الفصل الخامس عشر

جيني تُهْدي معلوماتٍ إلى رئيس الشرطة

بعد دقائقَ قليلة من مغادرة مبنى الخِزانة، توقفَت عربة رئيس الشرطة أمام متجر السيد فيلتز في شارع جراوبن شتراسا الواسع. وانتظرَهما الكيميائيُّ المُخضرم بنفسه، وقادهما إلى غرفةٍ داخلية خاصة.

قالت جيني وهي تُعطي الكيميائي الكيسَ الورقيَّ المملوء بالغبار: «سأكون مُمتنَّةً لك إذا أخبرتني بمكونات الخليط الموجود في هذه العبوة.»

سألها الكيميائي: «متى ترغبين في معرفة النتيجة؟»

أجابت جيني: «في أقرب وقتٍ ممكن.»

«هل يُمكن أن تُمهليني حتى الغد في مثل هذا التوقيت؟»

ردَّت جيني، وهي تنظر إلى رئيس الشرطة، الذي أومأ برأسه: «إنه توقيت مناسب للغاية.»

ومِن ثمَّ غادر الاثنان، ومرةً أخرى اصطحب رئيس الشرطة الفتاة في عربته، وتوجَّها إلى قصر شتاينهايمر. وهنا شكرته مرةً أخرى بحرارة على الاهتمام بأمرها طوال اليوم، فأجاب رئيس الشرطة بلطفٍ، لا يختلف عما كان منها من الشكر والامتنان، بأنه كان من دواعي سروره أن يكون مُرشِدَها في هذه القضية، وطلب منها السماح له بالمجيء في الساعة نفسِها من عصر اليوم التالي واصطحابها إلى الكيميائي، فوافقَت جيني على هذا، وودَّعَته مبتهجةً، وتمنَّت له قضاء أمسيةٍ سعيدة. وكانت الأميرة تنتظرها بفضولٍ طاغٍ لمعرفة ما حدث.

وصاحت الأميرة: «أخبريني يا جيني! مَن الذي فجَّر اللَّغَم، ومَن سرق الحكومة؟»

ضحكت جيني بمرح وهي تقول:

«أيَّتها الأميرة العزيزة، يا لها من مُجاملة! هل تظنين أنه خلال ظهيرة يومٍ واحد يُمكنني حلُّ لغزٍ تحدَّى قرائح أفضل المُحققين في النمسا مجتمعةً؟ أتمنَّى أن يثق بي رئيس الشرطة مثل ثقتكِ بي.»

«أوَلا يثقُ بكِ يا جيني؟»

«في الواقع، لا. ظلَّ يُراقبني في كل لحظةٍ كان فيها معي، كما لو كان يخشى أن أذهب أدراجَ الرياح، وأختفيَ مثلما اختفى الصندوق.»

«يا له من رجلٍ فظيع. سأجعل زوجي يتحدَّث إليه ويُخلِّصكِ من هذا الإزعاج.»

«بالعكس، لا تفعلي هذا أيَّتها الأميرة. لا أمانع في وجوده معي إطلاقًا. في الواقع، إنه يُسَلِّيني. ومَن يدري؟ لعلَّ الرجل يُساوره الشكُّ في أني مَن سرق المال.»

«كلمة واحدة من الأمير ستضع حدًّا لكل ذلك، كما تعلمين.»

«نعم أعلم. لكنني أريد حقًّا أن أُساعد رئيس الشرطة؛ فهو غبي للغاية.»

«والآن يا جيني، اخلعي قُبعتكِ واجلسي هنا، وأخبريني بكل ما فعلتِه اليوم. ألا ترين الفضول يكاد يقتلني؟ أعلمُ أنكِ قد اكتشفتِ شيئًا. فما هو؟»

«لن أخلع قبعتي؛ لأنني سأخرج حالًا مرةً أخرى؛ ولكن، إذا كنتِ تُحبينني، فلتأمُري لي بكوبٍ من الشاي اللذيذ.»

