الفصل الرابع

التخدير: لا تنسَي الكيمياء التي تعلمتِها

جوناثان إل سسلر
جامعة تكساس في أوستن
دانيال آي سسلر
مستشفى كليفلاند كلينك

البروفيسور جوناثان إل سسلر حصل على درجة البكالوريوس في الكيمياء عام ١٩٧٧ من جامعة كاليفورنيا، ببيركلي. وحصل على درجة الدكتوراه في الكيمياء العضوية من جامعة ستانفورد عام ١٩٨٢ بالتعاون مع البروفيسور جيمس بي كولمان. وكان زميل ما بعد الدكتوراه في برنامج زمالة مؤسسة العلوم الوطنية والمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، ومؤسسة العلوم الوطنية ومنظمة حلف شمال الأطلنطي، أولًا مع البروفيسور جان-ماري لين في ستراسبورج بفرنسا وبعد ذلك مع البروفيسور إيواو تابوش في كيوتو، اليابان. وفي سبتمبر ١٩٨٤، شغل وظيفة أستاذ مساعد للكيمياء في جامعة تكساس في أوستن؛ حيث يشغل حاليًّا كرسي رولاند كيه بيتيت. وضع البروفيسور سسلر، أو شارك في وضع، ما يزيد عن ٥٠٠ بحث وألَّف كتابَين (مع د. ستيفن جيه ويجهورن والدكتورين فيليب إيه جايل ووون-سيوب تشو، على التوالي). وهو أيضًا صاحب أكثر من ٧٥ براءة اختراع صادرة من الولايات المتحدة. وقد شارك في تأسيس شركتين، فارماسايكليكس المحدودة، وآنيونيكس المحدودة، وتنظيم مؤتمرات دولية عديدة عن البورفيرينات والكيمياء فوق الجزيئية وكيمياء الجزيئات الحلقية الكبيرة. وبالإضافة إلى الإنجليزية، يتحدث الفرنسية، والإسبانية، والألمانية والعبرية، ويمكن أن يفهم اليابانية والإيطالية، ويدرس الكورية.

درس دانيال آي سسلر بكلية الطب في جامعة كولومبيا، وأتم برنامجَي إقامة في طب الأطفال والتخدير في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس. وهو الآن أستاذ كرسي في قسم بحث النتائج في مستشفى كليفلاند كلينك. وتشمل جمعية بحث النتائج التي أسسها د. سسلر ١٠٠ باحث في ١٠ دول. وهي تنسق حاليًّا أكثر من ١٠٠ دراسة تشمل ١٢ تجربة نتائج كبيرة متعددة المراكز. وقد نشر د. سسلر كتابًا عن الخفض العلاجي لدرجة حرارة الجسم، وأكثر من ٤٢٥ ورقة بحثية كاملة. ودرَّب ٧٠ زميلًا بحثيًّا، أربعة منهم ترأَّسوا أقسام تخدير. ومن ضمن الجوائز التي حصل عليها: زمالة فولبرايت وجائزة التميز في البحث من الجمعية الأمريكية للتخدير في ٢٠٠٢.

مرحبًا أنجيلا

أنا عائد لتوِّي من زيارة لأخي، دانيال آي سسلر. وهو أستاذ كرسي تخدير في قسم بحث النتائج في مستشفى كليفلاند كلينك في أوهايو. أنتِ لا تتذكرينه، لكنه يتذكركِ؛ فمن عدة سنين مضت عندما كان عمركِ ٧ سنوات، ربما تتذكرين أنكِ نُقلتِ على عجلٍ إلى جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس للخضوع لعملية عاجلة لاستئصال الزائدة الدودية. إذا كنت تتذكرين ذلك، فربما تتذكرين الرعاية الكبيرة التي أدت إلى شفائك، وبالنظر إلى الأمر، فربما تعتقدين أن الجراحة مخيفة ولكنها روتينية في الأساس. لكن في واقع الأمر، لقد كنتِ على وشك الموت.

كان أخي طبيب تخدير مقيمًا في تلك الجامعة في ذاك الوقت، وهو يتذكر حالتكِ لأنك واجهتِ مضاعفات نادرة وخطيرة. إنكِ معنا اليوم لأنه بسرعة ودقة شخَّص حالتك وقدَّم العلاج المناسب. وبما أنكِ تدرسين الآن الكيمياء العضوية وتبدئين في التفكير في خياراتك المهنية، فأنا متأكد أنكِ ستجدين من الشائق التفكير في كيف أن هذا التشخيص — وفي الحقيقة، جانب كبير جدًّا من علم التخدير الحديث — يعتمد على فهمٍ تفصيلي للكيمياء، وتقدير ذلك. يوجد أيضًا، مع ذلك، جوانب عديدة من التخدير بعيدة تمامًا عن الفهم الجيد. وهناك فرص للبحث المستقبلي. آمل أن تضعيها في الاعتبار بينما تسعَين لتطوير مهاراتك بوصفك كيميائية. والآن، دعينا نناقش ما حدث أثناء تخديرك، وهو يُعَد مثالًا رائعًا لتلخيص التقدم الذي وصل إليه هذا المجال الساحر. وسوف يسمح ذلك أيضًا لأخي بتوضيح كيف أن الفضل يرجع إلى الكيمياء في أنكِ ما زلت على قيد الحياة حتى الآن.

عندما أتيتِ للخضوع للجراحة، لم تكوني تعرفين أنك كنت على وشك الدخول في أقل ما يمكن وصفه بأنه مغامرة كيميائية كبيرة. يمكن القول إن جسم الإنسان هو أكثر نظام كيميائي معروف لدينا تعقيدًا. إن كل العقاقير تقريبًا، وفيها عقاقير التخدير، تعمل عن طريق تعديل كيمياء أجسامنا. في حالات كثيرة، الآليات الأساسية لذلك تكون مفهومة جيدًا وتشمل تنشيطًا أو تثبيطًا محددًا لعملية بيولوجية رئيسية؛ لكن في حالات كثيرة أخرى، لا يكون الأمر كذلك. إن أحد أعظم التحديات في تطوير العقاقير، والتي يمكن للكيميائيين أن يكون لهم تأثير فيها، هو فهم كيف تعمل العقاقير المعروفة؛ الأمر الذي يمكن بدوره أن يضع الأساس لتصميم عقاقير أفضل. (في بقية هذا الرسالة، سنستخدم التعريف التقليدي للعقَّار والمتمثل في كونه أي مادة عندما تُحقن في فأر تجارب، تنتج ورقة علمية!) إن أحد التوجهات المهمة في هذا الشأن يتضمن فهم كيف ترتبط تغييرات محددة في التركيب بمعاملات أساسية مثل الفاعلية، والسُّمِّية ومعدلات التصفية، وهكذا؛ لأن هذا يوفر غالبًا أساسًا لتحسين فئة معينة من العوامل للاستخدام الإكلينيكي. وهذا المبدأ مُمثل بنحو جيد في التخدير الذي تلقيتِه وأنتِ في السابعة من عمرك.

