الفصل الثالث عشر

المواد الحيوية البحرية: كيف يَستخدِم علم الأحياء البحرية الكيمياء في صُنع المواد

جوناثان جيه-ويلكر
جامعة بوردو

جوناثان ويلكر هو أستاذ مُشارك في الكيمياء وهندسة المواد في جامعة بوردو في غرب لافايت، إنديانا. ويُركِّز برنامجه البحثي على المواد التي تُنتجِها الكائنات البحرية. تشمل مَجهوداته المستمرة توصيف المواد البيولوجية البحرية، وصُنع مُحاكاة للبوليمرات الاصطناعية، وتصميم تطبيقات لهذه المواد الجديدة. وغالبًا ما تكون المشروعات مُستوحاةً ممَّا يُشاهِده في أثناء مُمارسته للغطس.

مرحبًا أنجيلا

اتركي الكُتب … (حسنًا، ليس هذا الكتاب)، نحن ذاهبون إلى الشاطئ!

(١) أيَّتها العالِمة الشابة، اذهبي إلى البحر

لنذهب إلى بِرَك المدِّ والجزر ونبحث عن مخلوقات بحرية مشوِّقة، يُمكِن لأي بُقعة على الشواطئ البحرية الصخرية أن تفي بالغرَض. ولا بدَّ أن يتزامَن وصولنا مع انحِسار الماء عن الشاطئ. يتصادَف أنكِ تسكُنين بالقُرب من إحدى البِقاع المفضلة لي، وهي لاجونا بيتش في كاليفورنيا الجنوبية؛ فحين يذهب المرء بالسيارة نحو ساحل البحر عبر الطريق ١٣٣، سيصل مُباشَرةً إلى الشاطئ الهلالي الشكل. انظُري إلى يَمينك وستجدين منطقة صخرية ضخمة بارزة، بها أطنان من الأشياء الرائعة التي يُمكِننا اكتشافها. عليكِ ارتداء صندل أو حِذاء رياضي قديم لا بأس إن تعرَّض للبلَل؛ لأن الصخور والأصداف والأعشاب المرجانية حادَّة للغاية، وعليكِ تَوخِّي الحذر من الانزِلاق على العُشب البحري.

fig77
شكل ١٣-١: بعض أنواع الأحياء البحرية اللَّزجة التي تجدينها في بِرَك المَدِّ والجزر؛ بلح البحر (يسارًا)، وعُشب البحر (في الوسط)، ومَحار البرنقيل يُغطِّي صخرة (يمينًا).
وبينما تسيرين بحذرٍ فوق الصخور، يُمكنكِ رؤية أطنان من بلح البحر، ومحار البرنقيل، وقنافِذ البحر، وشقائق النعمان، والأعشاب البحرية، والمرجان، ونجوم البحر، وحلزونات البحر (القواقع) والأسماك الصغيرة. ويُوضِّح شكل ١٣-١ بعضًا من هذه المخلوقات. إذا كنتِ محظوظة، فربما تتمكَّنين من إلقاء نظرةٍ على سرطان البحر أو السَّلطعون الذي يَختبئ في شقٍّ بين الصخور. ارفعي رأسك بين الحين والآخر وانظُري نحوَ البحر؛ فهذه البُقعة جيدة لرؤية أسد البحر وهو يزأر عليكِ، أو حتى يُمكنُك رؤية الدلافين والحيتان الرمادية أبْعدَ قليلًا.

ربما لا يكون واضحًا للوَهلة الأولى، ولكن ثمَّةَ الكثير والكثير من التفاعُلات الكيميائية الساحرة تحدُث هنا تحت قدميكِ. كوني حريصة حتَّى لا تَسحقي الكثير منها بقدميكِ! وربما يكون أفضل ما في الأمر أنَّ مُعظم هذه التفاعُلات الكيميائية غير معروفة وفي انتظار أن يَكتشِفها أحدٌ ما.

أمسِكي واحدةً أو اثنتَين من بلح البحر، وحاوِلي انتِزاعها من الصخور. شيء صعب جدًّا، أليس كذلك؟ ماذا عن إحدى تلك الأنابيب التي صنعَتْها الدِّيدان البحرية؟ ستحتاجين إلى مِطرقةٍ وإزميل لتتمكَّني من استخلاص إحداها. وماذا عن محار البرنقيل هذا؟ لا تُتعبي نفسك حتى بمُحاوَلة سحبِهِ من الصخور؛ فلا سبيل إلى ذلك. إذن، في رأيك كيف تستطيع هذه المخلوقات لصْق نفسها جيدًا على هذا النحو؟ يُمكنكِ، بمُلاحظةٍ سريعة، رؤية أنهم يصنعون موادَّ لاصِقةً وإسمنتًا. حسنًا، ماذا عن التركيب الكيميائي لهذه المواد اللاصقة؟ من المثير للاهتمام، أننا لا نَعرف هذا حتى الآن؛ فنحن لدينا بعض المعلومات، لكن في الأغلب لم يُمكن التوصُّل إلى التركيب الكيميائي لهذه المواد بعد. انظُري إلى أيٍّ من الحيوانات الصغيرة الموجودة حولك في بركة المدِّ والجَزْر، واسألي نفسك سؤالًا بسيطًا ربما عن كيفية صُنع المادة الحيوية البحرية، أو يُمكنك التساؤل عما يتكوَّن منه الإسمنت البحري بالضبط، أو عن كيفية عمله، أو عن نوعية الروابط الكيميائية الموجودة بداخله. في الواقع تبدو هذه الأسئلة بسيطة، ولكن الاحتمال الأكبر أن الإجابة عن أسئلتك غير معروفة. وبالنسبة إلي، هنا تكمُن مُتعة العلم؛ حين تكون المعرفة المتاحة قليلة.

(٢) توصيف المواد الحيوية البحرية

وكل هذا يَعني لكيميائي ناشئ أن ثَمَّة أطنانًا من التركيبات الكيميائية الرائعة، في انتظار أناسٍ مِثلكِ ليبدءوا في استكشافها؛ فأمامكِ مجالٌ بَحثيٌّ مفتوح تتجوَّلين فيه بِحُرية، لِتُحقِّقي فيه اكتشافات جديدة، وتُصمِّمي تقنيات جديدة. إن هذا كله مُمتِع للغاية بحيث لا يسعُك أن تَمُرِّي عليه مرور الكرام. إذن ما الذي تُريدين معرفته؟ حسنًا، في البداية لِنُحاولْ معرفة كيف تُصنع المواد في الطبيعة. يُمكنُنا الحديث عن المواد الصُّلبة مثل أصداف البحر، أو المواد اللِّينة مثل المادة اللاصِقة التي يُفرزِها بلح البحر. ونحن نُريد التعرُّف على الأنواع الأساسية للجُزيئات التي تُصنَع منها المواد؛ فنحن نريد مثلًا معرفةَ كيف تلتصِق مادة لاصِقة حيوية بالصخور؛ فيُمكننا التساؤل حول الأداء الآلي لهذه المواد، أو ربما تتساءلين حول طبيعة الأسطُح التي لا تلتصِق عليها هذه الحيوانات.

يُمكنُكِ البدء بطرْح أسئلتك من منظور عالم كيمياء، لكن أحد الجوانب الممتِعة الكثيرة لهذا النوع من الأبحاث، أنكِ سُرعان ما تُفكِّرين أيضًا في مواضيع في الكيمياء الحيوية، وعلم الأحياء البحرية، وعلم المواد، وهندسة المواد. فأنتِ هنا لديكِ الكثير من الفُرَص للإبداع؛ فتُوجَد أسئلة أكثر بكثير من أن يُتاح لكِ الوقت للإجابة عنها، وما عليكِ إلا اتِّباع حَدْسك لكلِّ ما تجدينه مُثيرًا للاهتمام.

فدومًا يُوجَد لدَينا تنوُّع كبير في الدراسات التي تُجرى في وقتٍ واحد. يُمكننا البدء بالعمل الميداني لملاحظة المخلوقات البحرية وأسلوب حياتها، بعد ذلك يُمكنُنا جمْع بعضٍ منها وإحضاره مَعَنا إلى المختبَر؛ فقد بنَيْنا نظامًا من الأحواض المائية الضخمة في مُختبرنا من أجل تربية مثل هذه الحيوانات وملاحظتها. وبينما تنمو هذه الكائنات داخل الأحواض المائية، تُفرز أيضًا مادَّتها اللَّزِجة فنجمعها وندرسها. ويُمكِننا تحديد الخواص الميكانيكية للمواد؛ على سبيل المثال، يُمكننا حمْل بلح البحر على إفراز مادته اللاصِقة على ركائز مختلفة، وبعد ذلك نقيس قوة التِصاقها عندما نُغيِّر السطح أو كيمياء المياه. ويُمكننا بعد ذلك استخدام عددٍ كبير من تِقْنيات التحليل الطَّيفي الكيميائية لنبدأ في تحديد مُكوِّنات هذا الغراء، وربما تنشأ أفكار بشأن نوعية الجزيئات الموجودة داخل الغراء أو نوعية الروابط.

