشبَكات التلفزيون نِضالًا بطوليًّا في أداء واجبٍ متَّصلِ الحلقات، وهو العودة بموضوع صحفي، وهم يجهلون، مع ذلك، في العادة لغة المنطقة التي يُغطونها، ويفتقرون إلى الخلفية الخاصة بها، ويتعرَّضون للنقل إلى منطقةٍ أخرى بعد فترة «خدمة» قصيرة فيها، حتى بعد أن يكونوا قد بدَءوا إرسالَ مادة صحفية مهمة. ومهما يكن حظُّ الفرد من الموهبة، فلن يستطيع التغطيةَ الإعلامية لبلادٍ معقَّدة التركيب مثل إيران أو تركيا أو مصر، دون قدرٍ ما من التدريب وإقامة طويلة فيها. وانظر مثلًا كيف أن جیمز مارکام، القدير الموهوب الذي غطَّى أنباء الحرب الأهلية اللبنانية لصحيفة التايمز في ۱۹۷٥–۱۹۷٦م، كان قد عاد لتوه من فيتنام، وبعد أن قضى قَرابةَ عام في الشرق الأدنى، نقلَته الصحيفةُ إلى إسبانيا، وكيف أن أنباء بلاد الشام بأسْرِها قد تولَّى تغطيتَها هنري تانر، بصورةٍ متقطعة لصحيفة التايمز، وهو الذي كان مقرُّه في روما، بسبب رحيل جون کفنر إلى طَهران، ثم تولَّاها نيكولاس كيدج من بعدِ تانر، وأما مارفين هاو، المراسِلة السابقة في بيروت (والتي كان من المفترض أيضًا أن تُغطِّيَ أنباء الأردن، وسوريا، والعراق، والخليج) فقد قضَت عامًا واحدًا في بيروت بعد إقامةٍ قصيرة في البرتغال، ثم نُقِلَت بعد ذلك بعام، في خريف ۱۹۷۹م، إلى أنقرة. فإذا قارنَّا ذلك بالمعمول به في بعض الصحف الأوروبية، برزَت لنا بوضوحٍ أخطارُه، وهي التي يرتكبها أصحابُها في حقِّ أنفسهم: إن صحيفة لوموند الفرنسية لديها إريك رولو، الذي يتكلَّم العربيةَ بطَلاقة، وتولَّى تغطيةَ أنباء المنطقة لما يقرب من رُبع قرن، وصحيفة الجارديان البريطانية لديها دافيد هيرست، الذي يُجيد لُغات المنطقة كذلك، ولديه خبرةٌ لا يقلُّ طولها عن خمسَ عشرة سنة. (ولكنَّ تغطيةَ الصحافة الأوروبية للأنباء الخارجية لا تقلُّ ضعفًا، في معظم جوانبها الأخرى، عن نظيرتها الأمريكية). وأما احتمالُ عدم قيام مُراسلي الشبكات التلفزيونية بالتغطية اللازمة، ومن الأرجح أن يكون هؤلاء أشدَّ تَجوالًا حتى من مُراسلي الصحف، فيجعل من مُراسل الصحيفة دائرةَ معارف ومثالًا للوداعة إن قُورن بمراسلِ التلفزيون.

وأظن أن التذبذب الشديد في المستوى، وهو ما اعتدناه فيما تنشره الصحفُ الأمريكية عن الشرق و«الإسلام»، لن يحظى بالسكوتِ والرضا إذا كانت الأنباءُ تتعلق بأوروبا الغربية، وإن كان ذلك لا يعني أن مشكلاتِ تغطية أوروبا الغربية قد وجَدَت الحل، ولكنني أجدُ من الصعب، على أي حال، أن أفهم سرَّ اتفاق جميع المسئولين في الإذاعة والتلفزيون والصحافة، فيما يبدو، على أن مدرسة كتابة الأخبار ﺑ «عيون جديدة» أجدرُ بالثقة من الاستناد في كتابتها على الخبرة الطويلة بالمنطقة. ولقد شاهدنا بعضَ المراسلين التلفزيونيين من ذوي الكفاءة مثل مورتون دین، وجون کوتشران، وجورج لويس، وهم يتحولون أثناء الأزمة الإيرانية إلى «خبراء» أمام عيوننا، لا بسبب إحاطتهم بالمزيد من العلم؛ بل لمجرد افتراضِ أنك إذا مكثتَ في بقعةٍ ما فترةً زمنية قصيرة، فسوف تكتسبُ المعرفة الكافية بها. وأما ما شاهدناه في الواقع فهو استناد الصحفي إلى ضرورةِ إعداد موضوع صحفيٍّ ما، ويزداد في غِمار ذلك افتقارُه إلى العين الناقدة (على نحوِ ما رأينا مثلًا في المناقشات اليومية في المساء بين جون تشانسلور وبين لويس کوتشران)، ويقلُّ اعتماده على التحليل وجمع الأخبار في الواقع الفعلي. وهكذا اعتَدْنا التضحيةَ بالدقة، وإن لم تكن الدقةُ من فضائلِ أجهزة الإعلام في يومٍ من الأيام، في سبيل إعدادِ الموضوع الصحفي ونشره، سواءٌ جدَّ جديدٌ جديرٌ بالنشر حقًّا أم لا.

ولكن بعض الضغوط الأخرى تلعب أيضًا أدوارًا مهمة؛ فالعاملون في الصحف المطبوعة يُدركون أن مُراسِلي شبكات التلفزيون قادرون على إعداد موضوعات إعلامية تخطف الأبصارَ بصورها دون مبالغة، كلَّ ليلة؛ كما أنهم يعملون حسابًا لما من شأنه أن يجتذبَ القُراء، والموضوع في نهاية المطاف لا يكاد يتميزُ بالتغطية الفعلية، أو بالدقة أو الأهمية الحقيقية. وقد أدَّت المنافسة بين الكلمة المطبوعة وبين الصورة إلى زيادةِ التأكيد على ما هو غريبٌ في الإسلام الشيعي، وعلى تقديم صورٍ سيكلوجية للخوميني، وإن كانت هذه المنافسة نفسُها تُفسِّر التجاهل في التغطية الإعلامية لشخصياتٍ وقُوًى نشطة في داخل إيران. ومما له أهميةٌ أكبرُ، ويؤدي إلى تشويهٍ أخطرَ، استخدام أجهزة الإعلام كقنوات اتصال دبلوماسية، وهو من جوانب «قصة إيران» التي أشارت إليها مجلة برودكاستنج (الإذاعة) في ۲٤ ديسمبر ۱۹۷۹م. فلقد كان الإيرانيُّون، مثلما كانت حكومةُ الولايات المتحدة، على علمٍ تام بأن التصريحات التي ينقلها التلفزيون ليست موجَّهةً فقط إلى الذين يريدون الأنباءَ بل أيضًا إلى الحكومات، وإلى أنصار فصيلةٍ من الفصائل، وإلى بعض القواعد الشعبية السياسية الجديدة والناشئة. ولم يَقُم أحدٌ بدراسةِ ما لهذا من تأثيرٍ في «تحديدِ ما يصلح خبرًا»، ولكنني أعتقد أن إدراك الصحفيِّين الأمريكيين لهذا يضعُ قيودًا معينةً على تفكيرهم، ويدفعهم إلى اختزالِ صورته في ثُنائيات المواجهة بين «نحن» وهم، وإن كان هذا التفسير الحرفيُّ للمشاعر الجماعية قد أدَّى إلى إيضاحِ مَظاهر عجز الصحفيين وعدم دِقَّتهم، لا إلى زيادة إخفائها.

ثالثًا: الافتراضات الخفيَّة التي لم تُفحص

كفى بالصحفيِّ سُوءًا أن يفتقرَ إلى الدقة، لكنني أرى أن الكتابة الصحفية التي تستند إلى افتراضاتٍ مُسبقة عن الوضع الراهن أسوأ؛ إذ نُشر في عدد يناير–فبراير ۱۹۷۹م من مجلة كولمبيا جورناليزم ريفيو مقالٌ يتناول أسلوبَ تغطية أنباء نظام حكم الشاه في أجهزة الإعلام بالولايات المتحدة، وقد بيَّن مؤلِّفَا هذا المقال الذي يتَّسم بدرجةٍ فَذَّة من الفِطنة، وبأدلةٍ مقنعة، أن «الصحافة إن شئنا الإجمال، قد قبلت بصفةٍ عامة حُجةَ الشاه المضمَرة والتي تقول إن أفضلَ الموارد الأيديولوجية التي يستطيع شعبُه حشْدَها هو التعصبُ الديني والشيوعية»9 وعلَّقت مجلة سَیَانس أيضًا في عددها الصادر في ۱٤ ديسمبر ۱۹۷۹م على العجز عن الفهم، لكنها ألقَت بالمسئولية عن ذلك، بصورة أكبر، على عاتقِ أجهزة الدفاع والاستخبارات برُمَّتها. وأما أعمقُ عرضٍ وأدقُّ تفصيلٍ لهذا الرأي، فقد ورَد في مقالٍ كتَبه هيرمان نيكيل في مجلة فورتشن، في عددها الصادر في ۱۲ مارس ۱۹۷۹م. ولكن النتيجة التي توصَّل إليها نيكيل، وتتَّسمُ بالحكمة، لم يلتفت إليها أحدٌ بصفة عامة. يقول نیكیل:

إن جذور فشلِ أمريكا [في إيران] أعمقُ مما توحي به الأخطاء التكتيكية؛ فهي جذور تتغلغل في أعماق الماضي.

ولن نستطيع إجراءَ بحثٍ يعود بفوائد حقيقية في المستقبل إلا إذا تتبَّعنا هذه الجذور بصبر وتفكيرٍ منصف.