يمكن تقسيم التخدير بصورةٍ عامة إلى تخدير موضعي وتخدير عام، وفئة التخدير العام يمكن تقسيمها إلى تخدير وريدي واستنشاقي. ومكونات التخدير العام هي «التنويم» (فقد الوعي) وتسكين الألم (فقدان الإحساس بالألم) والتحكم في المنعكسات مثل نبض القلب وضغط الدم وارتخاء العضلات (وذلك لمنع المريض من الاستيقاظ والذهاب إلى المنزل في وسط الجراحة). لقد أُعطيتِ عقَّارًا من كل فئة من التخدير، كلٌّ لغرض محدد. وهذه الرعاية والتخطيط أمران أساسيان في أي علاج طبي حديث ومفتاحان لجعل أي جراحة ناجحة. ومع ذلك، فإن اختيار وإعطاء التخدير أمر صعب للغاية. إن الناس في الغالب يقلقون من الجراحة؛ لكن الأخطار المرتبطة بالتخدير تزيد غالبًا عن تلك المتعلقة بالجراحة. وهذا صحيح بنحوٍ خاص فيما يُسمَّى بالجراحات البسيطة. وكما ستوضح قصتكِ، لا يوجد ما يُسمَّى بالتخدير البسيط.

(١) التخدير الموضعي

إن أول نوع تخدير حصلتِ عليه، وهو الليدوكايين، حُقن في الجزء الخلفي من يدكِ اليسرى. ولقد أُعطيتِه ليخدِّر الموضع الذي بعد دقائق كانت ستُوضع فيه القسطرة الوريدية. الليدوكايين هو مركب أميني بسيط؛ شيء يمكن أن تحضريه بسهولة في معمل عضوي. إنه شبيه تخليقي للمركبات شبه القلوية الطبيعية المعقدة التي تحتوي على النيتروجين مثل الكوكايين (انظري شكل ٤-١ للاطلاع على تركيبي الليدوكايين والكوكايين). من المثير للاهتمام أن الكوكايين، الذي عرف شعب الإنكا القديم خصائصه المسكنة منذ قرون مضت، كان أول مركَّب يُستخدم كمخدرٍ موضعي من قِبل ممارسي الطب الغربيين. وقد ظل لبعض الوقت المخدر الوحيد المعروف. إن الكوكايين قابض قوي للأوعية ولكنه معروف بصفاته النفسية (فهو يُحسِّن عمل الأعصاب، ومن ثَمَّ المزاج والسلوك)؛ لهذا هو مادة خاضعة للرقابة، وهو الآن نادر الاستخدام طبيًّا، على الرغم من أنه يُستخدم أحيانًا لتخدير داخل الأنف، تحديدًا لأن خواصه القابضة للأوعية تساعد في التحكم في النزف. على أي حال، إنكِ لم تحصلي على كوكايين عندما كنت في عمر السابعة!
fig14
شكل ٤-١: تركيب الليدوكايين (يسارًا) والكوكايين (يمينًا). يُعطى هذان المركبان ويستخدمان كمخدرٍ موضعي في شكل ملح الهيدروكلوريد خاصتهما. وفي الشكلين البروتونيين هذين، هما يعملان كشبيه لكاتيون الصوديوم ويسدَّان القنوات الأيونية المهمة في نقل الإشارات العصبية.
بعد دقائق قليلة، خُدرت يدكِ بدرجة كافية لإدخال الإبرة الأكبر الخاصة بالقسطرة الوريدية. وقد نتج هذا التأثير التخديري من سد القنوات الأيونية المبوبة بالجهد في غشاء الخلايا العصبية. وفي السنوات الأخيرة، أصبحت أهمية القنوات الأيونية في عمليات متنوعة مثل التذوق، ونقل الإشارات العصبية، وتنظيم الضغط الإسموزي الخلوي معروفة على نحوٍ متزايد. في واقع الأمر، حصل رودريك ماكينون وزميل له على جائزة نوبل لعام ٢٠٠٣ في الكيمياء لدراساته التركيبية للقنوات الأيونية (انظري شكل ٤-٢ للاطلاع على تركيب القناة الأيونية للبوتاسيوم الذي توصل إليه ماكينون وزملاؤه). في حالة الليدوكايين والمخدرات الموضعية الأخرى، تسمح القناة ذات الصلة عادةً بمرور لكاتيونات الصوديوم من خارج إلى داخل الخلايا العصبية. وهذه عملية انتقال أيوني مهمة تساعد عادةً في تراكم جهد فعل (فصل شحنات) عبر الغشاء، وهو شيء مطلوب لنقل النبضات العصبية أولًا إلى المستوى الموضعي وبعد ذلك في النهاية إلى المخ.
fig15
شكل ٤-٢: تركيب القناة الأيونية للبوتاسيوم كما توصَّل إليها ماكنيون وزملاؤه، الذين حصلوا على جائزة نوبل لمجهوداتهم في هذا الشأن. وقد عُدل هنا لإظهار المكان التقريبي للقناة داخل الغشاء. لاحظ كاتيونَي البوتاسيوم المرتبطين؛ حيث يُعتقد أن حركتهما خلال قناة وظيفية تؤدي إلى تدفق أيوني. إن مثل هذا التدفق الأيوني ضروري لعدد من العمليات البيولوجية، وفيها نقل الإشارات العصبية الذي يعوقه مواد التخدير الموضعي مثل الليدوكايين والكوكايين. (هذا الشكل طوره مشكورًا السيد داستين جروس، وهو طالب دكتوراه يعمل مع جون، مستخدمًا الإحداثيات المنشورة.)
للتبسيط، يمنع الليدوكايين انتقال الإشارات العصبية من خلال العمل كبديل لكاتيون الصوديوم. إنه نشط فقط في شكله الأمونيومي البروتوني؛ وذلك لأن شكل القاعدة الحرة أو الشكل المتعادل ينقصه الشحنة الموجبة التي هي ملمح مميز لكاتيون الصوديوم. الليدوكايين، لحسن الحظ، مثل معظم ما يُسمَّى بالأمينات الثلاثية، قاعدي بدرجة كافية بحيث يصبح بروتوني عند الأس الهيدروجيني الفسيولوجي (الذي يكون عامةً ٧٫٤؛ سنعرض المزيد عن هذا لاحقًا). (هذا التفاعل الحمضي القاعدي موضح في شكله العام في المعادلة 4-1 حيث R تمثِّل بديلًا عامًّا و«:» تُمثِّل زوجًا وحيدًا من الإلكترونات.) إن الليدوكايين البروتوني يمتلك أيضًا المكمل ذا الحجم والشكل المناسبين لسد قناة الصوديوم وهو كاره للماء على نحوٍ كافِ بحيث يُمتص في الخلايا العصبية.
(4-1)

