تحتمس الرابع

١٤١٥–١٤٠٥

من بين اللوحات الكثيرة التي كشفتْ عنها أعمال الحفر التي قامت بأعبائها الجامعة المصرية حول معبد «بوالهول» ثلاث لوحات تلفت النظر، غير لوحة «أمنحتب الثاني» العظيمة التي تحدثنا عنها. فإن هذه اللوحات أجمل شكلًا، وأدقُّ صناعة من اللوحات الأخرى التي أهداها الموظفون لتمثال «بوالهول»، وقد مثل على كل منها شاب من عِلْية القوم، بل أمير يقدِّم قربانًا لتمثال «بوالهول» ولتمثال المَلِك. وفي لوحتين منها كان الملك المقدم إليه القربان هو «أمنحتب الثاني»، وفي ثلاث اللوحات قد مُحِي عَمْدًا اسم الأمير، وفي واحدة منها كان اسم الأمير موضوعًا في طُغْراء. وقد مُحي اسم الأمير بدقة وعناية بحيث لم تُمَسَّ كلمة من الكلمات التي مع الاسم بأي سوء، كما أنه قد اتُّخذت الحيطة فلم يضر رمز من الرموز المقدسة، ومن ذلك نفهم أن هذا المحو قد قام به شخص يحمل في صدره ضغينة شخصية لأصحاب هذه اللوحات، كما أنه لا يحمل أي حقد على الفرعون أو الإله الذي صور على اللوحة، ومِن ثَمَّ نعلم أن هذا العمل لم يكن من جانب رجال «إخناتون».

ومما يلفت النظر أن محو الاسم لم يكن قاصرًا على الاسم البارز الذي كان يتبع الصورة، بل قد تخطَّاه إلى الاسم الذي في صلب متن اللوحة نفسها، غير أنه لحسن الحظ قد خان هذا الحاقدَ الذي قام بالمحو نظرُه، فتَرَك لنا الاسم سليمًا في مكانين، ومن ثَمَّ نعلم أنه كان يُسمَّى «أمنمأبت»، وأنه كان يحمل ألقابًا تُعدُّ من أعظم ألقاب الدولة وأرفعها.

والآن يتساءل المرء مَن هم هؤلاء الأمراء الذين مُثِّلوا على هذه اللوحات؟ هل هم شخص واحد، أم هم ثلاثة شبان يحتمل أنهم إخوة؟ ولما كان لكل منهم غديرة شَعْر (شوشة)، مما كان يرمز به عند المصريين القُدَامى لسنِّ الطفولة استطعنا أن نحكم بأنهم لم يبلُغوا الحُلُمَ بعدُ، ولكي يكون في استطاعتنا محاولة حلِّ هذا اللغز، نفحص كلَّ لوحة على حِدَتها، وسنرمز لها هنا تسهيلًا لفحصها بالأحرف «أ» «ب» «ج»؛ فمِن اللَّوحة (أ) نعلم أن صاحبها كان أميرًا صغيرًا بهيَّ الطلعة، يقدم قربانًا لكلٍّ من تمثالَيْ «بوالهول» والفرعون «أمنحتب الثاني»، وأن الشخص الحقود الذي مَحَا اسمَه لم يُلحِق أيَّ ضرر بأيٍّ اسم أو رمزٍ إلهي. ولا نزاع في أن هذا الفرد الذي محا الاسم لم يكن من عُمَّال «إخناتون»؛ لأن اسم «آمون» بقي على اللوحة لم يُصِبْه أذًى.

fig1
شكل ١: مومية تحتمس الرابع.

وفي اللوحة الثانية «ب» نجد أن الأمير الممثَّل عليها يُشبه الأول، وكذلك يُقدِّم لتمثالَيْ «بوالهول» والملك «أمنحتب الثاني» قربانًا. وقد كان كذلك لم يبلغ سنَّ الرُّشْد، كما يدلُّ على ذلك غديرةُ شعره المُدلَّاة على صُدْغه، وكان يَحمِل ألقابًا عالية، وكلها بطبيعة الحال ألقاب فخرية، وكذلك نرى النقوش التي نقشت فوق تمثاله تكاد تكون صورة مطابقة للنقوش التي على لوحة الأمير السابق، مما يوحي بأن اللوحتين قد تكونان لأمير واحد بعينه. وهذه اللوحة كذلك قد أصابتْها أضرار كثيرة على يَدِ فرد أراد أن يمحو شخصية صاحبها وحده، ولم يكن للتعصب الديني شأن في إتلافها؛ لأن كل الرموز الدينية بقيت سليمة. ومما هو جدير بالذكر أن اسم هذا الأمير كان منقوشًا في طُغْراء لا تَزَال خطوطُها الخارجية ظاهرة.

أما اللوحة الثالثة «ج» فنرى عليها أميرًا يَظهَر أنه مثل الأميرين اللذين مُثِّلا على اللوحتين السابقتين، ويُسمَّى «أمنمأبت». فقد تُرك لنا اسمه في مكانين على اللوحة أخطأهما عدوُّه. أما في اللوحة فقد محي اسمه تمامًا. وهذا الأمير ممثَّل كذلك بغديرة الشعر التي تدل على الطفولة أيضًا، ويُرى مقدِّمًا القربان للإله «بوالهول» وللملك «أمنحتب الثاني»، وفي منظر آخر يقدِّم قربانًا للإلهة «إزيس». من أجل ذلك يمكننا أن نستخلص مما سبق الحقائق التالية:
  • (١)

    أن اللوحات الثلاث متشابهة في الأسلوب والصنعة، وكلها من عصر واحد.

  • (٢)

    وأن اسم الأمير قد بَقِيَ لنا في لوحتين وهو «أمنمأبت».

  • (٣)

    وأن هذا الشاب كان ابن ملك.

  • (٤)

    وأن الاسم الممحوَّ كان في حالة واحدة موضوعًا في طُغْراء.

  • (٥)

    وأن هذا الأمير كان في لوحتين يقدِّم القربان لتمثال «بوالهول» والملك معًا.

  • (٦)

    وأن اسم أولئك الأمراء قد مُحِيَ على يَدِ شخصٍ مُعادٍ يحمِل في قلبه حِقْدًا شخصيًّا لصاحب اللوحة، وليس له علاقة بالمَلِك أو بالإله «بوالهول».

  • (٧)

    وأنه في اللوحة الثالثة «ج» نرى أميرًا يقدِّم القربان لتمثال الملك، وأن اسم الأخير قد فُقِدَ عَفْوًا نتيجة كسر وليس نتيجة مَحْوٍ.

وإذا فحصنا كل النتائج التي وصلنا إليها في هذا البحث، اتضح جليًّا أن أولئك الأمراء — على ما يَظهَر — أولاد الفرعون «أمنحتب الثاني»، ويحتمل أن اللوحات كذلك هي كلها كانت لأمير واحد؛ أيْ لأخٍ أصغر «لتحتمس الرابع». وسنرى عندما نفحص متن اللوحة الجرانيتية المنسوبة لهذا الفرعون أن «بوالهول» يتحدث في رؤية صادقة للأمير «تحتمس» ويساومه في أنه إذا قام بتنظيف ما يحيط بتمثاله من رمال، وحافظ عليه مما يَطمس جسمَه ويُخفِيه عن الأعين، فإنه سيَمنَحه تاجَ مصر. ومن ذلك يتضح جليًّا أن الأمير «تحتمس» لم يكن هو الوارث الحقيقي لعرش مصر، وإلا فإن وَعْد «بوالهول» له يكون عديم الفائدة؛ لأنه كان بطبيعة الحال سيخلف والدَه بعدَ موته دون منازع، ولم يكن في حاجة لتحمُّل مشاقِّ تنظيف «بوالهول» ليُكافَأ عليه بعرش المُلْك الذي كان سيئول إليه طبعيًّا دون مناهض. ومن ذلك يمكننا أن نزعم بحق أن إخوة الأمير «تحتمس» أو أخاه كانوا عَقَبَةً في سبيل تولِّي عرش المُلْك، وأن «تحتمس» قضى عليهم بطريقة ما، إما بالموت أو النفي، ثم مَحَا بعدَ ذلك أسماءهم، وكل ما يُشعِر بوجودِهم لأجْل أنْ تُنسَى ذكرياتُهم. ولا نزاع في أن قصة الحُلْم هي محضُ اختِرَاع لأجْل أن يُبرِّر موقفَه أمامَ الرأي العام، وهذا يُفسِّر لنا العزيمة الصادقة التي نفذ بها الشطر الذي كان عليه أن يقوم به في المساومة.

ولعمري لقد كان هذا التحايُل للاستيلاء على عرش الملك بغير حق شرعي من البِدَع التي نشأتْ في مصر منذ عهد الأسرة الخامسة، فمنذ ذلك العهد نجد الملوك الذين لم يكن لهم حق شرعي مطلق في تولِّي العرش يختلقون أقصوصة يجعلون القوة الإلهية تتدخل فيها لتُحلِّل لهم الاستيلاء على عرش الملك، وأول مَن استعمل هذه الحيلة مَلِك في الأسرة الخامسة، ثم استعملها — على ما يَظهَر — «سنوسرت الأول»، وفي الأسرة الثامنة عشرة شاعتْ وتنوعتِ الأساليب التي كانتْ تُتَّبع وسيلة لذلك، كما شاهدنا في حالات «حتشبسوت» و«تحتمس الثالث»، ثم «تحتمس الرابع» الذي نحن بصدَدِه الآن.

ومما يعضد الرأي الذي أوردناه هنا أن «أمنحتب الثاني» كان له أولاد ذكور عديدون، وقد ذكر لنا الأستاذ «فلندرزبتري» في تاريخه عن مصر استنادًا على ما دوَّنه «لبسيوس» في كتابه عن آثار مصر (L. D. III, Pl. 69a). أن من المحتمل أن يكون «لتحتمس الرابع» إخوة يتراوح عددُهم بين الخمسة والسبعة من أبيه «أمنحتب الثاني»؛ لأنه وُجد في قبر «حكرنحح» مربِّي «تحتمس الرابع» منظر مثل فيه «تحتمس» الصبي جالسًا على حجر مربيه، وقد مثل معه إخوة آخرون عديدون، ومما يؤسف له أنه وُجد كل أسمائهم قد مُحيتْ، وعدم ذكرِهم في أي مكان آخر يُشعِر بأن أخاهم «تحتمس» كان قاسيًا مُجْحِفًا لآثارهم وذكرياتهم، كما أساء إليهم أنفسِهم (راجع: Petrie, “History”, II, p. 165). والواقع الذي يُؤسف له أن هذه النظرية التي استعرضناها هنا على ضوء هذه الكشوف الحديثة لا تجعل من «تحتمس الرابع» رجلًا مثاليًّا؛ لأنه وإن لم يكن قد لعب دور السفاح في هذه الرواية المحزنة — والظاهر أنه قد قام بهذا الدور المَشِين لأسباب كثيرة — فإنه كان رجلًا جامد القلب، يحب الأَثَرَة إلى أقصى حدٍّ، ولا يبعد أنه كان السبب في الحُزْن الذي توجَّعتْ منه أمُّه، وأظهرتْه في الكلمات الباقية التي وجدناها على تمثالها، وسنرى حالةً مماثلةً لهذا المحو في صورة أحد أولاد «سيتي الأول»، ويحتمل أنه أخوه «رعمسيس الثاني»؛ لأن صورته قد أُزيلت من منظر موقعة «سيتي الأول»، التي على جدران معبد الكرنك، غير أن في ذلك بعض الشك.
والآن نعود إلى هذا الأمير التَّعِس «أمنمأبت» الذي وُجدت لوحاتُه في منطقة «بوالهول»؛ إذ لا بد أنه كان جريًا على تقاليد الأسرة في هذا العهد قد خرج لزيارة «بوالهول» للصيد والقنص في تلك المنطقة التي اشتُهرت بحيوانها البري. ومن المحتمل أنه هو وإخوته كانوا قد تعوَّدوا الطِّراد في هذه المنطقة، وكان من بينهم ذلك الشاب الماكر الغامض الذي أصبح فيما بعدُ «تحتمس الرابع»، وكان قد اعتاد الصيد في «وادي الغزال» (وهو اسم أُطلِق على صحراء «منف» وما جاورها). واللوحة الجرانيتية١ التي أقامها بين مخالب «بوالهول» قد حَفِظَتْ لنا قصةَ الحيلة التي برَّر بها تولِّيَه العرش بما قام به من عمل جليل لتمثال هذا الإله الذي كان يُخفِي في صورته إلهَ الشمس؛ أعظم الآلهة المصرية قوة وسلطانًا وعدالة، وعلى ذلك كان إقصاء كلِّ مُدَّعٍ آخرَ للمُلْك أمرًا لا مفرَّ منه، وأن كل ما أتاه من سفك دمٍ وبطشٍ بإخوته أو بالوارث الأصلي كان تنفيذًا لنبوءة هذا الإله العظيم.
وهاك متنَ هذه اللوحة:

التاريخ وألقاب الفرعون

السنة الأولى، الشهر الثالث من الفصل الأول، اليوم التاسع عشر من حكم جلالة حور، الثور القوي، منشئ الضوء، محبوب الإلهتين، الباقي في الملكية مثل «آتوم»، حور الذهبي، القوي السيف، وصادِّ الأقواس التسعة، مَلِك الوجْه القِبْلي والوجْه البحري «منخبرو رع» ابن الشمس، «تحتمس الرابع»، المضيء في التيجان، محبوب «آمون» معطي الحياة والثبات والرضا مثل رع مخلدًا.

نعوت «تحتمس الثالث»

يعيش الإله الطيب ابن «آتوم»، حامي «حور أختي» والصورة الحية لإله الكل، والعاهل، ومَن أنجبه «رع»، ووارث «خبري» الممتاز، وصاحب الوجه الجميل مثل والده، ومَن خُلق مجهَّزًا بصورة «حور» عليه، وهو ملك … الآلهة؛ خطوة مع تاسوع الآلهة، والذي يُطهِّر عين شمس، ومَن يُرضي «رع»، والذي يُجمِّل «طيبة»، ومَن يُقدِّم الصدق للإله «آتوم»، ومَن يمنحه قاطن جنوبي جداره٢ (بتاح)، ومَن يُقيم أَثَرًا بالقرب اليومية للإله الذي خلق كل الأشياء، ومَن يبحث عن كل نافع لآلهة الجنوب والشمال، ومَن يُقيم بيوتهم بالحَجَر الجِيري، ومَن يَمنَح كل قرباتهم، ابن «آتوم» من جسده، «تحتمس الرابع» الذي يُضيء في التِّيجان مثل «رع»، وارث حور على عرشه «منخبرو» «رع» معطي الحياة.

«تحتمس الرابع» في طفولته

وعندما كان جلالته طفلًا مثل «حور» الشاب في «حميس»٣ كان جسمه مثل حامي والده «حور»، وقد كان مثل الإله نفسِه، وقد كان الجيش مبتهجًا بحبهم له، وقد كان يُعيد أعمال بطولته مثل ابن «نوت» (أيِ الإله «أوزير») وأولاد المَلِك وكل العُظَماء، وكانت شجاعته تَفِيض منه …

«تحتمس الرابع» الرياضي والصياد

تأمل! إنه قد قام بعمل كان محبَّبًا إليه على هضاب مقاطعة «منف» على جانبَيْها الجنوبي والشمالي، فكان يَرْمِي هدفًا من نحاس، ويصطاد أسودًا وحيوان الصحراء الصغير، راكبًا في عربته، وجيادُه كانت أسرع من الريح، ومعه اثنان من أتباعه، ولم يكن يعلم ذلك أحد.