ولا بد أن نُكرر القول بأن أي جهد تبذله الولايات المتحدة لمحاسبة نفسها يجب ألَّا يجريَ من خلال تبادل التُّهَم بأسلوبٍ انفعالي ويؤدي إلى الانقسام، في البحث عن إجابةٍ للسؤال «مَن ضيَّع الصين من أيدينا؟» وهو السؤال الذي تسبَّب في تسميم الأجواء السياسية في الأربعينيَّات والخمسينيات. والفترة الأخيرة من تاريخ سياسات الولايات المتحدة تجاه إيران ليست قصةٌ واضحة إلى الحد الذي يُتيح للمتنبئين الحكماء الذين طال تجاهلُهم أن يقولوا إن من حقِّهم الآن أن يرفعوا أصواتهم، ويوجِّهوا أصابعَ اتهامهم. لا! إن مسئولية الفشل، فيما يبدو، يُشارك الجميع في حملها مشاركةً تدعونا جميعًا إلى الإحساس بالتواضع.

لقد كانت المبالغة الخطيرة في تصوُّر قُدرة الشاه على حكم إيران تُمثل خطأً في الحكم احتضنَته بنفس القدر من الثقة حكومات الحزبَين الجمهوري والديموقراطي. ولم تكن تُسمَع في قاعات الكونجرس أصواتُ الشك أو الاختلاف، مثلما لم تكن تُسمع في مجالس البيت الأبيض.

وأما المناظرات التي تُوازن بين المسائل السياسية البنَّاءة، لا التراشق بالاتهامات الشخصية، فقد يكون من اللازم أن نبدأ بتجديد وعيِنا بأن الأمم الأخرى ليست على أي حال مِلكًا لنا حتى نقول إنها «ضاعت من أيدينا».

وإذا كان على الأمريكيين أن يخرجوا بدرسٍ واحد من مأساة فيتنام، فهو أننا لا نمتلك القدرة على إملاء مجرى الأحداث في البلدان العريقة التي تعيش في كنف التأثير العميق؛ لما لدى كلٍّ منها من تاريخ وثقافة ودين. وإذا كان الدور الذي تضطلع به البوذيةُ في جنوب شرقي آسيا كثيرًا ما بدا لنا مُحيِّرًا عسيرَ الفهم، فلقد أثبت دورُ الإسلام في إيران أنه أكبر وأكثر إثارةً لحيرة راسمي السياسات الأمريكيين.

وبعد انقضاء ما يقرب من عام كامل، كانت المواقف التي تُوحي بالملكية [أي امتلاك إيران] وتقوم على تبادل الاتهامات، لا تزال سائدة، وقد أضيفت إليها مفارقةٌ أخرى، وهي أن أجهزة الإعلام بصفةٍ عامة كانت تجد صعوبة فيما يبدو في التسليم بأن الثورة نفسَها قد قامت فعلًا، وبصورة قاطعة. خذ مثلًا أن معظم الصحفيِّين كانوا يشيرون إلى محمد رضا بلقب «الشاه» لا بعبارة «الشاه السابق». كما أن أجهزة الإعلام ظلَّت حتى منتصف عام ۱۹۸۰م (وهو الوقت الذي بدا فيه أن الجناح اليمينيَّ للثورة بدأ نجمه في الصعود) تُركز على نشر أنباء الفظائع وإعدام الأشخاص والتي زادت نسبتُها كثيرًا عن أنباء الصراع السياسي في البلد، وهو الذي كان أبعدَ ما يكون عن الحسم، ويجرى علنًا في الواقع الفعلي. وقد كُنت أتصور أن أحد الصحفيين سوف يُدرك أن تفصيل القول في دلالة وجود اثنَي عشر حزبًا سياسيًّا تتنافس على السلطة والنفوذ، في جوٍّ خالٍ نسبيًّا من التعذيب والسجن، بعد عقود طويلة من القمع الشديد، وفيما يعنيه ذلك للكِيان القومي لبلد من البلدان، أمر جدير ببذل الجهد فيه. ماذا يعني لأمة أن يكون لها قائدٌ يتميز، على الرغم من عناده وعدم جاذبيته من عدة جوانب، بأنه يَشغَل موقعًا رسميًّا غير محدد بوضوح، وبأنه لا يُولي الحكم المركزي اهتمامًا زائدًا، وبأنه يتمتع بالتبجيل الواضح، ويبدو ذا مهارةٍ فائقة في الحفاظ على انشغال الفصائل الاثنتَي عَشْرة بعضها بالبعض وإن كانت تخضع لسلطانه في النهاية، وبأنه يتكلم باقتناع وثقةٍ لا حدود لهما بالمستضعفين؟ وما أقلَّ الموضوعات الصحفية، في الأيام الأولى لأزمة الرهائن، التي قالت إن الحكومة في إيران كانت مؤقتةً على أفضل تقدير، ريثما تكتمل إقامة دولة جديدة، أو إنه في معظم فترات عام ۱۹۷۹م كان النقاش دائرًا في إيران حول الدستور وهيكل الحكومة، أو إن في إيران أحزابًا متعددة تبذل جهودًا جبَّارة (دينية أو علمانية، يمينية أو يسارية) أو إن عشرات الصحف كانت تصدر بانتظام، أو إن الشعب كان يُناقش قضايا سياسية حقيقية، (لا يمكن اختزالها بأي حال وتصويرها بصورة التحزب الطائفي أو العِرقي أو الديني) وإن أعدادًا كبيرة من الإيرانيين يشاركون فيها، أو إلى أن الصراع بين آيات الله (الخوميني وشریعت-مداري وغيرهما) كان يتعلَّق بالتفسيرات السياسية، إلى جانب التفسيرات الدينية للمبادئ الإسلامية، أو إلى أن مستقبل إيران قد لا يندرج، بالضرورة، في الأنساق التي يراها المحرِّرون من الطبقة الوسطى في الصحف الأمريكية مطلوبةً أو غيرَ مطلوبة.

وأما أشدُّ ما يصعب فَهمُه في قطاع التحرير الصحفي وإعداد التحقيقات الصحفية في أجهزة الإعلام فهو السبب الذي حدا بالعاملين فيه، دون استثناءٍ تقريبًا، إلى النظر بهذا القدر الكبير من الاحتقار والرِّيبة إلى الحركة التي أسقَطَت الأسرة البهلوية المالكة وأتت إلى الحكم بجماعاتٍ مختلفة، وربما كانت تتمتعُ بشعبيةٍ أكبر؛ إذ يشير هال جاليفر في صحيفة أتلانتا کونستیتیوشن بتاريخ ١٣ نوفمبر ۱۹۷۹م إلى «الهمجيين الجدد الذين أُطلق لهم العِنان في إيران»، ولم يكن يشير فحسبُ إلى الطلاب الذين يحتجزون الرهائن، بل إلى الجميع في إيران. وإذا قرأتَ المقال الطويل الذي كتبه يوسف إبراهيم، وهو المقال الذي يُفصح في ظاهره عن الخبرة، في المجلة التي تصدر يوم الأحد مع نيويورك تايمز، في يوم ١٤أكتوبر ۱۹۷۹م؛ فسوف تقتنع بأن الثورة قد فشِلَت فعلًا، وبأن إيران مكانٌ يمور بالحمم البركانية المستعرة استياءً وخوفًا وحنقًا على الثورة. وأما أدلَّته فتكاد تنحصر في بعض الانطباعات الشخصية، ومقتطفات من أقوال وزیرَین، وتتكون في معظمها من مناقشات مع أحد رجال المصارف، وأحد المحامين، وأحد مديري شركات الإعلانات.
ولا يعني هذا أنه لا ينبغي للصحفيين استطلاع الآراء، أو إحاطة قُرائهم بهذه الآراء، لكنه حين تتحول هذه الآراء إلى حقيقةٍ واقعة، تتحول الصحافة فجأة إلى نبوءات تحقق رغائبَ أصحابها. فإذا افتَرَضتَ أن الثورة الإيرانيةَ شرٌّ لأنها تستخدم مصطلحات المقاومة الدينية والسياسية في تصدِّيها للطغيان، وهي المصطلحات بالغةُ الغرابة والجِدَّة (في عيون الغرب)؛ فسوف تَشرع في البحث عن هياج الحماسة غير العقلانية وتجده في كل الأحوال. وانظر معي إلى ما يقوله راي موزلي في مقالٍ عُنوانه «الالتزام بشيء واحد والتعصب يستبدَّان بإيران الثورية» نشرَته صحيفة شيكاغو تريبيون يوم ٢٥ نوفمبر:

إن الذين يرون الموت شرفًا يُعتبرون، تعريفًا، متعصِّبين. ويبدو لنا أن شهوة الدم الثأريَّة والتحرُّق شوقًا إلى الاستشهاد سِمَتان يتَّسم بهما، على وجه الخصوص، الشيعةُ المسلمون في إيران. وهذا هو الدافع الداخليُّ الذي جعل آلافَ المواطنين العُزْلَ يقفون في تحدٍّ سافرٍ للجنود المسلحين بالأسلحة الأوتوماتيكية أثناء الثورة.