للحفاظ على القابلية للذوبان، ولأنه يوفر الشكل البروتوني النشط، يُعطى الليدوكايين في شكل ملح الهيدروكلوريد منه. من المثير للاهتمام أن الكوكايين عندما يُستخدم كمخدر موضعي، فإنه يُعطى أيضًا في شكل ملح الهيدروكلوريد منه. إن هذا الشكل هو الذي ينتج التخدير الموضعي ويمنع الإحساس بالألم، كما هي الحال مع الليدوكايين. وبما أنه ملح، فإن هذا الشكل من الكوكايين يكون له قابلية كبيرة للذوبان في الماء. وهذه النوعية من المركبات، التي يصفها الكيمائيون بأنها «محبة للماء» (أيْ «قابلة للذوبان في الماء») أو «كارهة للدهون» (أيْ غير قابلة للذوبان في الدهون)، لا تَعبر ما يُسمَّى بالحاجز الدموي الدماغي بسهولة. (جدير بالذكر هنا أن «كره الماء» مصطلح تُوصف به المركبات القابلة للذوبان في المواد العضوية وليس في الماء. وهو يُستخدم كمرادف لمصطلح «حب الدهون»؛ أي، القابلية للذوبان في الدهون. أما مصطلح «كره الدهون»، المرادف على نحوٍ عام لمصطلح «حب الماء»، فتُوصف به المركبات القابلة للذوبان في الماء.) إن هذا الحاجز يتكون من طبقة من خلايا بها دهون لها موصلات محكمة تحمي الدماغ بمنع الدخول السريع لمواد قابلة للذوبان في الماء. على العكس، يمكن لجزيئات صغيرة محبة للدهون (أي، قابلة للذوبان في المواد العضوية) أن تعبر الحاجز الكاره للماء المنشأ من قبل هذه المجموعة من الخلايا بسهولة.

fig16
شكل ٤-٣: تركيب ثنائي إيثيل الأثير، وهو أول عقَّار تخدير قوي ظهر. ولأن الأثير قابل للذوبان جدًّا في الدهون، فإن إحداث تأثير التخدير بواسطة هذا العقَّار والإفاقة منه كلاهما يأخذان وقتًا طويلًا. والأثير أيضًا قابل للاشتعال وقد تسبب في انفجارات قتلت الكثير من المرضى الخاضعين لعمليات جراحية وذلك قبل تطوير عقاقير تخدير غير قابلة للاشتعال.
الشكل القاعدي الحر للكوكايين هو مثال للجزيء الصغير المحب للدهون (أي، القابل للذوبان في المواد العضوية). لهذا، فإنه يمر عبر الحاجز الدموي الدماغي ويُحدث آثاره النفسية على نحوٍ أسرع بكثير من ملح الهيدروكلوريد المقابل. ولهذا، فإن هذا الشكل من الكوكايين يحبه مدمنو المخدرات. في الحقيقة، توجد أمثلة شهيرة لأفراد حاولوا صنع هذا الشكل من الكوكايين ونتج عن ذلك آثار كارثية، وهذا يرجع إلى أنهم استخدموا ثنائي إيثيل الأثير (الذي يُشار إليه عامةً ﺑ «الأثير»؛ انظري شكل ٤-٣ للاطلاع على تركيبه)، وهي مادة قابلة للاشتعال بشدة، لعزل شكل القاعدة الحرة بعد نزع البروتون من هيدروكلوريد الكوكايين المتاح بسهولة أكبر. إنها لمصادفة مثيرة للاهتمام أن الأثير الذي يُستخدم لتنقية أول مخدر موضعي، وهو الكوكايين، كان أيضًا أول عقَّار تخدير استنشاقي قوي. سوف نناقش عقاقير التخدير الاستنشاقية فيما بعد عندما نصل إلى هذا الجزء من عملية تخديرك. ولكننا نحتاج أولًا أن نتأمل قليلًا تركيب الليدوكايين والكوكايين.
إن كلًّا من هيدروكلوريد الليدوكايين وهيدروكلوريد الكوكايين محب للدهون (أي، قابل للذوبان في الدهون) وقابل للذوبان في الماء. هذا التناقض الظاهري في خواص الذوبان ينشأ من حقيقة أن أنيون الكلوريد ليس مرتبطًا بشدة في الماء؛ بدلًا من ذلك، عند الأس الهيدروجيني الفسيولوجي، توجد هذه المركبات في شكل كاتيونات «دهنية» كبيرة. وهذا ملمح مهم يمكنكِ بسهولة ملاحظته من خلال النظر إلى التراكيب الكيميائية الخاصة بكل منها (انظري شكل ٤-١). إن الشيء الذي ربما لن تقدِّريه، مع ذلك، هو أن الشكلين البروتونيين الخاصين بالليدوكايين والكوكايين مؤثران كمخدر موضعي لأنهما يحدثان توازنًا مناسبًا بين كُره الماء وحب الماء.

إن التوازن بين كُره الماء وكره الدهون مسألة مهمة في عملية تطوير العقاقير. وهو مهم على نحوٍ خاص في تطوير واستخدام عقاقير التخدير. وفي حالة عقاقير التخدير الموضعي، حُب الماء الزائد يسرع بداية عملية منع الألم لأن العقَّار يتحرك بسرعة عبر السائل الخارج الخلوي، الذي يكون معظمه ماءً. لكن فترة سريان المفعول تكون قصيرة نسبيًّا؛ لأن العقَّار يرتبط على نحوٍ ضعيف بالأنسجة العصبية المحبة للدهون. وفي حالتكِ، اختار دان عقَّار الليدوكايين المحب للماء نسبيًّا (مثل ملح الهيدروكلوريد خاصته) لأن مفعوله يسري بسرعة ويستمر لفترة قصيرة، وهو الأمر الذي كنتِ تحتاجينه.

إن التوازن بين كُره الماء وحُب الماء يساعد أيضًا في توضيح الاختلافات بين العديد من العقاقير المضادة للالتهاب غير الستيرويدية المعروفة التي تُصرف بدون وصفة طبية. على سبيل المثال، الإيبوبروفين، الذي يتأيض بسرعة إلى مواد محبة للماء نسبيًّا، يعمل بسرعة، في حين أن النابروكسين محب للدهون أكثر، ومن ثَمَّ يبدأ مفعوله في السريان على نحوٍ أبطأ ولكن مفعوله يستمر مدة أطول (انظري شكل ٤-٤ للاطلاع على تركيبيهما).
fig17
شكل ٤-٤: تركيب كلٍّ من الأيبوبروفين والنابروكسين. الأيبوبروفين يتأيض بسرعة إلى مواد محبة للماء نسبيًّا وهو سريع التأثير. في المقابل، النابروكسين الذي يحتوي على وحدة فرعية من النفثالين الكارهة للماء محب أكثر للدهون؛ ومن ثَمَّ فهو بطيء المفعول لكن مفعوله يستمر لفترة أطول.

