ماذا يحدث في القاع؟!

انتزع «أحمد» البندقية التي كانت مجهَّزة بالسونكي اللامع … وبحذر شديد اقترب من القفص … وأطلق «أحمد» صيحة الخفاش … وسرعان ما بدَت على وجوه الشياطين الدهشة والترقُّب … ثم زحف «أحمد» حتى وصل إلى القفص وهمس: «عثمان» … «قيس» … «خالد» …

رد الثلاثة في نفس واحد: «أحمد».

انتزع «أحمد» السونكي اللامع من البندقية ثم قطع الحبال الغليظة التي تربط باب القفص … وسرعان ما كان الشياطين الثلاثة يَخرُجون كأنهم وحوش، وقال «أحمد»: يجب أن نبتعد بسرعة.

عثمان: هناك قارب «أوكاكورا» إنه قارب ضخم عليه ثلاثة حراس … لقد راقبتُهم وهم يجهزونه للإبحار قرب المغرب.

أحمد: أين هو بالضبط؟

عثمان: إنه في مرفأ صغير مُختفٍ خلف الأشجار … ويُمكن رؤيته من داخل الغابة … وفي الأغلب لا يمكن رؤيته من الخارج.

ومشى «عثمان» في المقدمة وخلفه بقية الشياطين … وكان «أحمد» يحمل البندقية و«عثمان» يحمل السونكي اللامع … وأشرفوا على مكان القارب … كان قاربًا من طراز عصري رائع رغم النقوش اليابانية التي كانت تُغطي جدرانه … وقد رُفع عليه علمٌ أحمر اللون، عليه رسم الوحش الأصفر … كان هناك حارس يقف عند مدخل القارب … وآخر يسير أمامه … وثالث فوق القارب ذاته … وكان واضحًا أن الترتيب الوحيد للتخلص منهم هو البدء بالذي يسير؛ فهو يصبح بعيدًا عن زملائه كل بضع دقائق … وتكفَّل «عثمان» بهذا الحارس … انقض عليه … لم يتركه إلا بعد أن سقط بين قدمَيه … ثم أخذ سلاحه … وبالطبع كان في إمكانهم التخلص من الحارسين الباقيَين بالرصاص … ولكنهم كانوا يُريدون الانتهاء منهم في هدوء دون أن يثيروا ضجة تلفت أنظار عشرات الرجال الذين يحيطون ﺑ «أوكاكورا» المقدس … وتكفل «قيس» بالحارس الذي فوق القارب … تسلق الحبل الخلفي للقارب ثم صعد إلى السطح وأخذ يزحف كالثعبان حتى أصبح خلف الحارس مباشرةً … ودار بذراعه ثم سحبه بهدوء حتى السلَّم الذي يؤدي إلى قلب القارب وتركه غائبًا عن الوعي …

كانت مشكلة الحارث الثالث هينة جدًّا؛ تقدم منه «خالد» و«أحمد» من الجانبين وصاح «خالد» هامسًا: هيه!

وقف الحارس مرتاعًا واتجه إلى ناحية الصوت … وطار خلفه «أحمد» وقفز في الهواء ثم ضربه ضربة قوية فوقَعَ على الأرض … وانقض عليه «خالد» … وأسكتَه بضربة واحدة …

قفز الشياطين الثلاثة إلى القارب، وقال «أحمد»: لا تديروا الماكينات حتى نبتعد عن الجزيرة بمسافة كافية … وسأنزل مع «قيس» ونقوم بسحب القارب …

قفزا إلى الماء … وفك «عثمان» الحبال التي تربط القارب بالشاطئ … وقام «أحمد» و«قيس» بسحب الحبال وهما يعومان حتى خرجا بالقارب بعيدًا عن الجزيرة بنحو مائة متر … ثم تسلَّقا الحبال … وسمعا في نفس الوقت صيحات الغضب وطلقات الرصاص … ولكن المحرِّكات دارت … وأخذ قارب «أوكاكورا» المقدَّس يبتعد عن الجزيرة كالسهم …

قال «أحمد» ﻟ «خالد»: أرجوك ابحث عن طعام في هذا القارب اللعين.