«سأطلبه لكِ في الحال، لكن العشاء سيُقدَّم بعد قليل، ولن تخرجي وحدكِ الليلة بالتأكيد، أليس كذلك؟»

«لا بدَّ حتمًا أن أخرج الليلة. ولا تنسَي أنني قد اعتدتُ الاعتناءَ بنفسي في مدينةٍ أكبر من مدينة فيينا، وسأكون آمنةً تمامًا. وأرجو أن تقبلي اعتذاري عن عدم جلوسي إلى مائدة العشاء الليلة.»

«هذا كلام غير مقبول يا جيني! لا يُمكنني السماحُ لكِ بالتجوُّل في فيينا بهذه الطريقة البوهيمية.»

«إذن أيَّتها الأميرة، لا مفرَّ من الانتقال للإقامة في فندق، إذ لا يُمكنني الاستغناء عن هذه الجولة التفقُّدية، ولا أريد أن أُسيء إلى سُمعة قصر شتاينهايمر.»

«جيني، سأُخبركِ ماذا سنفعل؛ كلانا سنُسيء إلى سُمعة القصر، فالأمير سيتناول العشاء الليلة في النادي مع بعض الأصدقاء، ولذا سأطلب العربة، وسنتجوَّل أنا وأنتِ معًا. ستدَعيني آتي معكِ؛ أليس كذلك؟ إلى أين ستذهبين؟»

«أنا ذاهبة إلى شارع جراوبن شتراسا لمقابلة السيد فيلتز.»

«يا للمصادفة، أنا أعرفُ السيد فيلتز ذلك الرجل العجوز الطيب؛ سوف يفعل أيَّ شيءٍ من أجلي. إذا كنتِ تُريدين من السيد فيلتز أن يُسديَ إليكِ صنيعًا، فمن الأفضل أن تأخُذيني معكِ.»

«يُسعدني هذا. آه، ها قد جاء الشاي! ولكن ما الحاجة إلى طلب العربة؟ يُمكننا السير إلى هناك في غضون بضع دقائق.»

«أعتقد أنَّه من الأفضل أن نستقلَّ العربة. سيغضب الأمير كثيرًا إذا علم أننا تجوَّلنا في شوارع فيينا ليلًا؛ ولذا يا جيني، علينا أنْ نُولِيَ بعض الاحترام للتقاليد ونستقلَّ العربة. والآن، أخبريني أين كنتِ، وماذا رأيتِ، وكل ما جرى.» وبينما هما يحتسِيان الشايَ الذي استغرق تحضيرُه بعض الوقت، روَت جيني لها كلَّ ما حدث.

«وما الذي تتوقَّعين أن تعرفيه من تحليل الكيميائي يا جيني؟»

«أتوقَّع أن أعرف شيئًا سيُذهل رئيس الشرطة.»

«وما هو ذلك الشيء يا جيني؟ لا تُقلقيني بهذه الطريقة الاستفزازية. كيف يُمكنكِ التصرُّف هكذا؟ سأكتبُ إلى اللورد دونال وأُخبره أنكِ هنا في فيينا، إذا لم تُمانعي.»

«حسنًا، في ظل هذا التهديد الرهيب، لا مفرَّ من البوح بكل ما يجُول في خاطري من شكوك؛ لكنني في الحقيقة لا أعرفُ أيَّ شيءٍ حتى الآن، فما يُساورني هو مجرد شكوك. لقد بدا من وزن ذلك الغبار عندما أخذتُ حفنةً منه أنَّ الذهب لا يزال موجودًا في كومة الركام.»

«أتدرين ما تقولينه؟! إذن لم يكن هناك أيُّ سطوٍ على الإطلاق؟»

«ربما كانت هناك عملية سطو مُخطَّط لها، لكنني أعتقد أنه ما من لصٍّ قد استحوذ على أي جزءٍ من الذهب. الاحتمالات المطروحة هنا أنهم استهانوا تمامًا بقوة المُتفجِّرات التي استخدموها؛ لأنهم — ما لم أكن مُخطئة للغاية — استخدموا مادةً أقوى مائةَ مرة من الديناميت.»