إن التوازن بين كُره الماء وحب الماء يحدد أيضًا الخواص الإكلينيكية للمسكنات الأفيونية، وهي المركبات التي تقلل الألم بدون تقليل الوعي «كثيرًا». إن عشرات المواد الأفيونية تُستخدم روتينيًّا في العلاج الإكلينيكي، ومن أسباب توافر الكثير منها هو أنها تمتلك أزمنة بداية سريان مفعول وفترات سريان مفعول مختلفة، وهذا يسمح للأطباء باختيار الأفضل منها لكل حالة. إن معظم العقاقير الأفيونية تتفاعل مع نوع واحد من المستقبِلات، مستقبِل µ الأفيوني وهو، مثل معظم المكونات الخلوية، محب للدهون؛ ومن ثَمَّ فإن المحدد الأساسي لزمن بداية سريان المفعول هو حب الدهون، تمامًا كما هي الحال مع عقاقير التخدير الموضعي والعقاقير المضادة للاتهاب غير الاستيرويدية.

fig18
شكل ٤-٥: تركيب الهيدرومورفون، وهو مسكن أفيوني. تقريبًا كل المواد الأفيونية، تتفاعل مع مُستقبِل µ الأفيوني. ولا يوجد فرق فسيولوجي أو إكلينيكي بين المواد الأفيونية المشروعة مثل المورفين، وغير المشروعة مثل الهيروين. في واقع الأمر، كان يُعتقد أن الهيروين مشابه لا إدماني للمورفين عندما طُور في البداية.
على سبيل المثال، إن الهيدرومورفون (الاسم التجاري هو دايلوديد) محب للماء (فهو، مثل الليدوكايين والكوكايين، يمتلك نيتروجين سهل البرتنة، وفي الواقع، يُجرى إعطاؤه بوجهٍ عام في شكل ملح الهيدروكلوريد خاصته). هذا المسكن، الموضح تركيبه في شكل ٤-٥، يمتلك بداية سريان مفعول بطيئة (حوالي ٢٠ دقيقة ليصل إلى أقصى تأثير حتى بعد حقنه في الوريد)، ومع ذلك، يدوم تأثيره عدة ساعات. إن سبب تأخر بداية سريان مفعول هذا العقَّار القابل للذوبان في الماء نسبيًّا هو أنه لا يستطيع أن يَعبر الحاجز الدموي الدماغي بسهولة. لكن بمجرد أن يدخل إلى الدماغ، يبقى متاحًا للتفاعل مع مستقبلات µ الأفيونية، مما يجعل له أثرًا طويلًا. في المقابل، المشابه الأفيوني التخليقي القابل للذوبان في الدهون، الفينتنيل، (انظري شكل ٤-٦) يمتلك زمن بداية سريان مفعول يبلغ حوالي دقيقة لأنه يعبر الحاجز الدموي الدماغي بسرعة. ومع ذلك، تبقى خواصه التسكينية من ١٠ إلى ١٥ دقيقة فقط لأن هذا العقَّار يكون قابلًا للذوبان جدًّا بحيث يُعاد توزيعه (أي، «يُمتص») بواسطة الأنسجة الدهنية التي ليس لها مستقبلات أفيونية. هذا الامتصاص غير النوعي ينهي تأثيره الفسيولوجي. وبخلاف ذلك، فإن تسكين الألم سيبقى لساعات؛ لأن العقَّار يتأيض ببطء. لذلك، بينما تتحدد فترة سريان مفعول المواد الأفيونية بقابلية الذوبان في الماء والدهون النسبية، فإن بعض الآليات الأخرى لها أيضًا دور في هذا الشأن. ومن الواضح أن طبيب التخدير يحتاج لوضع هذا في الاعتبار، وإلا سوف يعاني المرضى بعض العواقب الشديدة!
fig19
شكل ٤-٦: تركيب الفينتنيل، المشابه الأفيوني التخليقي القابل للذوبان في الدهون.

(٢) أجهزة المتابعة

أثناء الدقائق القليلة المطلوبة لتخدير يدكِ، أدخل دان الإصبع الوسطى ليدكِ اليمنى في مقياس التأكسد النبضي (انظري شكل ٤-٧). هذا الجهاز هو، في جوهره، مقايس للطيف الضوئي بطولَين موجيَّين ويستخدم الامتصاص التفاضلي في الجزء الأحمر من الطيف المرئي (٦٦٠ نانومترًا)، وفي الطيف تحت الأحمر القريب (عادة ٩٤٠ نانومترًا) ليتابع التركيز النسبي للهيموجلوبين المؤكسد وغير المؤكسد في الدم الشرياني. ربما تتذكرين أن الدم الشرياني أكثر حمرة من الدم الوريدي؛ وهذا لأن الدم الشرياني به أكسجين ويمتص الضوء عند ٦٦٠ نانومترًا، على نحوٍ أقل من الشكل غير المؤكسد (العكس صحيح عند ٩٤٠ نانومترًا). مبدئيًّا، إن قانون بير-لامبرت الذي تعلمتِه العام الماضي في مقرر الكيمياء (الذي ينص على أن هناك علاقة خطية بين الشدة الضوئية والتركيز لأي محلول مثالي) يمكن أن يُستخدم لحساب التركيز المطلق لكلٍّ من الهيموجلوبين المؤكسد والهيموجلوبين غير المؤكسد من كمية الضوء المارِّ عبر إصبعك عند طولٍ موجي مفرد. مع ذلك، فإن وجود أشياء ماصة أخرى (وفيها طلاء الأظافر!) يجعل مثل هذه القياسات غير دقيقة. ولحسن الحظ، باستخدام طولَين موجيَّين؛ حيث يختلف امتصاص شكلَي الهيموجلوبين المؤكسد وغير المؤكسد على نحوٍ كبير (في الطيفين المرئي وتحت الأحمر القريب كما أوضحنا من قبل)، يمكن حساب نسبة هذين الشيئين مع وجود تداخل قليل نسبيًّا. هذا يسمح بمتابعة مدى أكسدة الدم في الوقت الحقيقي. ويمكن القول إن مقياس التأكسد النبضي هو الجهاز الأكثر أهمية من بين عشرات أجهزة المتابعة التي يستخدمها أطباء التخدير عادةً.
fig20
شكل ٤-٧: مقياس تأكسد نبضي، وهو مقياس للطيف الضوئي بطولَين موجيَّين يقيس تشبع الهيموجلوبين المؤكسد في الدم. ويعد على الأرجح أهم أجهزة المتابعة المستخدمة في عملية التخدير.

إن الهيموجلوبين (الذي يُعَد حامل الأكسجين في الدم الشرياني) يكون عامةً مشبعًا بالكامل تقريبًا عندما يتنفس الناس الأصحاء هواءً تحت ظروف عادية من الحرارة والضغط (أي، قرب مستوى سطح البحر). إن التشبع المنخفض يشير إلى أن هناك مشكلة كبيرة. ولسوء الحظ، مقياس التأكسد النبضي ليس مقياسًا يمكن الاعتماد عليه بالكامل فيما يتعلق بعملية التنفس؛ فعلى سبيل المثال، يمكن أن يكون لدى المريض ضغط جزئي زائد من ثاني أكسيد الكربون في الدم الشرياني وما زال يمتلك تشبعًا أكسجينيًّا كاملًا، خاصةً عندما يحصل على أكسجين إضافي. كما لا يستطيع هذا المقياس أيضًا إعطاء مؤشر عن وجود تسمم بأول أكسيد الكربون. (تجدر الإشارة إلى أن ضحايا استنشاق الدخان يحصلون غالبًا على تركيزات عالية من أول أكسيد الكربون والتي يمكن أن تكون مميتة لأن أول أكسيد الكربون يرتبط تقريبًا على نحوٍ لا يمكن عكسه مع الهيموجلوبين، مانعًا الأكسجين من الارتباط به. ومع ذلك، أول أكسيد الكربون موجود في نَفَس المرضى الأصحاء لأنه يتكون بكميات صغيرة من التكسير (الأيض الهدمي) الطبيعي للهيم، وهي مجموعة ضميمة لبورفيرين الحديد في الهيموجلوبين. ويمكن أن يتكون أول أكسيد الكربون أثناء التخدير من التكسير غير المرغوب لبعض عقاقير التخدير الاستنشاقية في عملية احتجاز ثاني أكسيد الكربون التي سنناقشها هنا باستفاضة. ورغم خطورة هذه المضاعفة الأخيرة، فيمكن تجنبها من خلال الاختبار المناسب لعقَّار التخدير، ومعدلات التدفق، والأكثر أهمية عدم ترك جهاز امتصاص ثاني أكسيد الكربون حتى يجف.) ويرجع هذا إلى أن شكلَي الهيموجلوبين المرتبَطين مع أول أكسيد الكربون والأكسجين الجزيئي يتميزان بلون أحمر فاتح متماثل. وغنيٌّ عن البيان أن هذه أمور يجب أن يضعها أطباء التخدير في الاعتبار!

