«موكا» يضيع في المحيط!

تمَّ تنفيذ كل شيء بسرعة … اختاروا «أحمد» ليذهب مع «موكا» إلى جزيرة «لنجا» لإحضار التمثال الأصلي … الذي لم يكن موجودًا في الجزيرة بالطبع … ثم اقتادوا «قيس» و«عثمان» و«خالد» إلى قفص من خشب «البامبو» الغليظ … كان سجنًا لم يسبق أن دخلوا مثله … ووجدوا أنفسهم مثل الحيوانات المتوحِّشة داخل القفص الذي كان مقامًا على شاطئ المحيط … وكانت المياه تصل إليه كلما اندفعت الأمواج … ومعنى ذلك أنهم سوف يقضُون وقتهم كله واقفين … وكأنَّما شاءت الطبيعة أن تشارك في هذا السجن الرهيب … فقد أخذت الريح تشتدُّ شيئًا فشيئًا … وتجمَّعت عاصفة أخذت ترفع الأمواج وتخفضها … ووجد الشياطين الثلاثة المياه وهي تغمرهم مع كل موجة.

شاهد «أحمد» سجن الشياطين الثلاثة وهو يركب القارب مع «موكا» وشاهد ذوي الوجوه الصفراء وهم يُحيطون بالقفص … وأحسَّ أن صدره قد ضاق بهذه المغامرة السخيفة في هذه الجزر الموحشة … ولكن لم يكن أمامه ما يفعله؛ فأمام الأسلحة الأتوماتيكية لا يصحُّ التمرُّد … وهكذا قفز إلى القارب مع «موكا» ومع ثلاثة رجال آخرين أخذ اثنان منهم يُجدفان … بينما جلس الآخر بوجه جامد ويداه على سلاحه الأتوماتيكي.

أخذ القارب يبتعد عن الشاطئ تدريجيًّا في مواجهة العاصفة … وكان «أحمد» يرمق القفص الذي سُجن به الشياطين الثلاثة … وقد استقر على رأي … لو أنه استطاع الهرب من القارب، فسوف يكون في إمكانه تحرير زملائه الثلاثة والابتعاد بأسرع ما يُمكن عن هذا العالم … وقد بدأ يُنفِّذ خطته فورًا … كان عليه أولًا أن يضمَّ «موكا» إليه، فقال له بالإنجليزية: هل أحد من هؤلاء يُمكن أن يفهم ما نقول؟

رد «موكا»: لا … إنهم لا يتحدثون هذه اللغة.

أحمد: أنت تعرف أننا لن نجد في الجزيرة عند «مون» التمثال الأصلي … ومعنى ذلك أننا سنعود إلى الزعيم «أوكاكورا» لنُذبح جميعًا.

قال «موكا»: إنَّ الزعيم «مون» سوف يتصرَّف.

أحمد: لقد تركتُ مع الزعيم «مون» عصابة من القتلة على استعداد لدفع أيِّ مبلغ لقتلي أنا وزملائي … ولستُ على استعداد للمغامرة.

موكا: وماذا تُريدني أن أفعل؟

أحمد: ساعدني في التخلُّص من هؤلاء الثلاثة، وتعال نعود إلى الجزيرة لنُخلِّص أصدقائي ثم نعود بك إلى الزعيم «مون» … ونتركُك على الشاطئ ونذهب نحن، وهكذا نُحقِّق أهدافنا جميعًا.

موكا: ولكن الزعيم «مون» قد يعترض على هذه الخطة.

أحمد: إنَّ «مون» صديقي … وهو رجل معقول جدًّا … وأؤكد لك أنه سيُؤيِّد اقتراحي.

سكت «موكا» ومضى الرجلان يُجدفان … كانت العاصفة قد اشتدَّت وبدأت حركة الخمسة داخل القارب تَضطرِب … وكان الرجل الذي يضع يدَيه على سلاحه الأتوماتيكي يميل يمينًا ويسارًا مع حركة القارب … وكان بين لحظة وأخرى يُضطرُّ إلى ترك السلاح ليستند على جانب القارب حتى لا يقع في المحيط … وكان «أحمد» ينظر إلى «موكا» نظرات ذات معنى … ثم قال: سوف أنتهز فرصة لأقفز على هذا الرجل وأتخلَّص منه … وعليك أن تشغل الرجلَين الآخرين. وسيكون ما بقي سهلًا.

كان «موكا» مُضطربًا … ولكنه في النهاية قال: سأُساعدك.