ومن الطُّرق الأخرى للتوصُّل إلى تركيب المواد البيولوجية، مُحاوَلة استخلاص الجزيئات؛ فإنِ استطعْنا تحويلَ جُزءٍ من المادة، على الأقل، ليُصبح قابلًا للذَّوبان، فقد يكون من الأسهل قليلًا التعرُّف على المادة الموجودة لدَينا. فإذا استطعنا مثلًا سَحْب بروتين من مادَّة صلبة، فسيُمكننا إجراء مجموعةٍ من الدراسات الكيميائية الحيوية التي ستُساعدنا على فَهْم ما يحدث. فيمكن العثور على الجزيئات الصغيرة في هذا البروتين أيضًا، وفي بعض الأحيان قد نلجأ لتصنيع جزيئات صغيرة في محاولةٍ لتقليدِ ما قد تبدو عليه المادة الأكبر والسليمة. فإذا وجدْنا وظيفةً ما أو نشاطًا تفاعُليًّا مُشابِهًا في هذه الجزيئات الصغيرة، فإنه يُساعد في معرفة نوع التفاعُلات الكيميائية التي ربما تحدُث تحت الماء. ومن الأشياء الممتِعة الأخرى التي نفعلها، تصنيع جُزيئات كبيرة تُحاكي الكيمياء التي نكتشفها في حيوانات البحر. بعد ذلك، ندمج هذه الجزيئات الكبيرة معًا حتى تُكوِّن موادَّ وظيفية تُحاكي ما نحصُل عليه من المحيط؛ وهكذا، ربما تبدئين بتوصيف الصَّمغ الحيوي البحري وينتهي بكِ الحال إلى التوصُّل إلى غِراءٍ جديد مُصنَّع ويعمل تحت الماء.

أعتقِد بشكلٍ عام، أن كل هذا يَحمِل الكثير من المرَح؛ فنحن نعمل للكشْف عن طريقة تصنيع المواد في الطبيعة؛ فالمعروف حاليًّا قليل للغاية، ولهذا نحن مُلزَمون باكتشاف شيءٍ جديد طوال الوقت، وهذا وحده كافٍ لإبقائنا مُتحمِّسين أثناء العمل في هذا المجال. ولكن الأمر يتعدَّى أكثر من هذا بكثير؛ إذ يُمكننا بسهولة تَخيُّل أن المعرفة بشأن هذه المواد سوف تُترجَم إلى تطوير تطبيقات.

ألن يكون من الرائع بعد إجراء جراحة أو التعرُّض لإصابة أن تستطيعِ لصْق جلدِك أو أنسجتك الداخلية معًا؟ فهذا سيُجنِّبك الألم أو التعرُّض لأضرار إضافية بسبب خياطة الجروح. لا يُوجَد الآن أي نوع جيد من الغراء يؤدي هذا الغرض؛ فمُعظم المواد اللاصِقة التي رأيتِها تحتاج إلى أن تجفَّ قبل أن تلتصِق. لكن هذا بالطبع لا يُجدي نفعًا مع بيئة بيولوجية داخلية تكون دائمًا رطبة. الحل يُوجَد عند الأحياء البحرية؛ ففي النهاية، هذه الكائنات تلصق أنفسها تحت الماء. وماذا عن مُحاولة منع كل هذه الكائنات البحرية من الالتصاق بهياكل السفن؟ فربما تتعرَّفي في البداية على طريقة التصاقها، ثم بعد ذلك تَصنعين أسطُحًا تمنَع التِصاقها؛ وهكذا تستطيع السفن الإبحار في المياه بسهولةٍ أكبر، وتحرق وقودًا أقل.

يُمكنكِ رؤية أنَّ ثمَّة الكثير من التطبيقات التي تنشأ أيضًا من هذا الخطِّ من أبحاث الكيمياء. وفي الصفحات التالية، سنُناقش المعلومات المعروفة عن طريقة صُنع الأحياء البحرية للمواد وطريقة عملها، ثم سنَنظُر في الطريقة التي يُحاول بها الناس صُنع نُسختِهم الخاصة من هذه المواد؛ فسنَستعرِض تطبيقاتٍ خاصَّةً بكلٍّ من الإلصاق، ومنْع الإلصاق أيضًا. لذلك كُوني مُستعدَّة؛ فأمامنا الكثير من الاستكشاف الكيميائي!

(٣) كيف تَلتصِق؟

عند النظر في كلِّ مكانٍ من حولك في بِرَك المدِّ والجزر، يُمكنك رؤية الكثير من الكائنات المختلفة الملتصِقة بالصخور؛ الديدان الأنبوبية، والبرنقيل البلوطي، وبرنقيل الإوز، والبطلينوس، وبلح البحر، والأعشاب البحرية، وحلزونات البحر، ونجمة البحر، وشقائق النعمان (انظر ١٣-١). نحن لا نَعرِف حتى الآن كيف يَلتصِق مُعظمُها؛ ولهذا ثَمَّة الكثير من العِلم الممتِع أمامك لاستكشافه في المستقبل. دعيني أُقدِّم لكِ حاليًّا نظرةً عامة حول ما نعرفه عن هذه المخلوقات؛ فنحن العلماء لدَينا معلومات عن المادة اللاصِقة التي يُفرِزها بلح البحر أكثر من أيِّ نظامٍ بَحْري آخر.

(٣-١) التِصاق بلَح البحر

من وقتٍ لآخَرَ نذهب إلى البحر ونجمع بلح البحر من الشواطئ في جميع أنحاء نيو إنجلاند، ونُحضرها معنا إلى المختبر لتنمو في خزَّانات. يُوضِّح شكل ١٣-٢ (يسارًا) بلح بحر يَلتصِق بِلَوحٍ من الزُّجاج. يُمكنكِ رؤية أن آلية الالتصاق تتكوَّن من خيوط تخرُج من المَحارة، وكلُّ خيطٍ ينتهي بقُرصٍ صغير (أو «لوح») من مادَّة لاصِقة؛ فهذا في الواقع هو الغِراء الملتصِق بالسطح الزجاجي. هذه اللوحات اللاصقة صغيرة جدًّا؛ إذ تبلغ مساحتها نحو ملِّيمترَين فقط. وعلى الشاطئ تكون هذه المادة اللاصقة عادةً مُغطَّاة بالصَّدَفة وتَصعُب رؤيتها بعض الشيء، ولكنكِ إذا جَذبتِ واحدةً من بلح البحر ونظرتِ عن قُرب، يُمكنك رؤية الغِراء. يُوضِّح شكل ١٣-٢ أيضًا بلَح بحر وضعْناه على لوحة تيفلون (مُتعدِّد رُباعي فلورو إثيلين). نجِده يَلتصِق جيدًا بهذا السطح؛ فهذا غِراء مُبهِر حقًّا؛ إذ يَلتصِق بطبقة التيفلون على هذا النحو.
fig78
شكل ١٣-٢: بلح بحر يَلتصِق بِلوحٍ من الزُّجاج (يسارًا)، ولوح تيفلون (يمينًا).

هذه اللوحات اللاصِقة هي مادَّة أساسها البروتين، والبروتينات هي جُزيئات طويلة وكبيرة. ومن عدَّة جوانب تُكوِّن البروتينات بوليمرات بسيطة؛ فهي جُزيئات طويلة مُكوَّنة من العديد من المونومرات المتَّصِلة. وفي حالة البروتينات، تُوجَد عادةً ٢٠ وحدة مونومرية مُختلفة، تُعرَف باسم الأحماض الأمينية. وفي المعتاد تتكوَّن البروتينات من أكثر من ٥٠٠ حمض أميني مُتَّصِلة بعضها ببعض، ولها وزن جُزيئي أكبر من ١٠٠ ألف وحدة كتلة.