إن كل جملةٍ من هاتين الجملتين تتضمَّن افتراضاتٍ خِلافيةً إلى حدٍّ بعيد، ويعرضها الكاتبُ علينا باعتبارها حقائق، وإن كانت تبدو مقبولةً بصفة عامة ما دام الأمر يتعلق بالثورة الإسلامية. ومعظم الأمريكيين لا يعتبرون باتريك هنري متعصِّبًا لأنه قال «أعطِني الحرية أو الهلاك». كما أن الرغبة في قتل المواطنين الفرنسيين الذين كانوا يتعاونون مع جنود الاحتلال النازي (بل إنَّ آلافًا مؤلفة منهم قُتلوا فعلًا في غضونِ أيام معدودة) لا تعني أننا نستطيع وسْم الفرنسيين بهذه السمة بوجهٍ عام. وما قولك في الإعجاب البالغِ الشيوع بالأشخاص الذين تدفعهم الشجاعةُ الأدبية إلى الوقوف في وجه الجنود المُسلحين وإرغامهم على التقهقر؟

وكان مما دعَم هجوم موزلي على إيران مقالٌ افتتاحي بالغُ الطول نشرته الصحيفة التي يعمل بها في اليوم نفسِه، ويوجه إلى الخوميني تهمة هائلة هي «شن حرب مقدسة على العالم» وعاد موضوع الحرب المقدسة أو الجهاد إلى الظهور في مقال كتبه إدموند بوزویرث في صحيفة لوس أنجیلیس تايمز يوم ۲ ديسمبر ويتناوله فيه تناولًا شديدَ الغرابة. فإذا نحَّيْنا جانبًا تلك الحقيقةَ التي ذكرَها فضل الرحمن وهي أن «الخوارج المتعصبين قد انفردوا بين المذاهب الفقهية الإسلامية المتأخرة بإعلان أن الجهاد يُمثل ركنًا من «أركان العقيدة»».10 نجد أن بوزویرث يواصل مقاله بمنهج عشوائي فيُقدِّم كميةً كبيرة مما يعتبره من «الأدلة» التاريخية على صحة نظريته، التي تقول: إن جميع ضروب النشاط السياسي في الفترة التي تمتدُّ نحوًا من ألفٍ ومائتَي عام، وفي المنطقة التي تضم تركيا وإيران والسودان وإثيوبيا وإسبانيا والهند، يمكن تفسيرها بأنها تقوم على الدعوة الإسلامية للجهاد.
وإذا كانت المبالغة الهجومية من طرائق التعبير التي تشيع بين الصحفيين في وصفهم لإيران، فإن الطريقة الأخرى هي التلطُّف في التعبير، وهو ما يُسيء الصحفيون استعمالَه، عادةً بسبب الجهل، وإن كان السبب يرجع في حالاتٍ كثيرة إلى عَدائهم الأيديولوجي الذي لا يكادون يُخفونه. وأشدُّ أشكاله شيوعًا إيراد الصحفي ﻟ «تفسيرٍ» مقبولٍ ظاهريًّا من عنده ليستعيضَ به عن الواقع الفعلي. فلقد كان نظامُ الحكم الإيراني السابق هو الموضوعَ الوحيد الذي لم تتعرَّض له الصحف وبرامج التليفزيون إلا بصورة سطحية على امتداد الشهور الثلاثة الأولى من بداية احتلال السفارة الأمريكية في طهران، إذ لم يكن من المفضَّل جماهيريًّا أن يأخذ أحدٌ مأخذَ الجِدِّ مظالم الإيرانيين الحالية ضد الملك المخلوع، وضد السياسة الأمريكية (التي طال عليها الأمد) بمناصرته دون تحفُّظ. كذلك لم ترَ الصحافة أن عليها أن تبحث البحثَ اللازم موضوع انتهاك السيادة الإيرانية في أغسطس ۱۹٥۳م، عندما تضافرَت وكالة الاستخبارات المركزية مع شركة النفط الإنجليزية الإيرانية في تدبير إسقاط محمد مصدق11 (وهو ما أفاض القولَ فيه كيرمت روزفلت في كتابه الأخير الانقلاب المضاد والذي تعجَّل في سحبه من الأسواق)، وأما سبب تجاهل الواقعة فهو افتراض أن الولايات المتحدة بصفتها دولةً عُظمى من حقِّها تغييرُ الحكومات والعفوُ عن الطغاة إذا كان ضحاياهم من الأمِّيين ومن الأجناس غير البيضاء؛ وَفقًا لتقديرنا. وقال جورج أ. جروس، وهو من الأطباء النفسيين العاملين في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز يوم ۱۱ يناير ۱۹۸۰م إن الولايات المتحدة عندما سمحَت للشاه السابق بدخول نيويورك كانت في الواقع تَصفح عنه، وكان ذلك عملًا «مُجافيًا للمبادئ الأخلاقية» مثلما كان قرار جیرالد فورد بالعفو، في عظمةٍ، عن ريتشارد نيكسون يدلُّ على «النقص في قدرته على إصدار الأحكام في إطارٍ أخلاقي، وفقدانه التعاطفَ مع الآخرين حين يغضبون لما يمسُّ الخلق الكريم».
ولكن أمثال هذه الملاحظات كانت قليلةً وتفصل بينها فتراتٌ طويلة. إذ إن معظم كتَّاب التحقيقات الصحفية والمقالات الافتتاحية لم يكونوا يتجاوزون التلطُّف في التعبير. وكانوا فيما يبدو يتفقون على أن الإيرانيين قد قاموا بعملٍ حربي ضد سفارة الولايات المتحدة، وإن لم يقل أحد، تقريبًا، إن ما فعلَته الولايات المتحدة ضد إيران عندما أسقطت مصدق في عام ١٩٥٣م كان عملًا حربيًّا. وهاك المثال المعهود على ذلك؛ إذ كتب إرنست كونين في افتتاحية لوس أنجيليس تايمز يوم ۱٠ ديسمبر ۱۹۷۹م يقول:

يبدو أن الأنباء الصحفية تؤكد صحةَ ما يقول به خبراءُ الشرق الأوسط من أن ما نشهده حقًّا هو التمرُّد الواسع النطاق على المؤثرات الدافعة على القلقلة التي صاحَبَت حركةَ التحديث بالأسلوب الغربي في السنوات الأخيرة.

إن كراهية الشاه لا ترجع فقط إلى أن رجال شرطته كانوا يُعذِّبون الناس، بل أيضًا إلى أنه رفع الدعم الحكومي الذي كان يتَقاضاه رجالُ الدين، وإلى أنه قاد ثورةً صناعية تسبَّبَت في اقتلاعِ جذور الإيرانيين من أساليب الحياة التقليدية في الريف.

وأما سببُ اختيار «الشيطان أمريكا» لدور الشرير الرئيسي، لا في إيران فحسب بل في بلدانٍ أخرى كذلك، فهو أن الولايات المتحدة ظلت على مدى ۲٥ سنة، القوةَ الأشدَّ بروزًا في المنطقة، وأصبحت مِن ثَم الرمزَ «الجاهز» للقُوى الأجنبية التي تسبَّبَت في هذه التغييرات غير المستحسَنة لديهم.

إن جانبًا كبيرًا من هذه الحجَّة المقامة ضد الإيرانيين، تستند إلى افتراضات غير مُصرَّح بها، وهكذا فلا بد من قراءتها بعناية وحرص؛ إذ إنَّ كونين يقول ضِمنًا، أولًا، إن «المؤثرات الدافعة على القلقلة» التي صاحبَت حركة «التحديث بالأسلوب الغربي» هي نتيجة للمحاولة التي بذلها الغربُ بحُسن نية لإخراج إيران والإسلام من الماضي إلى الحاضر، وبعبارة أخرى، إن إيران والإسلام متخلِّفان والغرب متقدم، ولا غَرْو إذا عانى المتخلِّفون في محاولتهم اللَّحاقَ برَكْب التقدم. ولكن ذلك من أحكام القيمة، وهي أحكام تقبل الطعن فيها بوضوح وجِلاء وهي تستقي جوهرها، كما ألمحتُ في الفصل الأول، من أيديولوجية التحديث. وإلى جانب ذلك، يفترض کونین، دون أي مبررٍ سوى تحيُّزِه العِرقي الضيق، أن الإيرانيين لم يغضبوا من التعذيب قدْرَ غضبهم من إهانة «رجال الدين» لديهم، وهو يُسميهم عمدًا تسميةً تُوازي، حرفيًّا، تعبيرَ «رجال القداسة» أو «المُقدَّسين»، للإيحاء بالشعوب البدائية، وأطبائهم السحرة الذين يُطلَق عليهم هذا التعبير. وهو يوحي بالإضافة إلى ذلك بأن الإيرانيين قد لا يُشاركوننا ما يُخامرنا «نحن» من أحاسيس. وآخر مسألة يطرحها ترتبط بهذه المسائل وتطورها، إذ يعتبر أن الإيرانيين المتخلِّفين قد أخطَئوا بعدم تقديرهم الجهود القائمة على النوايا الحسنة التي بذلها الأمريكيون والنظام البهلوي لتحقيق التقدم في إيران؛ وهكذا لا يكتفي بتبرئتنا «نحن»، بل يُدين الإيرانيين إدانةً خَفيَّة لجهلهم بقيمة نمط الحداثة لدينا، ولهذا يُعتبر الشاه السابق (في رأيه الموحى به) شخصية نبيلة سامية.