في ظل جوانب القصور الموجودة في مقاييس التأكسد النبضي، جرى توصيلكِ بمقياس غاز الزفير، والذي يتابع النفَس الذي يخرج من رئتيك. هذا المقياس يستخدم فقط طولًا موجيًّا واحدًا من الضوء تحت الأحمر، المقابل لذبذبة الكربون وأكسجين ليقدِّر مباشرةً كمية ثاني أكسيد الكربون في نفس المريض. وعلى الرغم من كونه أبسط تقنيًّا من مقياس التأكسد النبضي، فإن مبدأ عمل الاثنين واحد، وهو أنه كلما زاد تركيز ثاني أكسيد الكربون، كان الامتصاص أقوى (الضوء تحت الأحمر، في هذه الحالة؛ يمتلك ثاني أكسيد الكربون ذبذبة تمدد غير متماثلة شديدة — وهي حركة تشوه الشكل الساكن من الترتيب O–C–O إلى التركيب O–C—O عند ٢٣٤٥سم−١). (من المثير للاهتمام، إن تمدد O–C–O المتماثل المقابل يكون ضعيفًا. وهذه الحركة، التي تُحوِّل الشكل الساكن من الترتيب O–C–O إلى التركيب O—C—O، لا تؤدي إلى تغير في الوضع ثنائي القطب الدائم، ولهذا، فهي ممنوعة. وسوف تتعلمين أساس هذه القاعدة العامة العام القادم عندما تدرسين قواعد الاختيار الطيفية في مقرر الكيمياء الفيزيائية.) بعد ذلك، يسمح استخدام منحنيات المعايرة بتقدير ضغوط ثاني أكسيد الكربون الجزئية.
الضغط الجزئي الخارج لغاز ثاني أكسيد الكربون مهم لأنه يقيس تناسب التهوية ويعطي قياسًا للأس الهيدروجيني للدم؛ وهذا لأن الغاز الخارج من الرئتين يكون في توازن مع الدم المار خلال الرئتين. (لاحظ أن الدم يحمل ثاني أكسيد الكربون، الناتج من الأيض الهوائي، إلى الرئتين في شكل حمض الكربونيك، H2CO3.) ونظرًا لأن انحراف أعشار قليلة فقط من وحدة الأس الهيدروجيني في الأس الهيدروجيني للدم يمكن إما أن يكون السبب المؤدي إلى مرض خطير أو التأثير الناتج عنه، فيمكن أن تتصوري كيف أن هذه تكون معلومة مفيدة في غرفة العمليات؛ خاصةً أنه يمكن متابعتها في الوقت الحقيقي وعلى نحوٍ غير باضع. في الحقيقة، يمكن أن تكون التغييرات النادرة في ضغط ثاني أكسيد الكربون الجزئي الخارج إشارة تحذير أُولى أن هناك شيئًا خاطئًا في عملية التخدير. كما سنُفصِّل فيما يلي، ثبت أن هذا صحيح في حالتكِ!

عند إجراء التخدير، ليس من المهم متابعة مستوى ثاني أكسيد الكربون فقط، ولكن التخلص منه أيضًا. وذلك لأن الزفير الخارج من المريض، والذي يحتوي عقَّار التخدير المعطى وثاني أكسيد الكربون وهكذا، يعاد تدويره (مع إضافة أكسجين عند الضرورة) عبر دائرة مغلقة أو شبه مغلقة. يتم ذلك في الغالب لأسباب تتعلق بالتكلفة؛ إذ بينما توجد عقاقير تخدير قليلة مثل أكسيد النيتروز (الذي سنناقشه بعد قليل) رخيصة، فإن معظم عقاقير التخدير الاستنشاقية الفعالة غالية الثمن. وهي أيضًا غازات «دفيئة». وأخيرًا، طاقم العاملين بغرفة العمليات لا يريدون تنفس تركيزات منخفضة من مخلفات عقاقير التخدير أثناء العمل طوال اليوم.

إن النظام المستخدم لإعادة تدوير عقاقير التخدير الاستنشاقية في غرفة العمليات يُسمَّى «النظام الدائري» (انظري شكل ٤-٨). إنه يعيد تدوير الغازات الخارجة ويعيدها ثانية إلى المريض بعد إزالة ثاني أكسيد الكربون وإضافة أكسجين كافٍ لتعويض الكمية المستخدمة للأيض بالجسم. إن وجود صمامَين ذوَي اتجاه واحد يحفظ على التدفق في اتجاه واحد داخل الدائرة.
fig21
شكل ٤-٨: تصوير للنظام الدائري المستخدَم في آلات التخدير الحديثة. إن السمة الأساسية له هي أن الغاز الخارج يُعاد إدخاله للمريض بعد أن يضاف الأكسجين ويزال ثاني أكسيد الكربون من خلال جير الصودا أو مادة ماصة مماثلة. (طُبعت هذه الصورة بإذن من مورجان وآخرين (٢٠٠٥).)
fig22
شكل ٤-٩: صورة لجهاز غسل ثاني أكسيد كربون مستخدم في التخدير. (طُبعت هذه الصورة بإذن من مورجان وآخرين (٢٠٠٥).)
إن الجزء المهم في النظام الدائري هو جهاز غسل ثاني أكسيد الكربون (انظري شكل ٤-٩). فبما أن ضغوط ثاني أكسيد الكربون الجزئية العالية تجعل الدم حمضيًّا على نحوٍ خطير، فمن المهم أن نُزيل ثاني أكسيد الكربون من تيار الهواء الدائر. ويُزال ثاني أكسيد الكربون عادةً من الدائرة بتمرير الزفير عبر حاوية تحتوي على قاعدة أرضية قلوية أو قلوية مائية (عادة، هيدروكسيد الصوديوم، أو هيدروكسيد البوتاسيوم، أو هيدروكسيد الكالسيوم، أو هيدروكسيد الباريوم أو مزيج من ذلك)؛ هذا يؤدي لاحتجاز ثاني أكسيد الكربون، أولًا في شكل حمض كربونيك، وبعد ذلك في شكل أنيون كربونات (وهو مركب بالطبع غير متطاير)، كما هو موضح في معادلتَي 4-2، و4-3 وذلك في حالة استخدام هيدروكسيد الكالسيوم:
(4-2)
(4-3)

أطباء التخدير يدركون أن التفاعلات الحمضية-القاعدية البسيطة طاردة للحرارة بشدة. ومن ثَمَّ فإن نظام التخدير الذي يعمل على نحوٍ جيد يكون دافئًا عند لمسه.