وأسرع «خالد» إلى مطبخ القارب … ثم عاد إلى «أحمد» في الصالون الفاخر يَحمل كميات ضخمة من الخُبز الطازج واللحم المشوي والفاكهة … وانقضَّ الثلاثة على الطعام بينما كان «عثمان» يتولى إدارة القارب …

وقال «أحمد» وهو يحشو فمه بقطعة ضخمة من اللحم: لم أشعر في حياتي بالجوع كما أشعر به هذه المرة … أريد أن آكل وأنام ألف ساعة.

خالد: وكيف عدتَ إلينا؟

أحمد: هذه قصة طويلة … المهم الآن أن نبتعد عن هذه الجزيرة اللعينة بأسرع ما يمكن … لقد ضقتُ ذرعًا بهذه المغامرة المرعبة … مع هؤلاء الصُّفر … دون أن نؤدي عملًا له قيمة …

قام «خالد» ليأخذ مكان «عثمان» واستلقى «أحمد» و«قيس» على أرض القارب وذهبا في سبات عميق … وسرعان ما كان «عثمان» بعد أن تناول طعامه قد استلقى بجوارهم … وشاركهم النوم …

جلس «خالد» وحده في كابينة القيادة … كان القارب مجهَّزًا تجهيزًا رائعًا … ودهش «خالد» لمثل هذه الفخامة المبالغ فيها … وكانت كابينة القيادة مُريحة … والبحر هادئًا والرؤية جيدة … المشكلة الوحيدة كانت إحساسه بالرغبة في النوم … وأخذت عيناه تَثقُلان فيغمضهما لحظات ثم يعود فيَفتحهما … وكان يفكر … ولكن عقله لم يكن نشيطًا … وفجأة تذكر أنهم لم يتفقُوا على اتجاه معيَّن لسير القارب … فإلى أين يتجه؟

فكر أن يترك القيادة لحظات … مع تثبيت عجلة القيادة … وينزل لمناقشة الشياطين الثلاثة ولكنه فضل أن يتركهم نائمين … فقد كان يدرك حاجتهم إلى النوم، وأغراه المحيط الهادئ … والجو الصحو والظلام أن يَختلس هو الآخر لحظات من النوم … فثبَّت عجلة القيادة في اتجاه الجنوب الغربي … ناحية جزيرة «جاوة» وكانت الخرائط أمامه تشير إلى أنه يسير الآن في بحر «جاوة» الذي تُحيط به جزر «جاوة» و«سومطرة» و«بورينو»، وأنَّ أفضل اتجاه له هو اتجاه مدينة «جاكارتا» عاصمة «إندونيسيا» فإذا استطاعوا الوصول إلى هناك فمن الممكن ركوب الطائرة إلى خارج هذه المنطقة من العالم … بعيدًا عن «أوكاكورا» ورجاله المُخيفين … و«كاسينا» وأحلامه الرهيبة … و«كوجانا» ووحشيته المتطرِّفة … لقد آن الأوان إذن أن يعودوا إلى مقرهم السري لراحة طويلة وللاستعداد لمغامرة أخرى …

كان «خالد» يُفكر في كل هذا … ثم ثبَّت عجلة القيادة … وتمدَّد في الكابينة واستسلم للنوم … وسار القارب الضخم في اتجاه الجنوب الغربي كما حدد «خالد» نحو ساعتين … وفي هذا الوقت كانت قوة خافية في مياه البحر العميقة تُطاردُه في صمت وصبر … ولم يكن أحد من الشياطين الأربعة النائمين في القارب العائم يُمكن أن يتصور أن مطاردتهم دخلت طورًا جديدًا أكثر خطورة … ذلك أن هذا الخطر الماثل تحت الماء كان غواصة من نوع جديد … غواصة يُمكنها التحكم في سير أية سفينة على سطح المياه بواسطة أجهزة متطوِّرة لم يسمع عنها العالم بعد … وهكذا فإن القارب بدلًا من أن يسير في مجراه الذي حدَّده «خالد» فإنه أخذ يتجه بسرعة إلى الجنوب الشرقي … وبدأ يخرج من بحر «جاوة» الهادئ إلى المحيط الهادئ.

استمر الشياطين الأربعة نائمين … واستمر القارب يسير في الاتجاه الجديد دون أن يتوقع النائمون أي مصير مجهول هم مسوقون إليه … ومضت الساعات … وعندما بدأ ظلام الليل ينقشع أمام ضوء الفجر كان القارب قد خرج تمامًا من خط سيره المطلوب … وأصبح يسير في منطقة مجهولة من المحيط الهادئ.