ولم نلمح إشارات تُذكَر إلى الحقيقة التي ليست خَفيَّة باطنة، بل ولا يصعب الوقوف عليها، وهي أولًا أن الشركات الأمريكية العاملة في المنطقة قد حققت أرباحًا طائلة (ولم يكن من الصعب إقامةُ الصلة بين زيادة أرباح شركات النفط بنسبة ۲۰۰ في المائة في السنوات القليلة الماضية وبين ثروة الأسرة البهلوية)، وثانيًا أن معظم الإيرانيين، مثل الملايين الكثيرة من العرب الذين لا يستفيدون مباشرةً من النفط، يرون أن الثروة المرتبطة بالأمريكيين تُمثل عبئًا من لونٍ ما. وأما إذا قيل إن الشاه كان يلجأ أحيانًا إلى قليلٍ من التعذيب، على نحوِ ما ذكَرَت واشنطن بوست في ١٦ ديسمبر «فلنا أن نحتجَّ بأن ذلك كان يتَّفق تمامًا مع تقاليد التاريخ الإيراني». ويبدو أن المعنى الموحى به هنا هو أنه لما كان الإيرانيُّون قد تعرَّضوا على مر التاريخ للتعذيب، فإن أي محاولة من جانبهم لتغيير هذا القدَرِ المكتوب تدخُل في باب خيانتهم لتاريخهم الخاص، ناهيك بطبيعتهم الخاصة.
وفيما يلي هذا الموقف المنطقي الذي لا يمكن دحضه (!) والذي طالعَنا في موضوع صحفي كتبه أ. شانش في صحيفة لوس أنجيليس تايمز بتاريخ ٥ ديسمبر ۱۹۷۹م، إذ يقول إنه لما كان الدستور الإيراني الجديد «من أغرب الوثائق السياسية في العصر الحديث» ولما كان لا يُشبه الدستور الأمريكي شبهًا كبيرًا (فهو يخلو من الضوابط!) فإن صعود الخوميني إلى السلطة لا يقلُّ سوءًا عن جلوس الشاه على العرش. والواقع يقول إن الدستور الإيراني الجديد ينص نظريًّا على الأقل، على «الأحكام الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية ونواب البرلمان انتخابًا شعبيًّا وعلى وجود جهاز قضائي منظَّم»، ولكن شانش لا يُقِيم وزنًا لهذا أو لذاك باعتبارهما (في رأي شانش) «من مظاهر الزخرفة الديموقراطية». أي إن شانش لا يشير إطلاقًا إلى ما عرَضه إريك رولو وقدَّم له تحليلًا مفصَّلًا في صحيفة لوموند يومَي ۲ و۳ ديسمبر ۱۹۷۹م، ونعني به المناظرةَ الحامية الوطيس بشأن الدستور، والخلافات التي نشأت حول دور الخوميني على وجه الدقة وهلمَّ جرًّا. وبعبارة أخرى فإن شانش كان يُقدم رأيه الخاص، أي رأي المحرر الصحفي، على أنه الحقيقة الواقعة للدستور الإيراني، على الرغم مما كان يقع أمام عينيه في الواقع. وأما ما تلا ذلك من أحداثٍ جعَلَت النظام الجديد في إيران لا يبدو مبشرًا بأي خير بحلول منتصف عام ۱۹۸۰م، فكان من قَبيل المصادفة المحضة وثمرةً لِنضالٍ مرير، كانت نتيجتُه مُحبِطة لآمال الكثيرين من الإيرانيين (وغير الإيرانيين) من مُناصري الثورة. وكذلك، وبلا شك، كان ظهور مرشحٍ للرئاسة يمثل أقصى اليمين في الولايات المتحدة — أي إنه كان مُصادفة لا تقلُّ إحباطًا للآمال!
وباستثناء أندرو يَنْح، وهو استثناء جديرٌ بالتنويه، لم يعلق واحد من الشخصيات العامة البارزة في الولايات المتحدة ولم يقل أي شيء في عام ۱۹۷۹م عمَّا كان النظام السابق يعنيه للإيرانيين الذين اتخَذوا ما اتخذوه من إجراءات ضد الولايات المتحدة، ولم يذكر أحدٌ شيئًا عن ذلك للمراقبين مثل القساوسة الثلاثة الذين تولَّوْا إقامة صلوات عيد الميلاد في طهران في السفارة، ولا الجماعات رجال الدين المسيحي الذين كانوا في طهران في أواخر ديسمبر، (وظهر هؤلاء وهؤلاء في برنامج ماكنيل/ليرار يوم ۲۸ ديسمبر ويوم ٤ يناير). ولقد شاركَت الصحافة في هذا الصمت إذ ظلت تتعاملُ مع الشاه السابق لما لا يقلُّ عن عشرين يومًا من دخوله الولايات المتحدة باعتباره حالةً إنسانية لا يجوز فيها إلا التعاطف والإشفاق، فبدا، بعد تجريده من ماضيه السياسي، لا علاقة له، على نحوٍ ما، بما يحدث في السفارة الأمريكية في طهران. وحاول بعضُ الصحفيين، وعلى رأسهم دون أوبردورفر من واشنطن بوست اقتفاءَ الخطوات الملتوية التي اتخذها دافيد روکيفيلر، وهنري کیسنجر، وجون ماكلوي، للضغط على حكومة الولايات المتحدة حتى تقبل حضورَه إلى هنا. ولكن هذه الحقائق، وكذلك الارتباط طويل الأمد بين الشاه السابق وبنك تشيس مانهاتان — وهو الارتباط الذي كان يمكن أن يساعد في تفسير أسباب عداوةِ الإيرانيين — لم يَقُلْ أحد إن لها أية علاقة بالاستيلاء على السفارة، وقدَّم الصحفيون بدلًا منها عدة تفسيرات تتَّسمُ بالتلطف في التعبير لأزمة الرهائن باعتبارها نتيجة لتلاعب الخوميني، وحاجته إلى صرف أنظار الشعب عنه إلى شيء آخر، وللصعوبات الاقتصادية الداخلية وما شابهَ ذلك (انظر لوس أنجيليس تايمز في ٢٥ و۲۷ نوفمبر، و۷، و١١ ديسمبر، وكذلك واشنطن بوست في ١٥ نوفمبر).

لقد اقتنعتُ في النهاية أنه ليس من قبيل السخرية المفرِطة أن نقول إن موقف حكومة الولايات المتحدة برُمته تجاه إيران (كما يرمز له رفض الرئيس كارتر مناقشة تعاملات البلد في الماضي مع إيران، وهي التي يصفها بأنها «تاريخ غابر») يعتبر وسيلة مفيدة التحويل عداء أجهزة الإعلام الإيرانيين وللإسلام، وللعالم غير الغربي بصفة عامة، إلى رأس مال سياسي له في عام الانتخابات الأمريكية. وهكذا ظهر الرئيس في صورةِ مَن يحافظُ على قوة أمريكا في وجه الهجمات الأجنبية المنحطَّة، وكان هذا، إذا قلبنا الصورة، هو موقف الخوميني في إيران. كان رفض كارتر استخدامَ القوة يُعرِّضه أحيانًا لسِهام الاحتقار التي يُصوِّبها وليام سافاير وجوزيف كرافت، ولكنه فيما يبدو قد أكَّد للجمهور أنه يدعم المعايير الغربية للسلوك المتحضر، إذا قورن بما يفعله من أصبحوا يُسمَّون ﺑ «الإرهابيين» الإسلاميين. وكان من الآثار الأخرى للأزمة أنْ صوَّرَت أجهزةُ الإعلام بعضَ الحكَّام الآخرين، مثل الرئيس السادات، في صورة «المعيار» المرغوب فيه للإسلام، (بعد أن ردَّدَت، مِرارًا وتَكرارًا، وصْفَه للخميني بأنه مجنونٌ وعارٌ على الإسلام). وكان هذا يَصدُق أيضًا على الأسرة المالكة السعودية، وأما ما لم تتناوله أجهزةُ الإعلام في الوقت نفسِه فكان يتمثل في مقدارٍ هائل من المعلومات المثيرة للقلق، إلى جانب إطالة الأزمة إلى مدًى بعيد في حالة إيران.