«وهل سيُظهر التحليل الكيميائي نوعَ المتفجرات المُستخدَمة؟»

«لا؛ سيُظهِر فقط مُكوِّنات الركام. وسوف يحسم مسألةَ ما إذا كان الذهب قد تحوَّل إلى ذرَّات دقيقة داخل كومة الغبار أم لا. وإذا كان الأمر كذلك، فأعتقد أن الحكومة ستدين لي بالشكر؛ لأن رئيس الشرطة تحدَّث عن نقل الركام وإلقائه بعيدًا عن الأنظار في مكانٍ ما. وإذا استعادت الحكومةُ ذهبها، فإنني أتصوَّر أن مسألة تحديد هُوية مَن فجَّر اللغم ستفقد أهميتها، وستغدو مجرد شكلياتٍ.»

دخلَت إحدى الخادمات وقالت للأميرة: «العربة في انتظاركِ يا صاحبة السمو.» فقفزت في الحال، وقالت:

«سأُصبح جاهزةً في غضون خمس دقائق. إنني مُتشوِّقة مثلكِ تمامًا لسماع ما سيقوله الكيميائي؛ لكني أظنُّ أنكِ أخبرتِني أنه لن يفرغ من التحليل قبل الساعة الرابعة من عصر الغد. فما فائدة الذَّهاب إلى هناك ليلًا؟»

«لأني على يقينٍ بأن رئيس الشرطة سيذهب إلى هناك في وقتٍ مُبكِّر من صباح الغد؛ ولهذا أريد أن أحصل على النسخة الأولى من التحليل بنفسي.»

ذهبَت الأميرة إلى غُرفتها مُسرِعة ثم عادت وهي في كامل هيئتها استعدادًا للخروج. وتوجَّهتا إلى متجر السيد فيلتز في شارع جراوبن شتراسا، ولكن هناك جاء مَن أبلغَهما أن الكيميائي لا يُمكن مُقابلته بأي حالٍ من الأحوال؛ إذ إنه ترك أوامر بعدم إزعاجه.

فقالت الأميرة: «تجاهَل هذه الأوامرَ وأعطِه هذا الكارت.»

نظر الرجل إلى الكارت فتبدَّدَت شكوكه، وأسرع لإبلاغ سيده.

فهمسَت الأميرة لرفيقتها: «لا بدَّ أنه مشغول بالعمل على التحليل الآن، أؤكِّد لكِ هذا.» وبعد وقتٍ قصير ظهر السيد فيلتز بنفسه. واستقبل الأميرةَ بحفاوةٍ بالغة، لكنه بدا مُندهشًا من رؤية الفتاة التي قابلَتْه قبل ساعاتٍ قليلة مع رئيس الشرطة في رفقتها.

قالت جيني: «أردتُ أن أطلب منكَ إنهاء العمل على التحليل قبل الساعة الرابعة عصر الغد. وأظنُّ أن ذلك ممكن؟»

ابتسم رجل العِلم ونظر إليها برهةً لكنه لم يرُد. فقالت الأميرة: «ستُسْدي خدمةً إلى صديقتِك إن أنتَ فعلتَ ذلك، وآمُل أن تفعل.»

أجاب الكيميائي ببطءٍ: «يُسعدني أن أُسديَ خدمةً لأي صديق من طرف صاحبة السمو، لكن يُؤسفني أن هذه المرة لديَّ أوامرُ من جهةٍ سيادية لا يُمكن مُخالفتها.»

سألتْه الأميرة: «ما هذه الأوامر؟»

«لقد وعدتُ بإنهاء التحليل في الساعة الرابعة من عصر الغد، وفي ذلك الموعد سيُصبح جاهزًا، وتستطيع السيدة الشابة الاطلاعَ عليه. وقد أُمِرت بعدَم إظهار التحليل لأي شخصٍ قبل ذلك الوقت.»

«على ما أظنُّ أن هذه الأوامر من رئيس الشرطة، أليس كذلك؟» فانحنى الكيميائي دون أن يتفوَّه بكلمة.

«لقد فهمتُ ما حدث يا جيني؛ لقد جاء إلى هنا بعد توصيلكِ إلى المنزل مباشرةً. أظنُّ أنه أتى إليكَ مرةً أخرى في غضون ساعة من مغادرته مع هذه السيدة الشابة، أليس كذلك يا سيد فيلتز؟»

«سموك تُوقِعينني في حرجٍ بطرح أسئلةٍ تعهَّدتُ ألا أجيبَ عنها.»