مكان «تحتمس» المختار للراحة بعد الصيد

ولما حانتْ ساعة الراحة لأتباعه، كان ذلك دائمًا «معبد سبت» (أي المعبد المختار وهو الاسم الذي كان يُطلَق على معبد «بوالهول») الخاص بالإله «حور إم أخت» (وهو اسم «بوالهول» في عهد الدولة الحديثة). ومعناه الإله «حور» في الأفق، والأفق معناه هنا الجَبَّانة التي دفن فيها ملوك الأسرة الرابعة، وقد كان أول مَن سمَّاها بهذا الاسم هو «خوفو» بجانب الإله «سكر» في «روستاو» والإلهة «رتنوتت» في «إيات تامون» … في الصحراء (أي الجبانة) «وموت» صاحبة … الشمالية … سيدة الجدار الجنوبي، والإلهة «سخمت» القاطنة في الجبل في المكان الفاخر الأزلي قبالة سيد «خرعحا» (مصر العتيقة) والطريق المقدَّسة للإلهة المؤدِّية للجبَّانة الغربية.

ويُقيم تمثال «خبري» العظيم جدًّا في هذا المكان، وهو العظيم في شجاعته، والذي يُظلُّه فيء «رع»، وهو الذي تُهرَع إليه ربوع «منف» وكل المدن التي بجواره رافعين أكفَّ الضراعة إلى وجهه، وحاملين القُرَب العظيمة لروحه.

تحتمس الرابع» يرى بوالهول في رؤيا صادقة

واتفق ذات يوم أن ابن المَلِك المُسمَّى «تحتمس» أتى راكبًا عربتَه وقت الظهيرة، وجلس يتفيَّأ ظلَّ الإله العظيم، فغشاه النعاسُ عندما كانت الشمس في منتصف السماء، فرأى جلالته إلهَه المبجَّل، يتكلم بفمه كما يتكلم والد مع ابنه قائلًا: تأمل أنت فيَّ يا بنيَّ «تحتمس»، إني والدك «حور إم أخت-خبري-رع-آتوم» إني سأمنحك ملكي على الأرض رئيسًا على الأحياء، وستلبس التاجَ الأبيض والتاج الأحمر على عرش الإله «جب»٤ (إله الأرض) الأمير الوراثي، وستكون الأرض مِلْكك في طولها وعرضها؛ وهي كل ما يُضيء عليه الربُّ المهيمن. وطعام الأرضين سيكون ملكك، وجزية كل الأقطار مدة عهود طويلة سنيها. وإني مولٍّ وجهي شطرك وقلبي معك، وستكون أنت المحافظ على كل أشيائي؛ لأني أشعر بألم في كل أعضائي. ورمال المحراب الذي أنا فيه قد غمرتْني، فالتفتْ إلي لتفعل ما أرغب فيه؛ لأني أعلم أنك ابني وحاميَّ. تأمل! إني معك، وإني قائدك.

ولما فرغ من كلامه هذا استيقظ ابن الملك سامعًا ذلك … فَهِم كلمات الإله ووضعها في قلبه، ثم قال (لأتباعه): تعالَوْا دعونا نسرع إلى بيتنا في المدينة، وإنهم سيحافظون على ما نحضر من قربان لهذا الإله: ثيران … وكل الخصر صغيرة، وسنقدِّم الثناء للإله «وتنفر» (أي زير في عالم الآخرة) … «وخفرع»، والتمثال الذي عمل «لآتوم حور إم أخت» …

مغزى اللوحة

والظاهر أن «تحتمس» بعد أن ضرب ضربته السياسية التي قضت على كل مناهض له في التربُّع على العرش، أسرع في إنجاز ما عليه من دَيْن لهذا الإله؛ إذ نعلم أنه قد أزال الرمال عنه فعلًا، ولم يكتفِ بذلك، بل أقام سورًا حول مربض التمثال بناه من اللَّبِن. وقد بقي الاعتقاد السائد عند علماء الآثار أن هذا السور من عمل ملوك البطالمة ومَن بعدَهم إلى أن كشفتْ أعمالُ الحفر التي قامت بها الجامعة المصرية عن السور كله وظهر أنه من عمل «تحتمس الرابع» نفسِه؛ إذ وجدنا بعض لَبِنَات في بناء السور نفسه عليها طغراء الفرعون «تحتمس الرابع».

وقد ترك لنا هذا الفرعون كذلك سلسلة جميلة من اللوحات التذكارية من إهدائه لهذا الإله. والظاهر أنها كانت في الأصل مثبتة في أحد الجدران الحافظة لتمثاله من إغارة الرمال عليه، وهذه الجدران كانت تحيط به من كل الجهات.

وقد كشفنا في أثناء الحفر عن إحدى عشرة لوحة من هذه اللوحات، وكلها من الحجر الجيري الأبيض مستديرة القمة، ويبلغ حجم الواحدة منها على وجه التقريب ٦٥ × ٤٥ سنتيمترًا. وفي كل منها منظر مُثِّل فيه «تحتمس الرابع» إما وحده أو مع زوجه «نفرتاري» يقدمان قربانًا للآلهة المختلفين؛ وهؤلاء هم: (١) رع؛ حور صاحب «سنخو».٥ (٢) «تحوت» سيد «الأشمونين». (٣) «وازيت»٦ سيدة «ب» و«دب». (بوتو) (أي «إبطو» الحالية بمركز دسوق). (٤) والإله «سكر»٧ الإله الأعظم سيد «شتيت». (٥) والإله «آمون رع» سيد «…» والإلهة «سشات» ربة الكتابة. (٦) والإلهة «حتحور» سيدة شجرة الجميز. (٧) والإلهة «حتحور» سيدة «إنرتي» أي بلدة جبلين. (٨) والإله «آتوم» رب «هليوبوليس». (٩) والإله «بتاح» رب الصدق. والإلهة «رننوتت» صاحبة «إيات-تاموت» (وهي ربة الحصاد، ومن المحتمل أنها كانت تُعبَد هنا لتجعل الأرض القاحلة خصبة مثمرة). وهذه اللوحات وغيرها مما كشف عنه لها أهمية خاصة؛ إذ إنها تمدُّنا بقائمة بأسماء الآلهة الذين كانوا يُعبدون في هذه المنطقة.

وعلى الرغم مما يحوم في أذهاننا من شك، وما يعتورنا من سوء ظن، فلا نزاع في أنه قد قام بعمل جليل أكثر مما قام به أي فرعون، لإزالة الرمال عن «بوالهول»، وإصلاح ما حوله، وإن كان قد عمل هذا ليبقى على عرش الملك آمنًا مطمئنًّا.

ولا نزاع في أن كهنة «عين شمس» كان لهم أثر عظيم في تحويل الأنظار عن عبادة «آمون» وإحياء عبادة الإله «رع» ثانية، وبخاصة أن الفراعنة كانوا قد بدءوا يشعرون بقوة سلطان كَهَنة الإله «آمون». وقد كان أول مَن حاربهم، وأراد القضاء عليهم هو «تحتمس الرابع»، الذي بدأتْ في عهده بلا نزاع حركة إعادة عبادة «رع»، وهي تلك الحركة التي انتهت بالإصلاح الشامل الذي تمَّ على يد «إخناتون»، ولدينا من الأدلة ما يُعزِّز هذا الرأي، وبخاصة اللوحة التي عُثر عليها في المعبد الصغير الذي أقامه والده «أمنحتب الثاني» من اللَّبِن، وأقام فيه لوحته المشهورة التي سبق الكلام عنها. وهذه اللوحة قطعة من الحجر مستطيلة الشكل، محاطة بإطار مرتفع ومستطيل داخلي، وطرف اللوحة مستدير من أعلى، غير أنه قد تآكل بعض الشيء.

وهذا الجزء العلوي المستدير يشغله قرص شمس مجنَّح وهو الشكل العادي للإله «حور بحدت»، وقد بَدَتْ فيه ظاهرة غريبة عن الفن والتقاليد المتبعة؛ وذلك أن قرص الشمس بأجنحته المنتشرة والمكتنف بصلين قد زُوِّد بذراعين ويدين آدميتين ممسكتين بطغراء عظيمة كأنهما تحميانه، واسم الملك الذي في الطغراء قد مُحي ولم يبقَ منه إلا كلمة «تحوت»، ونجد على كلا جانبي الطغراء سطرين من النقوش موجودين في كتابتهما جاء فيهما: «ليته يمنح الحياة والسعادة حور بحدت الإله العظيم، سيد السماء المُشرِق من الأفق.» ففي هذه العبارة إشارة صريحة إلى «حور بحدت» ولكن بصورة غير مألوفة. والواقع أن قرص الشمس المجنح يتألف في العادة من قرص الشمس يكتنفه صِلَّان، ومُزوَّد بجناحين، ولكنا لم نعرف قط على حسب ما وصلتْ إليه معلوماتنا أنه كان يُزوَّد بذراعين بشريتين، فهل معنى ذلك أن هذه أول محاولة لنشر مذهب عبادة «آتون» أو أن هذا الرسم كان من نسج خيال المفتنِّ الذي رسم اللوحة؟ ويخيل إليَّ أن النظرية الأولى هي التي تقرب من الحقيقة؛ وذلك لأن اللوحة كانت قد نقشت في عهد ليس ببعيد من عهد انتشار مذهب «آتون»، وأعني بذلك عهد «تحتمس الرابع»، وإذا كان هذا الفرض صحيحًا برهن لنا ذلك على أن «آتون» لم يكن إلهًا أُتِي به من بلاد «سوريا» كما يظن البعض، ولكنه كان إلهًا مصريًّا خالصًا، وأنه في الواقع صورة أخرى من صور إله الشمس الذي نشأ في «هليوبوليس». ولا غرابة في ذلك؛ فإنه قد عثر على جِعْران من عهد هذا الفرعون يُذكَر فيه إله الشمس باسمه «آتون» (راجع: J. E. A, Vol. XVII, p. 23). وقد جاء عليه النقش التالي: «لقد شاهد أمراء النهرين؛ وهم يحملون للفرعون «منخبرو رع» عندما كان خارجًا من قصره وهم يسمعون صوته مثل صوت ابن نوت «أوزير» وقوسه في يده مثل ابن وارث «شو» (أي إله الأرض جب) (وبذلك يتحدث النقش عن الملك بوصفه ابن «جب» و«نوت» على حسب الآراء التقليدية). وإذا أيقظ نفسه للقتال «وآتون» أمامه، فإنه يُخرِّب الجبال ويطأ الأراضي الأجنبية زاحفًا إلى «نهرين» وإلى «كاراي» (آخر الحدود الجنوبية) ليُخضِع سكان الأقاليم الأجنبية مثل رعاياه لحكم «آتون» أبد الآبدين.»
ولا نزاع في أن ما جاء على هذا الجِعْران بالإضافة للرسم الذي ظهر على لوحة الجيزة له أهمية عظمى من الوجهة التاريخية. حقًّا أن الباحثين قد زعموا من قبلُ أن الثورة الدينية والفنية التي قام بها «إخناتون» تضرب بأعراقها إلى عهد «تحتمس الرابع» غير أن البراهين التي ذُكرت لإثبات هذه الحقيقة لم تقم على أدلة أصيلة كالبرهانين اللذين قدمناهما الآن. وهذه البراهين الثانوية على الرغم من أنها ليست قاطعة، فإنها تقوِّي النظرية التي قدَّمناها وهاكها:
  • (١)
    يشير «إخناتون» على إحدى لوحات الحدود بأنه كان يحارب كهنة «آمون» (راجع: Davies, “El Amarna”, V, p. 31).
  • (٢)
    يُشاهَد على قطعة حجر من «تل العمارنة» «إخناتون» يقدم قربانًا للإله «آتون»، وقد وصف هذا الإله بأنه يقطن بيت الفرعون «منخبرو رع» في بيت «آتون» في «إخناتون» (راجع Schafer, “Altes und Neues zu Kunst und Religion von Tell el Amarna”, A. Z., LV p. 33).
  • (٣)

    تشبه صور تماثيل المجاوبين التي وُجدت للملك «تحتمس الرابع» تماثيل المجاوبين التي عُملت «لإخناتون» في كونها لم يُنقش عليها إلا اسم الفرعون وحده، وقد خلت من كل نقش سحري، وهذا ما لا يوجد على تماثيل مجاوبين لأي ملك آخر.

  • (٤)
    يدلُّ فنُّ عهدِ «تحتمس الرابع» على أنه عصر فنٍّ جديد ينزع في صوره إلى محاكاة الطبيعة والواقع … إلخ (راجع Davies, “M. M. A. XVIII, (Dec. 1923) II, p. 40ff.; and Frankfort, “The Mural Paintings of El Amarna”, Pl. 29).
  • (٥)
    عُثر على قِطَع آثار عليها اسم «تحتمس الرابع» في «تل العمارنة» (راجع Frankfort, ibid).

وعلى أية حال، فلدينا فيما تقدِّمه هذه اللوحة وهذا الجِعْران برهان قاطع على أن «آتون» قد مثَّله لنا «تحتمس الرابع» في صورته التي ظهر بها فيما بعدُ بالأيدي المتدلِّية منه معطية أشعة الشمس كما جاء على اللوحة، بل كذلك قد ميَّزه باسمه عن إله الشمس كما جاء على الجِعْران، وكذلك عَبَدَه بوصفه إلهَ حربٍ نَصَرَه على أعدائه، وضمن له السيادة على سائر العالم جاعلًا كل الإنسانية رعايا لقرص الشمس. ولا نزاع في أن هذا الجِعْران قد نُقش تذكارًا لانتصار الفرعون على الأعداء في حرب في «آسيا» لم يُعيَّن على وجه التأكيد تاريخُها. وهذا النوع من الجعارين كان منتشرًا في هذا العصر، كما سلف الكلام عنه في عهد «تحتمس الثالث».

أما عن ديانة «إخناتون» وكيفية نشوئها وانتشارها فقد فصَّلنا القول في ذلك في فصل خاص كما سيجيء بعدُ.

ومن كل ما سبق نستطيع أن نستخلص أن «تحتمس الرابع» قد أقام لوحته الأولى والثانية لغرضين؛ الأول: ليُبرِّر اعتلاءَه عرش المُلْك بِرًّا منه بوعده للإله «بوالهول» الذي كان يمثل إله الشمس، والذي منَّاه بتولِّي عرش الفراعنة الذين يَعُدُّ كلٌّ منهم نفسَه وارثَ «رع» في أرض الكنانة. والثاني: لينفذ فكرة إعادة عبادة الإله «رع» في صورته الجديدة التي بدأتْ تأخذ شكلًا خاصًّا في أذهان الفراعنة. وتنمو تدريجًا حتى أخذت صورتَها النهائية في عهد «إخناتون» كما سنرى بعد.