خذ مثلًا السادات والسعوديين أولًا، لقد اتفقَت الآراء منذ اتفاقيات كامب دافيد عام ۱۹۷۸م على أن السادات هو صديقنا في المنطقة؛ إذ اشترك مع مناحم بيجين في التصريح علنًا عن استعداده للقيام بدور الشرطي الإقليمي، وإتاحة القواعد العسكرية في أراضيه للولايات المتحدة، وما إلى ذلك بسبيل. وكان من نتائج ذلك أن معظم الأنباء التي تنقلها أجهزة الإعلام من مصر أصبحَت تُصور وجهةَ النظر المذكورة فيما يتعلق بالشئون المصرية، والعربية والإقليمية، في صورة النظرة الصائبة. والأنباء التي تصلُنا الآن عن مصر والعالم العربي، موجَّهةٌ لتأكيد تفوُّق سطوع نجم السادات، وبالمقارنة بهذه الأنباء لا يكاد يصلنا شيء عن المعارضة التي يُواجهها، كما أن الافتراض السائد هو أنه يُمثل «المعيار» السياسي والمصدر الرئيسي للأنباء أيضًا. وبطبيعة الحال كان ذلك نفسُه ما حدث في ظلِّ نظام الحكم البهلوي في إيران، وإذا استثنينا مقالًا يتفرَّد بنبوءاته الصائبة كتبه باحثٌ من بیرکلیي يُدعى حامد الجار12 لم نجد مَن يُبدي أيَّ اهتمام بإمكانيات المعارضة الدينية والسياسية للشاه. وتقوم الولايات المتحدة حاليًّا بتحقيق عددٍ كبير من مصالحها السياسية والعسكرية والاستراتيجية والاقتصادية من خلال السادات، ومن خلال منظور السادات الخاص للأمور. ويرجع جانبٌ من هذا إلى جهل أجهزة الإعلام، وإلى تفضيلها ﻟ «الشخصيات» اللامعة البرَّاقة، وإلى الانعدام شبهِ الكامل للبحث والتحري في العمل الصحفي في إطار المناخ الأيديولوجي السائد حاليًّا في مصر والشرق الأوسط.
ولسوف نجدُ أسبابًا أخرى لذلك أيضًا؛ أحدها هو الجوانب المحلية الحساسة للشرق الأوسط. فليس من قَبيل المصادفة ألا نُطالع، بعد فضيحةِ ووترجيت، وشتى ما أُميط اللثام عنه من أنشطةِ وكالة الاستخبارات المركزية، وصدور قانون الحرية الإعلامية، أيةَ «مكتشفات» كبرى بشأن تورطِ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ويتضح هذا بالنسبة لإيران، لا لأن الكثير من الأمريكيين كانوا مرتشين وحسب؛ بل أيضًا بسبب انغماس إسرائيل انغماسًا شديدًا في أنشطة الولايات المتحدة في المنطقة في ظلِّ نظام الشاه. إذ إنه أنشأ شُرطته السرية بمساعدةٍ مباشرة من جهاز الموساد الإسرائيلي، وعلى نحوِ ما شهدنا في حالاتٍ كثيرة أخرى، كانت وكالة الاستخبارات المركزية ومكتبُ التحقيقات الفيدرالي يتعاونان عن طيبِ خاطر مع الأجهزة السرية الإسرائيلية13 وقد نشرت الصحافةُ الإسرائيلية سلسلةً من المقالات التي ترفع الستار عن الكثير في عام ۱۹۷۹م وفي أوائل ۱۹۸۰م، وكان من بين كُتابها «أوري لوبراني» وآخرون ممن كانوا مُكلَّفين بإدارة التعاون بين إسرائيل وإيران قبل الثورة (انظر صحيفة دافار، ۲۰ مارس ۱۹۸۰م، وصحيفة ها آرتس، ۱۰ يناير ۱۹۸۰م)، ولم تنشر الصحف الأمريكية أيَّ شيء من هذا، ربما لأنه قد يبدو محرِجًا لإسرائيل وماسًّا بصورتها كبلدٍ ديموقراطي محبٍّ للحرية. وفي الوقت الذي هبَّت فيه المؤسسة الاجتماعية في الولايات المتحدة برُمَّتها لمعارضة أي اعتزام لتسليم الشاه السابق إلى إيران؛ كان شابٌّ فلسطيني فقير يُدعى زياد أبوعين، يُكابد إجراءات الترحيل المطوَّلة وما يُصاحبها من عذاب، لتسليمه إلى إسرائيل (إلى جانب رفض الكفالة وحرمانِه من حقِّ الحضور للشهادة)، وبالتعاون الإيجابي من جانب وزارة الخارجية الأمريكية. وأما السبب (والسبب الأوحد) فكان أنَّ الحكومة الإسرائيلية قد زعمَت أنه كان إرهابيًّا مسئولًا عن حادثِ تفجير قنبلةٍ قبل ذلك بعامَين، وكان ذلك الزعم لا يستند إلا على اعتراف شخص آخر، وهو فلسطينيٌّ أيضًا ومن نُزلاء أحد السجون الإسرائيلية، وكان الاعترافُ المنتزَع منه، والذي عَدَلَ عنه فيما بعد، باللغة العبرية التي لا يعرفها. ولم يكَد شيء من هذا يسترعي انتباهَ أجهزة الإعلام، باستثناء المقالة المهمة التي كتبتها كلوديا رايت المحررة في نيو ستتسمان، في عدَدَي ۷ يناير و۲۱ يناير۱۹۸۰م من مجلة إنكوايري بعنوان «اللعب بتسليم الأشخاص».
أضف إلى ذلك أن انتشار القلق على استقرار بلدان مثل المملكة العربية السعودية والكويت لم يؤدِّ إلى أيِّ اهتمام إعلامي يتناسب مع مستوى هذا القلق، باستثناء الانتقادات الضيقة المحدودة و«الانتقائية» إلى أبعدِ حد، والخاصة بما تتعرض له المملكة العربية السعودية من أخطارٍ تحدثتُ عنها في الفصل الأول. فإذا استعرضنا الشبكات التلفزيونيةَ والصحف الكبرى لم نجد إلا ما أشار إليه إد برادلي، في محطة إذاعة كولمبيا، يوم ٢٤ نوفمبر ۱۹۷۹م، من أن جميع المعلومات الخاصة باحتلال الحرم المكيِّ جاءتنا من الحكومة، وأن الحكومة لم تسمح بخروج أنباءٍ من أي مصدر آخر، ولكن هيلينا كوبان، المحررة في کریستیان سیانس مونیتور نقلَت من بيروت يوم ٣٠ نوفمبر نبأً يفيد بأن احتلال ذلك المسجد كان له معنًى سياسيٌّ قاطع بكل تأكيد، وبأن المعتدين لم يكونوا على الإطلاق من المتعصبين الإسلاميين فحسب، بل كانوا يُمثلون جانبًا من شبكةٍ سياسية لها، إلى جانب البرنامج الإسلامي، برنامجٌ علماني يعارض بشدة احتكارَ الأسرة المالكة السعودية للسلطة والمال. وبعد بِضعة أسابيع، اختفى المصدر الذي اعتمدت عليه، وهو أحد السعوديين المقيمين في بيروت، والمعتقد أن الاستخبارات السعودية هي المسئولة عن اختفائه.
ومن المحتمل، بعد غزو أفغانستان، أن يزداد زيادةً كبيرة عمقُ الهوَّة التي نراها تفصل بين الصالح والطالح من المسلمين، وأن يزداد عددُ الأنباء التي تُهلِّل لمنجزات المسلمين الصالحين مثل السادات وضياء الحق والمجاهدين الأفغانيين الذين يُقاومون الغزو، وأن تزداد معادلة الإسلام الصالح بمناهضة الشيوعية، وأيضًا، إذا أمكن، بالتحديث. ولكن ما أقلَّ مَن يعادلون مقاومةَ الأفغان للاحتلال السوفييتي بمقاومة الفلسطينيين للاحتلال الإسرائيلي! وهو ما أشار إليه الملك حسين، عاهل الأردنِّ، حين ظهر في البرنامج التلفزيوني «لقاء الصحافة» يوم ۲۲ يونيو۱۹۸۰م. وأما في حالة المملكة العربية السعودية، فإن الأخطار المصاحبة للاستثمارات الهائلة فيها لم يَلتفت إليها (وهو ما لا يدعو للدهشة) إلا مَن يُناصرون إسرائيل من الأمريكيين؛ إذ يرون أن الرعاية الأمريكية ينبغي ألا تتحولَ من إسرائيل إلى العرب. ومن الشواهد على ذلك المقال الذي كتبه بیتر لوبين في نيو ريببلك بتاريخ ۲۲ ديسمبر ۱۹۷۹م بعنوان «ما لا نعرفه عن المملكة العربية السعودية». وهو يُقدم وجهة نظر مقبولة، ولو أنه يبالغ في عرضها، وهي أن علينا أن نرفض الكثيرَ مما يُقال أو يُكتَب عن دول النفط الخليجية؛ لأنه يقوم إما على أساس الدعاية للأسر المالكة أو على الجهل. ومع ذلك فهو يُبدي العجز الكامل عن توسيع نطاق انتقاداته حتى تشمل ما يُكتب عن إسرائيل، أو عن الانحياز لإسرائيل، الذي لا يستعصي على الإدراك في الكثير من مناهج دراسات الشرق الأوسط بشتى الجامعات. وعلى غِرار ذلك، كان يجب على لوبين، في إطار إصراره المحقِّ على ضرورة تحرِّي الصحفيين للصدق في المعلومات الخاصة بحلفائنا من ذَوي الثروات النفطية، أن يقول ما لم يَقُله من أن الكتابة عن إسرائيل تفتقر افتقارًا، ذاع سوءُ صِيته، إلى الدقة العلمية والإنصاف.