يُستخدم نظام غسل ثاني أكسيد كربون مماثل في الغواصات لأنها سوف ينفد منها الأكسجين بسرعة إذا كان من الضروري أن نتخلص من الهواء فقط للتخلص من ثاني أكسيد الكربون. علاوة على ذلك، إن إطلاق كميات كبيرة من الغاز باستمرار يمكن أن يكشف عن مكان الغواصة! في الغواصات وأثناء التخدير، من المهم أن نتأكد من عدم تجاوز سعة أجهزة غسل ثاني أكسيد الكربون. وللمساعدة في تجنب هذا الحدث المهدِّد للحياة، يضاف مؤشر حمضي قاعدي إلى القاع يعطي إنذارًا مرئيًّا عندما تكون سعة الأجهزة على وشك التجاوز. (وهذا يُجدي لأن ثاني أكسيد الكربون، كما تلاحظ في المعادلة، هو الشكل اللامائي من حمض الكربونيك؛ وهكذا، عندما يتم تخطي سعة جهاز الغسل، يقل الأس الهيدروجيني.)

(٣) الغازات

بعد أن خُدِّرت يدكِ، وأُدخلت القسطرة الوريدية، حقن دان أحد عقاقير الباربيتورات، وهو ثيوبنتال الصوديوم (الاسم التجاري هو البنتاثول). إن الثيوبنتال (انظري شكل ٤-١٠ للاطلاع على تركيبه) هو عقَّار سريع التأثير وقصير المفعول يُسبب غيابًا كاملًا للوعي بتقليل النقل العصبي عند التشابكات العصبية في الدماغ. عند التشابكات العصبية، تُفرز مرسلات كيميائية (ناقلات عصبية) من قبل أحد الأعصاب وتحمل إشارة إلى العصب التالي عبر فجوة صغيرة. وتنشط الناقلات العصبية مستقبلات عند العصب المستقبل. إن عملية النقل العصبي أبعد ما تكون عن أن تُفهم فهمًا كاملًا — وهذه منطقة تساهم فيها الكيمياء بقوة في مجهودات البحث الجارية. واعتمادًا على الدراسات الحديثة التي تشمل عقاقير تخدير وريدية أخرى، يبدو من المحتمل أن الثيوبنتال يعمل بالارتباط مع مستقبل النوع الفرعي إيه لحمض جاما-أمينوبيوتريك. وهذا المستقبل هو قناة أيونية، وعندما يرتبط لجينه، حمض جاما-أمينوبيوتريك، به، تفتح القناة مؤقتًا وتسمح بدخول الأنيونات إلى الخلية العصبية. هذا يخلق جهدًا سالبًا يمنع الخلية من إنتاج نبض كهربي استثاري. تمد عقاقير التخدير الوريدية أمد فتح القناة والذي يمنع العصب من نقل إشارات ضرورية للإبقاء على الوعي. ويعرض شكل ٤-١١ تمثيلًا رسوميًّا لوصلة تشابك عصبي.
fig23
شكل ٤-١٠: تركيب ثيوبنتال الصوديوم (يسارًا). هذا المركب أحد مشتقات حمض الباربيتيورك، وقد حُضِّر لأول مرة على يد فون باير كما هو موضح في مخطط ٤-١. وبينما ليس لحمض الباربيتيورك نفسه أي تأثيرات فسيولوجية، فإن مشتقات كثيرة منه مثل الفينوباربيتال الموضح تركيبه (يمينًا)، لها تاريخ مهم كعقاقير، كما هو موضح هنا في الكتاب.
fig24
شكل ٤-١١: رسم توضيحي لوصلة تشابك عصبي. الخلايا العصبية تتواصل بعضها مع بعض بإطلاق حزم صغيرة من المرسلات الكيميائية مثل حمض جاما-أمينوبيتوريك GABA. وتنتشر هذه «الناقلات العصبية» عبر الفجوة الصغيرة وتنشط المستقبلات على العصب المجاور. (رُسم هذا الشكل بواسطة كريس جرالاب وطُبع بإذن منه.)
fig25
مخطط ٤-‏١: تخليق حمض الباربيتيورك كما تم لأول مرة على يد فون باير. اكتُشف بعد ذلك أن الشكل الثنائي الإستر لحمض المالونيك (المركب الموجود على اليسار) ومشتقاته يمكن أيضًا أن يدخل في تفاعل تكاثف مع اليوريا (المركب الأوسط)، مما يؤدي غالبًا إلى نتائج أفضل.

الثيوبنتال هو أحد مشتقات حمض الباربيتيورك، الذي هو عبارة عن فئة كبيرة من المركبات التي تحتوي على لب بيريميدين (كما هو موجود في الأحماض النووية مثل السايتوسين، والثيميدين واليوراسيل). وقد اكتُشف هذا الحمض بواسطة الكيميائي الألماني أدولف فون باير في ٤ ديسمبر من عام ١٨٦٤ — عيد القديسة باربرا ومن هنا، جاء اسم العقَّار — وحُضر باتحاد اليوريا مع حمض المالونيك (انظري المخطط ٤-١). وعلى الرغم من أن حمض الباربيتيورك نفسه ليس نشطًا فسيولوجيًّا، فهذا لا ينطبق على كثير من مشتقاته (التي تحضيرها عامةً سهل). إن الفينوباربيتال، عل سبيل المثال، له خواص مسكنة ومهدئة. ومع ذلك، حل محله على نحوٍ كبير عقاقير أكثر أمانًا من نوع البنزوديازيبين (على سبيل المثال، الفاليوم). وفي الوقت نفسه، يُؤخذ ثيوبنتال الصوديوم، وهو العقَّار الذي أخذتِه، بجرعات منخفضة كمصلٍ يُعرف باسم مصل الحقيقة. والنظرية تقول إنه في الجرعة الصحيحة، سوف يثبط أجزاء الدماغ التي توفر تحكمًا عالي المستوى مع الاحتفاظ بالوعي والذاكرة. وعلى الرغم من انتشار استخدامه في أفلام التجسس، إلا أنه لا يوجد أي دليل على الإطلاق على أنه يعمل بنحو أفضل من تناول كأسين من مشروب المارتيني!

حَقن دان الثيوبنتال مدركًا أنه سوف يُتبع ذلك سريعًا بعقَّار تخدير استنشاقي. وهذا التحول تم لسبب مهم جدًّا وهو أن الثيوبنتال ذو مفعول قصير وسوف تستيقظين في غضون ١٠–١٥ دقيقة (بينما كانت عمليتكِ ما زالت مستمرة) إذا كان هذا هو كل ما أُعطيتِ. بالطبع، كان من الممكن أن تحصلي على ثيوبنتال أكثر، ولكنه عندما يُعطى على نحوٍ متكرر، يتحول من كونه قصير المفعول إلى كونه طويل المفعول بشدة (أي، يستمر مفعوله لأيام). وكما هي الحال مع العقَّار الأفيوني الفينتنيل المذكور عاليه، يحدث التحول من الزمن القصير إلى الطويل لأنه عند تناوله في جرعات صغيرة ينتهي تأثيره بإعادة التوزيع بواسطة النسيج الدهني، بينما تحتاج الجرعات الكبيرة لأن تتأيض، وهي عملية بطيئة. إن التحول إلى عقَّار وريدي آخر كان اختيارًا، ولكن التوجه الأكثر شيوعًا هو أن يستخدم غاز استنشاق للإبقاء على عملية التخدير. إن معظم عقاقير التخدير الاستنشاقية، شاملة الهالوثان الذي استخدمه دان في حالتكِ، هي هيدروكربونات مفلورة أو معالجة بالكلور خاملة (انظري شكل ٤-١٢). مع ذلك، الزينون (وهو «غاز نبيل» لا يؤدي إلى أي تفاعل كيميائي في جسمك) أيضًا عقَّار تخدير جيد جدًّا. وعقاقير التخدير الاستنشاقية تختلف عن عقاقير التخدير الأخرى في أنها لا تتأيض؛ بدلًا من ذلك، هي تدخل وتخرج من الجسم دون أن تتغير من خلال الرئتين.