عندما يُريد بلح البحر الالتِصاق بسطحٍ ما، يُفرِز هذا الحيوان خليطًا من البروتينات، بعد ذلك تتشابَك البروتينات لمعالجة المادة. وعلى الرغم من أنَّ عملية تَشابُك البروتينات هذه ليسَت عمليةً شائعة الحدوث، فإننا نراها من وقتٍ لآخر، وغالبًا ما يكون هذا في المواد الصلبة. والتشابُك هو عملية عن طريقها ترتبط جزيئات البروتين الطويلة المختلفة بعضها ببعض بروابط كيميائية، تظهر في شكل ١٣-٣. وتُساعِد عملية التشابُك هذه في غلْق النظام بالكامل في مكانه. فَكِّري في فيلم «سارقو التابوت الضائع» حين سقط أنديانا جونز في حُفرة من الثعابين المتلوِّية؛ فحركة كل تلك الثعابين جعلت الأرض تبدو كما لو أنها تتحرَّك في مكانها. تخيَّلي لو أنكِ تستطيعين استخدام حبلٍ لربط كلِّ ثُعبانٍ في واحدٍ أو اثنين من الثعابين المجاورة؛ فإن كل هذا العدد من الثعابين لن يكون قادرًا على التلوِّي على الإطلاق. التشابُك البروتيني يُشبِه، في كثيرٍ من النواحي، ربْطَ كل هذه الثعابين معًا. وفي حالة بلح البحر، بمجرَّد تعرُّضِه للتشابُك، فإن الغِراء ذا الأساس البروتيني يُعالَج وينغلِق على السطح.
fig79
شكل ١٣-٣: مُخطط عام لجُزيئات بروتين طويلة تشابُكية.
على الأرجح تتساءلين كيف يُكوِّن بلح البحر الروابط الكيميائية الخاصة بعملية تشابُك البروتينات بعضها ببعض. يبدأ التفاعُل الكيميائي بجُزيء غيرِ مُعتاد إلى حدٍّ ما في البروتينات اللاصقة يُسمَّى ٤،٣-ثُنائي هيدروكسي فينيل ألانين (دوبا) الموضَّح في شكل ١٣-٤ (يسارًا). وبوصفِه جُزيئًا صغيرًا في حدِّ ذاته يُمكن أن يكون دواءً يُستخدَم في علاج داء باركنسون (الشلل الرَّعَّاش). وعند وجود جُزيء الدوبا داخل سلسلة من البروتين (شكل ١٣-٤، يمينًا)، يَستفيد بلح البحر من قُدرة الدوبا التفاعُلية في إحداث التشابك. ومن النادر للغاية رؤية الدوبا داخل بروتين. والطبيعة عادةً ما تعمل بكفاءة عالية؛ فعند وجود شيءٍ ما، فوجوده يكون لسببٍ جيد. يتعرَّض الدوبا للأكسدة أسهل بكثيرٍ من أيٍّ من الأحماض الأمينية العشرين الأخرى المستخدَمة في علم الأحياء لصُنع البروتينات. يتمتَّع الدوبا أيضًا بالقُدرة على ربط أيونات المعادن على نحوٍ جيد، ويبدو أنَّ هذا المزيج من القُدرات المتمثِّلة في القُدرة على الربط بين المعادن، وسهولة التعرُّض للتأكسُد، محوريٌّ على الأرجَحِ في عملية التشابُك في بروتينات بلح البحر وتكوينه لمادَّته اللاصقة.

لقد تمحوَرَ عملُنا حول بلح البحر الحي، واستخلَصْنا البروتينات، والببتيدات الصغيرة المصنَّعة (أو قِطع من البروتينات) في مُحاولة لتحديد العمليات الكيميائية التفاعُلية التي ترتكِز عليها عملية تكوين بلح البحر لمادته اللاصقة. عليكِ ارتداء الكثير من القُبَّعات عند إجراء مثل هذه الدراسات؛ فقد تَجِدين نفسك في يومٍ ما عالِمة في الكيمياء التركيبية، وفي يوم آخَر عالِمة في الأحياء البحرية، أو مُتخصِّصة في الكيمياء الحيوية، أو مُهندسة مواد؛ فكلُّ فئةٍ من التجارب تُعطي مَنظورًا مُختلفًا على إحدى المشكلات البحثية. فإن جرَتِ الأمور على نحوٍ جيد، يُمكنكِ الحصول على بيانات تكميلية في حين تُشير كل التجارب للنتيجة نفسها. ففي حالة المادة اللاصِقة لبلح البحر، تعرَّفْنا على بعض الكيمياء المثيرة للاهتمام.

fig80
شكل ١٣-٤: جُزيء واحد من الدوبا، كاتيكول، والدوبا مُقيَّد في سلسلة بروتين.

يَحصُل بلح البحر على الحديد من مياه البحر المحيطة به، وعلى الرغم من عدم وجود تركيزات عالية من الحديد (أو المعادن الأخرى) في مياه البحر (على سبيل المثال، ١–١٠ أجزاء في المليار)، فإنه يُوجَد بكمياتٍ كافية لاستدامة كل صور الحياة التي تُشاهدينها عند وجودك على الشاطئ. يجمع بلح البحر الحديد من الماء المحيط به ويُدخِل هذا الحديد إلى مادَّته اللاصقة. يَحتوي الغِراء الناتج على حديدٍ أكثر بنحو ١٠٠ ألف مرة من الماء الذي يعيش فيه بلح البحر؛ يا له من أمرٍ مُثير للاهتمام! أليس كذلك؟

fig81
شكل ١٣-٥: مُركَّب Fe(DOPA)3 المزمَع كونه مِحورِيًّا في عملية تشابُك البروتين في مادَّة بلح البحر اللاصِقة.
قد وجدنا عبر سلسلة من الدراسات المختلفة أن الحديد الموجود في الغِراء يَرتبِط بفعل مجموعات الدوبا الموجودة في البروتينات اللاصقة. وعلى وجه التحديد، تربط ثلاثة جُزيئات من الدوبا كلَّ ذرةٍ من الحديد لتُعطي مُركَّبًا من المعدن والبروتين، الواضح في شكل ١٣-٥. وعلى وجه الخصوص، يكون هذا الحديد في البداية مُرتبطًا بِجُزيء الدوبا في عنصر الحديد في حالة الأكسدة . بعد ذلك يتفاعَل عنصر الأكسجين O2 مع مُركَّب Fe(DOPA)3 ويُنتج نوعًا من الجذور داخل البروتين (شكل ١٣-٦). يُختزَل جُزيء الحديد هذا من ، وتتعرَّض مجموعة الدوبا للأكسدة في الوقت نفسه. وعملية الأكسدة هي عبارة عن نزْع إلكترون (حصل عليه ) من أجل صُنع الجِذر.
fig82
شكل ١٣-٦: الأكسدة والاختزال في مادة بلح البحر اللاصقة لتوليد جِذر تفاعُلي. تُعبِّر النقطة السوداء عن الجِذر. وربيطات الدوبا المرتبطة بمركز جُزيء الحديد Fe، التي يُمكن رؤيتها بالكامل في شكل ١٣-٥، مُبسَّطة هنا ولا يَظهر منها إلا حلقة واحدة.
fig83
شكل ١٣-٧: مُخطط تَوضيحي للنشاط التفاعُلي للجِذر الحر في مادة بلح البحر اللاصقة. يَنتُج عنه تشابُك بروتين مع بروتين وترابُط بروتين مع السطح. لاحظي أنَّ الجذور الموضَّحة هي تبسيط لتلك الموجودة في مركز الفلز، الموضَّح في شكل ١٣-٦.
ومن بين كافَّة الجُزيئات التي تُشاهدينها في الكيمياء، الجذور الحُرَّة هي الأكثر تفاعُلية. لذلك عند تكوين جِذرٍ حر، تحدُث الأشياء بسرعة وبعشوائية. في هذه المرحلة من العملية، لا يَتوفَّر لدينا إلا القليل من الرُّؤى الكيميائية المفصَّلة. ولكن تُساورنا حاليًّا شكوك بأن هذه الجذور يُمكنها فِعل شيئين فيما يتعلَّق بتكوين غِراء بلح البحر، وكلاهما مُوضَّح في شكل ١٣-٧. أولًا: من المحتمَل أن تتفاعَل الجذور مع بعضها، ومن ثَمَّ تُولِّد روابط تَساهُمية عضوية بين البُروتينات. هنا نحصُل على تَشابُك بروتين مع بروتين لمعالجة المادة. وهذه الروابط المتقاطعة تُشبِهُ الثعابين المربوطة معًا بحبل. وغالبًا ما تُسمَّى هذه العملية الأولى «بالترابُط المتماسِك»؛ إذ تتفاعَل المادة مع نفسها.