«هل انتهيتَ من التحليل؟»

«هذا سؤالٌ آخرُ أتمنَّى من كل قلبي ألا تطرحيه يا صاحبة السمو.»

«حسنًا يا سيد فيلتز، سأطرح عليك سؤالًا أو سؤالَين لن تشعُر تجاههما بأيِّ حرج. لقد أخبرتُ صديقتي هنا أنكَ ستفعل أيَّ شيءٍ من أجلي، لكني كنتُ مخطئة.»

أشاحَ الكيميائي بيدَيه مُستنكرًا ثم مَدَّهُمَا في إشارةٍ إلى أنه مغلوبٌ على أمره. كان من الواضح أن سوء تصرُّفه كان سببًا في شعوره بندمٍ شديد. وكان على وشك أن يتحدَّث، لكن الأميرة قالت باندفاع:

«هل رئيس الشرطة صديق لك يا سيد فيلتز؟ أنا لا أقصد مجرد صديقٍ رسمي ولكن صديق شخصي.»

«لقد أسدى لي العديد من الخدمات يا صاحبة السمو، فضلًا عن أنَّني مثلي مثل أي مواطن آخرَ في فيينا ليس أمامي خيارٌ آخر سوى الرضوخ لأوامره.»

تابعت الأميرة وقد بدا واضحًا أنها استشاطت غضبًا من هذه المعارضة غير المتوقَّعة: «ما أريد أن أعرفه هو إذا كنتَ تتمنَّى للرجل الخير أم لا؟»

«أتمنَّى له الخير بالتأكيد يا صاحبة السمو.»

«في هذه الحالة، اعلم أنه إذا غادرَت صديقتي هذا المكان دون الاطلاع على نتائج تحليل المواد التي أحضرَتْها إليك، فسيُفصَل رئيس الشرطة من الخدمة غدًا. وإذا كان لديك شكٌّ أن في استطاعتي التأثيرَ على زوجي لتنفيذ هذا الأمر، فجرِّب أن تُخرِجنا من هنا دون أن تُلبِّيَ طلبنا.»

طأطأ الرجل العجوز رأسه الذي يعلوه الشَّيب.

وقال: «يا صاحبة السمو، سأتحمَّل مسئولية عدم الانصياع لأوامر رئيس الشرطة. اسمحي لي بلحظة.»

ثم دخل إلى مَعمله، وعاد يحمل ورقةً في يده.

وقال مُخاطبًا جيني: «ينبغي أن يكون مفهومًا أن التحليل قد انتهى على نحوٍ تقريبي. كنتُ أنوي التفرُّغ هذه الليلةَ لمراجعته بدقة.»

قالت جيني: «كل ما أريده في الوقت الحالي هو تحليل تقريبي.»

قال الكيميائي وهو يُناولها الورقة: «ها هو ذا.» فقرأت جيني محتواها:

كالسيوم ٢٩
حديد ٤
كوارتز ٢٧
فلسبار
ميكا
ذهب
آثار لمواد أخرى
المجموع ١٠٠

لمعَت عينا جيني وهي تنظر إلى الأرقام التي أمامها. ثم ناولت الورقة للأميرة قائلة:

«انظُري، لقد كنتُ مُحقةً في تخميني. إنَّ أكثر من ثلث تلك الكومة من الذهب الخالص.»

قال الكيميائي: «يجب أن أشرح، لقد جمعتُ الكوارتز والفلسبار والميكا معًا، دون كتابة النِّسَب الخاصة بكلٍّ منها على حِدَة؛ لأنَّ من المعروف بالطبع أن الثلاثة معًا تُمثل الجرانيت.»

قالت جيني: «أتفهَّم ذلك؛ لأن الجدران والسقف من الجرانيت.»

وتابع الكيميائي: «أودُّ أن أُضيف كذلك أنني لم أُصادف من قبلُ عينةً من الذهب المسحوق بهذه النعومة.»

«هل فصلتَ الذهب عن المكوِّنات الأخرى؟»

«نعم يا سيدتي.»

«سآخُذها معي، إذا سمحت.»