كان أول من استيقظ «أحمد» وفتح عينيه ونظر حوله … وتذكر على الفور أين هو وأحداث الليل المخيفة … وفي هذه اللحظة حدث ما لم يتوقَّعه «أحمد» ولا غيره من الشياطين … لقد نسوا تمامًا الحارس الذي ضربه «قيس» وجره إلى داخل القارب … لقد نسيَ «قيس» في غمرة الأحداث المتتالية أن يقيده …وظل الحارس مغمى عليه طول الليل … ثم استيقظ … وها هو يواجه «أحمد» وقد استل من حزامه خنجرًا ضخمًا مقوسًا …

التقت النظرات … كان واضحًا أن أحدهما لا بد أن يقضي على الآخر … وكان الحارس الضخم يُشبه نمرًا جائعًا قد انسلَّ من قفصه … محنيَّ الرقبة … مفتوح الذراعين … جلس «أحمد» في مكانه بصورة مُفاجئة … جعلت الحارس يَرفع خنجره إلى فوق مستعدًّا لإغماده في صدر «أحمد» … ولكن «أحمد» في قفزة تُشبه قفزة الضفدعة ابتعد عن الحارس بأكثر من مترين … وأصبح الآن أقدر على مواجهته ولكن الحارس الخبيث فعل آخر ما كان يتوقعه «أحمد» لقد اقترب من «عثمان» النائم تمامًا ووضع خنجره على رقبته … وفي نفس الوقت نظر إلى «أحمد» نظرة مهدِّدة … نظرة معناها … إذا أقدمت على أية حركة فسوف أقتل هذا النائم.

كان «أحمد» يعلم أن هذا الرجل مهما كان قويًّا فلن يصمد طويلًا … فأي واحد من الشياطين الأربعة قادر على هزيمته … ولكن المشكلة السخيفة أن هذا الرجل ذو العينين الضيقتين والذي يشبه الثور في حجمه قد يَجرح أحدهم أثناء هذا الصراع … وجرب «أحمد» أن يتفاهم معه فقال له: هل تتحدث الإنجليزية؟

وأشاح الرجل بذراعِه، يعني أنه لا يفهم ما يقال … كيف يتفاهم معه «أحمد» في أن فرصته في التغلب عليهم هي دون الصفر … وأن من الأفضل له الاستسلام؟ لم يكن من وسيلة … وفي هذه اللحظة أشار له الرجل أن يَنام على بطنه … أخذ يشير بيديه مرات عديدة ليشرح له ما يُريد … وجاء دور «أحمد» في إغاظته … فقد أشار له أنه لا يفهم شيئًا … وضع إصبعه على أعلا صدغِه … ثم أشار بأن لا شيء قد دخل عقله …

صاح الرجل غاضبًا كالثور، وهذا ما كان «أحمد» يريده … واستيقظ «عثمان» و«قيس» معًا … وشاهد «عثمان» نصلَ الخنجر على بُعد سنتيمترات قليلة من رقبته … وشاهد «قيس» ما يحدث ونظر إلى «أحمد» فقال له: لقد نسيتَ أن تُقيِّده يا «قيس»!

قال «قيس»: لا بأس بوجوده بيننا … إنه تسلية لطيفة.

صاح الرجل مرة أخرى مشيرًا بيدَيه … كان يريد أن يقول لهم أن يكفوا عن الحديث معًا … ولكن «أحمد» استمر في إغاظته … فأشار له أنهم لا يفهمون ما يقول … فغرس الرجل طرف خنجره في رقبة «عثمان» الذي أحسَّ بالألم فسكت الثلاثة … ولكن «قيس» قرر أن ينتهي من هذه المهزلة سريعًا … كان نائمًا على جنبه على يسار الرجل … و«عثمان» على يمينه … وبسرعة وبتقدير مضبوط رفع قدمه وضرب الرجل ضربة رمته إلى الخلف متدحرجًا … وكان هذا كافيًا لينقض عليه «أحمد» بسرعة … ويضع قدمه على يده التي بها الخنجر … وسرعان ما كان موثق اليدين والقدمين وملقًى في جانب الصالون الكبير كأنه غرارة من التبن …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