ثانيًا: ربما تتمكَّن الجذور الحُرَّة من التفاعُل مُباشرةً مع السطح الذي يُحاول بلح البحر الالتصاق به، ومن ثمَّ تُنشِئ روابطَ تساهُمية مع السطح. يُطلَق على هذه العملية الثانية «الترابُط اللاصق»، التي فيها يرتبط الصمغ فعليًّا بالسطح. وتحتاجين كلًّا من الترابُط المتماسِك واللاصِق لصُنع غِراءٍ جيد. ففي حال حدوث الترابُط المتماسِك فقط، فإن الغِراء يترابَط مع نفسه، مِمَّا يُنتَج عنه كُرة صلبة، ولكنه يتجاهل السطح تمامًا. أما في حال وجود الترابُط اللاصق وحده، فإن هذا سيؤدِّي إلى وجود طبقةٍ رقيقة من المادة على السطح، لكن باقي الغراء لن يَبقى في مكانه.

وعند وَضْع جميع أفكارنا الكيميائية معًا، يُصبِح لدَينا الآن تَصوُّر لطريقة حدوث التشابُك بين بروتينات بلح البحر. بعض التفاصيل تحتاج للتوضيح، لكنَّنا ما زِلنا نعمل على ذلك، وفي سبيلنا إلى تحقيقه. ويُمكنكِ رؤية تنوُّع كبير في هذه الرَّخويات إذ تجمع بين الكيمياء غير العضوية، والكيمياء العضوية، والكيمياء الحيوية للبروتين وعلوم المواد في صُنع صمغها المذهِل. وماذا عن كافَّة المَخلوقات الأخرى الموجودة في البحر؟ كيف يَصنعون موادَّ لاصقة ومواد أخرى؟ المعروف عن هذه الكائنات أقل بكثير؛ لذا ثَمَّة مساحةٌ كبيرة لكِ للانضمام إلينا وتوصيف المواد الحيوية البحرية معنا. والآن لنُلقِ نظرةً على هذا ونُلخِّص ما نعرفه في هذه المرحلة.

(٣-٢) المواد البيولوجية البحرية الأخرى

  • البرنقيل: بعد بلح البحر، ربما تكون المعلومات الأكثر توفُّرًا لدَينا متعلِّقة بطريقة صُنع البرنقيل البلوطي الشائع لمادته اللاصقة. يُمكنكِ رؤية محار البرنقيل على صخرة في شكل ١٣-٨. وهنا أيضًا تعتمد المادة على البروتينات المتشابِكة. ومع ذلك لا وجود للدوبا في بروتينات مادة البرنقيل اللاصِقة. فربما تتأكسَد مجموعات الثيول في الحمض الأميني سيستئين (أي مجموعات RSH) إلى ثنائي الكبريتيد وتُسهِم في تشابُك بروتيني مُؤكسد لتُكوِّن مادة البرنقيل اللاصقة، على الرغم من أنَّنا ما زلنا غير مُتأكِّدين من هذا. ويعتمِد تصفيف الشَّعْر على هذا النوع فقط من تكوين ثُنائي الكبريتيد لربط خصلات الشعر معًا وتثبيتها على شكلٍ مُعيَّن. ويبدو أن المادة الإسمنتية للبرنقيل تتكوَّن من نحو ٩٠٪ من البروتين على عكس مادة بلح البحر اللاصقة التي تتكوَّن من ٩٩٪ بروتين، على الأقل. أما باقي المادة الإسمنتية للبرنقيل فتتكوَّن من ٥٪ مادة غير عُضوية، بالإضافة إلى احتوائها على كميات صغيرة من الكربوهيدرات والليبيدات. وتُشير بعض النتائج الحديثة المثيرة للاهتمام إلى وجود تَشابُهٍ غير مُتوقَّع بين العمليات الكيميائية المسئولة عن تصلُّب المادة الإسمنتية للبرنقيل وتجلُّط الدم لدى البشر.
fig84
شكل ١٣-٨: محار البرنقيل على صخرة (يسارًا) وصورة تحت الماء لديدان أنبوبية على صخرة أيضًا (يمينًا).
  • الديدان الأنبوبية: تُمارِس الدودة الأنبوبية بسيطةُ التكوين عمليات هندسية مُبهِرة للغاية على المواد. في شكل ١٣-٨، يُمكنكِ رُؤية الأنابيب التي صنعَتْها الديدان المتعدِّدة الأشواك أو ديدان شجرة عيد الميلاد. كان اليوم الذي التقطتُ فيه هذه الصورة تحت الماء مُظلِمًا وكثيرَ الضباب، ولكن ربما ما زال بإمكانك رؤية الأنابيب ورءوس الديدان الحمراء الداكنة في يسار الإطار، وهي تُشبِهُ تمامًا شجرة عيد الميلاد. ويُمكنك العثور على مِثل هذه الأنابيب الدودية في جميع أنحاء الشواطئ الصخرية في جنوب كاليفورنيا. تصنع هذه الديدان غِراءً، ولكن بكميَّات قليلة. وبينما تصنع هذا الغِراء تجمع أيضًا حبَّات الرمال، وأجزاء من الأصداف المكسورة، وموادَّ صُلبة أخرى من المناطق المحيطة بها. بعد ذلك، تخلط غِرائها العضوي بهذه الجُسيمات الصغيرة غير العضوية لتصنع مادَّةً مُركَّبة حقيقية. يا له من استخدام فعَّالٍ للغاية للمواد! وبالنسبة لخواصِّ هذا الغِراء، فلدَينا بعض الأفكار القليلة عنها. فهذا الغِراء يعتمد في تكوينه على البروتين ويحتوي على بعض الدوبا. وتميل بروتينات الغِراء هذه أن تكون أنيونية (أي ذات شُحنة سالبة)، وربما تخلط الديدان بروتينها الأنيوني في الموجود في الغِراء مع كاتيونات مثل أيون الماغنسيوم وأيون الكالسيوم من أجل تكثيف البروتينات وتكوين المادة النهائية.
  • البطلينوس: يُمكنكِ أن تُشاهِدي في شكل ١٣-٩ البطلينوس، الذي يَشيع وجُوده على مُعظم الشواطئ الصخرية. فالبطلينوس يَستخدِم كُلًّا من الغِراء وجُزء ماصٍّ كبير للالتِصاق على الأسطح في منطقة المدِّ والجَزْر. وعند المدِّ المنخفِض، عندما تَنحسِر المياه عن هذه الأسماك القشرية تميل إلى البقاء في مكانها والاعتماد على مادتها اللاصقة في الالتصاق بالأسطح. وعند ارتفاع المدِّ تُصبح هذه الحيوانات تحت الماء وتتحرَّك بحثًا عن الغذاء. فهي تَستخدِم الجزء الماصَّ الكبير لدَيها إما لتبقى في مكانها أو تتحرَّر وتتحرك. لا يُوجَد وصفٌ دقيق لتكوين غِرائها، ولكنَّنا نعرِف أنه يُوجَد بروتين في هذه المادة اللاصقة، ويُوجَد بالإضافة إلى ذلك حوالي ٥٠٪ مكون غير عضوي.
    fig85
    شكل ١٣-٩: بطلينوس على صخرة (يسارًا). خيار البحر تحت الماء (في المنتصَف) والجُزء السُّفلي من نجمة البحر يظهر من خلال لَوحٍ زُجاجي (يمينًا).
  • خيار البحر: ربما لن تُشاهِدي الكثير من خيار البحر في بِرَك المدِّ والجزْر، لكن إن ذَهبتِ للغَوص في الأماكن الصحيحة فستجِدِين الكثير منها (شكل ١٣-٩). فتَمتلِك حيوانات خيار البحر هذه آلية دفاعية فريدة من نوعها. فعندما تتعرَّض للتهديد من أحد المفترِسات، تُخرِج حيوانات خيار البحر غِراءً شديد الالتِصاق ويَجمُد بسرعة حتى يُعيق المفترِس الذي يُطارده. وبينما يُحاول المفترِس التخلُّص من هذه الفوضى، يهرب خيار البحر إلى برِّ الأمان. وهنا أيضًا لا تُوجَد لدينا تفاصيل كثيرة عن أسلوب عمل هذا اللاصِق الحيوي، ولكنَّنا نعرِف أن هذا الغِراء يحتوي في تكوينه على حوالي ٦٠٪ من البروتين ونحو ٤٠٪ من مُتعدِّد السكاريد.
  • نجوم البحر: عندما تنظُرين حولك في بِركة المد، لا بُدَّ لكِ من مُشاهَدة الكثير من نجوم البحر. افحصيها عن قُرب، أو يُمكنك النظر إلى شكل ١٣-٩، حيث نُشاهد فيه نجمة بحر عبر لَوحٍ من الزُّجاج ونرى فيه الجُزء السُّفلي من هذا الحيوان. شاهدي كل هذه المَحالِق الصغيرة (أي الأقدام الصغيرة) التي تستخدِمها نجمة البحر في التحرُّك. تُوجَد مادَّة لاصِقة في طرف كلٍّ من هذه المحالِق. وتتحرَّك نجمة البحر عن طريق مَدِّ بعضٍ من هذه المحالق وجعلها تَلتصِق بالأرض وتسحَب باقي جسمها معها، ثم تُحرِّر المحالق وتُكرِّر هذه العملية عدَّةَ مرَّات. وإن انتظرتِ بعض الوقت عند بركة المدِّ والجزْر ستتمكَّنين من رؤية نجمة بحر وهي تأكل واحدة من بلح البحر. إنه مشهد رائع للغاية. فتلفُّ نجمة البحر نفسها حول بلح البحر كُليًّا، وتلصق نفسها بصَدَفَته باستخدام المحالق، ثم تَفتح المحارة حتى تتمكَّن من الوصول إلى الوجبة الموجودة في داخلها. وثَمَّة سؤالٌ مُهِم: ما نوع الغِراء الذي تَستخدِمه نجمة البحر في الالتصاق؟ وثَمَّة سؤالٌ آخَر: كيف تَفصِل نفسها عن السطح؟ عند هذه النقطة كلُّ ما نستطيع قوله في الواقع حول هذا إن مادتها اللاصقة تَحتوي على بروتينات، مُتعدِّد السكاريد وليبيدات، وأن محتواه من المادة غير العضوية يُمثل حوالي ٥٠٪ من المادة الكلية.