وبعد فترةٍ وجيزة أحضر لها الكيميائي المكوِّنات في زجاجاتٍ صغيرة مكتوب على كلٍّ منها اسم ما تحتويه.

«هل لديكَ أي فكرة يا سيد فيلتز، ما نوع المتفجرات التي يُمكنها تحويلُ الذهب إلى مسحوق ناعم مثل هذا؟»

«ليس لديَّ سوى معرفةٍ نظرية بالمتفجرات، ولا أعلم أي مادةٍ يُمكن أن تُؤدي إلى مثل هذه النتائج التي لدَينا هنا. ربما يُمكن للبروفيسور كارل سيجفريد أن يُفيدكِ بخصوص هذه النقطة؛ فهو أمضى حياته في دراسة علم المتفجرات، وهو أكثر العلماء نبوغًا في هذا المجال.»

«هل يُمكنكَ أن تُعطيَني عنوانه؟»

كتب الكيميائيُّ العنوانَ على ورقةٍ وسلَّمه إلى الفتاة.

«هل تعرف ما إذا كان البروفيسور سيجفريد قد استُدعي هو أو أيٌّ من مُساعديه أثناء هذا التحقيق؟»

«أيُّ تحقيق يا سيدتي؟»

«التحقيق في الانفجار المروِّع الذي وقع مؤخرًا.»

أجاب الكيميائي باندهاش: «لم أسمع أخبارًا عن أي انفجار.»

وعندئذٍ تذكَّرَت جيني أنَّ تفاصيل الكارثة التي وقعت في الخِزانة باتت معروفةً للعالَم بأسره خارج النمسا، دون أن يدري أهلُ فيينا بأي أخبارٍ عنها.

وتابع الكيميائي مُلاحِظًا تردُّد جيني: «إنَّ البروفيسور ليس رجلًا عمَليًّا، لكنه مُتعمِّق في دراسة كل ما يتعلق بمجاله، وقد حقَّق بعض الاكتشافات العظيمة في مجال العلوم البحتة، لكنه لم يُقدِّم سوى القليل فيما يخصُّ تطبيق معرفته في أي غرضٍ مفيد لحياة الناس اليومية. إذا قابلتِه ستجدينَه حالِمًا ومُنظِّرًا، ولكن إذا نجَحتِ في إثارة اهتمامه تجاه أي مسألة، فسوف يُلاحقها حتى النهاية بغضِّ النظر تمامًا عن الوقت الذي سيستغرقه في ذلك أو أينما استدعاه الأمر؛ تلبيةً لنداءِ الواجب.»

قالت جيني بأسلوبٍ حاسم: «إنه إذن الرجل الذي أرغب في مقابلته.» ومِن ثمَّ غادرتا متجر الكيميائي، واستقلَّتا العربة مرةً أخرى.

قالت جيني: «أريدُ الذَّهاب إلى مكانٍ آخر قبل فوات الأوان.»

صاحَت الأميرة: «يا إلهي! أنتِ بالتأكيد لا تنوين مقابلة البروفيسور سيجفريد الليلة؟»

«لا؛ لكنني أريد أن أذهب إلى مكتب رئيس الشرطة.»

قالت الأميرة: «حسنًا، لن يستغرق هذا وقتًا طويلًا.» توجَّه بهم السائق إلى المَدْخل الليلي لمركز الشرطة الرئيسي بجوار هوهنشتاوفنجاسا. تركَت جيني الأميرة في العربة، ثم ذهبت وحدَها للتحدُّث إلى الضابط المسئول.

وقالت: «أُريد أن أُقابل رئيس الشرطة.»

«لن يحضر إلى هنا قبل صباح الغد. إنه الآن في منزله. هل لديكِ أمر مُهم تَودِّين إبلاغه به؟»

«أجل، وما عُنوان منزله؟»

«إذا تلطَّفتِ وأخبرتِني بمشكلتكِ يا سيدتي، فسيكون من دواعي سرورنا أن نُعاونكِ في حلها دون إزعاج السيد رئيس الشرطة.»

«يجب أن أُقابل رئيس الشرطة شخصيًّا. إن الأميرة فون شتاينهايمر في عربتها بالخارج، ولا أريد أن أجعلها تنتظر.» وبمجرد أن جاءت على ذكر الأميرة، انتبه الضابط وأصبح مُهذبًا للغاية.