نظرًا لأن الهالوثان كان يجب أن يُعطى لاستمرار تخديركِ، ربما تسألين لماذا لم يبدأ دان به. لماذا أزعج نفسه بوضع قسطرة وريدية وأعطى من خلالها عقَّار الثيوبنتال؟ أولًا: إن معظم عقاقير التخدير الاستنشاقية، شاملة الهالوثان، لها رائحة كريهة. وهي من ثَمَّ تكون مزعجة للمرضى الذين لم يكونوا قد فقدوا الوعي بحصولهم على عقَّار تخدير وريدي. ثانيًا: إن عقَّار التخدير الاستنشاقي يستغرق ما يصل إلى ١٥ دقيقة لإحداث فقدان عميق بما فيه الكفاية للوعي عند أخذه بمفرده؛ وهذا وقت انتظار طويل جدًّا في غرف العمليات الحديثة، والتي يجري فيها العمل بوتيرة سريعة. التوجه القياسي إذن هو أن نبدأ بحقن عقَّار تخدير وريدي ثم نتحول إلى آخر استنشاقي.

fig26
شكل ٤-١٢: تركيب ثلاثة عقاقير تخدير استنشاقية قوية: الهالوثان، والآيزوفلوران والإنفلوران (من اليسار إلى اليمين). مثل معظم الهيدروكربونات المفلورة أو الخاملة المعالجة بالكلور، فإن عقاقير التخدير الاستنشاقية، لا تتأيض؛ بدلًا من ذلك، تدخل وتخرج من الجسم من خلال الرئتين دون أن تتغير.
والآن، ربما تتعجبين كيف أن عقاقير التخدير الاستنشاقية، التي كلها غازات خاملة فسيولوجيًّا، تجعل الناس يغيبون عن الوعي؟ هذا سؤال جيد، والإجابة هي أن لا أحد يعرف السبب! هذا صحيح؛ فبعد اكتشاف التخدير العام بأكثر من ١٥٠ عامًا، تظل طريقة عمل عقاقير التخدير الاستنشاقية غير معروفة. ومع ذلك، هناك علاقة خطية بين فاعلية عقَّار التخدير والقابلية للذوبان في زيت الزيتون، وهي علاقة قائمة حتى ما يقرب من سبع قيم أسية، كما هو مبين في شكل ٤-١٣. وهذا لا يعني أن الجزء النشط من الدماغ مصنوع من زيت الزيتون؛ بدلًا من ذلك، الزيت هو فقط مُحاكٍ مناسبٌ للدهن ثنائي الطبقة الذي يحيط بكل خلية. على الأرجح، تذوب غازات التخدير في الدهن ثنائي الطبقة وتشوه التركيب، ومن ثَمَّ العمل الخاصَّين بالعديد من المستقبِلات الموجودة على أسطح الخلايا. ومن ثَمَّ فإن تأكيد هذا النمط من الفعل، أو اكتشاف بديل، يمثل تحديًا كبيرًا لشخص من جيلكِ.
fig27
شكل ٤-١٣: هناك علاقة خطِّيَّة بين فاعلية عقَّار التخدير والقابلية للذوبان في زيت الزيتون، وهو ارتباط يظل صحيحًا حتى سبع قيم أسية. إن «التركيز الأدنى في الحويصلات الهوائية» هو الضغط الجزئي للمادة المخدرة المتطايرة الذي يمنع الحركة استجابةً لشق جلدي جراحي في نصف المرضى. إنه مقياس معياري لفاعلية عقَّار التخدير؛ إن قيمة ١ تحدد الكمية المتوسطة المطلوبة لتخدير شخص. إن التوصل إلى أن هناك علاقة خطية بين الفاعلية، دون النظر إلى التركيب، والقابلية للذوبان في الزيت ضمن مثل هذا المدى الواسع من العقاقير، وهي واحدة من أهم النتائج اللافتة للنظر في مجال الطب والعقَّار. لكن هذا لا يعني أن الدماغ مصنوع من زيت الزيتون! (قدَّم هذا الشكل مشكورًا إدموند إجر آي آي وديمتري شنايديرمان وكلاهما أستاذ في جامعة كاليفورنيا، سان فرانسيسكو.)

لا تؤثر القابلية للذوبان في الزيت فقط على الفاعلية؛ فكما هي الحال مع العديد من العقاقير الأخرى، يحدد حب الدهون سرعة تأثير وفترة سريان مفعول عقاقير التخدير الاستنشاقية. فكلما زادت قابلية ذوبان الغاز في الزيت، تزداد سرعة التأثير وفترة سريان المفعول. والسبب هو أن عقاقير التخدير القابلة للذوبان في الدهون تُمتَص على نحوٍ أفضل فيها. لا تسبب الغازات أي تأثير فسيولوجي في الدهون ولكن تعمل الدهون كمخزن للعقاقير، التي تتزن بعد ذلك مع بقية الجسم بعد توقف إعطاء عقَّار التخدير، مما يمنع التركيز في الدماغ من النقصان بالسرعة المعتادة. وتكون كمية عقَّار التخدير الباقية في الجسم، على نحوٍ غير مدهش، أكبر مع عقاقير القابلة للذوبان في الدهون؛ إذن تكون فترة سريان مفعولها أطول.