ومما هو جدير بالملاحظة هنا اسم «خفرع» الذي يُنسب إليه نحت تمثال «بوالهول» قد ذُكر في نقطة مهشَّمة من لوحة «تحتمس الرابع» الكبرى، ولذلك لا يمكننا أن نفضي بأي رأي عن سبب ذكره هنا. وكل ما يمكن إثباته في هذا الصدد هو أن «تحتمس الرابع» لم يَرْعَ حُرْمة معبد «خفرع»؛ إذ إن قطعة الحجر التي نُقشت عليها اللوحة كانت مغتصَبة من أحد جدران معبده الذي أقامه لهذا الإله بعينِه، ومن المحتمل جدًّا، أن «تحتمس الرابع» نفسه لم يعرف كثيرًا عن هذا المعبد الذي كان مطمورًا في الرمال عندما أقام لوحته أمام تمثال «بوالهول».

(١) حروب تحتمس الرابع

يدل ما لدينا من الوثائق حتى الآن على أن «أمنحتب الثاني» لم يَقُمْ بحروب بعدَ حملته الثانية المؤرخة بالسَّنَة التاسعة من حُكْمه، والظاهر أنه قضى البقية الباقية من حياته في هدوء وسكينة ملتفتًا إلى تنظيم أحوال البلاد الداخلية. وفي هذا الوقت حدث تقدم جديد في الفتح من جانب مملكة «متني» في شمالي «سوريا»، والظاهر أن المصريين لم يقوموا بمحاولة لصدِّه، وفضلًا عن ذلك عقدت معاهدة مودة وصداقة بها نظمت الحدود بين البلدين.

ولما تولى «تحتمس الرابع» الحكم قام بحملة على شمالي بلاد سوريا (نهرين)، غير أن الوثائق المباشرة التي تحدثنا عن هذه الغزوة لم يُكشَف عنها بعد. ولا بدَّ أنها قد دُوِّنت على لوحة أو لوحات كما كان يفعل والده وجده العظيم «تحتمس الثالث»، غير أنه قد ترك لنا قائمة بالقرابين التي قدَّمها للإله في معبد «الكرنك» بعد عودته من انتصاراته في هذه الأصقاع، وقد أشار فيها إشارة عابرة تدل على قيامه بالحملة الأولى في تلك الجهة، فقد ذكر أن بين القرابين أشياء قد استولى عليها جلالته من بلاد «نهرين» … الخاسئ في حملته الأولى المظفَّرة (راجع Mariette, “Karnak”, p. 32; Breasted, A. R. II, § 816).
وقد أشار إلى أخبار هذه الحملة أحد رجال حرس الفرعون المسمَّى «أمنحتب» في نقوش لوحة قبره (راجع Breasted, A. R. II, § 818; Sharpe, “Inscriptions”, I, p. 93).

حيث يقول: «تابع الفرعون في حملته في الأقاليم الجنوبية والشمالية، ذاهبًا من «نهرين» إلى «كاراي» في ركاب جلالته عندما كان في ساحة القتال، ورفيق قدمي سيد الأرضين، ورئيس إصطبل جلالته، وكاهن الإله «أنوريس» الأكبر «أمنحتب المرحوم».»

ومعلوماتنا عن نتائج هذه الحملة أنه قد أَخمَد كل الثورات التي قام بها الأمراء التابعون له، ثم عاد عن طريق «لبنان»؛ حيث أجبر الأمراء هناك على تقديم مقدار عظيم من خشب الأرز لبناء سفينة «آمون» المقدسة. ولما وصل إلى «طيبة» أسَّس مستعمرة للأسرى الذين أحضَرَهم على ما يظهر من «جيزر» «بفلسطين» في ساحة معبده الجنازي الذي أقامه بجوار معابد أجداده على ضفة «طيبة» الغربية.

ويؤكد ما ذكرناه ما جاء في مناظر قبر «خع أم حات»،٨ الذي كان يُعدُّ من كبار أشراف هذا العصر، كما كان رئيس الخزانة في عهد «تحتمس الرابع» و«أمنحتب الثالث». ومن بين مناظر قبره منظر من عهد «تحتمس الرابع» يُرى فيه هذا الفرعون جالسًا في محراب من جهة الشمال، وخلفه أوانٍ من الصناعة الآسيوية الفاخرة من الذهب والفضة، وكميات عظيمة من هذين المعدنين في هيئة حلقات، وخلف هذه يُشاهَد أمراء آسيويون منحنين حتى الأرض، وقد نُقش فوقَهم المتن التالي: «إحضار جزية «نهرين» بأمراء هذه البلاد لأجْل أن يُلِحُّوا في طَلَب مَنْحِهم نفس الحياة. الخضوع لرب الأرضين العظيم، عندما يأتون حاملين جزيتهم لرب الأرضين قائلين: امنَحْنا النفس الذي تعطيه يا أيها الملك العظيم.»
وكذلك نجد منظرًا مماثلًا في مقبرة الضابط «ثانني» يرجع إلى عهد هذا الفرعون، وقد جاء فيه: (راجع Scheil, “Tombeaux Thebains”, Mission Arch. Franç. V. p. 601). «إحضار جزية بلاد «رتنو» وتقديم الأقاليم الشمالية، الفضة والذهب والفيروزج وكل حجر ثَمِين من أرض الإله من أمراء كل الأقطار. لقد حضروا ليُقدموا هدايا للإله الطيب وليلتمسوا نفسًا لأنوفهم بوساطة كاتب الفرعون الحقيقي ومحبوبه قائد الجنود وكاتب المجندين «ثانني».»
وقد أقام هذا الفرعون لوحة صغيرة في معبده الجنازي في طيبة الغربية تحدثنا عن استيطان السوريين ساحة المعبد المسوَّرة: «استيطان قلعة «منخبرو رع» بأهل «خارو» الذين أسرهم جلالته في بلدة «غزا» جيزر.» (راجع Petrie, “Six Temples”, I, p. 7). وخشب الأرز الذي أحضره جلالته ذكر على المَسلَّة القائمة الآن في «روما»؛ حيث يُشير الفرعون إلى خشب الأرز الذي قطعه في بلاد «رتنو» (راجع Breasted, A. R. II § 838)، وكذلك جاء ذكره على لوحة «سمن» Smn المحفوظة بمتحف «اللوفر» (راجع De Rouge, “Notice de Monuments”, p. 153. And Text, Brugsch, “Thesaurus”, VI, 1461, No. 113. Louvre C-202).

وفي هذه اللوحة قد ذُكر هذا الفرعون مرتين أنه فاتح «سوريا» مما يدل على أنه قام في هذه الجهات بحروب مظفَّرة.

والظاهر أن الفرعون لم يَكَد يستقر به المقام في عاصمة مُلْكه حتى اضطرته للقيام ثانية الثورات في بلاد «واوات»، وقد كان في تلك الآونة مشغولًا بالاحتفالات بعيد معبد «طيبة» في اليوم الثاني من شهر «برمودة» عندما وصل إليه خبر العصيان الذي اندلع في «واوات». ففي اليوم الثاني ذهب الفرعون في الصباح المبكر في موكب حافل ليستخير الإله ويتلقَّى منه الوحي بما عساه أن يفعل وقد بُشِّر فعلًا بالنصر. وقد قامت الحملة نحو الجنوب في سفن أُعدَّت لها، وكان الفرعون يضرب مرساه في طريقه عند كل معبد عظيم؛ حيث كان الآلهة يخرجون لاستقبال جلالته ويشدُّون أزره لملاقاة العدوِّ في ساحة الوغى، وبخاصة الإله «ددون» إله تلك البقاع الخاص، وقد الْتقى الفرعون بالعدو في مكان ما في بلاد «واوات» وانتصر عليه وعاد بأسلاب كثيرة، وقد وَضَع الفرعون الأسرى الذين استولى عليهم وعاد بهم من تلك الجهات في معبده الجنازي في «طيبة» الغربية، وقد عُلِّم المكان الذي وضع فيه هؤلاء الأسرى بلوحة نُقش عليها: «مستعمرة أهل بلاد «كوش الخاسئة»، وهم الذين ساقهم جلالته من انتصاراته.» وهاك نص لوحة «كونوسو» التي تُحدِّثنا عن هذه الحملة (راجع L. D. III, Pl. 69e):

يعيش «حور». (ثم يأتي بعد ذلك ألقاب الفرعون) مَلِك الوجه القبلي والوجه البحري «منخبرو رع» معطي الحياة مخلدًا. السنة الثامنة، الشهر الثالث من الفصل الثاني، اليوم الثاني.

إعلان العصيان

تأمل! لقد كان جلالته في المدينة الجنوبية في بلدة «الكرنك»، وقد كانت يداه مطهرتين بطهور ملك، وقد أدَّى الاحتفالات التي تَسُرُّ والدَه «آمون» لأنه وهبه الأبدية والخلود بوصفه ملكًا موطَّدًا على عرش «حور». وقد حضر إنسان ليقول لجلالته: إن الأَسْوَد قد انقضَّ من أعالي «واوات»، وقد دبر العصيان على مصر. وقد جمع لنفسه كل المتوحِّشين وعصاة الأقاليم الأخرى.

وحي آمون

فذهب المَلِك في سلام إلى المعبد وقت الصباح ليجعل القربان العظيم يقدم لوالده المصور لجماله. تأمل! لقد أتى الفرعون نفسه أمام حاكم الآلهة «آمون» لينصحه في أمر ذهابه … وليخبره عما سيحدث له، مرشدًا إياه إلى الطريق السوي ليفعل ما يرغب فيه، كما يتكلم والد لابنه … وقد خرج من عنده فَرِح القلب … لأنه شيَّعه بالقوة والنصر.

سير الحملة جنوبًا

وبعد ذلك سار جلالته ليَهزِم السُّود في بلاد «النوبة» وهو قوي البأس في سفينته … مثل «رع» عندما يشرق في سفينته السماوية … وجيشه الذي ينتصر به كان معه على كلا الشاطئين في حين كان المجندون الجدد على شاطئ واحد، وكانت السفينة (أي السفينة الملكية) مجهزة بالجرس عندما كان الفرعون يسير نحو الجنوب مثل «نجم الجوزاء»، وقد أضاء الجنوب بجماله. وكان الرجال يهتفون لما رأَوْا من شفقته، والنساء يرقصْنَ للرسول (؟) وقد كان الإله «منتو» في «أرمنت» يحفظ كل عضو من أعضائه والإلهة «أر رتي» كانت قائدته (أمامه)، وكل إله في الجنوب كان يحمل … أمامه. والإلهة «نخبت» البيضاء صاحبة «الكاب» كانت تزين رأس جلالته بعصابتي، ويداها كانت خلفي (لحمايته) وقد غلت لي الأقواس التسعة جميعًا … ورسوتُ عند مدينة «إدفو»، وقد خرج إلى الإله الجميل لمقابلة الفرعون مثل الإله «منتو» في كل صوره ممتشقًا أسلحته وعدته وهائجًا مثل الإله «ست» صاحب «كوم أمبو» …

الواقعة

وقد جاء إليه جيشُه العظيم العدد … بسيفه الجبار، وقد استولى الرعب منه على كل نفس، وقد وضع الإله «رع» الرعب منه بين كل الأراضي مثل «سخمت» في سنة الندوة (الوباء)، وقد سار بعربته في داخل الهضبة الشرقية، وشقَّ الطرق كأنه الفهد … وقد وجد كل أعدائه مبعثرين في الوديان الوعرة المسالك …

وهذا الوصف للموقعة ربما نَجِده مصوَّرًا على عربة حربه التي بقي لنا جزء منها؛ إذ نشاهده على عربة حربه هذه ومعه قوسه (وبلطة) حربه مثل الشبل يُودي بأعدائه (راجع صورة هذه العربة في Carter and Newberry, “The Tomb of Thoutmosis IV”, p. 24, & Pls. IXff).

(٢) آثار تحتمس الرابع

بقي «تحتمس الرابع» في استغلال مناجم شبه جزيرة «سينا» على غرار سلفه، فقد وُجد اسمه على بعض المباني والصور هناك (راجع Petrie, “Researches in Sinai”, p. 107, 156, 157, ibid. fig. 148, 8; Gardiner and Peet, “Sinai”, I, Pls. VIII, 208. XII, 207).
وفي منف وجد له عقد (بوابة) عليه اسمه (راجع Quibell, “Excavations at Sakkara,” (1910) p. 3).
ومحراب على لوحة (راجع Petrie, “Memphis”, VI, Pl. IV, p. 12) وقطع أساس (راجع A. S. III, p. 25).
وفي كوم الحصن وُجد له جِعْران جميل الصنع في الحفائر التي عُملت في هذه الجهة حديثًا (تقرير مصلحة الآثار)، وفي العرابة المدفونة عثر له على جذع تمثال من الحجر الجيري الأبيض السليسي وقد كتب الاسم على الحزام (Mariette, “Abydos”, p. 350).
وفي «دندرة» لا تزال توجد في المعبد قطعة من آثاره كتب عليها اسمه (راجع Brugsch and Dumichen, “Recueil de Monuments Egyptiens” (Leipzig 1865–1885)).
أما في الكرنك فلا تُعرف مبانٍ أصلية لهذا الفرعون، ولكنه نقش مناظر أُضيفت للبوابة الرابعة، وقد اختفت العارضة الجنوبية (والعتب) أما العارضة الشمالية فتوجد نقوشها على جانبيها الغربي والشمالي؛ ويقول «مريت»: على أية حال إن هذا الجزء قد أعاد نقشَه الملك «شباكا» (راجع Mariette, “Karnak”, p. 28; L. D. III, Pl. 69d).
وكذلك نَقَش هذا الفرعون قائمة بالعطايا التي قدَّمها «لآمون» بعد عودته من حملته الأولى في بلاد «آسيا» على الواجهة الشرقية للحائط الذي أقامه «تحتمس الثالث» حول مسلة «حتشبسوت» ليُخفِي نقوشَها، وكذلك ذكر تماثيل لجدِّه وله، كما أقام تمثالًا ضخمًا لنفسه أمام (بوابة) «تحتمس الأول» (Wiedemann, “Geschichte”, p. 378).
وكذلك عُثر له على تماثيل في «الكرنك» (راجع Legrain, “Statues”, 42080-1).
وفي «الأقصر» عُثر له على لوحة (راجع Lacau, “Cat. Stele”, No. 34021).
وفي «القرنة» أقام لوحة لوالده «أمنحتب الثاني» (راجع A. S. IV, p. 128–32).
ولوحة يتعبد فيها للإلهة «أرايتيس» Arathis (راجع Petrie, “Six Temples”, Pl. VIII).

وكذلك أقام في «القرنة» معبده الجنازي، ولكنه خُرب ولم يَبقَ منه الآن إلا بعض بقايا من القطع التي عليها نقوش. وكذلك عُثر على جزء من رأس ضخم له.