يُمكنكِ رؤية أننا حتى الآن استطعنا الكشْف عن بعض الكيمياء المثيرة للاهتمام لتفسير طريقة صُنع الحيوانات البحرية موادها اللاصقة. لكن ما نَعرِفه عن هذا أقلُّ بكثيرٍ مِمَّا نجهَلُه. فثَمَّة الكثير من الفُرَص في انتِظار الباحثين الجُدُد، مِثلك، للانضمام إلى هذا المجال. هل تُريدين ابتكار مشروعٍ بَحثيٍّ جديد؟ ما عليكِ إلا النظر حولك في بركة المد. فيُمكنُك العثور بالتأكيد على بعض الحيوانات التي تصنع موادَّ ذات خصائص مُثيرة للاهتمام. وأنا مُتأكِّد من أن الكيمياء المستخدَمة في مُعظمِها ما زالت غير معروفة.

(٤) استخراج الغِراء من بلح البحر

الآن، بعدما ذهبتِ إلى الشاطئ وحاولتِ الحصول على بعضٍ من هذه المخلوقات البحرية من فوق الصخور، على الأرجَح شعرتِ بانبهار شديد. لكِ أن تتخيَّلي بسهولةٍ أن ثَمَّة الكثير من الأشياء الرائعة التي يُمكِن فِعْلها بهذا الغِراء؛ مثل صُنع مواد لاصقة جِراحية أو مواد لاصِقة للأسنان. لكن لا يُمكنُك فعل هذا إلا إذا حصلتِ على كمٍّ كبير من هذه المادة. ولديَّ أخبار لكِ أيضًا: هذا ليس سهلًا. تذكَّري غِراء بلح البحر في شكل ١٣-٢. فهذه الألواح اللاصقة صغيرة للغاية ولا يُمكنُك الحصول على أي غِراء مُفيد من هذه الألواح لأنها مُعالجة بالفعل. فإذا أردتِ استخراج غراء بلح البحر، فعليكِ الحصول على البروتينات من داخل الحيوان قبْل أن يُفرِزها على الصخرة. لقد فعلْنا هذا في مُختبرنا مرَّات عديدة صعبٌ حصرُها. والسبب في أنه تحتَّمَ علينا استخراج البروتين عدَّةَ مرَّات هو أنَّنا نحصل على كميَّات ضئيلة للغاية من البروتين اللاصِق في كلِّ مرة. ربما قد نحصُل على ٢٠ ملِّيجرامًا، على الأكثر، في كل مرة. فللحصول على جرامٍ واحدٍ من بروتين المادة اللاصِقة لبلح البحر، ربما تحتاجين إلى البدْءِ بالحصول على نحو ١٠ آلاف من بلح البحر! ومع كثافة العمل المطلوب ربما يَستغرِق الشخص الواحد شهرَين كامِلَين في المختبر لاستخراج هذا الجرام الواحد من الغراء. ومن أجل التطبيقات الفعلية سنكون بحاجةٍ إلى كيلوجرامات من هذا الغراء، إن لم يكن أطنانًا. لا، فاستخراج المادة الحقيقية ليس عمليًّا على الإطلاق. فعلَيْنا التحلِّي بالذكاء والبحث عن طُرقٍ أُخرى للحصول على اللاصِقات الحيوية.

وتُقدِّم التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية أحدَ السُّبُل الممكنة. فيُمكننا استخدام الهندسة الوراثية في الحصول على بكتريا، مثل الإشيريكية القولونية الشائعة حتى تُنتِج البروتينات التي تَملكها في العادة. في هذه الحالة يُمكننا إجبار البكتريا لتبدأ في إفراز البروتينات اللاصقة لبلح البحر أو البرنقيل. هذا الأسلوب يَحمِل قدرًا من الأمل للمستقبَل، وكثير من الناس ينظرون إليه عن قُرب. ربما تكونين قد سمعتِ عن حالة الشركة التي استولدت ماعِزًا باستخدام الهندسة الوراثية من أجل أن يُنتِج خيوط العنكبوت الحريرية، وهي مادة حيوية أُخرى مُثيرة للاهتمام تعتمِد على البروتينات. أنتج الماعِزُ بروتينات هذه الخيوط الحريرية في ألبانها وبكمياتٍ معقولة. لكن أحد مُشكلات هذه الطريقة كانت ظهور أن الماعِز يَفتقِر لنظام الغزْل الموجود لدى العناكب؛ ومن ثمَّ في حين تستطيع الماعز إنتاج البروتينات، فإن المعالَجة النهائية لم تكن موجودة، وبروتين الحرير هذا المصنوع باستخدام الهندسة الوراثية لا يَمتلِك على الإطلاق الخصائص نفسها لخُيوط العناكب الحريرية الحقيقية. وهذه الشركة أفلست.

تقدَّمت الكيمياء التَّخليقية بِخُطًى واسِعة في العقود الأخيرة خاصَّةً فيما يتعلَّق بالقُدرة على تصنيع الببتيدات وحتى البروتينات الصغيرة. إلا أنه في حالة بروتينات المواد اللاصقة البحرية، لا يكون التخليق الكامل أمرًا عمليًّا؛ فبعض البروتينات اللاصقة لها أوزان جُزيئية تصِل لأكثر من ١٠٠ ألف وحدة كتلة، والذي يتعذَّر الوصول إليه حاليًّا بالنسبة للبروتينات المخلَّقة. فحتى عند تخليق بروتينات صغيرة، لا يُمكن الحصول إلا على كمياتٍ ضئيلة للغاية وبتكلفةٍ كبيرة.

وعلى العكس من ذلك، فإن البوليمرات المخلَّقة يُمكِن صُنعها على نطاقٍ واسعٍ وبتكلفةٍ ضئيلة للغاية. فكِّرِي في كيف تَنتشِر البوليمرات الضخمة (أي «اللدائن») في كل مكان من حولك. فالقلَم الموجود في يدِك الآن، وغلاف المفكرة الموجودة أمامك، والمقعد الذي تجلسين عليه، كلها مصنوعة على الأرجح من البوليمرات. وفيما يتعلَّق باللاصقات الحيوية البحرية؛ فنحن نُريد الحصول على خصائص المادة المبهِرة التي تصنعها هذه المخلوقات في غِرائها. ونُريد أيضًا الوصول إلى هذه المواد بالطُّرق نفسها التي نحصُل بها على البوليمرات الضخمة أو اللدائن. ولهذا، ثَمَّةَ تَوجُّه مُثير للاهتمام هو أن نأخُذ بعض التفاعُلات الكيميائية من بروتين المادة اللاصِقة لبلَح البحر، على سبيل المثال، وندمجه في بوليمر ضخم. وتعمل كثير من المختبرات على استكشاف هذا التوجُّه البحثي بما فيها مُختبرنا. دعينا نستكشف معًا هذه العملية الفكرية التي نتحدَّث عنها هنا.