«سأتصل برئيس الشرطة في الحال، وسيُسعده استقبالُكِ للغاية.»

«مهلًا، هل لديك هاتفٌ هنا؟ وهل يُمكنني التحدُّث إليه بنفسي دون أن يسمع أحدٌ حواري معه؟»

«بالتأكيد يا سيدتي. إذا دخلتِ هذه الغرفة معي، فسأتصل به وأترككِ تتحدَّثين إليه.»

وهذا ما كان بالفعل، وعندما جاءها صوت رئيس الشرطة على الجانب الآخر من الهاتف، عرَّفته جيني بنفسها قائلة:

«أنا الآنسة باكستر التي تكرَّمتَ بمُرافقتِها لمبنى الخِزانة ظهيرة اليوم.»

أجاب المدير: «أجل، أتذكرُكِ؛ أعتقد أننا أرجأنا التحقيق إلى الغد.»

«نعم، هذا ما كان مُخططًا له، لكني أردت أن أؤكد أنه إذا تدخَّل أحدٌ في خُططي، وإذا وُضِعْتُ تحت المراقبة، فسأُضطَرُّ إلى الانسحاب من التحقيق.»

مرَّت لحظات قليلة قبل أن يردَّ رئيس الشرطة، ثم قال وصوتُه يُخالجه بعض التردُّد:

«يُؤسِفني اضطرارُكِ إلى الانسحاب، ولكن، إذا كنتِ ترغبين في ذلك، فالأمر يرجع إليكِ تمامًا. لديَّ مهامُّ يجب إنجازها، وعليَّ أن أُؤدِّيها بأفضل ما لديَّ من إمكانياتٍ متواضعة.»

«هكذا هو الأمر إذن! وأنا مُمتنَّة لكَ أنْ حدَّثتني بوضوح. أظنُّ أنك قد شكَكت اليوم في قدرتي على المساعدة، ومِن ثمَّ تدخلتَ في عملي.»

أردفَ رئيس الشرطة: «لا أظنُّ أن كلمة «تدخُّل» هي الكلمة المناسبة؛ لكن يجب أن أعترف بأن الانصياع لجهود الهُواة لم يُثمِر أبدًا نتائجَ جيدة، وهو ما لم نستطع نحن الحصول عليه بسرعةٍ وفعالية أكبر، والقوةُ النظامية تحت قيادتي.»

«حسنًا، إنَّ القوة النظامية تحت قيادتك عمِلَت لعدة أسابيع، ويبدو أنها لم تُنجِز الكثير. أما أنا فلم أُكرِّس لهذه المسألة سوى جزءٍ من فترتَيْ بعد الظهيرة والمساء، وقبل أن أنسحب أودُّ أن أُقدِّم إليك بعض المعلومات التي قد تُثير اهتمامك وتُبلغها إلى الحكومة، وأنا على استعدادٍ تام لأن تأخُذ السَّبْق في هذا الاكتشاف؛ لأنني لا أرغب في الظهور بأي حالٍ من الأحوال في هيئةِ مُنافسٍ لك. أتسمَعُني بوضوح؟»

ردَّ رئيس الشرطة: «تمامًا يا سيدتي.»

«إذن، أولًا، أبلِغِ الحكومة أنَّ ما حدث ليس سطوًا.»

«لم يكن هناك سطو؟ هذا غير معقول، اعذريني إذا قاطعتُكِ فجأة! ولكن أين الذهب إذا لم يكن هناك سطو؟»

«سأُخبرك حالًا. ثانيًا: أبلغِ الحكومة أنها لم تفقد شيئًا. إنَّ كومة الركام التي اقترحتَ التخلُّص منها بعيدًا تحتوي غالبًا على المائتي مليون فلورين المفقودة بأكملها؛ إذ إن أكثر من ثُلث الكومة هو ذهبٌ خالص. وإذا كنتَ تريد إسداءَ خدمةٍ إلى أحد أصدقائك الأوفياء وتُفيد الحكومة في الوقت نفسِه، فعليكَ أن تنصح الحكومة بالاستعانة بخدمات السيد فيلتز، كي يتمكن من استخراج الذهب بأكمله من الركام وبأسلوبٍ فعَّال. وأُرشح لك السيد فيلتز، لاقتناعي بأنه كيميائيٌّ على درجةٍ عاليةٍ من الكفاءة. وقد أنقذَتكَ كفاءتُه الليلة من أن تُعزَل غدًا من منصبك؛ لذلك يجب أن تكون مُمتنًّا له. والآن يُشرفني أن أتمنَّى لك ليلةً سعيدة.»