وفي الأقصر نجد صورة الملكة «موت مويا» زوج هذا الفرعون ممثَّلة مع ابنها العظيم في طفولته، ولكنا لا نجدها مع الملك؛ وذلك لأن الفرعون «أمنحتب الثالث» تُنسَب أُبُوَّتُه مباشرة للإله «آمون» (راجع “Mission Arch. Franç.” XV, Figs. 203-4).
وقد بدأ هذا الفرعون إقامة معبد مدينة «الكاب» وأتمَّه وحدَه، وهو الذي يقول فيه: «تأمل! لقد عُمل هذا لجلالة الملك «ماعت نب رع» المُجمِّل آثارَ والده الإله الطيب «منخبرو رع»، المسمى الخالد الأبدي (L. D. III. Pl. 80b)».
وفي «أسوان» وُجدت لوحات عليها اسمه (راجع De Morgan, “Cat Mon.” PP. 66, 73, 45, 90, 84).
وفي «إلفنتين» نُقش اسمه على بعض قطع من المعابد (راجع De Morgan, Ibid, p. 115).
وفي «أمدا» ذُكر اسمه في نقوش المعبد (راجع Weigall, “Lower Nubia” Pl. IV, 2).
وفي «حلفا» وجدت لوحات عليها اسمه (راجع P. S. B. A., (1894) 17, 18).
وكذلك ذُكر اسمه في معبد «بوهن» (راجع Maciver and Woolley, “Buhen”, p. 96).
وكذلك وُجد اسمه في «أريكا» (راجع Maciver and Woolley, “Areika”, p. 5).
وفي «كونوسو» أربعة آثار من حكم هذا الفرعون نشاهده فيها يضرب السود أمام آلهة «النوبة» «ددون» و«حي»، وخلفه تقف ملكة تُلقَّب بالبنت الملكية والأخت الملكية والزوجة الملكية (راجع L. D. III, Pl. 69b). واسمها كُتب بصورة الصل على علامة «نب» ويُقرأ «عرات»، ولمَّا كانت هذه هي المرة الوحيدة التي ذُكر فيها اسمها فمن المحتمل أن يكون هذا رمزًا للملكة المؤلَّهة، ويمكن أن يشير إلى الملكة «موت مويا». وخلافًا لذلك يوجد نقش طويل نُشر منه عشرون سطرًا … إلخ، كما ذكرنا آنفًا.
وفي أمدا Amada يوجد لهذا الفرعون أعمال كثيرة، فقد ذُكر اسمه على عقود (بوابات) المعبد (Champollion “Notices”, 96–100. (L. D. III, Pl. 69f)).
وكذلك نُشر له مناظر (L. D. III, Pl. 69, g, h, i). وكذلك توجد صورة الفرعون (راجع Champollion, “Monuments”, 45, 6).
وله آثار عِدَّة في جبل «بركل» Reisner, “The Barkal Temples in 1916”, J. E. A. (1918) p. 100. فقد أقام معبدًا لا تزال بقاياه هناك.
أما آثاره الصغيرة فله أشياء كثيرة؛ منها لوحة من أثاث قصره من المرمر (راجع University College)، وفي أبواب الملوك وُجد له إناء من المرمر. (راجع Nash, “Notes on Some Egyptian Antiquities”, P. S. B. A., XXIX, p. 175).
أما جَعَارِينُه: فيوجد منها عدد عظيم أهمُّها واحد رُسم عليه صورة ابنه الأمير «تحتمس» (راجع Tyzkiewicz Coll.; Wiedemann, “Geschichte”, p. 378). كما يوجد له جعارين نُقش عليها جُمَل مديح مثل «تحتمس الرابع» الغني المظاهر، أو «فخار كل الأراضي» أو «مؤسس الآثار». وقد عُثر له كذلك على خاتم من الفخَّار المطلي، وهو أقدم ما عُثر عليه من هذا النوع (راجع Petrie, “History”, II, p. 171, figs. 107, 108, 109). وله جِعْران (راجع Chassinat, “Note sur Deux Scarabees”, Rec. Trav. XXXIX, p. 110). وتعتبر الأعمال الخاصة التي عُملت في هذا العهد أدقَّ صنعًا من الآثار العامة الباقية.

(٣) أسرة الفرعون «تحتمس الرابع»

يحيط بأسرة هذا الفرعون شيء من الغموض والإبهام لقلة المصادر التي توضح لنا معرفتها بصورة جلية، وكل ما نعرفه من النقوش التي وصلت إلينا أنه تزوج من ثلاث نساء، أهمُّهن الملكة «موت مويا»، ومعنى الاسم الإلهة «موت» في السفينة المقدسة.

آثار «موت مويا»: ومن الآثار التي تُنسب إليها سفينة مقدسة نُحتت من الجرانيت الجميل، طولها سبعة أقدام، وقد نقش عليها اسمها وألقابها (راجع B. Mus. Arundale and Bonomi, “Gallery”, p. 34). ومن المحتمل جدًّا أن هذه السفينة كانت في الأصل موضوعة في معبد ابنها «أمنحتب الثالث» بالأقصر (راجع “Mission Arch. Franç”, XVI. p. 63–67).
وكذلك عُثر لها على تمثال ضخم في «دندرة» (راجع Weigall, “Guide” p. 34). كما يوجد لها رأس من الجرانيت (راجع Budge, “Sculpture”, p. III). أما زوجه الثانية فهي «نفرتاتي»، وقد عُثر لها على جِعْران موجود الآن في مجموعة «بتري» وفي «ينفرستي كولدج» (راجع Petrie “Scarabs and Cylinders”, XXX). وزوجه الثالثة تُدعَى «عرات» وتُلقَّب الابنة الملكية والأخت الملكية والزوجة العظيمة (L. D. III, Pl. 69e).
وقد سُمِّيت بهذا الاسم تبرُّكًا باسم الإلهة السورية «أراثيس» Arathis (راجع Justen XXXVI). أما أولاد تحتمس الذكور فلا نَعرِف منهم إلا ثلاثة غير «أمنحتب الثالث» الذي خلفه على العرش. أولهم: «تحتمس» الذي عُثر له على تمثال صغير (راجع Benson and Gourlay, “Temple of Mut in Asher”, p. 328)، أما الثاني: فيُدعَى «أمنمأبت» وقد عُثر له على بطاقة باسمه (راجع P. S. B. A., XXV, 360)، وكذلك جاء ذكره في قبر «حور محب» (راجع Mission Arch. Franç. V, p. 434, Pl. II)، وابنه الثالث: يُدعَى «أمنمحات»، ويوجد له في المتحف البريطاني أواني أحشاء (راجع Cairo Mus. 46037–9)، وجاء ذكره في قبر والده «تحتمس الرابع» (راجع Carter and Newberry, “Tomb of Thothmosis IV”, p. 6).

(٣-١) بناته

تَرَك هذا الفرعون عِدَّة بنات عُرف منهن تسع، جاءت أسماؤهن على بطاقات من الخشب، وقد كُنَّ يُنسَبْنَ خطأً للمَلِك «تحتمس الثالث»، ومن المحقق الآن أن والدهن هو «تحتمس الرابع» (راجع Birch, “Two Rhind Papyri” Pl. XII; A. Z. XXI, p. 142). وله ابنة غير هؤلاء الإناث تُدعَى «توت آمون» Theutamon وُجِد لها أواني أحشاء (راجع Cairo Museum)، كما ذكر اسمها في قبر والدها «تحتمس الرابع» (راجع Carter and Newberry, Ibid). وله ابنة أخرى تُدعَى «تاعا»، وُجد لها أواني أحشاء (راجع P. S. B. A., XXV, 359)، كما ذُكر اسمها في قبر «حامل خاتم» (ibid 359).

(٤) وفاة «تحتمس الرابع»

fig2
شكل ٢: تحتمس الرابع وزوجه «تي عا».

والظاهر أن آخر عمل صالح قام به «تحتمس الرابع» هو إقامة مسلة جده «تحتمس الثالث» التي نقشها وبقيت مُلقاةً في مكانها خمسة وثلاثين عامًا، كما ذكر لنا «تحتمس الرابع» نفسه (راجع الجزء الرابع)، ثم صعد بعدها إلى السماء وهو لا يزال أخضر العود غضَّ الإهاب، وكانت مدة حكمه لا تزيد على ثمانية أشهر وتسعة أعوام، كما ذكر لنا «مانيتون»، وقد دُفن في مقبرته التي أعدَّها لنفسه في وادي الملوك، ثم نُقل منها في عهد الفوضى التي حدثت في نهب قبور الملوك والعظماء في أثناء البحث عن الكنوز في عهد «رعمسيس التاسع»، وقد أُودع هو وابنه العظيم وغيرهما من الفراعنة العظام في قبر «أمنحتب الثاني»، وبقي في هذا المكان إلى أن كَشَف العالِم «لوريه» عن قبر الأخير في عام ١٨٩٨م. أما قبره هو فكان أول سلسلة من القبور الملكية التي كَشَف عنها «ثيدور ديفيز» وفُتح في عام ١٩٠٨. وكان بطبيعة الحال قد نُهب في الأزمان القديمة، ولكن مع ذلك وُجد فيه عِدَّة قِطَع أثاث لها أهميتها، وبخاصة عربة حربه التي كُسِي جزؤها الخشبي بالكتان ووضع عليه طبقة من الجص نُقش عليها مناظر حرب بالنقش الغائر. وتُعدُّ من أحسن القطع الفنية التي ورثناها من عهد الإمبراطورية المصرية، وبخاصة رسم أول موقعة حربية عرفناها من عهد الإمبراطورية. وعلى الرغم من أن مدة حكم هذا الفرعون كانت قصيرة المدى فإن مصر بدأت في عهده سياسة جديدة عادت على البلاد في المستقبل بنتائج مباشرة وغير مباشرة على أعظم جانب من الأهمية في مد سلطانها وتكوين إمبراطوريتها العظيمة. وتلك كانت سياسة التحالف التي عُقدت بين «مصر» وبلاد «متني»، وهي التي قد وطدت أركانها بزواج الفرعون من أميرة «متنية» الأصل. وهذه أول مرة نعرف فيها أن ملكًا مصريًّا تزوج من أميرة أجنبية.

وقبل أن ننتقل إلى حكم العاهل العظيم «أمنحتب الثالث» يجدر بنا أن نُلقِي نظرة عامة عن علاقة «مصر» بالدول المجاورة التي كانت قد أخذت تَظهَر في الأفق بصورة بارزة.

(٥) علاقات مصر بالدول المجاورة

لقد كان من جرَّاء توطيد سلطان مصر في أنحاء الإمبراطورية التي أسَّسها «تحتمس الثالث» بحدِّ السيف، ثم حافظ على كيانها من بعده ابنه «أمنحتب الثاني» بما أوتي من قوة وعزيمة أنْ ساد السلام بعد حكمهما جيلين من الناس. وتدل شواهد الأحوال على أنه لم يَدُرْ بخَلَدِ أيِّ عاهل جاء بعدهما توسيعُ رقعة إمبراطوريته بعد «نهر الفرات» في داخل آسيا. وقد خلقَ هذا الجوُّ العالَمي الذي كان يَسودُه روحُ السلام علاقاتِ الوُدِّ والمُهادنة بين الفراعنة وملوك الأمم العظيمة المجاورة للعاهلية المصرية؛ ولذلك كانت المراسلات التي تَدُور بين مصر والأمم التي حَوْلَها مُفعَمة بالمَحبَّة الخالصة والوُدِّ الصادق، حتى إن فرعون مصر كان يُخاطب أندادَه كما يخاطب الأخُ أخاه والصديقُ الحميمُ صديقَه، حتى ارتفعت بينه وبينهم كل التكاليف الرسمية. ولذلك نقرأ في المكاتبات التي كانت تدور بينه وبينهم أن الفرعون كان يرجو لهم كل خير، كما كانوا يحبونه راجين له كل فلاح. ولكل أهل بيته وعظماء دولته وحتى خيله وعرباته وبلاده كل خير وسعادة. ولقد كانت هذه المجاملات بين الفرعون وأصدقائه من ملوك الأمم الأخرى مَرْعيَّة لدرجة عظيمة جدًّا، حتى إن ملك بابل المسمى «بورنابورياش» Burnaburias عتب على «أمنحتب الرابع» وعلى زوجه «نفرتيتي» في رسالة مُظهِرًا ألَمَه الشديد لإهمالهما السؤال عنه وهو طريح الفراش. وقد جاء ردُّ فرعون مصر على هذا العتب رقيقًا مهدِّئًا لخاطر صاحبه؛ إذ اعتذر إليه في أدب جمٍّ قائلًا: «إنه لم يعلم بمرضه، وإن بُعْد الشُّقَّة بينهما كان السبب الوحيد في عدم معرفته المرض الذي أصابه.» (راجع Mercer, “The Tell Amarna Tablets,” Vol. I. p. 21. No. 7).
وقد كانت العادة المتبعة في المراسلات بين هؤلاء الملوك أن تبدأ الرسالة بذكر اسم المُرسَل إليه ثم يُذكر اسم المُرسِل بعدُ، غير أنه عُثر على خطاب جاء فيه لَفْتُ نظر لمراعاة آداب الكتابة في هذه النقطة. ولكن مما يُؤسف له جدَّ الأسف أن الرسالة وصلتْ إلينا مهمشَّة، فلم نَقِف على حقيقة محتوياتها ومراميها (راجع Am. 42, 15). فقد جاء فيها لماذا وضعتَ اسمَك فوق اسمي؟ غير أننا لا نعلم علاقة ذلك بما جاء في باقي الرسالة.

(٥-١) المصاهرة

وكان من أهم روابط الوُدِّ والمُصافاة بين ملوك هذا العصر المصاهرة، غير أنها لم تَقُمْ على قَدَم المساواة بين مصر وجيرانها وحليفاتها على وجه عام. وذلك أن ملوك مصر كانوا يستحلُّون لأنفسهم الزواج من بنات الملوك حلفائهم. وفي الوقت نفسه كانوا يُحرِّمون بناتِهم على الأمراء الأجانب مهما كانت منزلتُهم ومهما عظُم سلطانُهم. ولقد كانت العادة المتبعة في عهد ملوك الأسرة الثامنة عشرة، وبخاصة في عهد النصف الثاني من حُكْم فراعنتها أن يتزوَّج الفرعون عند اعتلائه العرش من بنت أو أخت أحد الملوك العظام المُصادقين له. وقد ضَرَب «أمنحتب الثالث» الرقم القياسي في هذا المضمار، إذ كان من بين نساء قَصْرِه عِدَّة غانيات من الأميرات الأجنبيات اللائي بَنَى بهن. فنعلم أنه تزوج من أخت مَلِك بابل المسمى «كاداشما نخرب» ثم بَنَى بأخته أيضًا، وكذلك تزوج من أخت ملك متني «دوشرتا» ثم من أخته هذا، إلى أنه تزوج من بنت ملك «أرزاوا» المسمى «تارخونداراب» وهو أحد أمراء سوريا. وعلى الرغم من إسرافه في التزوج بأجنبيات لم يرضَ أن تكون واحدة منهن مَلِكة شرعية على عرش البلاد. بل تزوج من إحدى بنات الشعب وفضَّلها على كل الأجنبيات متخذًا إياها ملكة شرعية على أريكة مصر.