لنبدأ بالبروتين اللاصق لبلح البحر. نجِد أن له وزنًا جُزيئيًّا ضخمًا ربما يصِل إلى ١٠٠ ألف وحدة كتلة. فنجِد فيه الأحماض الأمينية القياسية العشرين بالإضافة إلى الدوبا، والتي تُمثِّل ٢١ وحدة مونومرية مُختلفة. هذا مُعقَّد للغاية. وربما حتى نحصل على مادة لاصقة جيدة كل ما نحتاج إليه فعليًّا هو عمود فقري طويل للبوليمر، ومجموعة تفاعُلية نشِطة بين الحين والآخر تُحاكي الدوبا. يظهر هذا المفهوم الاختزالي في شكل ١٣-١٠، الذي نُفكِّر فيه في بروتين دوبا مُعقَّد ثُمَّ نُبسِّطه بعد ذلك لأي عمود فقري قديم للبوليمر باستخدام مجموعات تُشبِهُ الدوبا، من أجل الإبقاء على كيمياء التشابُك التي نعرف أنها مُهمَّة.
وكمثالٍ على البوليمر البسيط، لنُلقِ نظرةً على البوليستيرين. هذا البوليمر على وجه الخصوص من السهل صُنعه على نطاقٍ واسع، فهو يحتوي على حلقات فينيل التي تُشبِهُ إلى حدٍّ ما في حجمها حلقات الدوبا، وهو نوع رخيص من البوليمرات وليس له في الواقع خصائص لاصِقة في حدِّ ذاته. بعد ذلك ندخل مجموعات الكاتيكول (أي، ٢،١-ثنائي هيدروكسي البنزين؛ شكلين ١٣-٤ و١٣-١٠) في البوليمر حتى يُحاكي الدوبا في البروتين. وفي حالة بروتينات بلح البحر اللاصقة، تختلف كمية الدوبا، لكن لنقُلْ إنها حوالي ١٠٪ من الدوبا ونحو ٩٠٪ من مونمرات الأحماض الأمينية الأخرى. أحد أشكال المحاكاة التركيبية لبروتينات بلح البحر اللاصقة يظهر في شكل ١٣-١١. فَكِّري في بوليمر مثل بوليستيرين عادي مع مجموعة كاتيكول نشِطة تتدلَّى من سلسلةٍ بين الحِين والآخر بترتيبٍ عشوائي. ربما تُوجَد تسعة مونمرات من الستيرين في صفٍّ واحد، ثُمَّ مونمر مع الكاتيكول النشِط، ثم تِسعة مونمرات ستيرين أُخرى، ثُمَّ كاتيكول، وهكذا. ونحن نصنع الكثير من بوليمرات المحاكاة الحيوية المختلفة، ولكن نظام البوليستيرين هذا يعمل على توضيح عملية التفكير التي تحدَّثنا عنها بمِثالٍ بسيط نسبيًّا.
fig86
شكل ١٣-١٠: بروتين لاصِق يحتوي على الدوبا مُختزل لأي عمود فقري للبوليمر مع مجموعات كاتيكول مُتدلِّية من أجل مُحاكاة الدوبا.
fig87
شكل ١٣-١١: بوليمرات مُحاكاة حيوية تعتمِد على البوليستيرين ومصنوعة على غرار بروتينات بلح البحر اللاصِقة. على اليسار نجِد التركيب الكيميائي للستيرين و٤،٣-ثنائي هيدروكسي السيترين بوليمير إسهامي. وعلى اليمين نرى رسم تخطيطي يُوضِّح أن مجموعات كاتيكول (أو ٤،٣-ثنائي هيدروكسي الستيرين) قد اندمجت عشوائيًّا في جميع أجزاء سلسلة البوليمر.
ويُمكنكِ الآن التساؤل: «حسنًا، رائع، لكن ماذا يفعل هذا البوليمر المذهِل؟» حسنًا، إنَّ أول شيء جيِّد في نظام البوليمر الجديد هذا أننا نستطيع تنفيذه على نطاق واسع — عدة جرامات أو حتى كيلوجرامات في المرة الواحدة وبقليلٍ من الجهد. والأهم من ذلك، أن البوليمر يَلتصِق جيدًا. في الواقع على نحوٍ جيد للغاية. وتمامًا مثل مادة بلح البحر اللاصقة المستخرَجة من هذه الحيوانات مُباشرةً، يُمكِننا إجراء عملية تَشابُكٍ بين هذه البوليمرات. فالحديد الثلاثي يعمل جيدًا وكذلك بعض عوامل الأكسدة القوية مثل بريودات الصوديوم NaIO4. والالتِصاق الجماعي يكون في قوة غِراء السيانو أكريلات «الفائق» الذي ربما تَكونين قد استخدمْتِهِ في المنزل. وهذه هي أكبر قوة التِصاق قد يصِل إليها أي غراء. حتى إن قوة التِصاق صور المحاكاة المصنَّعة تكون أكبر بقليلٍ من قوة التِصاق غِراء بلح البحر الحيوي، الذي صُنعتْ على غِراره. وهذه البوليمرات الجديدة يُمكنها أيضًا الالتصاق بقوَّةٍ تحت الماء.

إذن فإن هذا المِثال يُوضِّح لنا كيف يُمكننا استكشاف المواد المصنوعة في الطبيعة، وتوصيف تركيبتها الكيميائية، ثم نَستخدِم هذه المعرفة بعد ذلك في تصميم موادَّ جديدة ذات خصائص مُثيرة للاهتمام. والآن ماذا بعد ذلك؟ لنِحاولِ الآن تطوير تطبيقات لهذه المواد الجديدة. وهذا ينقلنا إلى الجُزء التالي.

(٥) تطبيقات اللاصقات الحيوية البحرية

حسنًا، والآن لنقُل أنكِ سبرتِ أغوار المحيط. فقد أصبحتِ تعرفين الآن الطريقة التي يَلتصِق بها مخلوقك البحري المفضَّل بالصخور، كما أصبحتْ لديكِ القدرة أيضًا على إنتاج هذه المادة على نطاقٍ واسع. فماذا الآن؟

في كل مرة أذهب لطبيب أسناني لإجراء الفحص الدوري، يسألني: «كيف حال هذا الغِراء معك؟ هيا لنُسرِع؛ فالوقت يُداهِمنا!» إنه بحاجةٍ لمادة تثبيت جيدة للأسنان. شيء يَلتصِق بأسنانك الرطبة بقوَّة ويبقى معك لسنوات، دون التسبُّب في أي مشكلات. بدلًا من ذلك، كان عنده مادة لاصقة تأثيرها ليس بالقوة الكافية. هذه المادة اللاصِقة لا تَلتصِق بالأسنان الرطبة؛ فعليك تجفيفها جيدًا قبل وضعها. وحتى عندَها فإن المواد اللاصقة الموجودة حاليًّا لا تَلتصِق جيدًا. إنها تتشقَّق، وتتفتَّت وتسمح بحدوث التسوُّس، وعادةً لا تدوم فترةً تَقترِب من تلك التي نُريدها. نحن نحتاج بالتأكيد لشيء أفضل؛ مادة لاصقة قوية بالفعل، يُمكنها الالتصاق بالأسطُح الرطبة. فكِّري في البرنقيل الذي رأيناه على الشاطئ. إنها تُلصق أنفسها بالأسطح الرطبة طوال الوقت، وبقوة بالِغة. وباستخدام مواد مثل مادة البرنقيل اللاصقة أو المادة اللاصقة التي يُفرِزها بلح البحر، ربما نتمكَّن من تحويل خواصِّ المواد البحرية الحيوية إلى تطبيقاتٍ طبية حيوية. ويُمكِن أن تكون النتيجة صُنع مادة لاصقة جديدة للأسنان. وبالمِثل، ثَمَّة حاجة لمواد لاصقة جيدة للعظام من أجل ملء الفراغات في العمليات الجراحية، وتثبيت الأجزاء المعدنية المزروعة في العَظْم، وإصلاح الأنواع المختلفة من الإصابات في الهيكل العظمي.