رابعًا: بلد آخر

نستطيع تلخيص كلِّ ما قلتُه حتى الآن عن تناول أجهزة الإعلام للإسلام وإيران في الشهور الأولى لأزمة الرهائن، التي وصَل فيها التوترُ إلى ذُروته، والكربُ إلى أقصى مَداه في بضع نقاط رئيسية. وأَجْدى أسلوب لإيضاح وصياغة هذه النقاط هو النظر في التصوير الأمريكي العامِّ لقصة إيران ومقارنته بإحدى الصور الأوروبية، وهي سلسلة المقالات اليومية التي كتبها إريك رولو في صحيفة لوموند الفرنسية، والتي استمرت من أول أسبوع للأزمة حتى آخر ديسمبر، وعندما طلبَت إيران بعدها، في يناير، مغادرةَ معظم الصحفيين لإيران، نشرَت صحيفة التايمز مقالات رولو المذكور لعدة أيام. ومن المهم، بطبيعة الحال، ألا ننسى أن رولو ليس أمريكيًّا، وأن إيران لم تحتجز رهائنَ فرَنسيين، وأن إيران لم تكن في يوم من الأيام داخل منطقة النفوذ الفرنسي، وأن أجهزة الإعلام الفرنسية ليست أفضلَ كثيرًا، باستثناء ما كتبه رولو، من نظيرتها الأمريكية. ومن المهم أيضًا أن نشير من جديد إلى أن الكمية المذهلة من المادة الإعلامية في هذه التغطية أتاحت ظهورَ عددٍ معين من الموضوعات بالغة القيمة، والتي تتَّسم بأنها تُعارض الرأي المتفق عليه، بصفة عامة (وإن لم يكن ذلك في جميع الأحوال). ولننظر إلى بعض المقالات المختارة للنشر في لوس أنجیلیس تايمز وبوسطن جلوب، وبعض المقالات الإبداعية عن البدائل المتاحة لاستعمال القوة ومحاولات التناول الجادِّ لحقائق الواقع في إيران (مثل مقال ريتشارد فولك في أتلانتا کونستیتیوشن في ٩ ديسمبر، ومقال روجر فيشر في مجلة نيوزويك في ١٤ يناير) وبعض المادة الصحفية الممتازة عن خلفيَّة السماحِ للشاه بدخول البلاد، والتحليل السياسي الجيد الذي يُصادفنا من حينٍ لآخر، والموضوعات الصحفية التي تتميز بالسرد الشائق (ومن الأمثلة ما كتبه دویل ماکمانوس في لوس أنجيليس تايمز وكفنر في نيويورك تايمز)؛ فهذه بعضُ نماذج المادة الراقية التي نُشِرت في الأسابيع القليلة الأولى لأزمة الرهائن، وكانت في متناول أيِّ قارئ تقريبًا ممن كانوا يتطلعون إلى شيء يتجاوز الاتجاه الوطني الضيق الذي كان الكُتَّاب يلتزمون به في أغلب الأوقات. وعلينا أن نذكر أيضًا مقالين يتَّسمان بالقوة البالغة ويتناولان النُّعَرَة الوطنية المفرِطة التي ظهرت أخيرًا وتجلَّت في تعليق شاراتٍ على الصدر عن «إيران النووية» وغيرها، واللذين نُشِرا في مجلة إنكویري (۲٤ ديسمبر و۷–۲۱ يناير)، وأن نشير كذلك إلى المعلومات التي جاءت في الوقت المناسب تمامًا، وعرضها فريدج كوك في مقال نشره في ذا نیشن بتاريخ ۲۲ ديسمبر، وتناول فيها قضية العدول غير المفهوم عن التحقيق الذي كان الكونجرس قد شرع فيه عام ١٩٦٥م فيما يُسمى بردود الفعل الإيرانية، ويبين فيها أن المسئولين يَحُولون دون استئنافه، ولأسباب غير مفهومة أيضًا، في هذا الوقت الذي أصبح فيه ذا صلةٍ بالقضية وبصورة عاجلة.
وأما الغالب الأعم فهو أن التلفزيون والصحف اليومية والمجلات الإخبارية الأسبوعية عالجَت أنباء إيران بأسلوبٍ أبعدَ ما يكون عن الفهم العميق والإدراك الفطن لما يجري في إيران، وهو ما يتجلَّى في سلسلة المقالات التي كتبها رولو لصحيفة لوموند في الفترة نفسها. فإذا شئتَ المبالغة قلت إن ما كتبه رولو يجعل إيران تبدو بلدًا آخر، يختلف عن البلد الذي تُصوره أجهزة الإعلام الأمريكية. فلم يغفل رولو لحظة واحدة عن الحقيقة وهي أن إيران بلدٌ ما زال يمر بتحولات ثورية هائلة، ولما كان بلا حكومة، فإنه يمر بمرحلةِ إنشاء مجموعة جديدة كل الجِدَّة من المؤسسات والإجراءات والحقائق السياسية الواقعة. ومن ثَم فلا مناص من النظر إلى أزمة سفارة الولايات المتحدة باعتبارها أزمةً نشأَت في إطار التحولات المذكورة، وهي التي كثيرًا ما تختلطُ صورها على الباحث، لا خارج إطارها. وهو لا يلجأ إلى الإسلام مطلقًا لإلقاءِ الضوء على الأحداث أو الشخصيات. ويبدو أنه نظر إلى مهمته الصحفية باعتبارها تشمل تحليلًا للسياسة والمجتمع والتاريخ في كل بلد، على الرغم من تعقيدها، دون اللجوء إلى التعميمات الأيديولوجية، والألفاظ الرنَّانة التي تفتقر إلى المعاني الواضحة، حتى إذا لم تُؤدِّ تطوُّراتُ الموقف إلى النتائج المرجوَّة، على نحوِ ما حدث في الواقع فيما بعد، ولم تَسِرْ في الطريق الذي نستطيع فهمَه. لم يتحدَّثْ صحفيٌّ أمريكي واحد عن المناظَرة المديدة في إيران حول الاستفتاء الدستوري، وما أقلَّ التحليلاتِ التي صادَفْناها عن شتى الأحزاب! وأندر الإشارات إلى الصراعات الأيديولوجية المهمة التي تفصل ما بين بهشتي، وبازرجان، وبني صدر، وقطب زاده! ولم يعرض صحفيٌّ واحد للحديث عن شتى مناهج النزاع التكتيكي المستخدَمة في إيران، أو يُقدم لنا تحليلات مفصَّلة (حتى منتصف عام ۱۹۸۰م على الأقل) عن العديد من الشخصيات والأفكار والمؤسسات السياسية المتنافسة على السلطة والاستئثار بانتباه الجماهير، ولم يُشِرْ صحفيٌّ أمريكي واحد إلى أن الحياة السياسية في إيران تكتسي في ذاتها من الأهمية ما يجعلها جديرةً بالدراسة، خارج نطاق السؤال عمَّا إذا كان الرهائن سوف يُفرَج عنهم أو التساؤل عمَّا إذا كان أحد الأطراف مناصرًا لأمريكا أو معاديًا لها. بل لقد كان التجاهل من نصيب بعض الأحداث الحاسمة مثل زيارة بني صدر للطلاب في السفارة يوم ٥ ديسمبر ۱۹۷۹م، بل ولم يُشر أحد، ولو إشارةً عابرة، إلى الدور المهم الذي لعبه في السفارة حجةُ الإسلام خومیني، وهو الذي تَصادف أنْ كان كذلك مرشحًا لرئاسة الجمهورية في إيران. وقد كانت هذه بعضَ الموضوعات التي عالجها رولو.

والأهم من ذلك أن رولو قد استطاع التسليم مقدمًا، فيما يبدو، بأنه قد يكون للشخصيات أو التيارات الفكرية المؤثرة في الأزمة دورٌ جادٌّ وجديرٌ بالنظر، فلم يتهوَّر في الحكم على الأمور، ولم يُصدِر أحكامًا مسبقة على شيء، ولم يُقدم أيًّا من النتائج التي يُحبذها المسئولون دون مبررات ومقدمات، ولم يتَوانَ عن التحقيق في كل موضوع من موضوعاته الصحفية. ويتَّضح لنا من مقالات رولو أن زيارة هانسن، عضو مجلس النواب الأمريكي، لإيران حققَت من النجاح ما لم نكن نظنُّه، بل إن رولو يُقدِّم لنا أدلةً كثيرة في مقاله المنشور يوم ٢٤ نوفمبر ۱۹۷۹م على أن البيت الأبيض (مع أجهزة الإعلام الأمريكية) قد تعمَّد السماحَ للنجاح الذي أحرزَه هانسن مع الإيرانيين بأن يَذْويَ ويَذبُل، على نحوِ ما قمع البيتُ الأبيض إمكانَ قيام الكونجرس بالتحقيق في الإجراءات المصرفية المشتركة ما بين الولايات المتحدة وإيران (وهو ما كان يريده الإيرانيون، وربما كانوا يطلبون إجراءه في مقابل الإفراج عن الرهائن). وقد تحدَّث رولو بالتفصيل، على مدى النصف الأخير من عام ۱۹۷۹م عن الصراع بين بني صدر وقطب زاده، والأول اشتراكيٌّ ومناهضٌ للإمبريالية دون هوادة، والأخير يلتزم بموقف المحافظين تجاه القضايا السياسية والاقتصادية، كما سجَّل مواقفهما التي تتَّسم بالتناقض الظاهري إزاء أزمة الرهائن في نوفمبر وديسمبر (فبني صدر يدعو إلى حلِّها، وقطب زاده إلى تصعيدها).