ولما سولت نفسُ مَلِك بابل المسمى «كاداشمان إنليل» له أن يطلب الزواج بأميرة مصرية، كان جواب الفرعون «أمنحتب الثالث» له أن قال: «إنه منذ القِدَم لم تُعطَ بنتُ فرعون إنسانًا.» فأجابه مَلِك بابل على هذا قائلًا: «لماذا؟ إنك مَلِكٌ، ولك أن تفعل كما يحب قلبك، فإذا أعطيتَنِيها (أيِ الأميرة المصرية) فمَن ذا الذي يجسر أن يَنْبِسَ بأية كلمة؟ وإذا لم تُرسِل أحدًا فإن ذلك يعني أنك لا ترعى أية حرمة للإخاء والصداقة … ولأي سبب لا يرسل لي أخي زوجة؟ وإذا لم ترسل أحدًا فإني سأفعل مثلك وأمتنع عن إرسال زوجة لك.»٩
والواقع أن الفرعون المصري على الرغم مما بينه وبين ملك «بابل» من علاقة طيبة كان يأبَى أن تتضاءل نفسه وتنزل من عليائها ويجعل الدم الإلهي المصري يختلط بدم أجنبي آخر خارج بلاده. ومع أن هذا الامتناع من جانب الفرعون كان يغضب أحيانًا أصدقاءه من الأمراء جيرانه، إلا أنه كان من جهة أخرى في يده سلاحًا آخَرَ قهارًا يجعلهم يأتون إليه صاغرين مُتزلِّفين. بل كان يجعلهم طَوْعَ بنانه، ذلك السلاح هو الذهب الذي كانت تزخر به «مصر» وتجمعه من ممتلكاتها بالقناطير المقنطرة، وقد كان نادرًا في البلاد الأخرى، مما جعل الأمراء يتهافتون للحصول عليه، فقد كتب «دوشرتا» ملك «متني» للفرعون يقول: «إن الذهب في مصر مثل التراب في غزارته.» من أجْل ذلك كان يُلحُّ في طلبه ليرسل إليه الفرعونُ ذهبًا لا يُحصى (راجع Mercer, Ibid: 19, 61; 20, 52, 71; 26, 41, 20, 136)، وكذلك كان مَلِك «بابل» يلتمس من الفرعون دائمًا، بل يُلحِف في طلب الذهب لإنجاز ما كان يقوم به من الأعمال. ومن الغريب أن أحد هؤلاء الملوك كان يَحرِص على أن يكون ما يُرسَل إليه من الذهب في شكل سبائك ليَعرِف مقدار صفائه وعدم غشِّه. والواقع أن كثيرًا من أولئك الملوك قد شَكَوْا من الذهب الذي أرسله الفرعون إليهم، محتجِّين بأنه لم يكن ذهبًا نُضَارًا، بل كان يحتوي عناصر أخرى تُقلِّل من قيمته (راجع Am. 7, 70; 10, 18). وكان ملك «آشور» يطلب الذهب ليستعمله في زخرف مباني قصره وتزيينه (راجع Am. 16, 14ff: 19ff).
أما ملك «ألاشيا» (قبرس)، فكان متواضعًا في طلباته؛ لأنه كان يَعُدُّ نفسَه من أتباع الفرعون؛ ولذلك كان يطلب إليه فضة، ثم يُلِحُّ في طلب زيت لشدة حاجته إليه في بلاده. وفضلًا عن ذلك كان تيار تبادل الهدايا بين ملوك «آسيا» «ومصر» لا تنقطع أسبابه، ولا أدلَّ على ذلك من القوائم المملوءة بأنواع السلع المتبادَلة بين ملوك مصر وملوك آسيا العظام. وقد جاءت هذه القوائم مفصَّلة مبيَّنًا فيها مقادير الهدايا كما ذُكرت لنا أسماء القُوَّاد الذين كان يُكلَّفون حملَها. وكذلك ذُكرت فيها أسماء الغواني اللائي كُنَّ يُرسَلن هدايا للفرعون. ومن هذه القوائم نعلم أن «بابل» كانت مختصة بإرسال «اللَّازَوَرْد الأزرق» الذي كان المصري يَعُدُّ الحصولَ عليه مغنمًا عظيمًا لندرته في بلاده. أما «قبرص» فكانت بالإضافة إلى ما تُصدِّره من سِنِّ الفيل تَشحِن إليها الأخشاب والحبوب وكميات عظيمة من النحاس الذي كان يوجد فيها بمقادير وفيرة، وتقصُّ علينا الآثار أن مقدار النحاس الذي كان يُرسَل إلى مصر من قبرص قد قلَّ وتضاءل، وأن السبب في ذلك يرجع إلى أن يد «ترجال» «إلهة الطاعون» قد أوْدَتْ بحياة رجال ملك «قبرص»، بل اختطفتْ حياةَ ابنِه؛ ممَّا أدَّى إلى شلِّ حركة استخراج النحاس؛ ولهذا السبب نفسه بقي رسول الفرعون الذي أرسله لهذا الغرض في قبرص مدة ثلاثة أعوام (راجع Am. 35, 8).
أما مملكة «كاردونياش» أيْ (بابل) فقد كانت العلاقات بينها وبين مصر تسير على أحسن ما يُرام منذ عهد مَلِكِها «كاراينداش» الأول Karaindas وهو الملك السادس عشر بالنسبة لترتيب أسرة الكاسيين (راجع Am. 10; 8) (١٤٥٠–١٤١٥ق.م) وهو أحَد أخلاف ملوك «سنجار» (بابل) التي سجل «تحتمس الثالث» على آثاره الهدايا المقدمة إليه من أميرها. وكذلك في عهد «أمنحتب الثاني». ويُعدُّ اعتلاؤه عرش بابل خاتمة فترة طويلة مجهولة من تاريخ هذه البلاد يبلغ مداها حوالي مائتي سنة، وقد بدأ منذ عهده يكشف أمامنا عن تاريخ هذه البلاد بعض حقائق ضئيلة. فقد عُثر على آجرَّة كُتبت بالخط المسماري في معبد «إنا» للإله «نانايا» صاحب «أوروك» Uruk نُعت فيها بالمَلِك القوي «ملكُ بابل» وملك «سومر» «وآكاد» وملك «كاششو» Kassu وملك «كاردونياش» Kardunias. ويلاحظ في ألقاب هذا الملك أنه قد حَرَص فيها على ذكر السلالات الهامة التي يسيطر عليها، وهو في ذلك يختلف عن ملوك الأُسَر القديمة، على أن معظم أخلافه من ملوك الأسرة الكاسية، كانوا لا يَحمِلون لَقَب مَلِك على الرغم من أنهم كانوا دائمًا الطبقة التي يتألَّف منها المحاربون وأصحاب السيطرة على البلاد. ومهما يكن من أمر فإن الدولة كانت في ظاهرها آخذةً دائمًا في التقمُّص بالثوب البابلي، أما في الداخل فإنها لم تتخذ لونًا جديدًا في قوتها؛ إذ كانت حركة التجارة تسير في مجراها القديم. وكذلك كانت ثقافتها ومعتقداتها الدينية تتأثران طريقيهما القديمتين، ولم يحدث في البلاد جديد في خلال مائة السنة الأخيرة من العصر الذي نحن بصدده، وذلك على عكس البلاد المصرية التي كانت تسير بخطوات واسعة في كل فروع المدنية والثقافة، وليس لدينا وثائق من هذا العصر نستطيع أن نترسَّم الخُطَا التي كانت تنزلق فيها بلاد «بابل» نحو الهاوية السحيقة التي أودت بها إلى الحضيض.
والواقع أن الدور الذي لعبتْه «بابل» على مسرح التاريخ العالمي، قد أُسدل عليه الستار في أواخر الأسرة الأولى من تاريخها، وكل ما أبقتْ عليه لنا يد الدهر بعد ذلك لا يتجاوز التقاليد الجامدة، التي ظلت تترنح ثم تنكمش وتذبل حتى يبست وأمست هشيمًا الْتَهَمَتْه نار الزمن. من أجْل ذلك لم يكن في الحسبان قط أن تستيقظ من سباتها العميق، وتطفر طفرة فتية خارج عقر دارها، بل ظلت قابعة منكمشة في مهدها راضية بنصيبها؛ ولذلك لما رغب «الكنعانيون» في القيام بثورة على الحكم المصري وولَّوْا وجوهَهم شطر «كاريجالوزا الثاني» (١٣٩٠–١٣٧٥ق.م) وهو ثاني أخلاف الملك «كاراينداش» ليأخذ بناصرهم في عصيانهم هذا، أبَى إجابةَ مطلَبِهم، فكان ذلك مما رفع منزلته في عين الفرعون، بل زاد في توثيق عُرَا الصداقة بين البلدين (راجع Am. 9, 19).

أما عن مملكة «إلام» وعلاقتها بالأمم المجاورة، فليس لدينا أية معلومات عنها في هذا العصر.

وفي تلك الفترة كان «باتيسي» (كاهن بلاد آشور) يسيطر على مَن في حوض نهر «دجلة» حتى «ديالا» Diala وهو الإقليم الذي كانت تسيطر عليه مملكة «متني» في الأزمان السالفة. وعلى ذلك لم يكن لحكام «بابل» أي مطمع في مدِّ سلطانهم على هذا الإقليم؛ ولذلك اكتَفَى «كارينداش الأول» بعقد معاهدة بينه وبين «آشور بلنيششو» Assurbelnisesu ملك آشور عام ١٤٣٠ق.م، كان أهم شرط فيها أن تبقى الحدود بين البلدين ثابتة.
وفي خلال تلك المدة ظهرت في عالَم الوجود مملكة «متني» أو «خانيجالبات» Chenigalbat قوية السلطان يجلس على عرشها الملك «ساوششتار» Saussatar الذي كان يعاصر الفرعون تحتمس الثالث. وقد حافظت على مكانتها وقوتها في عهد أخلافه، بل زادت في فتوحها وعظمتها، وقد استمرت في طريقها هذه حتى قام الملك «مورسيل الثاني» عاهل مملكة «الخيتا» يناوئ مَلِكَيْ «متني» و«حلب» ويَقلِب لهما ظَهْرَ المجَنِّ؛ لأنهما كانا قد أعلنا فيما مضى الحرب على ملك «الخيتا» «دودخاليا الثاني» وبخاصة على الملك «خاتوسيل» Chattusil حوالي عام ١٤٣٠ق.م، وقد كان موقف بلاد «الخيتا» في خلال هذه الفترة حَرِجًا؛ لأنها لم تفقد سيطرتها على سوريا وحسب، بل انتُزعت منها الأراضي الجبلية الواقعة في أعالي نهر «الفرات» وفي شرقي «آسيا» الصغرى.١٠
وكان إقليم «أشوا» Isuwa الواقع شرقي منحنى نهر الفرات حتى منابع نهر «دجلة» منضمًّا إلى مملكة «متني»، هذا إلى أن سكان المقاطعات الواقعة شرقي إقليم جبل «طوروس» قد هجرها سكانها واستوطنوا الأراضي الواقعة في الجهة الأخرى من نهر الفرات، يضاف إلى ذلك أن ملك «كيزواتنا» Kizzuwatna الواقعة في شمال خليج إسوس،١١ قد نقض ميثاقه مع مملكة «خيتا» وانضم إلى مملكة «متني».
ومما زاد الطين بلَّةً، وجلب الخيبة والارتباك في بلاد «خيتا» أن ملك «أرازاوا» Arzawa الذي كان يمتد سلطانه على سهول «كلكيا» العليا (سلسيا) قد أبرم معاهدة مع مصر، وكانت سهول «كلكيا» هذه تُعدُّ أخصب بقعة في آسيا الصغرى، وكان لا بد لملك «خيتا» أن يسيطر عليها إذا أراد الزحف على «سوريا»، كما أن هذه البلاد بعينها كانت ضرورية لمصر إذا كانت تريد المحافظة على سلطانها في شمال «سوريا»، ومن أجْل ذلك أرسل «أمنحتب الثالث» الهدايا الثمينة إلى ملك هذه البلاد «تارخوندارابا» Tarchundarba فطلب إليه أن يزوِّجه ابنتَه. ومما يَلفِت النظر في الرسائل التي دارت بين الفرعون وبين ملك هذه البلاد أنها لم تكن مدونة بالصيغة الرسمية المعتادة عند مخاطبة النِّدِّ للند، فلم يُخاطِبه الفرعون بلفظة «أخي»، هذا فضلًا عن أنه وضع اسمه في أول الخطاب بدلًا من اسم المُرسَل إليه كما جَرَتِ العادة وعلى حسب التقاليد الرسمية، ويحتمل أن الفرعون «أمنحتب الثالث» قد انتهج مع «تارخوندارابا» هذا الموقف الشاذ؛ لأن الأمير الذي كان يسيطر على هذا الإقليم كان يُلقَّب «ابن الملك» أيْ نائب ملك «مصر» في هذه الجهات، كما كانت الحال في بلاد «كوش»؛ وكانت التقاليد تحتم على مَن يحمل لقب «ابن الملك» أن يخاطب الفرعون بالعبارة التالية: «سيدي ملك مصر ووالدي». وقد أرسل أمير هذه البلاد رسوله الخاص مع سفير الفرعون العائد من بلاد «خيتا» مزودًا بالهدايا المؤلفة من ستة عشر رجلًا لوالده (أي لملك مصر) (Am. 44). كما كان يخاطبه. وقد طلب إليه بطبيعة الحال أن يرسل إليه ذهبًا مما تزخر به أرض «مصر».
والواقع أن هذا الأمير لم يكن من رعايا فرعون «مصر»، فلم يكتب إليه بالصيغة التي كان يتحتم على التابع المصري أن يخاطب بها مليكه، إذ كان لزامًا عليه فيها أنه يُقبِّل الأرض بين يَدَيْ سيِّده سبع مرات، بل كان أميرًا مستقلًّا في بلاده، وتقع بلاده على وجه التقريب في إقليم «أمانوس» (جنوبي جبال «طوروس» وغربي أعالي نهر الفرات).١٢

أما مملكة «متني» فقد استمر السلام سائدًا بينها وبين مصر منذ عهد «تحتمس الثالث»، ولم يحدث ما يكدر صفو العلاقات بين البلدين بل على العكس ازداد توثق علاقات الود والمهادنة بينهما في عهد ابن «سوششاتار» المسمى «أرتاتاما». وقد تزوج الفرعون «أمنحتب الثالث» أو «تحتمس الرابع» من ابنته بعد أن طلب يدها منه للمرة السابعة، والظاهر أن ملوك «متني» كانوا لا يُجيبون بالرضا عن زواج بناتهم إلا بعد لَأْيٍ وتردُّد شديدَيْن، فقد طلب الفرعون «أمنحتب الثالث» إلى ملك «متني» «سوششاتار» البناء بأخته «جلوخيبا» ست مرات، وأخيرًا تزوج منها في السنة العاشرة من حكمه عام ١٣٩٥ق.م، وقد وصلتْ إلى مصر وفي ركابها سبع عشرة وثلاثمائة غادة من غواني بلاد «متني»، وقد كان حادث هذا الزواج موضع فخاره حتى إنه سجَّله بطريقة مبتكرة؛ إذ قد نقش تاريخ هذا الحادث المدهش على جُعَلٍ كبير الحجم، ونَسَخ منه صُوَرًا عِدَّة، كما يحدث ذلك الآن عندما يُراد تخليد ذكرى أيِّ حادث عظيم فيُعمل طابع بريد خاص. ولقد كان غرضه أن يبقى تذكار هذا الحادث خالدًا عند الأجيال المقبلة، على أن «جلوخيبا» لم تصبح ملكة «مصر» الشرعية لأنها أجنبية. وقد ذكر «أمنحتب الثالث» على هذا الجِعْران خوف اللبس اسم زوجته الشرعية الملكة «تي» المصرية المنبت، كما ذكر اسم والديها على هذا الجُعَل التذكاري منوِّهًا بأنهما من عامة الشعب، وأنه كان فخورًا بهذا الزواج الخارج عن تقاليد بيت الملك.