وأخذ «أحمد» يرقب الرجل … وجاءت اللحظة المناسبة … رفعت موجةٌ القاربَ إلى فوق، ثم هبطت به بشدة … واضطرَّ كلُّ من في القارب إلى الإمساك بجوانبِه حتى لا يسقطوا … وانتهز «أحمد» الفرصة … وانقضَّ مثل النسر على الرجل … وكانت مهمته الأولى ألا يَسمح له باستخدام سلاحه … وهكذا وضع إحدى يدَيه على السلاح وبالثانية وجَّه إليه ضربة قوية … ولكن حركة القارب لم تَسمح له بتنفيذ خطته … فقد طاشَت الضربة … ووجد الرجل يُطبق على ذراعَيه بيدَيه كأنهما من الحديد … وتوقف الرجلان عن التجديف … ورفع أحدهما مجدافه ليَضرب «أحمد» من الخلف … وجاء الوقت الذي يجب أن يتدخَّل فيه «موكا» الذي ألقى بنفسه على الرجل وطاشت الضربة … وسقط الاثنان في الماء … وضرب «أحمد» الرجل ضربة قوية فتراخت يداه لحظةً واحدة كانت كافية ليُخلص «أحمد» ذراعه ثم يشتبك مع الرجل في صراع مُميت.

كان الرجل قويًّا كالثور … وكان الرجل الباقي في القارب قد رفع مجدافه هو الآخر محاولًا ضرب «أحمد» … ولكن التحام «أحمد» مع الرجل الأول لم يمكنه من توجيه ضربته … وكانت البندقية الأتوماتيكية قد سقطت على جانب القارب … ومع حركة الأمواج الصاخبة وحركة الصراع سقطت في الماء.

استخدم «أحمد» كلَّ براعته في تفادي ضربة المجداف التي قرَّر الرجل أن يوجهها إليه ونزلت الضربة على الرجل الذي كان مُلتحمًا معه … فتراخت يداه وسقط في جانب القارب … والتفت «أحمد» إلى الرجل الباقي … كان يُحاول ضربه بالمجداف الثاني. ولكن «أحمد» قفز في الهواء … وضربه ضربة هائلة. فترنَّح ولم يستطع التشبث بالقارب فسقط في الماء.

وجد «أحمد» نفسه وحيدًا في القارب مع أحد الرجال … وكان قد غاب عن وعيه … فأخذ «أحمد» يبحث بعينَيه في المياه بحثًا عن «موكا» … كانت الأمواج كالجبال ولم يكن هناك أثر ﻟ «موكا» … وأحس «أحمد» بالحزن على الرجل المُخلِص ثم أخذ يحاول السيطرة على القارب.

كانت الأمواج قد جن جنونها … وفي القارب ثلاثة مجاديف … قرر «أحمد» أن يستخدم واحدًا منها مكان الدفة … وألا يحاول التجديف في هذا الجو المخيف … كل ما عليه أن يسيطر على اتجاه القارب فقط … وتُلقي به المقادير حيثما تريد … وهكذا رفع المجداف وذهب إلى نهاية القارب … كانت الرياح تعصف وتكاد تقذف به عند كل خطوة … ولكنه في النهاية انبطح على وجهه واستطاع أن يربط المجداف في نهاية القارب … ثم جلس وأمسك بالدفة في يده اليُمنى … وألقى نظرة على ما حوله … كانت جزيرة «ماجا» قد غابت عن الأنظار إلا من شريط يبدو في الأفق كأنه خط رفيع بالقلم الرصاص … ونظر إلى السماء، كانت الشمس قد احتجبَت وراء السحب السوداء والجو ينذر بالمطر.

وفكر «أحمد» أنه لم يمر في حياته بمأزق كهذا … فهو تحت رحمة الأمواج والعاصفة وعدم السيطرة على الاتجاه … ثم احتمال نزول المطر … وهو في نفس الوقت جائع؛ فقد مضى على آخر طعام تناوله أكثر من عشر ساعات … وبدأ المطر ينزل في هدوء أولًا. ثم تزايد إيقاع الأمطار حتى أصبحت كالسيول … وأخذ القارب الصغير يترنح في كل اتجاه … وفجأةً انكسرت الدفة ولم يعد في الإمكان السيطرة على القارب مطلقًا … وأدرك «أحمد» أن أفضل ما يفعله أن يُلقي بنفسه في قاع القارب حتى لا تَقتلعه العاصفة … وأن يترك للرياح والأمواج أن تذهب به إلى حيث تريد … ولم يتردَّد وقام من مكانه زاحفًا … وارتمى على أرض القارب المبلَّلة بالمياه … ولحسن الحظ وجد قطعة كبيرة من البلاستيك سرعان ما التفَّ فيها ووقته من مياه الأمطار … وألقى بنفسه على الخشب المبلل وأخفى رأسه بالبلاستيك.