لعلَّ الهدف الأكثر إثارة للاهتمام والأصعب في تطبيقه على اللاصقات البحرية الحيوية، هو صُنع الغِراء الجراحي؛ ففي كلِّ عام تُجرى ٢٣٠ مليون عملية جراحية باضعة كُبرى في جميع أنحاء العالم. كل عملية من هذه العمليات تقريبًا تتطلَّب استخدام الغُرَز أو الدبابيس. هذه التركيبات الجراحية النموذجية ضارة في حدِّ ذاتها، ويُمكن أن تُسبِّب التلوُّث وتُؤخِّر الشفاء، مع وجود الحاجة إلى عمل ثقوبٍ إضافية في الأنسجة السليمة المحيطة بالمكان المصاب. ولهذا سيكون من الأفضل بكثيرٍ لصْق الأنسجة الداخلية ببساطة أو الجلد مع بعضه. قد تَسمح المواد اللاصِقة الجراحية أيضًا بإصلاح الأنسجة الرَّقيقة، مِثل الموجودة داخل الأمعاء، والتي لا يُمكِن خِياطتها. فربما نرغب في استخدام مادَّة لاصِقة مُؤقَّتة تذوب مع مرور الوقت، بعد اكتمال الشفاء؛ أو ربما تُفضِّلين بقاء هذه المادة اللاصِقة على الدوام. هذا يعتمد على التطبيق المحدَّد المرجو منها. فبِصَرْف النظر عن هذا، قد يستفيد العالم بالفعل من وجود مادة لاصقة جراحية ممتازة.

حسنًا، لنفكرْ في المتطلَّبات الثلاثة الرئيسية التي نحتاج إلى وجودها في اللاصق الجراحي. أولًا: لا بُدَّ أن تكون لديه القدرة على عدم التحلُّل والتصلُّب في بيئة رطبة، وثانيًا: لا بُدَّ أن يُكوِّن روابط قوية، وثالثًا: لا بُدَّ ألا تكون مادته سامة. ومن السهل توافُر اثنين من هذه المعايير الثلاثة في أي مادة، لكن الصعب الجمع بين كل الثلاثة، في الواقع صعب للغاية؛ إذ لا توجد مادة معروفة تستوفي كل هذه المتطلبات الثلاثة. ولهذا توجهنا إلى البحث في البحار. فلتُفكِّري في مواد بلح البحر والبرنقيل اللاصقة، على سبيل المثال. فهي تلتصِق بالأسطُح الرطبة طوال الوقت. وقد رأيتِ هذا على الشاطئ. وقد اكتشفتِ بنفسِكِ مدى قوَّة هذه المواد حين جذبْت بضع محارات من بلح بحر من فوق الصخور ولم تستطيعي تحريك البرنقيل. وبعد قضاء الوقت على الشاطئ ربما تكونينَ قد مرَرْتِ على أحد مطاعم المأكولات البحرية القريبة لتناوُل بلح البحر على العشاء؛ ومن ثمَّ فإن هذه المواد ليست سامَّة. وهكذا نكون قد وجدْنا لاصقات بحرية تبدو كأفضل مواد مُرشَّحة لنصنَع منها لاصقات جراحية.

والآن نريد أن نضع أيدينا على بعض من هذه المواد لنَختبرها. وقد ناقشْنا في الجُزء السابق طُرقًا مُختلفة للحصول على كميات كبيرة من اللاصقات الحيوية البحرية من أجل تطوير التطبيقات. وفي مُختبرنا، قرَّرْنا اتِّباع أسلوب البوليمر المخلَّق (انظري شكلَين ١٣-١٠ و١٣-١١). ويبدو أن الأمور تسير على ما يُرام. انظري شكل ١٣-١٢. فقد استخدمْنا هنا البوليمرات الجديدة لربط بعض الركائز الطبية ذات الصِّلة. ويُمكنكِ رؤية تجربة بدأنا فيها بجِلد خنزير، والذي يُمثل نموذجًا ممتازًا لجِلد الإنسان. قطعْنا الجِلد إلى شرائح وبينما كان لا يزال رطبًا وضعْنا عليه موادَّنا اللاصقة الجديدة البوليميرية. والتصَقَ كل هذا مع بعضه على نحوٍ جيد. وبالمِثل ينتابُنا الفضول بشأن تطبيقات هذه المواد في مجال طبِّ الأسنان وتقويم الأسنان. ويُوضِّح شكل ١٣-١٢ تثبيت هذه البوليمرات لسِنِّ بقرةٍ بشريط من الألومنيوم.

وبينما نحن نتحدَّث في موضوع تطبيقات المواد الحيوية البحرية، ثمَّة بعض الأمور الإضافية التي تستحقُّ الذِّكر. أنتِ شابَّة، فربما تَمتلِكين سيارةً قديمة صدِئة. ألن يكون من الأفضل إن لم تتعرَّض سيارتُك للصدأ؟ بل الأفضل من ذلك إذا استطعْنا منع المعادن من الصدأ بوجهٍ عام. وربما نجِد حلَّ هذا أيضًا في البحار. خُذي قطعة لامعة من المعدن وضَعيها في الماء في أحد الشواطئ القريبة. عُودي إليها بعد بضعةِ أسابيع أو شهور وستَجِدين أن المعدن قد صَدِئَ. ستجدين أيضًا قِطعتك المعدنية مُغطَّاة بالبرنقيل وبلح البحر وما شابه. أزيحي المخلوقات الصغيرة، وستَجدين أنَّ المعدِن ما زال لامعًا من تحتها؛ ومن ثمَّ فإن اللاصقات الحيوية البحرية هذه قد تُمثِّل فئةً جديدة من طبقات الحماية المقاوِمة للصدأ.

fig88
شكل ١٣-١٢: استخدام مُقلدات بوليمر مُخلَّق لمادة بلح البحر اللاصقة في تثبيت شريطين من جِلد الخنزير الرَّطب معًا (يسارًا) وسنِّ بقرة إلى قطعة من الألومنيوم (يمينًا). ويُمكنك رؤية لاصق البوليمر بين شريطَي الجِلد بالإضافة إلى وجوده بين السنِّ والقطعة المعدِنية.

ثمَّة تطبيق آخر لهذه المواد الحيوية الرائعة في مجال هندسة الأنسِجة. لنقُلْ إنكِ وجدتِ نفسكِ في حاجةٍ لاستبدال أحد الأعضاء — ربما كبد، أو كُلى، أو قلب. من أين يُمكنكِ الحصول على مثل هذا العضو؟ سيكون من الرائع إن استطعْنا صُنع العضو البديل لعُضوكِ في المختبَر. بوجهٍ عام، إذا كنتِ تُريدين تحويل خلايا إلى جسم ثُلاثي الأبعاد مثل القلب، وستحتاجين أيضًا إلى ركيزةٍ ثلاثية الأبعاد، عليها وبداخلها، يُمكنك ترسيب الخلايا عليها في البداية. بعد ذلك عليكِ بترْك الخلايا لتنموَ بعضها مع بعضٍ وتعمل في تناغُم حتى تُصبِح عضوًا. تذكَّري أن غِراء بلح البحر والبرنقيل مصنوع من مصفوفاتٍ مُتشابكة من البروتينات. قد تُمثِّل هذه المصفوفات بيئةً مِثالية لنموِّ الخلايا بداخِلها. ويستخدم بعض العمل في هذا المجال موادَّ لاصقةً بروتينية فِعلية مأخوذة من الحيوانات. هذا في حين تعتمد دراسات أخرى على مُقلَّدات بوليميرية مُخلَّقة. على أيِّ حال، فإن استحداث الأعضاء البديلة في المستقبل ربما تكون بداياته من داخل طيَّات البحار.

نأمل أن تكوني قد رأيتِ الآن وجود إمكانية كبيرة لتطوير كثير من التطبيقات التكنولوجية المثيرة للاهتمام مُستمدَّة من المخلوقات البحرية. سواء كُنَّا نُريد لاصقًا جِراحيًّا، أو موادَّ لاصِقة للعِظام أو الأسنان، أو طبقاتٍ خارجية مانِعة للصدأ، أو أساليب لاستحداث أعضاء بديلة، فنحن نبحث في كلِّ هذه المجالات؛ لذا فلتنضمِّي إلينا!

(٦) منع الالتِصاق: الأسطح المضادَّة للحشف

هل بأي حالٍ من الأحوال تملِكين قاربًا؟ لا، لم أعتقِد ذلك. لكن لنتظاهرْ بأنكِ تملِكين واحدًا. يا لها من رحلاتٍ بحرية مَسائية لطيفة في غروب الشمس! على أي حال، بخلاف حدوث تسريب، ما الشيء الوحيد الذي لا ترغبين في وجوده على قاربك؟ قد يكون قشرةً من البرنقيل، والديدان الأنبوبية البحرية، وبلح البحر، والأعشاب البحرية. يُسمَّى هذا الحشفَ البحري، ويعمل بالفعل على إبطاء سُرعة القوارب.