والواقع أنه على الرغم من المنزلة التي كانت تحتلها مملكة «متني» وما كان بينها وبين مصر من علاقات ودية، وما كانت تمدها به مصر من الذهب الذي كانت دائمًا في حاجة إليه، فإن كل ظواهر أمورها تدل على أنها كانت أقل مرتبة من مصر من كل الوجوه. فإنها لم تكن قد خَطَتْ خطوة واحدة نحو التقدُّم في داخليتها؛ إذ كان ينقصها الأسس المتينة في تكوينها الأصلي، فقد كان معظم سكانها ليسوا من أصل «خاري» (متني)، كما أن الوظائف الرئيسة فيها كانت في يد الطبقة العليا من «المارياني» وهم قوم من سلالة «آريَّة»، هذا بالإضافة إلى أن العناصر التي كانت تتألف منها البلاد لم تكن متحدة في عقائدها الدينية؛ إذ كان «الخاريون» من جهة يتعبدون للإلهين «تشوب» Tesub و«شميكي» Simike كما كانوا يعبدون الإله «شاوشكا»  Sau-ska، ومن جهة أخرى كانت تُعبَد في البلاد الآلهة الهندية، ومن بينهم المعبودان «عشتارت» و«شاماش». ومن أجْل ذلك لما حدثت الاضطرابات التي أعقبت موت «دوشرتا» انقلب الخلاف الذي كان قائمًا بين «الخاريين» أو (الحورانيين) وبين «المارياني» إلى حروب طاحنة سالت فيها الدماء.
ولا نزاع في أن رجال الفئتين قد قاموا في الماضي بأدوار تكاتفوا فيها سويًّا، وكان في مقدورهم أن يتعاونوا معًا عندما وقع «أرتاشوارا» Artasuwara ابن «شوتارنا» ضحية مؤامرة كانت نتيجتها أن تولَّى قاتلُه «توخي» الوصاية على عرش البلاد بدلًا من «دوشرتا» الذي كان لا يزال قاصرًا. غير أن «دوشرتا» توصل في نهاية الأمر إلى تخليص نفسه وعاقب قاتل والده، كما قضى على حزبه حوالي عام ١٣٩٠ق.م.١٣
ثم أعقب ذلك انتصار باهر أحرزه على «خيتا» عندما هاجمت بلاده، كل ذلك هيأ له الفرص لتوطيد العلاقات الودية بينه وبين مصر لتكون سندًا يرتكز عليه عند الشدائد لمنازلة أعدائه (راجع Ed. Meyer, “Gesch”. II, I. p. 151ff).

(٦) الموظفون والحياة الاجتماعية في عهد «تحتمس الرابع»

(٦-١) أپي

كان «أپي» يحمل لقب المشرف على سفن «تحتمس الرابع» في معبد «آمون» (L. D. III, Pl. 264)، وقبره في جبانة «شيخ عبد القرنة»، ويحتوي على منظر الوليمة الأسرية المعتاد وصور أقاربه (Champollion, “Notices” p. 519)، ونجد من بين أولاده واحدًا يُدعَى «دنرجي» يحمل الألقاب التالية: الحاكم والمشرف على الكهنة، والكاهن الأكبر، ومدير بيت الإله «منتو» رب «أرمنت»، وله ابن آخر يُدعَى «پاي» وكان يحمل لقب الكاهن الأول «لتحتمس الرابع» (L. D. III, Text. p. 264).

(٦-٢) أمنحتب ساسي

أمنحتب (الرجل المهذب) كان يحمل الألقاب التالية: الأمير الوراثي، والوالد الإلهي، ومحبوب الإله، وعينا ملك الوجه القبلي، وأُذُنَا ملك الوجه البحري، والكاهن الثاني للإله «آمون»، وعينا ملك الوجه القبلي في «أرمنت»، وحامل خاتم ملك الوجه البحري (Davies, “TheTombs of Two Officials of Thothmes IV”, Pls. IV, IX) وقبر هذا الموظف في جبانة «شيخ عبد القرنة»، (رقم ٧٥) (راجع Porter and Moss, “Bibliography”, I. p. 102–3). ويُرى على جدرانه من التشويه والتخريب ما يدل على أن صاحبه كان مغضوبًا عليه؛ لأننا نجد أن صورته قد مُحيت محوًا تامًّا عن قصد في كل مكان وُجدت فيه، وكذلك صورة زوجِه، اللهم إلا عندما كانت تقوم بدور مغنية الإله «آمون». على أن المحو لم يقف عند هذا الحدِّ بل تعدَّاه إلى طائفة من خَدَمِه. وكذلك نرى أن اسم «آمون» قد مَحَتْه شيعة «آتون»، وكذلك صور الكاهن «سم»، ولكن الأذى الذي لحق بجماعة النسوة المشيعين للجنازة، ومحو المتون الخاصة بالشعائر الجنازية وإن كانت قد تُعزى إلى شيعة «آتون»، إلا أنه من المحتمل كذلك أن تكون محاولة من جانب أعداء «أمنحتب ساسي» لإيقاع الضرر بمدفنه الحسن.
والقبر يحتوي على بعض مناظر أُتقِن رسمُها، وفي استطاعتنا أن نعرف بينها عمل مفتنِّين؛ أولهما: الرئيس الذي رسم المناظر الهامة والأشكال، والآخر: أقلُّ منه حذقًا وإتقانًا، وكان عمله منحصرًا في رسم أشكال تقليدية، ويحتمل كذلك أنه رسم الأثاث، (Davies, Ibid, p. 3). فنشاهد منظر وليمة يشتمل على بعض أوضاع غريبة؛ إذ المعتاد في رسم هذا المنظر أن نجد صاحب المقبرة وزوجه يجلسان أمام الضيفان، ولكن هنا نشاهد منظرًا خارج المنزل الذي أُقيمت فيه الوليمة، و«أمنحتب» نفسه يدخل بعربته من باب البيت يتقدمه سائسان ويتبعه أربعة خَدَم حاملين أمتعته الشخصية.
ولدينا منظر هام نُشاهِد فيه «أمنحتب» يتسلم وظيفة الكاهن الثاني للإله «آمون» (راجع Davies, ibid, Pls. XIII, XIV. p. 8ff). والمتن المفسِّر لهذا المنظر قد هُشِّم، ولكنا نفهم مما تبقَّى منه ما يُساعدنا على تفسير المنظر: «وقد وجد (المَلِك) أني رجل مفيد لسيده، وجعلني أغرس لنفسي في السماء (أي المعبد).١٤

وقد عَرَفتُ السِّرَّ الذي فيه، وتعلمتُ القواعد لاستعطاف الإله، وتقديم العدالة لسيدها، وقد صدر الأمر لأصدقاء الفرعون بالنطق بالمدائح تعبُّدًا للملك وقد كان الترحيب في فم الكهنة والموظفين، وقد ظهروا، وكانت أفواههم ملأى ﺑ … وقد عُيِّنتُ كاهنًا ثانيًا … الوجود السري لرب الآلهة، وقد كنتُ أعرف كل شيء خفي، وكل الأبواب قد فُتحت لي … الطريق … وحُرَّاس الأبواب يكشفون عن الإله في يوم … وكنت … إلى المعبد، وكان فَمِي سليمًا وأصابعي ماهرة إلى أن أستريح في مكاني في الجبانة.

وفي أسفل هذا المنظر نشاهد صورتين عظيمتين هما بلا شك «لأمنحتب» وموظف آخر، قد وُكل إليه وضعُه في منصبه الجديد، غير أن كليهما قد مُحي. وبعد ذلك نرى مغنيات «آمون» ومن بينهن زوج «أمنحتب» وبناته آتيات لمقابلة الموكب عند دخوله المكان المغروس بالأشجار الواقع أمام (بوابة) معبد «آمون» في الكرنك، وهنا يشاهد واجهة المعبد (ببواباته) المُزيَّنة بالشرفات، وبعَمَد أعلامها، وبباب ضخم يكتنفه تماثيل ضخمة للفرعون.

وبعد أن نُصِّب «أمنحتب» هذا كاهنًا ثانيًا في معبد «آمون» كان لزامًا عليه بعد ذلك أن يفحص مصانع ضياع «آمون» إلهه، فنشاهده يُشرِف أولًا على وزن المعادن الثمينة التي كانت تُسلَّم للصُّنَّاع الذين يُشاهَدون منهمكين في صياغة أشياء مختلفة. وفي جهة أخرى نجده يفحص أعمال صُنَّاع العربات والسُّرُج (Dàvies, ibid, Pls. VII–VIII).
وبعد الفراغ من فحص المصانع يتجه «أمنحتب» إلى حصاد المحصول؛ حيث يفحص تسجيل كل شيء. فالقمح الذي كان لا يزال واقفًا في الحقل كانت تُمسَح حقوله بحبال ملفوفة على بكرة لها رأس تَيْس، وقد كانت هذه العملية بمثابة ضابط لمنع السرقة التي كانت تحدث غالبًا بين الحقل والمخزن. وقد كانت هذه العملية تُجرَى بأخذ نسبة محصول قطعة صغيرة من الأرض ثم يُقاس عليها، وبذلك كان يُعرَف مقدارُ المحصول الذي لا بد أن يُورَّد إلى مخزن الإله. وأخيرًا، كان يُكال الحب الذي حُصد ويُسجِّله كُتَّاب. ويُلحظ هنا أن فلاحًا قد ارتكب غلطة كان يُعاقَب عليها بالضرب أمام رجل عظيم (راجع Davies, ibid Pl. IX). وفي منظر آخر نرى «أمنحتب» يستعرض أمام الفرعون «تحتمس الرابع» ثمرة نشاطه وهي الهدايا التي يقدمها له (راجع Davies, ibid, XII)، ولذلك يقول المتن:

فحص الهدايا الملكية واستعراضها أمام … على حسب أمر ورغبة جلالته لجعل قلب جلالة رب الآلهة راضيًا … وباحثًا عما يمكن أن يخدم به والده «آمون» ومزيِّنًا بيته بالذهب، ولقد كان لذلك يخطئه التسجيل كتابة — من كل أنواع الآنية التي لا حصر لها، وقلائد منات وصاجات وقلائد؟ … وتماثيل … ملك الآلهة. وقد كان الكاهن الثاني معتادًا أن يخرج ممدوحًا ومحبوبًا من حضرة جلالته.

وهذه الهدايا كانت تنتظم تماثيلَ ومجوهراتٍ وأوانيَ معدنية … إلخ، وأخيرًا نقش على جدران قبره المناظر الجنازية، ولا يزال يُرى منها بعض المحافل العادية، وكذلك منظر رحلة المومية لزيارة «العرابة المدفونة» (راجع Davies, ibid, Pls. XV, XVII & Urk. IV, p. 1216).

(٦-٣) نب آمون

يُعدُّ «نب آمون» من الموظفين العظام في عهد الأسرة الثامنة عشرة الذين وصل إلينا شيء يُذكر عن تاريخ حياتهم الحكومية. وتدل ظواهر الأحوال على أنه كان أول ظهوره في ميدان العمل الحكومي في خدمة الفرعون الخاصة؛ إذ كان يشغل وظيفة «ياوره» في كل حملاته في الجنوب والشمال، كما كان يُلقَّب «قائد جنود عديدين»، وقد كانت أول وظيفة هامة رقي إليها هي حامل عَلَم السفينة الملكية «مري آمون». (راجع Davies, ibid, Pl. XXVI)، وهذه الوظيفة تُعادل الآن «قائدًا بحريًّا». ولا نزاع في أن وظيفته كانت حربية، ولا أدل على ذلك من أنه رَقِيَ فيما بعدُ إلى رتبة رئيس الرماة (قائد المشاة) ثم رئيس الشرطة في «طيبة الغربية» (Ibid Pl. XXXIII). وقد خدم هذا الموظف في عهد الفرعونين: «تحتمس الرابع» و«أمنحتب الثالث»؛ إذ نجده في حكم الأول يقدِّم له تقاريره الرسمية، وفي عهد «أمنحتب الثالث» نجد في أحد مناظر المقبرة طُغْراء هذا الفرعون على (بوابة) المعبد (راجع Ibid, Pl. XXXIII).
fig3
شكل ٣: «نب آمون» يتسلَّم وظيفة رئيس الشرطة أمام جنوده واستعراضهم.
على أن ترقية «نب آمون» إلى وظيفة رئيس الشرطة قد هيأت له على ما يظهر فرصة تمكنه من القيام بخدمة سيده دون كبير عناء في تجشُّم الأسفار معه، وبخاصة بعد تقدُّم سِنِّه، والمتن الذي يحدثنا عن هذه الترقية يرجع إلى السنة السادسة من عهد «تحتمس الرابع» (راجع Ibid, p. 35. Pl. XXVI). وهو: «أمْرٌ صادر من جلالة صاحب القصر (له الحياة والسعادة والصحة) في هذا اليوم إلى الأمير، قائد سفن الوجه القبلي والوجه البحري، والأمر هو كما يأتي: إن جلالتي (له الحياة والسعادة والصحة) قد أمر أن تَستَقبِل عُمْرًا طويلًا طيبًا بحُظْوة الفرعون؛ لأنك تهتمُّ بأمْرِ «نب آمون»، حامل العَلَم في السفينة الملكية «مري آمون»، فقد بلغ سِنَّ الشيخوخة في خدمة الفرعون (له الحياة والسعادة والصحة) بثبات. وفي الحق إنه كان يتحسَّن كل يوم في إنجاز ما أُمر به، ولم يُقدَّم عنه تقرير (سيئ)، هذا فضلًا عن أنني لم أجِدْه قد تعدَّى حدودَه، وإن كان قد وُشِي به فعلًا، والآن قد أَمَرَ جلالتي أن يُمنَح وظيفة رئيس الشرطة في «طيبة» الغربية في مكان … وفي مكان «عظيم القوة» حتى يرتفع إلى سِنٍّ وقور، وأن يصبح له الحق قانونًا في بيته وماشيته وحقوله وعبيده وكل أملاكه في البحر والبر دون أن يُسمَح لأي مراقب ملكي أن يتدخل في أمرها، حامل علم السفينة الملكية «مري آمون» وقائد الجنود «نب آمون».» وهذا المتن نُقش في قبر «نب آمون» الواقع في جبانة «شيخ عبد القرنة» (رقم ٩٠)، ونستطيع أن نشاهده ممثلًا فيه وهو يتسلم رمز وظيفته والوثيقة بتعيينه، فنراه واقفًا وبيده عصاه ذات الطابع الخاص من التي نشاهدها في أيدي قبائل البدو.
وقد كانت بلا شك معروفة للجنود الذين تحت إمرته (Ibid. p. 35)، وقد تقبَّل «نب آمون» باحترام «علم الغزال» وهو رمز شرطة طيبة الغربية، ثم براءة تعيينه التي كانت موضوعة في أسطوانة صغيرة على هيئة عمود مُثِّل في صورة نخلة، وهذه قد قدَّمها له كاتب ملكي يُسمَّى «إيوني» الذي جاء لهذه المأمورية. ثم يأتي خَلْف «نب آمون» رجال الشرطة الذين سيكونون تحت قيادته. ويلاحظ أن هؤلاء الشرطة قد اتجهوا اتجاهين، ويمكن تفسير ذلك بأنهم كانوا يستعرضون أمام «نب آمون» أو الفرعون. وهو يشاهد فرقة من الجنود العاملين يشتركون في الحفل، وكذلك يقف جنود يحملون الأعلام من كتائب مختلفة يُحيُّون الرئيس. ثم يصحبهم جنود من فرقتين مختلفتين ومعهم بوق يُعطِي إشارة التقدُّم أو التأخُّر في السَّيْر. وهؤلاء الجنود قد تركوا أسلحتهم جانبًا ولم يحملوا إلا دروعهم. ويُشاهَد اثنان من كبار الضباط قد انبطحا على الأرض؛ واحد منهم لم يُذكر اسمه، ويحتمل أنه هو الذي حلَّ محلَّ «نب آمون»، والثاني: هو قائد الشرطة في «طيبة» ويُدعَى «تري»، وجدنا اسمه في هذه المقبرة في مكان آخر، وقد يجوز أنه أخو «نب آمون» أو أحد أقاربه. أما الجنود فكان يقودهم ضابط شرطة يُسمَّى «مانا» ويحمل عَلَمًا، غير أن ملابسه لا تختلف عن ملابس معظم رجال الشرطة، ويُلاحَظ أن بعض الجنود كانوا مسلَّحين بعِصِيِّ رماية، وبعضهم الآخر بحِرَاب، ولا يمكن تمييز ضبَّاطهم (انظر شكل رقم ٣).
ولدينا منظر آخر يظهر فيه «نب آمون» واقفًا أمام الملك، ويخيل أنه يحمل بإحدى يديه عَلَم السفينة الملكية «مري آمون»، ويقدِّم بيده الأخرى طاقة أزهار للفرعون، وأمامه خادمان يحملان رموز وظيفته، وهي (بلطة) وحزام وحُزمة أعشاب ومروحة، وكذلك نشاهده ممسكًا بحبل رُبط فيه جماعات من الأسرى السوريين، ويحتمل أن ذلك رمز لخضوع أملاك مصر لإدارة «نب آمون»، وكذلك كان يقدِّم الأسرى والجِزْية للملك، وأهم ما يسترعي النظر فيها جوادان غاية في الجمال والنشاط (Ibid. Pl. XXIX).