وأما ما نستطيع تخمينه — وإن لم يذكره أيُّ صحفي أمریكيٍّ — فهو أن الولايات المتحدة كانت تُفضِّل التعامل مع قطب زاده، وتُشجِّع، فيما يبدو، إقصاءَ بني صدر عن وزارة الخارجية (بعدم أخذه مأخذَ الجِد، والعمل على الانتقاص من مقترحاته، بل وإطلاق صفة «العبيط» عليه فعلًا). ومن الواضح أيضًا أن مواقف حكومة الولايات المتحدة تجاه إيران (وتفضيلها المؤكَّد للتعامل مع المحافظين على التعامل مع الاشتراكيين) في ضوء فوزِ بني صدر برئاسة الجمهورية القريب؛ ذاتُ علاقة ما بهذه الفترة، كما يتصل بها أيضًا السببُ الحقيقي لسقوط بازرجان: لم يكن ذلك السببُ قطعًا أنه كان ليبراليًّا ديموقراطيًّا، وهو ما كانت أجهزة الإعلام الأمريكية تُفضل القولَ به، ولم يكن أنه صافح برزنسكي في الجزائر، بل كان افتقاره إلى الكفاءة والقدرة على تحقيق السياسات «الإسلامية» المُعلَنة لحكومته. ويُبين رولو أيضًا في مقالٍ من أهم مقالاته (وهي التي نشَرَت صحيفة مانشستر جارديان صورةً مختصَرة لها في ۲ ديسمبر ۱۹۷۹م) كيف شنَّت الولايات المتحدة حربًا اقتصادية متصلةَ الحلقات ضد إيران قبل الاستيلاء على السفارة بوقتٍ طويل، في نوفمبر، ومن الجوانب التي لا تُبشر بالخير في هذه الحرب استمرار مصرف تشيس مانهاتان في القيام بدور رئيسي فيها.
ويرجع نجاح رولو إلى عدة عوامل؛ منها أنه صحفيٌّ قدير، ومنها أن الخبرات التي اكتسبها في بلدان الشرق الأوسط لها تاريخٌ طويل، ومنها أنه، مثل نظرائه الأمريكيين، يكتب وقد وضَع نُصبَ عينَيه قرَّاءَ صحيفته في بلده. فالواقع أن لوموند ليست مجردَ صحيفة فرنسية من بين الصحف الكثيرة، لكنها صحيفةُ التوثيق الأولى، ولا شك أنها ترى أن عملَها هو تقديم صورة العالم وفقًا لمفهوم معيَّن عن المصالح الفرنسية. وهذا المفهوم يُفسر لنا، إلى حدٍّ ما، سرَّ الاختلاف بين صورة إيران كما يراها رولو وصورة إيران في نيويورك تايمز فالنظرة الفرنسية تقوم على الوعي بأنها نظرة بديلة؛ أي إنها لا تشبه نظرة القوة العظمى بل وتختلف عن نظرة الأوروبيين الآخرين. أضف إلى ذلك أن موقف فرنسا تجاه الشرق (وموقف لوموند إذا اعتبرناه امتدادًا له) موقفٌ قديم قائم على الخبرة، فهو يحرص على مراعاة ما طرأ من تغييرٍ بعد زوال الاستعمار، ولا يهتم بالقوة الغاشمة اهتمامَه بالانتشار والاستراتيجية والتحولات، ويُركز على بَذْر بُذور المصالح وتنميتها بدلًا من حماية الاستثمارات الهائلة في نُظُمِ حكمٍ معزولة، ويُقدِمُ على الانتقاء ويقبل التغيير ويراعي الفروق الدقيقة (وقد يذهب البعض إلى أنه انتهازي) فيما يختار أن يُبدِيَ رضاه عنه وفيما ينتقد. والواقع أن لوموند تقوم على المِلكية الجماعية، فهي صحيفة البورجوازية الفرنسية، وهي تُعبر إزاء العالم غير الفرنسي عن سياسةٍ تعدَّدَت أو صافها وتنوَّعَت؛ فقيل إنها تبشيرية، أو رَعَوية، أو أبَوية، أو «اشتراكية ذات قلب رحيم»، أو إنها تنتمي لحركة التنوير في القرن الثامن عشر، أو كاثوليكية تقدمية (لويس ويزنيتسر في صحيفة کریستیان سیانس مونیتور بتاريخ ١٣ مايو۱۹۸۰م، وجين كريمر في نيويورکر بتاريخ ۳۰ يونيو۱۹۸۰م).14 مهما يكن الأمر، فالعبرة حقًّا بالمنهج الذي تتبعه لوموند، واعيةً دون شك، في محاولةِ تغطية أنباء العالم كله. فإذا كانت نيويورك تايمز تهتدي أساسًا، فيما يبدو، بالأزمات الطارئة وبما هو جديرٌ باعتباره من «الأنباء»، فإن لوموند تحاول توثيق معظم ما يحدث في الخارج أو الإشارة إليه على الأقل. ولا ينفصل الرأيُ فيها عن الحقائق بنفس الدرجة من الصرامة التي ينفصلان بها عن بعضِهما البعض، فيما يبدو (ولو اقتصر ذلك على الانفصال الشكلي) في صحيفة التايمز، ومن نتيجة ذلك أنه عندما تعرض موضوعات صحفية أو قضايا تتَّسم بتعقيدٍ غير عادي، نجد في لوموند قدرًا أكبرَ من المرونة، سواءٌ كان ذلك في الطول أو التفاصيل أو العمق في التحقيق الصحفي. والحقُّ أن لوموند تُوحي في أنبائها الصحفية بالحُنكة بشئون العالم، وأما التايمز فتُوحي بالاهتمام الرزين الوقور، والانتقائي إلى حدٍّ ما. ولننظر الآن فيما كتبه رولو يومي ۲ و۳ ديسمبر ۱۹۷۹م.
يبدأ رولو بالإشارة إلى الاهتمام بصورة غير عادية، على مدى الشهور الثلاثة السابقة، بالمناقشة حول الجمعية المُكلفة بوضع الدستور، إذ عُقِدَت المئات من الاجتماعات العلنية، نقل التليفزيون وقائعَ الكثير منها، كما قامت الصحافة، والصحف الحزبية، بتحليل القضايا المطروحة، واستغرق المشاركون وقتًا طويلًا في استنكار العناصر «المناهضة للديموقراطية» في نص الدستور المقترح. (وبالمناسبة، لم تتعرَّض أجهزة الإعلام الأمريكية لأي شيء من هذا، تقريبًا). ويُعلِّق رولو، بعد ذلك، على الانشقاق الذي يُعَدُّ من المفارقات بين الخوميني وبين جانبٍ كبير من الطبقة السياسية في البلد، ثم يمضي في تحليله فيُبين بأقصى درجةٍ من التفصيل كيف استطاع الخوميني رغم ذلك تحقيقَ إرادته فورًا عن طريق اللجوء إلى المخاطرة، بمخاطبة الشعب مباشرةً بدلًا من المراوغة والمماطلة؛ كسبًا للوقت. وقد اقتضى ذلك من رولو، بطبيعة الحال، تحليلَ المناظرة الجارية حول الدستور (قضاياها، وأنصارها، وأسلوبها) ثم القوى الحقيقية المشاركة فيها، محافظًا على وضوح الصَّدْع الذي يَفصل بين السلطة وبين الدستور. ونرى من عرضِه للموضوع في النهاية أن الأنصار «الإسلاميين» للخوميني يمثلون طائفة غير متجانسة، تتجمَّع وتتفرق في شتى أنحاء البلد حسبَما يقضي به وعيُ الخوميني المذهل بما يُسمى «الثورة الدائمة» بمعنى القدرة الدائمة على التغيير، وهي التي لا يستطيع التحكمَ فيها إلا الخوميني نفسُه، بما جُبِل عليه من طبيعة «قانونية عسيرة الإرضاء»، وهذا في رأي رولو من المفارقات. وبعد أن يُقدم رولو قائمةً بشتى الأحزاب اليسارية واليمينية، والاستشهاد ببعض المواقف التي اتخذها كلٌّ منها، يضع رولو إصبَعَه على عددٍ من مظاهر التناقض في الدستور المقترح الذي يقول بأن المرأة يجب ألا تكون مُجردَ مصدر للمتعة الجنسية أو الربح الاقتصادي، وإن كان لا يُصرح بحقوق المرأة؛ وهو يستنكر النقابات باعتبارها من اختراع الماركسيين، لكنه ينصُّ على أن مجالس العمال يجب أن تنهض بدورٍ مهم في الحياة الاقتصادية، ويقول إن جميع المواطنين متساوون في الحقوق، ولكن المذهب الشيعي هو الدين الرسمي للدولة؛ وهلم جرًّا. ويؤدي هذا كله إلى الفقرة التالية:

مما لا غِنى عنه للإمام الخوميني أن يُصدر، دون إبطاء، هذا الدستورَ القادر على إثارة مناقشات لا تنتهي. لقد أشار عليه الكثيرون بإجراء الاستفتاء حتى ينتهيَ اختبار القوة مع الولايات المتحدة، وقيل له إن البلد الذي يمرُّ بمرحلةٍ انتقالية يستطيع التكيُّفَ بسهولةٍ مع نظام حكم انتقالي يستمر فترةً طويلة، ولكن الخوميني أزاح عن طريقه جميعَ المشورات والاعتراضات المقدمة إليه.

ومن المفارقات أن يبدوَ ذلك الشيخ الوقور المقيم في بلدة قُم ذا طبيعةٍ قانونية عسيرة الإرضاء، لمن لا يعرفونه خيرَ المعرفة. فهو يُصِرُّ على إرساء صرحِ سُلطته على أسُس قانونية، وأرضاه بصورة مباشرة ما اكتسبَه من شعبيةٍ هائلة في الأسابيع القليلة الماضية. وأما أي تغيير في هذه الشعبية في المستقبل، فسوف يقلُّ دورُ النص الدستوري في إحداثه عن دور توازن القُوى السياسية الذي سوف تُفرزه «الثورة الثانية» التي تجري حاليًّا.

إن رولو لا يحاول هنا إصدارَ أحكام صريحة على شيء (قارن ذلك بالتحليل السطحي الذي نشره دون شانش في لوس أنجیلیس تايمز، وسبقت الإشارة إليه)، ولكنه يُبين فحسب نقاطَ الانفصال بين المظهر وبين القوة، وبين النص وبين القرَّاء، وبين الشخصيات وبين الأحزاب، إذ يضعها جميعًا في مواضعها الصحيحة من سياقها، وهو في جوهره فيضٌ دفَّاقٌ مضطرب.

وأما الذي يحاول توصيله للقارئ فهو الإحساس إلى حدٍّ ما لا بالتحولات الجارية فحسب، بل أيضًا بنقاط التركيز والتنازع داخل هذه التحوُّلات. وأقصى ما يفعله رولو هو تقديم تقدير للموقف يتَّسم بالحرص والحذر. إنه لا يلجأ مطلقًا إلى المقارنات القائمة على الحماس الوطني ولا إلى إصدار أحكام القيمة التي تَنمُّ عن الجهل.

وإن شئنا إجمالَ القول قلنا إن ما كتبه رولو لصحيفة لوموند مقالٌ سياسي بأفضلِ معنًى من معاني الكلمة. وأما ما نشرَته أجهزة الإعلام الأمريكية فلم يكن كذلك على امتدادِ شهورٍ عديدة، أو قُل إنه كان سياسيًّا بالمعنى السيِّئ. فكل ما بدا غيرَ مألوف أو كان غريبًا على الصحفيين الأمريكيين (والغربيين الآخرين)، وصَموه بأنه «إسلامي» وعامَلوه بقدرٍ «مناسب» من العداء والسخرية. فلم تنجح إيران، باعتبارها مجتمعًا معاصرًا يمرُّ بتغيير غير عادي ومهم في إحداث تأثير يُذكَر في الصحافة الغربية بصفةٍ عامة، والمؤكد أن هذه الصحافة نادرًا ما كانت تسمح لتاريخ إيران بأن يظهر، في العام الأول لقيام الثورة على الأقل، بدرجة كبيرة من الصحة، بل طغى بوضوحٍ وجِلاء استعمالُ القوالب الجاهزة، والكاريكاتيرات اللفظية، وتَبدَّى الجهل والتعصب العِرقي وعدم الدقة بصورةٍ مفرطة، إلى جانب ما يكاد يكون خضوعًا كاملًا للأطروحة الحكومية التي تقول إن أهمَّ ما يَعنينا الآن هو «عدم الاستسلام للابتزاز» وما إذا كان الرهائن سوف يُطلق سراحهم أم لا. كان الصحفيون يتهوَّرون في التوصُّل إلى نتائجهم وفي حسمِ مصيرِ صراعٍ لا يزال دائرًا، وكان من نتيجة ذلك عدمُ تبيان العناصر المميزة للحياة الثورية الإيرانية على الإطلاق، وهي العناصر التي قد تؤدِّي إلى استمرارها أو انقطاعها، وقد صاحَب ذلك افتراضٌ مقلق، وهو أنه إذا كانت الولايات المتحدة قد غفرَت للشاه السابق وأعلنَت أنه حالة إنسانية وجديرٌ بالإحسان إليه، فلا يُهمها ما يقوله الإيرانيون (أو التاريخ الإيراني نفسُه). وفي أثناء هذه الفترة أبدى أ. ف. ستون من الشجاعة ما جعله يقول بصراحة إن ضرورة اعتذار الولايات المتحدة لإيران «عن قيامنا بإعادة الشاه إلى العرش في عام ۱۹٥۳م … ليست تاريخًا قديمًا للإيرانيين، وقد لا تُمثل لنا نحن أيضًا تاريخًا قديمًا» (فيليدج فويس، ۲٥ فبراير ۱۹۸۰م).