قال رئيس الشرطة بنبرةٍ مُتوسِّلة عبر الهاتف: «انتظري، انتظري لحظة! سيدتي العزيزة، اغفري لي أيَّ خطأ صدر مني، وانتظري لحظةً أو اثنتَين. مَن المسئول إذن عن هذا الانفجار، ولماذا نفَّذه في الأصل؟»

«هذا ما سأترك لسيادتك محاولة معرفته. فكما ترى، لقد قدمتُ لك نتائج تحقيقاتٍ توصلتُ إليها خلال بضع ساعات فقط، ولا يُمكنك أن تتوقَّع مني اكتشافَ كل شيءٍ في هذه المدة البسيطة. لا أعرف كيف وقع الانفجار، ولا أعرف مَن هم الجُناة، أو مِن أين جاءوا. ربما يستغرق الأمر الغدَ بأكمله لمعرفة ذلك؛ لكن بما أنني وكلتُ التحقيقات لأهلها عندما وضعتُها في يدٍ خبيرة مثلك، فعليَّ أن أتحلَّى بالصبر إلى أن تُرسِل لي التفاصيل الكاملة؛ ولذا، مرةً أخرى، تُصبح على خير يا سيادة الرئيس.»

«لا، أرجوكِ لا تذهبي الآن. سأحضر على الفور إلى القسم، إذا تكرمتِ بالانتظار حتى أصل.»

«إنَّ الأميرة فون شتاينهايمر تنتظرني في عربتها بالخارج، ولا أرغب في تأخيرها أكثرَ من ذلك.»

«إذن أتوسَّل إليكِ لا تتوقَّفي عن تحقيقاتك.»

«لماذا؟ إنَّ جهود الهواة غير مُجدِية، كما تعلم، عند مقارنتها بعمل القوة النظامية.»

«أعتذرُ إليكِ سيدتي العزيزة، يجب أن تَصفحي عما قاله رجلٌ عجوز في لحظةٍ طائشة. لو أنكِ تعرفين عدد الهواة الذين يتدخَّلون في عملنا الصعب للغاية دون أي جدوى، لالتمَسْتِ لي العذر. هل أنتِ واثقةٌ تمامًا مما أخبرتِني به، وأن الذهب موجود في كومة الركام؟»

«واثقة تمامًا. وسأترك لك في المكتب هنا التحليلَ الذي أجراه السيد فيلتز، وإذا كان بإمكاني تقديمُ المزيد من المساعدة، فلا بدَّ أن يكون مفهومًا جيدًا أنك لن تتدخَّل مرةً أخرى في أيٍّ مما يُمكنني فعله. فإنَّ ذَهابك إلى السيد فيلتز الليلةَ بعد أن تركتَني وأمره بعدم إعطائي أيَّ معلوماتٍ هو أمرٌ أتردَّد في وصفه باسمه الصحيح. وعندما يُصبح لديَّ أي شيءٍ آخر لِأُخبرك به، فسأُرسِل لك.»

«شكرًا جزيلًا؛ سأظل دائمًا تحت أمركِ.» وهكذا انتهت هذه المكالمة الهاتفية على نحوٍ جيد، وسارعَت جيني إلى الأميرة، بعد أن توقفَت في طريقها لإعطاء الورقة التي تحتوي على نتائج التحليل إلى الضابط المسئول، وطلبَت منه تسليمها إلى رئيس الشرطة عندما يحضُر إلى مكتبه. وبإتمام هذه المهمة، شعرَت بالارتياح لأن المتاعب التي واجهَتها في يومٍ مثل هذا — حافل بالأحداث — لم تذهب سُدًى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