اقتراع المجندين السنوي

ولدينا منظر يدعو إلى الحيرة والدهشة معًا، يَظهَر فيه «نب آمون» كأنه عائد من حملة سورية كان قد رافق فيها الفرعون. فيُشاهَد وهو داخل إلى ميناء «طيبة» في سفينة مزخرفة بأجمل الزينة وبخاصة شُرُعها، وفي المؤخرة كان يجلس الفرعون في جوسق صغير يُحلِّق فوق رأسه إلهة العقاب، وبجانبه العربة الملكية، وفي أسفل المنظر جلس عدد من الرجال على كراسيٍّ، كما يُرى جمٌّ غفير من الناس رُسم بطريقة تدل على مهارة المفتنِّ المصري في الإخراج. وعلى اليمين يمكن رؤية منزل بيت «نب آمون»، ويُلاحَظ أن أربعة رجال وامرأة ينحنون بخشوع للقاعدين على الكراسي. وفي الجهة المقابلة من المنظر يُشاهَد مجنَّدون يجلسون على الأرض حاملين حقائبهم وأقواسهم على ظهورهم.

ويظن الأثري «ديفيز» أن هذا المنظر الأخير يمثِّل اقتراع المجندين السنوي، فالرجال الجالسون هم المجلس العسكري، فكان فريق من أعضائه يَنتَخِب المجندين الجُدُد، في حين كان الفريق الآخر يفصل في الشكاوى المقدَّمة من أقارب المجندين الذين يرجون الإعفاء، ثم يصدر بعد ذلك القرار النهائي، وأخيرًا كانت تُفرَّق الأسلحة والجِرايات على الرجال الذين وقع عليهم الاختيار.

ويحتوي قبر «نب آمون» غير ذلك على مناظر خاصة أو أُسرية؛ فمنها نعلم أنه كان قد تزوج باثنتين، ورُزق منهما ما لا يَقِلُّ عن ستِّ أو سبعِ بنات وسبعة ذكور.

وليس لدينا ما يثبت أن «نب آمون» قد تزوج بهما في وقت واحد أو بواحدة بعد انفصاله عن الأخرى. وقد ظَهَرت معه زوجه «تي» كثيرًا وحَبَاها بنقوش تدلُّ على حُبِّه لها أكثر من الأخرى التي كانت تُدعَى «موت نفرت».

وقد شَغَل منظرُ الوليمة في هذا القبر حيِّزًا كبيرًا، رُسِمتْ فيه كل صور أقاربه، وأهم ما يَلفِت النظر فيه منظر طائفة من المغنيات، رُسمت إحداهن بوجه كامل، وهذه ظاهرة نادرة في الفن المصري، والظاهر أن هذا الوضع كان مقصورًا على مَن ليس لهم مكانة في المجتمع المصري.

عمل رجال الشرطة

وقد رَسم المفتنُّ في هذا المنظر حادثًا صغيرًا في ذاته غير أنه من الأهمية بمكان لنُدْرته في مثل هذه المناظر. وذلك أنه صوَّر موظفًا جالسًا تحت شجرة وبيده غصن يَرمُز به للعِيد أو الفرح، وقد أتى إليه أخوه «تري» «أي أخو نب آمون» رئيس الشرطة في الحي الواقع غربي «طيبة» ومعه رجلان فبلغ الضابط «تري» عن الحالة قائلًا: «إن الحي الجنوبي والحي الشمالي يسود فيهما النظام.» ثم يضيف إلى ذلك رجاله، ويحتمل أنهم رجال (الدورية) للحيَّيْن: «إن المكان في أمانٍ، والنظام فيه جيد جدًّا.» ولا شك في أن هذا هو التقرير الذي كان يُقدَّم كل مساء بانتظام من رجال شرطة «طيبة». ولا ريب في أن مثل هذه اللمحات الخاطفة التي تطلع علينا من وقت لآخر من ثنايا النقوش تضع أمامنا صورة حية عن النظام المركَّب الذي كانت تعيش في ظله هذه العاصمة العظيمة في الأزمان السحيقة.

ونشاهد «نب آمون» في منظر آخر يُقدِّم شكره للإله «آمون» اعترافًا منه بالجميل لإكثار ماشيته وكرومه. وهنا نشاهد رسم معبد «آمون» وقد نُقش على بابه الكبير اسم الفرعون «أمنحتب الثالث». وكذلك يُرى بيت «نب آمون»، وهو مسكن جميل جدًّا (Ibid. Pls. XXX, XXXIII, XXXIV). ملون باللون الأحمر القاتم، مما يُوحي بأن جدرانه قد غُطِّيت بطبقة من الجَصِّ، ويوجد في أصل سقفه المنبسط (ملقفان) لتوصيل هواء الشمال والجنوب إلى داخل المنزل. أما بابه الضخم فمِن الخشب الأسود، له مصراع واحد من خشب أصفر. وفوق الباب نافذة مزخرفة، كما يوجد في الجدار على مسافة أعلى من هذه النافذة نافذتان أخريان. على أن ذلك لا يعني حتمًا أن البيت كان يتألف من طابقين؛ وذلك لأن المصريين لم يكونوا متعوِّدين أن يضعوا نوافذهم في مواضع عالية في الجدران. وهذه النوافذ كانت تُغلَق بوساطة مصاريع مزخرفة. وتُرى نخلتان تُطِلَّان على السقف خلف البيت مما يُوحي بوجود حديقة خلف البيت. وهذا المنظر الذي صُورت فيه الأشياء على طبيعتها لا كما عددت يُعَدُّ خروجًا على التقاليد القديمة الجامدة. وبجانب البيت وبِرْكته الجميلة نشاهد كَرْمًا كانت تُجنَى ثماره لتُعصَر نبيذًا، كما يُشاهَد رجل يُعِدُّ القربان للإلهة «رنوتت» وهو يقول: «لحضرتك يا رنوتت! امنحي الطعام والخير.» وكذلك يُرى طائفة من بحارة «نب آمون» قد حضروا لتهنئة قائدهم (ومن المحتمل ليذوقوا طعم خمرته اللذيذة)، وقد جاءوا إليه وهم يُنشِدون أغنية حربية: «إنه يُدرِّب جنودًا وجنودًا، ويفعل ذلك الحاكم لأجْل آمون وقلبه فرح.» وفي منظر ثانوي يُرى «نب آمون» يفحص بعض ماشيته فيقول للكاتب «تحوت نفر» الذي يجلس عند قدميه: «لا تُولِّ ظهرَك لماشية آمون سيدنا!» وقد يعني بذلك أن ينتحل عذرًا للكاتب الذي جلس وظهره في وجه «نب آمون» أو غير ذلك. وبعد ذلك نشاهد في نفس المنظر رجالًا يَسِمون الماشية بنار حامية.

(٦-٤) ثانني

لقد جاء ذكر هذا الرجل العظيم فيما سبق، أما ألقابه فهي: كاتب الجيش أمام جلالته، وكاتب الملك الحقيقي ومحبوبه، وكاتب الجيش (Urk. IV. p. 1006) والمشرف على الجنود وكاتب المجندين، والمشرف على كَتَبة الجيش العظيم للفرعون، والسمير العظيم الحب، وعينا ملك الوجه القبلي، وأذنا ملك الوجه البحري، والمشرف على جيش الفرعون، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير الوحيد.
وقبر «ثانني» يقع في جبانة «شيخ عبد القرنة» رقم ٧٤ ويحتوي على مناظر تحدثنا عن حياته الخاصة وأعماله ووظيفته، (راجع Porter & Moss, “Bibliography” II. PP. 100-101). وقد خُصص منظر كبير لعرض عسكري حيث تجند الجنود؛ فعلى الجدار الداخلي من الجهة الشمالية نشاهده يقوم بعملية اقتراع الجنود الجدد، فنرى في الصف الأعلى في الخلف صفين من الجنود كل منهما يتألف من عشرة رجال، فيُرى رئيس الفرقة الذي على الجهة اليسرى وفي يده علم لا يمكن الإنسان أن يرى شيئًا من شريطه، ويُلاحَظ أن الجنود قد وُضع كل منهم يده اليمنى على كتفه الأيسر، أما يده اليسرى فكانت مُدلَّاة على جانبه. وأمام الفرقة الثانية يقف ضابط وفي يده عصًا تمييزًا لمركزه. ويلاحظ أن الجنود ليسوا مسلَّحين، ويلبسون قميصًا قصيرًا مصنوعًا من الجلد المجدول لُفَّ حول وسط الجندي وطرفه ظاهر، ويوجد في وسط هذه الجدائل مربع من الجلد.

أما الضابط فكان يرتدي الشنديت وفوقه لباس من الكتان له شكل خاص لفَّ حول وسطه ويغطي ما فوق الركبة. وتُشاهَد فرقة ثالثة تمشي في اتجاه مضاد للفرقتين السابقتين ويسير أمامها ضابط.

أما في الصف الأسفل فيوجد فرقتان يتجه كل أربعة رجال من أولاها إلى جهة مضادة لزملائهم، ويُشاهَد أمام واحدة منهما جندي يحمل على ظهره طبلًا كالذي نشاهده الآن في بعض جهات القُطْر، ويلحظ أن حامله قد رفع يده، أما الفرقة الثانية فيسير أمامها حامل علم موضوع على كتفه الأيسر. وهؤلاء الجنود كانوا يرتدون الشنديت، وعلى اليمين يسير سبعة من السود يحمل الأول والثاني منهم بوقًا، أما الخمسة الباقون فقد سُلِّحوا بعِصِيٍّ ويُزيِّن رأسَ كلٍّ منهم ريشة نعام.

وفوق الصورة الثالثة نشاهد جيشًا يقوده ضابط يقف أمام الفرعون بخشوع، يقود جنوده بتمرينات عسكرية في صفين، ففي الصف الأسفل من جهة اليسار نجد خمسة جنود غلاظ الجسم من النوبيين (وهم ليسوا من الزنوج؛ لأن شعرَهم ليس مجعَّدًا)، ويلحظ أن بُطون سيقانهم رَبِلة أكثر من المعتاد، وأنهم مسلَّحون بعِصِيٍّ، ويرتدون شبكة فوق قميصهم المُسدَل حتى الفخذ، وقد عُلِّق خلف هذا القميص ذيل حيوان، كما علق نظيره على الساق مما تحت الركبة. وعلم هذه الفرقة قد مُيِّز بصورة مُصارِعين، أما الجنود الذين على اليسار فوق هؤلاء فكانوا يرتدون القميص الذي كان يرتديه جنود الدولة الوسطى. والفرقة التي على يَمِينهم ومن أسفل منهم يرتدي كلٌّ مِن أفرادها قميصًا مستديرًا له طرف بارز (شنديت)، وهو الذي كان يرتديه الضباط بمثابة قميص داخلي، وكذلك كانوا يتمنطقون بحزام. أما الفرقتان الأخريان فكان كلٌّ منهم يلبس قميصًا مخطَّطًا وآخر أبيض عريضًا فوقه.

ولدينا منظر آخر في هذا القبر نشاهد فيه عرض الخيل والثيران أمام «ثانني».

وتدل كل الظواهر على أن هذا الضابط قد بدأ خدمته في عهد «تحتمس الثالث» وظل في مناصب الحكومة حتى عهد حفيده «تحتمس الرابع» (Urk. IV. p. 1005).

(٦-٥) ثنونا

كان «ثنونا» من بين الموظفين الذين كانوا دائمًا يسيرون في ركاب الفرعون، كما يدل على ذلك ألقابه، وهي: الأمير الوراثي، والسمير الوحيد، وحارس خطوات الفرعون في كل مكان، ومدير البيت في بيت جلالته، وحامل المروحة على يمين الملك، وعينا ملك الوجه القبلي، وأذنا ملك الوجه البحري، ومدير البيت العظيم، ووالد الإله (أي الفرعون)، ومحبوب الإله، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، ورئيس أسرار إلهتي القُطْر، والمشرف على ثيران الإله «آمون». (راجع Bouriant, “Rèc. Trav.” Vol. XI. p. 157. & p. 158). ويقع قبر «ثنونا» في جبانة «شيخ عبد القرنة» رقم ٦٧، غير أننا نعرف عنه أشياء أخرى من الآثار، فقد عُثر على لوحة في العرابة المدفونة نشاهد فيها «تحتمس الرابع» يقدِّم قربانًا «لأوزير» بوساطة «ثنونا» الذي يقف في اللوحة وراء الفرعون وتتبعه زوجه (Petrie “History”, II, p. 172; Lacau, “Steles du Nouvel Empire”,No. 34023 pl .XIV)، (وتوجد له كذلك لوحة أخرى في متحف «استوكلهم» راجع. Lieblein, “Dict. Noms”, p. 590).