كانت ساعات لا تنسى تلك التي قضاها «أحمد» في القارب … وبين فترة وأخرى كان يخرج رأسه وينظر حوله … لم يكدْ يرى شيئًا … ثم هبط الظلام … وأخذت العاصفة تهدأ تدريجيًّا … وصفت السماء والتمعَتِ النجوم.

قام «أحمد» من قاع القارب … وجلس على المؤخِّرة … وأخذ يحدق حوله … ومن بعيد شاهد ضوءًا خفيفًا يلمع. وقرر الاتجاه إليه مهما كانت النتائج … فقد كان في حاجة عاجلة إلى الطعام والراحة … وأمسك بالمجدافين وأخذ يجدف بكل ما يملك من قوة وشيئًا فشيئًا كان الضوء يزداد … ومضت ساعة قبل أن يعرف من شكل الخليج الدائري … المتَّجه إليه أنه يقترب فعلًا من جزيرة «ماجا» التي خرج منها في الظهيرة … وعرف من اضطراب الضوء أنه ليس ضوءًا كهربائيًّا … إنما هو نيران كبيرة مُشتعلة … وسمع بعض أصوات الأناشيد … وأدرك أن هذا نوعٌ من الاحتفال الديني … وأدرك أيضًا أنه في أول الليل … أخذ القارب يقترب ويقترب حتى أصبح صوت الطبول والأناشيد قريبًا جدًّا، واستطاع «أحمد» أن يلمح بعض أشباح ترقص حول كومة عالية من النيران … وكانت ثمة رائحة لحم يُشوى على النار … وأحس «أحمد» بأمعائه تتقلص من الجوع وتمنى لو حصل على قطعة واحدة من هذا اللحم.

•••

مضى بالقارب بعيدًا عن النيران المشتعلة وأخذ يدور حول الجزيرة باحثًا عن المكان الذي خرجوا منه بالقارب هذا الصباح … ووجد نفسه فجأةً أمام المرسى الصغير … وشاهد على الفور شبح القفص الكبير الذي سجنوا فيه الشياطين الثلاثة «قيس» و«خالد» و«عثمان» … وتصور ما جرى لهم خلال الليل من الريح والمطر … وأحسَّ بالدم يغلي في عروقه … وأخذ يُجدِّف بكل ما بقي فيه من قوة حتى دخل إلى الطرف الأيمن من الخليج وارتطم القارب بالشاطئ … وأسرع «أحمد» يغادره، وألقى بنفسه على الأرض تحت الأشجار … كان لا يقوى على الحركة من شدة التعب … وأمضى بضع دقائق دون حركة ثم بدأ يقف ويتطلع حوله … واستطاع أن يلمح من بعيدٍ كوخ «أوكاكورا» العالي وحوله بضعة حراس يَقفون على ضوء مشعل كبير.

أخذ يُفكر لحظات … ثم سار في اتجاه الكوخ على رمال الشاطئ … وسرعان ما كان يقف على بُعد عشرات الأمتار من القفص الذي سُجن فيه الشياطين الثلاثة، ووجد حارسًا يسير حول القفص وقد حمل بندقية … ولم يكن في طاقة «أحمد» أن يدخل أيَّ صراع في هذه اللحظة … انتظر لحظات يفكر … ثم قرر اللجوء إلى أبسط الأشياء … ضربة على رأس الحارس ثم الاستيلاء على سلاحه … وانحنى على الأرض يبحث عن شيء يصلح كهراوة للضرب … ووجد غصن شجرة ضخمًا أخذ يُشذِّبه بأصابعه لحظات ثم أخذ نفَسًا عميقًا وانسلَّ كالنمر خلف الأشجار … لم يكن مسموحًا له بخطأ واحد … إن حياته وحياة الشياطين الثلاثة معلَّقة بهذه اللحظة … بهذه الضربة … ودار داخل الغابة حتى اقترب من مكان الحارس … وشاهد على ضوء المشعل الشياطين الثلاثة وهم واقفون يمسكون بأخشاب القفص … وضغط على أسنانِه غيظًا … ثم اقترب بهدوء شديد حتى أصبح عند الدائرة التي يدور فيها الحارس حول القفص. ومشى الحارس مبتعدًا ودار ثم عاد … وأصبح في مُتناول الهراوة … ورفع يده بها ثم هوى بها على الرأس الصلعاء … في ضربة جمع فيها كل قوته … وسقط الحارس دون أن ينطق بآهة واحدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