كان تناول أجهزة الإعلام لأنباء «الإسلام» وإيران في عام ۱۹۷۹م يتَّسم بدرجةٍ بالغةٍ من الضَّعف والروح العدائية، حتى إننا لنظن أن ذلك قد أضاع علينا عددًا من الفرص السانحة لحلِّ أزمة الرهائن، وربما كان ذلك هو السبب الذي حدا بالحكومة الإيرانية في عام ۱۹۸۰م إلى أن تقول إن تقليل عدد الصحفيين في إيران قد يؤدي إلى تهدئة التوتر ويؤدِّي إلى الحل السلمي. وأما ما يعتبر أخطرَ نتائج فشل أجهزة الإعلام، وما لا يُبشر بالخير للمستقبل، فهو أن هذه الأجهزة لا تُرى (بالسهولة وبالثقة اللازمين) أنها تؤدِّي مهمةً إعلامية حقيقية ومستقلة فيما يتعلق بالقضايا الدولية العاجلة وأثناء فترة تأزم حادٍّ. ويبدو أن أجهزة الإعلام لا تكاد تَعي أنها تستطيع، دون أن يلحقها الضرر، تصوير الحقبة الجديدة التي ندخلها في الثمانينيات في صورة المواجهة بين الثنائيات — «نحن» في مقابل «هم»، والولايات المتحدة في مقابل الاتحاد السوفيتي، والغرب في مقابل الإسلام، مع انحياز هذه الأجهزة دائمًا إلى جانب «الأخيار»، إلا إذا وصلنا إلى حيث نعتقد أنه من المحتوم أن تشترك الدولتان العُظمَيان معًا في تدمير العالم.

ومع ذلك فالإنصاف يدعونا إلى رصدِ التغييرات التي تتعرض لها أجهزة الإعلام مع مرور الوقت على أزمة الرهائن في عام ۱۹۸۰م. فلقد شهدنا ازديادَ التعمق في فحص دور الولايات المتحدة في إيران؛ إذ خصصت محطة إذاعة كولمبيا جانبًا كبيرًا من حلقتين من حلقات برنامجها «ستون دقيقة» للحديث عن التعذيب أيام حكم الشاه، وللأحابيل التي قام بها هنري کیسنجر لحساب الشاه. وأدَّت صحيفتا نيويورك تايمز وواشنطن بوست واجبهما، فأشارتا إلى الجهود التي بذَلَتها الحكومة لمنع إذاعة المحطة لذلك التحقيق (في ٧ مارس و٦ مارس على الترتيب) وكذلك، وعلى نحوِ ما كان متوقعًا، نشَرَت جميعُ الصحف الكبرى موضوعات تُعرب فيها عن استيائها وتشكيكها في الحكمة من القيام بمحاولة الإنقاذ الفاشلة في أواخر أبريل. واتسع نطاقُ اتفاق الآراء بما ينمُّ عن زيادة استعداد أجهزة الإعلام بصورةٍ غير مسبوقة للإقرار بإمكان اختلاف الرأي حول إيران. وازداد انتقادها لموقف الحكومة المتَّسمِ بالمماحكة والمماطلة مثلما ازداد الوعيُ لدى القراء (والذي تعبر عنه أبواب «بريد القراء» في الصحف) بأن أجهزة الإعلام لا تقول لنا الحقيقة الكاملة عن إيران. ومع ذلك فلقد استمرَّ العداء للإسلام واستمر سوءُ فهمه (وهو المتوقَّع) بزِعامة الصحف المحافظة مثل نيو ريببلك إذ نشرَت في عددها الصادر في ۷ يونيو ۱۹۸۰م مقالًا بقلم إيلي قدوري بعنوان «الغرب يُذعن» يقول فيه إن على الغرب أن «يبرز صورته ويفرض احترامه» وإلا استمرت الفوضى التي تضرب أطنابها في العالم. وكنا نشعر بين الفَينة والفَينة باتفاق الآراء الذي يفتُّ في العضد، على نحوِ ما حدث عندما عاد رامزي كلارك من مؤتمر «جرائم أمريكا» في طهران، وظهر في التلفزيون في برنامج «قضايا وإجابات» يوم ۸ يونيو۱۹۸۰م، وهو البرنامج الذي تُذيعه محطة إيه بي سي، إذ لم يسمح الذين أجْرَوا المقابلة معه لأنفسهم بتوجيهِ سؤالٍ واحد يتطلب الإيضاح الحقيقي لموقفه، بل كانت جميع أسئلتهم تنضحُ بالعداء العميق، وتُفصح عن الانصياع دون تردد لموقف الإدارة الأمريكية الذي يقول إن كلارك قد ارتكب بذَهابه إلى طهران خيانةً لوطنه.15
لكننا كُنَّا نُصادف من وقتٍ لآخر مواقفَ مختلفة، مثل المقالات الأربعة التي كتبها جون كفنر في صحيفة نيويورك تايمز، في ٢٩ و۳۰ و۳۱ مايو وأول يونيو۱۹۸۰م، وهي سلسلةٌ يتناول فيها الثورةَ الإيرانية بذكاء، أو مثل المقال الذي كتبه شول بَخَش عن الثورة الإيرانية في مجلة نيويورك لمراجعة الكتب (۲٦ يونيو۱۹۸۰م) إذ وجدنا ما ينمُّ عن الجهد المبذول في التأمُّل والتصدِّي لحقيقة الثورة المستمرَّة والتي لا يمكن تفهُّمُ حقيقتها بألفاظ نظرية مبسَّطةٍ أو من حيث دلالاتُها العَملية الصِّرفة. ومع ذلك فإنني أعتقد أن هذه المقالات ما كانت لِتُكتَب لو أن الرهائن قد أُطلق سَراحهم فعلًا. أي إن احتلال السفارة — ذلك الحادث اللاأخلاقي، وغير القانون، والبشع، والذي تقتصر فائدته السياسية لإيران على الأجَل القصير ويؤدي إلى تبديد الجهود في الأجل الطويل — قد فرَض أزمةَ وعي، دون مبالغة، في الولايات المتحدة. فبعد أن كانت إيران مستعمَرةً آسيوية لا يكاد يذكرها أو يكترث لها أحد، أصبحَت بين الحين والحين «مناسبة» لمحاسبة النفس من جانب الولايات المتحدة. أي إن قصة إيران قد أدَّت — بسبب إلحاحها نفسِه، وطولها الزمنيِّ القبيح والمثير للقلق — إلى تغيير تدريجيٍّ في موقف أجهزة الإعلام، فبعد أن كان يتَّسم بالتركيز الضيق الذي لا يَحيد ولا يتحول عن هدفه، أصبح يتميَّز بالمزيد من النقد ويعود بالمزيد من الفائدة. ونستطيع أن نقول بإيجازٍ إن احتلال السفارة قد أحلَّ الحركة الدينامية محلَّ الغضب الثابت الساكن، وقد اكتسبَت هذه الحركة الدينامية على مَرِّ الأيام تاريخًا خاصًّا بها، ومن خلاله اكتشفَت أجهزةُ الإعلام جوانبَ في ذواتها لم تكن تدري بها (وكذلك الأمريكيون بصفة عامة). وأما إذا كان هذا ما قصَد إليه المتمردون أصلًا، أو كان سببًا في تأخير عودة الأحوال العادية بدلًا من حفزها، فلم يَحِن الوقتُ بعدُ للقطع فيه. ولا شك أنه قد ازداد عدد الأمريكيين الذين يفهمون الآن معنى الصراع على السلطة (مَن ذا الذي لم يُدرك الصراعَ بين بني صدر وبهشتي، وشبح الخوميني يَكمُن خلفَهما في غموضٍ وإبهام؟) ولا شك أيضًا أنه قد ازداد عددُ الأمريكيين الذين أصبَحوا يُدركون أنه من العبث محاولةُ فرض نظامنا «نحن» على تلك الفورة العارمة، أو، في هذا الصدد أيضًا، على المعركة الدائرة بين العراق وإيران. ولا تزال أسئلةٌ كثيرة في انتظار الإجابة عليها، مثل ظروف سطوع نَجم بهشتي، وأنماط الصراع بين اليسار واليمين، وحالة الاقتصاد الإيراني — وقد يُسفر ذلك كلُّه عن شتى النتائج في القريب العاجل.16

وأما السؤال الذي لم يستكشف أحدٌ أبعاده، فهو السؤال الذي يكمُن خلف الأزمة، والذي يجب علينا الآن أن نُحاول التعرضَ له؛ ألا وهو: ما أهمية إيران؟ وما أهمية الإسلام؟ وما هو نوع المعرفة أو التغطية التي تحتاجها لهذا وذاك؟ ليس هذا السؤالُ الثلاثيُّ من قَبيل الأسئلة التجريدية. ولا يجب أن نعتبره فحسب جُزءًا لا يتجزأ من السياسة المعاصرة، بل هو جانبٌ حيوي أيضًا من جهود البحث الأكاديمي وجهود التفسير التي تتطلَّب المعرفة بالثقافات الأخرى. لكننا إذا لم نُلقِ نظرةً ترفع أستار الغموض عن العلاقة بين السلطة والمعرفة في هذا السياق، فسوف نكون قد تهرَّبنا من مواجهة جوهر القضية. وينبغي أن يكون ذلك ما يُحدد مسارَ بحثنا من الآن فصاعدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