(٦-٦) زسر-كا-رع-سنب

عُثر على قبر «زسر-كا-رع-سنب» في جبانة «شيخ عبد القرنة» رقم ٣٨، ويحتوي على بعض مناظر هامة خاصة بالحصاد الذي كان تحت مراقبة «زسر-كا-رع-سنب» نفسه؛ لأنه كان يحمل لقب الكاتب الذي يُحصِي الحَبَّ في مخزن غلال القربان المقدسة «للإله آمون»، أما باقي ألقابه فهي كما يأتي: الكاتب، ومدير بيت الكاهن الثاني «للإله آمون» والمشرف على مربي …؟ (Kuentz, B. I. F. A. O., Vol. XXI, PP. 120–125) وقد صُوِّر في مقبرة هذا الكاتب منظر يمثل أمامنا الخطوات التي تُتبع في إنتاج القمح، كما نشاهدها في الطبيعة بمراقبته اليقظة؛ إذ نراه واقفًا عند حقل الغلال متكئًا على عصاه (Wreszinski, “Atlas”, Pl. 143). وأمامه رجل يحرث الأرض وخلفه صبي يبذر البذور. وبعد ذلك نجد رجلين يقومان بعزق الأرض بفأسيهما ومتجهين نحو شجرة معلق عليها سلَّتان تحتويان طعامًا وجرَّة ماء ليَبرد ماؤها بظلِّها الظليل. ثم يُرى في الصف الأعلى القمح وقد نضج وهو يفوق الرجال الذين يحصدونه طولًا، وبعد الحصاد نشاهد بعض فقراء القوم يلتقطون ما تُرك وراء الحصَّادين من سنبل، كما هي العادة حتى يومنا هذا في زمن الحصاد. ونرى بعد ذلك رجلين يحملان السنبل في سلات ضخمة لأجل الدَّرْس؛ حيث تدور عليها الماشية حتى تفصل الحَبَّ عن القشور، ثم يأتي دور التذرية بآلات خاصة تشبه المراوح أو المذراة في أيامنا هذه.
ومما يلفت النظر وجود ما نطلق عليه الآن اسم العروسة وتتألف من سنابل القمح، J. E. A. Vol. VIII. P, 235ff. & Ibid Vol. XIX, p. 31. وقد وجدت أمثال هذه الصور في مقابر أخرى، وكانت تُعَدُّ بمثابة تركة لمحصول القمح (راجع Davies, “The Tomb of Nakht” Pl. XX)، وأخيرًا نشاهد «زسر-كا-رع-سنب» يقدم قربانًا محروقة للإلهة «رنوتت» التي تُمثَّل في صورة ثعبان، كما يوجد أمامها مقدار عظيم من القربان على مائدة عظيمة. ويدل لقبُها الذي دُوِّن أمامَها على أنها كانت سيدة مخازن الغلال (Wreszinski, Pl. 143). ومما يلفت النظر في الوليمة التي رُسمت على جدران قبره أن الفتيات اللائي كُنَّ يَقُمْنَ بخدمة السيدات المضيفات عاريات الأجسام، اللهم إلا من حزام ضيق يستر عوراتهن، وإلا مجوهراتهن العادية التي كُنَّ يتزيَّنَّ بها. والظاهر أن هذا المنظر من أحدث المناظر التي مُثِّلت على هذه الصورة في عهد الأسرة الثامنة عشرة. وتدل شواهد الأحوال على أن صور طائفة السيدات الرشيقات والفتيات المغنيات والراقصات اللائي كن يَقُمْن بخدمة المضيفات قد نقلها المفتنُّ القديم نقلًا أمينًا عن مقبرة «أمنحتب ساسي».

(٦-٧) مري رع

لم يُعثر على قبر «مري رع» حتى الآن، وكل ما نعرفه عنه من نقوش مَحْبَرة صُنعت من الخشب وهي الآن بالمتحف البريطاني، وقد وُجد فيها أربع عشرة عينًا للألوان، وقد كانت مستعملة فعلًا؛ إذ وُجد فيها أثر الألوان، وقد كُتب عليها ألقاب ووظائف «مري رع» ودعاء للإله «تحوت»، وألقابه هي: الأمير الوراثي، والأمير الذي على رأس المقربين لدى الفرعون، ومدير البيت العظيم للملك. أما الدعاء الذي نُقش على هذه المحبرة فيمتاز عن الأدعية الأخرى؛ إذ إنه موجَّه للإله «تحوت» رب الكتابة الهيروغليفية ليمنح «مري رع» عِلْم الكتابة الذي هو منبعه وأصله، وكذلك فهم اللغة المصرية. والواقع أنه من النادر جدًّا أن نصادف في الأدعية والصلوات المصرية ما يُقصد منه غير الأشياء المادية كالشراب والطعام أو طول العُمْر؛ ولذلك جاءت هذه الأدعية بطلب العِلْم والمعرفة من الأشياء الطريفة في بابها. وهذه المحبرة قد صنعها سكرتير «مري رع» المسمى «تنن»، ويُلقَّب كاتب مدير البيت العظيم (J. E. A. Vol. XVIII. p. 57. Pl. VII, 3).

(٦-٨) نبي

يوجد في «سراية الخادم» نقش في الصخر يَظهَر فيه «نبي» واقفًا خلف «تحتمس الرابع»، الذي يقدِّم قربانًا للإلهة «حتحور» (راجع Gardiner and Peet, “Sinai”, Pl. XIX, No. 59).

أما ألقابه على اللوحة فهي: رسول الفرعون لكل أرض، ومدير بيت … زوج الفرعون، وعمدة ثارو، وطفل الرضاعة (أي الذي تربَّى مع الفرعون).

(٦-٩) بتاح مس

كان «بتاح مس» من كبار رجال الدولة، غير أننا لم نعثر على شيء من آثاره الضخمة وبخاصة قبره، وكل ما نعرفه عنه ينحصر في نقوش تمثال، لا نعرف المكان الذي جاء منه، وقد كُتب عليه الألقاب التالية: الأمير الوراثي، وحامل خاتم ملك الوجه البحري في مقدمة … ومدير الصناع في البيتين (المعبدين)، والكاهن «سم»، والمدير الأعلى للصناع (لقب الكاهن الأكبر للإله «بتاح» في منف) (راجع Borchardt, “Statuen und Statuétten”, No. 584).

(٦-١٠) بنحت

يقع قبر هذا الموظف الكبير في جبانة «ذراع أبو النجا» رقم ٢٣٩، وأهم ألقابه هي: المشرف على كل الأقاليم الشمالية (أي بلاد سوريا)؛ ولذلك نجده قد رسم لنا منظرًا يمثل قومًا من السوريين يحملون الجزية إلى مصر، ولكن مما يؤسف له أن هذا المنظر مهشَّم تهشيمًا مريعًا ولم يبقَ منه إلا القليل جدًّا (راجع Wreszinski, “Atlas”, Pl. 373).

(٦-١١) حقر نحح

كان مربِّيًا لابن الملك «أمنحتب»، وقد ورث هذه الوظيفة على ما يَظهَر من والده «حقر شاو» الذي كان يشغل هذه الوظيفة في عهد الملك تحتمس الرابع. وقبره يقع في جبانة «شيخ عبد القرنة» رقم ٦٤ (راجع Porter & Moss, “Bibliography”, I. 94). ونشاهد فيه منظرًا يظهر فيه «حقر نحح» يقدِّم طاقة أزهار لمربٍّ آخر، يحتمل جدًّا أنه والده، وقد جلس على كرسي وفي حجره «تحتمس الرابع» في طفولته، وعلى الرغم من تصويره في هيئة طفل فقد كان يلبس صدرية عليها طغراء باسم «تحتمس الرابع» بوصفه ملك الوجه القبلي والوجه البحري. وكذلك صورة ثانية ومعه بعض الأمراء الملكيين وقد مُحيت أسماؤهم. وكان «حقر نحح» يحمل كذلك لقب طفل الرضاعة، وقد عُثر له على مخروط جنازي في جبانة «شيخ عبد القرنة» عليه لقبه طفل الرضاعة ورئيس جياد جلالته (A. S, VI. p. 91, No. 39).

(٦-١٢) أمنحتب

وكان يحمل لقب الكاهن الأول للإله «أنحور (أونوريس)» رب العرابة المدفونة، وقد عُثر له على لوحة في العرابة نفسِها مقدَّمة لهذا الإله من «أمنحتب» هذا (Lieblein, “Dict. Noms,” No. 602).

(٦-١٣) باعا عقو

كان من بحَّارة الفرعون «تحتمس الرابع»، ولُقِّب بحامل العَلَم على السفينة «مري آمون» وقد أهدى لوحة في العرابة للإله «أوزير»، وهي الآن بمتحف «اللوفر» (Ibid. No. 716)، ومن المحتمل أنه هو الرجل الذي خلف «نب آمون» قائدًا للسفينة «مري آمون» عندما رُقِّي الأخير إلى قائد الشرطة في «طيبة الغربية».

(٦-١٤) حوي

ويُلقَّب نحات آمون، وقبره في جبانة «شيخ عبد القرنة» رقم ٥٤، وقد اغتصبه كاهن يُدعَى «كانرا» في باكورة الأسرة التاسعة عشرة، وكان يُلقَّب رئيس مخازن الإله «خنسو» (Porter and Moss, ibid, I. p. 86)، ومما يَسترعِي النَّظَر أن نقوش هذا الغاصِب تَظهَر خَشِنةً رديئة الصنع إذا ما قُرنت بالنقوش الجميلة التي صنعها لنفسه «حوي» في عهد الأسرة الثامنة عشرة الزاهر بجمال فنه (Davies, M. M. A. (1922), p. 53, fig. 5).

(٦-١٥) نفرحات

وُجِد له لوحة في العرابة المدفونة، والظاهر أنه كان من رجال العمارة في هذه الجهة؛ لأنه كان يحمل لقب رئيس الأعمال في معبد من معابد «العرابة المدفونة»، كما كان من الرجال المقرَّبين من الفرعون؛ إذ نُعت بلقب تابع الفرعون في كل أمْكِنته. وقد ظهر الفرعون «تحتمس الرابع» على الجزء الأعلى من هذه اللوحة يتعبد «للإلهة نوت»، وفي الجزء الأسفل نشاهد «نفرحات» يقدِّم قربانًا للإلهة «نوت» أيضًا (راجع Lacau, “Steles du Nouvel Empire”, p. 42. Pl. XIII, No. 34022).

(٦-١٦) حاعنخف

وُجد اسم هذا الكاهن الملقَّب الوالد الإلهي على نقش في صخور «كونو سوا»، وقد ظهر عليه كلٌّ من الإله «مين» والإله «خنوم» متواجِهَيْن وبينهما طغراء الفرعون «تحتمس الرابع» فوق نقش ممحوٍّ. وقد وُجد كذلك اسم أحد أقارب الفرعون المدعو «نب عنخ» تحت اسم «حاعنخف» (راجع De Morgan, “Cat. Mon.” p. 73. No. 45).
١  لقد كان الرأي السائد عند علماء الآثار واللغة المصرية القديمة أن هذه اللوحة حديثُ خرافةٍ، وأنها أُلِّفتْ في العهود المتأخرة (راجع: Erman, “Ein neues Denkmal von der grossen Sphinx”, Sitzung Berlin Akademie (1904) 428ff. an p. 1063–1064). غير أن الأستاذ «شبيلبرج» برهن على أن هذا الرأي فاسد، وأنها كُتِبت فِعْلًا في عهد هذا الفرعون (راجع: Spiegelberg, “Orient. Lit. Zeitung” (1904) 1268ff. and 343).
ومع كل ذلك لم يَقنَع الأستاذ «إدوارد مير» بحُجَج الأخير وقال عنها إنها خرافة، ولها مثيل في اللغة المصرية القديمة، وهو لوحة «بنترش» وفي البابلية خرافة سرجون.
(راجع Ed. Meyer, “Geschichte des Altertum”, II, I p. 149, note 1).
ولكن بعد كشف لوحة «أمنحتب الثاني» القائمة بجوار لوحة «تحتمس الرابع» وغيرها من اللوحات المماثلة لا يَسَعُ الإنسانَ إلا الاعتراف بأنها من صنع عصر «تحتمس الرابع» مع إصلاح ما تهشَّم منها فيما بعدُ على يد ملك تَقِيٍّ.
٢  كانت تُسمَّى مدينة «منف» الجدار الأبيض، وكان معبد الإله «بتاح» يقع في الجِهة الجنوبية من هذه المدينة؛ ولذلك أُطلِق عليه «قاطن جنوب جداره»؛ أي إن الجدار الأبيض هي بلدته التي يسكن فيها.
٣  «حميس» هي البلدة التي وُلد فيها «حور» ابن «إزيس»، وهو الذي تولَّى المُلْك بعد والده «أوزير»، وموقعها كوم الخبيزة الحالي في شمالي الدلتا.
٤  كان «جب» إله الأرض، وكان أحد أعضاء تاسوع الآلهة في «هليوبوليس»، وكان والد «أوزير» و«إزيس» و«نفتيس» و«ست» و«حور» الأكبر، وكان قد حكم مصر يومًا في بداية حكم الأسرة الإلهية، ثم خَلَفَه على العرش ابنه «أوزير».
٥  بلدة بالقرب من «هليوبوليس».
٦  وهي الإلهة العظمى للوجه البحري.
٧  إله الموتى القديم في «منف»، وقد وُحِّد فيما بعد مع الإله «أوزير». مكان بالقرب من «مدينة هابو». ويُعدُّ مكان الخشب المقدس في المقاطعة الرابعة من الوجه القبلي.
٨  قبر هذا الأمير منحوت في صخور «جبانة شيخ عبد القرنة» في «طيبة الغربية» (رقم ١٢٠).
(راجع Loret, “La Tombe de Kha-m-ha”, Mission Arch. Franç. I, I. pp. 113–132). وهذا القبر قد خرَّبه الأهالي، وأُخذت نقوشه وبِيعت لتجَّار الآثار من الأوروبيين، ويوجد جزء كبير من هذه النقوش في «برلين».
٩  راجع: Mercer, Ibid. No. 4.
١٠  راجع: Albrecht Goetze, “Kizzuwatna & the Problem of Hittite Geography”, (Map).
١١  راجع: Albrecht Goetze “Kizzuwatana & the Problem of Hittite Geography”, (Map).
١٢  راجع: Albrecht Goetze, “Kizzuwatana & the problem of Hittite Geography”, (Map).
١٣  راجع: Ed Meyer, “Gesch”. 11, 1, p. 151–61. & Albrecht Goetze, ibid p. 75–81.
١٤  أيْ أغراس شيئًا لأتعلَّم به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