لنُفكِّرْ في الحشف البحري من منظورٍ عالمي. فثمَّة نحو ٥٠ ألف سفينة تجارية ضخمة تجوب البحار، بما في ذلك الناقِلات، سُفن الحاويات، وسفن البضائع. إذا كانت كل هذه السفن مُغطَّاة بكائناتٍ بحرية مُلتصِقة بها، فستَستهلِك هذه السفن ٧٠ مليون طن إضافي من الوقود في كل عام. وهذا يُعادل كمية النفط الذي تستخدمه الولايات المتحدة في شهر تقريبًا! واستخدام هذا المِقدار الإضافي من الوقود من هياكل السُّفن الملوَّثة قد يُسهِم في انبِعاث نحو ٢٠٠ مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في الهواء كل عام. وعليه، إذا استطعنا حلَّ مشكلة هذا الحشف، سيكون لنا أثر كبير في الحدِّ من تغيُّر المناخ.

ألقِ نظرةً على هيكل أيِّ سفينة ضخمة. لاحِظي كيف أنها عادةً ما تكون مَطليَّةً باللَّون الأحمر في الجُزء السُّفلي منها عند منسوب المياه وتحته هذا الطِّلاء مُضادٌّ للحشف؛ فهو يَمنع البرنقيل، والأعشاب البحرية وما شابَهَ من الالتصاق بالسفن. وسبب كون الطلاء باللَّون الأحمر هو احتوائه على أكسيد النُّحاس بنسبة ٥٠٪ من وزنه. كان من المعتاد استخدام مُركَّبات ألكيل القصدير مثل ثُلاثي بوتيل القصدير TBT بوصفه مُكونًا رئيسيًّا مُضادًّا للحشف، لكن النُّحاس يُهيمِن حاليًّا لأنه أقلُّ سُمِّيَّةً بعض الشيء. تُستخدَم كلٌّ من صِيغتَي أيون النحاس Cu+ و في أنواع الطِّلاء الحالية. وتُصدِر هياكل السفن المَطلية أيونات النحاس (Cu+ أو ) في الماء. أما السفن الأضخم حجمًا فيُمكِن لها إضافة نحو كيلوجرام من النُّحاس إلى البحر كل يوم. عندما يكون البرنقيل وما شابَهَ في طَورِ اليَرَقات، لا يُمكنها تحمُّل تركيزاتِ النحاس العالية وتموت. ربما تَكونينَ قد خمَّنتِ، فالبرنقيل النافِق لا يُلصِق نفسه بالسُّفن. ويعني هذا كله أن تِقنيتنا الحالية لمنع الحشف البحري هي ببساطة قتل الكائنات الموجودة في الماء. بالتأكيد، هي تقنية ناجِحة. إلا أن هذا الأسلوب لمنع الحشف البحري يُمثل كارثة من منظورٍ بيئي. فيُمكنك أخذُ عيِّنة من مياه أي مَيناء، وأحضريها معكِ إلى المختبر، وستجدين فيها مُستوياتٍ مُرتفِعةً من النحاس والقصدير.
إذن، كيف يُمكننا منع الحشف البحري بحيث نُقلِّل من تلوُّث الهواء عن طريق تقليل الوقود الذي تَستخدِمه السفن، لكن دون الحاجة إلى إلقاء سُمومٍ داخل الماء؟ يمكنك التفكير فتتساءلين: «حسنًا، لِمَ لا نُغطِّي هيكل السفينة بمادَّة التيفلون (مُتعدِّد رباعي فلورو الإيثلين) لأنه لا يُمكن لأيِّ شيءٍ الالتصاق بها؟» حسنًا، انظري إلى شكل ١٣-٢، حيث يُوضِّح بلح البحر وهو يلتصِق بالتيفلون. كذلك يستطيع البرنقيل الالتصاق بالتيفلون، أيضًا. ولذلك، مع الأسف، فإن حلَّ هذه المشكلة ليس بمِثل هذه السهولة.

في الوقت الحالي لا تُوجَد في الواقع أي طلاءات جيدة مانِعة للحشف، أو طبقات خارجية أو أسطح يُمكنها طرْد الكائنات البحرية دون إطلاق السموم في المياه المحيطة. تعمل العديد من المختبرات على التوصُّل إلى أساليب مُختلفة، يبدو كثيرٌ منها واعدًا. تُفضِّل بعض الكائنات البحرية ربط أنفسها بالأسطح الكاتيونية (أي مُوجبة الشحنة) بينما تُفضِّل كائنات أخرى الأسطح الأنيونية (أي سالبة الشحنة). لذلك يُمكننا صُنع أسطح تكون كايتونية وأنيونية في الوقت نفسه «مُزدوجة الأيونية» لإرباك الكائنات. وبالمِثل يمكننا صُنع أسطح كارِهة للماء (أو زيتية) وأليفة للماء (أو قابل للتعرُّض للبلَل) من أجل إرباك الكائنات التي ربما تُحبُّ خاصية أحد هذه الأسطح دون الآخر. كما يبدو أن الأسطح الناعِمة أو المطاطية تمنع الالتصاق البسيط الموجود في الأسطح الصُّلبة. وثمَّة أسلوب آخر يتمثَّل في شحْن الأسطح بنبضات كهربائية؛ ومن ثمَّ تنفِرُ منها المخلوقات اللاصِقة. وثمَّة مُحاولة أخرى لمقاومة الحشف وتتمثَّل ببساطة في جعل الأسطح ذات مذاقٍ سيِّئٍ للمخلوقات. فعلينا تغطية السطح بِجُزيء مُنفِّر مثل الكابسيسين، وهو المركَّب الذي يجعل الفلفل حريف بشدَّة، ويُمكننا بذلك تخفيض رغبة هذه الكائنات الحاشفة في الالتصاق بقاربك.

أحد الأساليب المضادة للحشف المفضَّلة لدي، والذي يتَّبِعه مُختبرنا، هو استكمال دراسات التوصيف المذكورة آنِفًا. فإذا استطعنا أولًا فهم الطريقة التي تلتصِق بها هذه الكائنات، يُمكننا عندها اختراع أسطُحٍ لا تسمح بحدوث مثل هذه التفاعُلات التي تؤدِّي للالتصاق. على سبيل المثال، فلتنظُري إلى التركيب الكيميائي لكلٍّ من الحديد والدوبا الذي اكتشَفْناه (شكلين ١٣-٥ و١٣-٧). فهذه التفاعُلات التي تحدُث بين المعدن والبروتين تبدو أنها أساسية لبلح البحر لعمل غِرائه. لذلك، ما نُحاول فعله الآن هو تعطيل هذه العملية. فإذا تمكنَّا من إيقاف تكوين هذا الغِراء، ستفقِد الحيوانات قُدرتها على الالتصاق بالسفن. وصُنع طبقات خارجية جديدة مُضادة للحشف سيكون أمرًا مُثيرًا للاهتمام، ناهيكِ عمَّا يكون لهذا من أثرٍ إيجابي بالِغ على البيئة.

(٧) مستقبلك في البحر

وهكذا تكونين قد حصلتِ على جولةٍ مائية ومالحة في الكيمياء عند الشاطئ! فيُوجَد الكثير من الأمور التي في انتظار أن تُكتشف في عالم البحار؛ لذلك أشجعك على أن تنضمِّي إلينا ونحن نكشف أسرار المواد الموجودة في الطبيعة!

اعتني بنفسك.

جون

قراءات إضافية

  • Broad, W. J. Mapping the sea and its mysteries, New York Times, January 13, 2006, pp. D1 and D4.
  • Forbes, P. The Gecko’s Foot: Bio-inspiration: Engineering New Materials from Nature, W. W. Norton and Company Publishers, New York, 2005.
  • Robbins, J. Second nature: More and more, innovative scientists are turning to the natural world for inspiration … and design solutions. Smithsonian 2002, 33, 78–84.
  • Smith, A. M.; Callow, J. A. (eds.) Biological Adhesives, Springer-Verlag Publishers, Berlin, 2006.

مقالات فنية متخصصة

(أ) محاكاة بوليمر مخلق لمادة بلح البحر اللاصقة‎

Westwood, G.; Horton, T. N.; Wilker, J. J. Simplified polymer mimics of cross-linking adhesive proteins. Macromolecules 2007, 40, 3960–3964.

(ب) توصيف مادة بلح البحر اللاصقة

Sever, M. J.; Weisser, J. T.; Monahan, J.; Srinivasan, S.; Wilker, J. J. Metal-mediated cross-linking in the generation of a marine mussel adhesive. Angewandte Chemie International Edition 2004, 43, 447–450.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