إن بطء التأثير والتأثير الممتد كلاهما عيبان؛ لأن أطباء التخدير يرغبون في أن يكونوا قادرين على معايرة تركيز العقَّار حسب الحاجة خلال الجراحة ويريدون أن يستعيد المرضى وعيهم بسرعة بعد انتهاء الجراحة. وللمفارقة، تكون أزمنة الإفاقة متشابهة مع عقاقير التخدير القابلة وغير القابلة للذوبان في الدهون إذا كانت فترة التخدير قصيرة؛ على العكس، تكون أزمنة الإفاقة بعد الفترات التخديرية الطويلة أقصر بكثير عند استخدام عقاقير تخدير غير قابلة للذوبان نسبيًّا في الدهون. السبب هو أنه لا يوجد وقت كافٍ أثناء العمليات القصيرة ليُمتص عقَّار التخدير، سواء كان يذوب في الدهون، بكمية كبيرة من قبل الدهون أم لا. على العكس، تزداد أهمية مخزن الدهون إكلينيكيًّا بعد ساعات عديدة؛ لذا، من المهم أن نستخدم عقاقير تخدير استنشاقية ذات «تأثير قصير» (أي، أقل قابليةً للذوبان في الدهون) في العمليات «الطويلة»، وذلك كما هو موضح في شكل ٤-١٤.
أكسيد النيتروز، N2O، كان أول عقَّار تخدير استنشاقي يظهر، وهو الأقل قابلية للذوبان في الزيت حتى الآن. (لا يجب الخلط بين N2O وNO2، ثاني أكسيد النيتروجين، الذي يُعَد واحدًا من أكثر المكونات سُمِّية في الضباب الدخاني!) لسوء الحظ، أكسيد النيتروز ليس قويًّا بما يكفي ليوفر تخديرًا كاملًا. مع ذلك، يبقى عقَّارًا مساعدًا شائعًا مع عقاقير التخدير الأخرى وقد استُخدم في أكثر من مليار عملية تخدير؛ فهو يُستخدم أيضًا على نحوٍ كبير في مجال طب الأسنان. إن أول عقَّار تخدير فعال كان ثنائي إيثيل الأثير، وسرعان ما تبعه الكلوروفورم أو ثلاثي كلور الميثان، CHCl3. (من المثير للاهتمام أن كثيرين في تلك الأيام كانوا يعتقدون أن الناس الذين يعانون من الألم استحقوا ذلك، وأن علاج ألمهم أمر غير أخلاقي. في هذا الشأن، يقول ويليام أتكينسون، أول رئيس لجمعية طب الأسنان الأمريكية: «أعتقد أن التخدير من الشيطان، وأنا لا أستطيع الاستعانة بأي تأثير شيطاني يحرم الإنسان من القدرة على الخضوع للقانون الإلهي! أتمنى ألا يكون هناك مثل هذا الشيء الذي يُسمَّى التخدير! وأنا لا أظن أنه يجب منع البشر من المرور بما أراد الرب لهم أن يتحملوه.» وقد أُعطيت الملكة إليزابيث عقَّار الكلوروفورم لتسهيل الولادة، مما ساعد على زيادة شعبية عملية التخدير.) كانا هذان عقَّارَي التخدير العام الكامل المتاحَين فقط لأكثر من ٥٠ عامًا، ولكن كلاهما كان له عيوب.
fig28
شكل ٤-١٤: تكون أزمنة الإفاقة متشابهة لعقاقير التخدير القابلة وغير القابلة للذوبان في الدهون عندما تكون فترات التخدير قصيرة؛ وعلى العكس، تكون أزمنة الإفاقة بعد فترات التخدير الطويلة أقصر كثيرًا عندما تُستخدم عقاقير تخدير غير قابلة للذوبان نسبيًّا في الدهون. السبب هو أنه أثناء العمليات القصيرة، لا يوجد وقت كافٍ لأن تُمتص كمية كبيرة من عقَّار التخدير، سواء كان قابلًا للذوبان أم لا، بواسطة الدهون. على النقيض من ذلك، يصبح مخزن الدهون مهمًّا إكلينيكيًّا بنحو متزايد بعد عدة ساعات؛ لذا، من المهم أن نستخدم عقاقير تخدير استنشاقية قصيرة التأثير (أي، أقل قابلية للذوبان في الدهون) في العمليات الطويلة.
fig29
شكل ٤-١٥: مخطط لحاوية نحاسية، وهي الجهاز المستخدم لمعايرة عقَّار الهالوثان أثناء تخديركِ. (وقد طُبع بإذن من مورجان وآخرين (٢٠٠٥).)
fig30
شكل ٤-١٦: صورة أول حاوية نحاسية وهي ملحقة بآلة تخدير بدائية.

الأثير، كعقَّار تخدير، كان له عيبان خطيران. العيب الأول هو أنه كان قابلًا للذوبان بشدة في الدهون حتى إن إحداث التخدير الجراحي كان يأخذ نصف ساعة على الأقل، والإفاقة كانت تأخذ ساعات طويلة، اعتمادًا على مدة الجراحة. بالطبع، كان لا يزال الأثير أفضل كثيرًا من البديل المتمثل في عدم وجود أي تخدير على الإطلاق! ولكن كان العيب الأكثر خطورة أنه كان سريع الاشتعال بشدة، وقابليته للاشتعال تتعزز بحقيقة أنه كان يُخلط بالأكسجين لأن المرضى الخاضعين للتخدير يتنفسون بصعوبة. فأصغر شرارة يمكن أن تُشعل الأثير؛ والانفجار الناتج كان مميتًا دائمًا للمريض، وغالبًا للآخرين داخل غرفة العمليات. ومن ثَمَّ توجد لافتات على كل غرف العمليات تقول إن عقاقير التخدير القابلة للاشتعال ممنوعة؛ وبالمثل، لا يزال الغطاء الرأسي الذي يفصل بين الجانب الخاضع للجراحة للمريض والجانب المخدر منه يُسمَّى «حاجز الأثير» حتى اليوم، على الرغم من عدم استخدام أيٍّ منها على مدى العقود الستة الأخيرة على الأقل! لأنه جرى تصميمه في الأصل للحفاظ على خليط الأثير والأكسجين بعيدًا عن الجراحين الذين يمكن أن يتسببوا في حدوث شرارة بأدواتهم. (أطباء التخدير، خاصةً عندما يحاولون إغاظة الجراحين، يشيرون إلى حاجز الأثير باسم «الحاجز الدموي الدماغي»!)

الكلوروفورم كان سريع التأثير وغير قابل للاشتعال، ولكن كان له أيضًا عيبان خطيران. الأول كان أنه كان يُسبِّب تلفًا بالكبد للعديد من المرضى. والثاني هو أنه أدى لاضطرابات قاتلة في نظام التوصيل الكهربي في القلب، مؤديًا إلى الموت المفاجئ لعدد ضئيل من المرضى. لحسن الحظ، استُبدل بالأثير والكلوروفورم عقاقير تخدير آمنة منذ مدة طويلة. وأشهر ثلاثة عقاقير تخدير كانت موجودة في زمن جراحتك هي الهالوثان (الذي أخذتِه)، والآيزوفلوران والإنفلوران (انظري شكل ٤-١٢ للاطلاع على تركيب كل منها). ليس منها من هو قابل للذوبان في الدهون مثل الأثير، لكن مع ذلك للهالوثان قابلية للذوبان أكبر بمقدار الضعف من الآيزوفلوران؛ والإنفلوران له قابلية ذوبان متوسطة.

يُحدد أمان العقَّار ﺑ «المؤشر العلاجي» خاصته، والذي هو النسبة بين الجرعة السامة والجرعة التي تسبب التأثير العلاجي. بالنسبة إلى عقاقير مثل المضادات الحيوية، تكون النسبة بالآلاف، مما يعني أنها آمنة للغاية. وهذا يعني أنك يمكنك أخذ أكثر من ١٠٠ مرة من الجرعة الموصى بها لمعظم المضادات الحيوية دون أن تتعرض لأي تأثير ضار. وعقاقير السرطان، على الجانب الآخر، لها عامةً مؤشر علاجي يبلغ نحو ٣. وهذه العقاقير معروف عنها آثارها الجانبية التي تهدد الحياة وتجعل المرضى يشعرون بالمرض الشديد. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن المؤشر العلاجي لعقاقير التخدير الاستنشاقية الفعالة يكون حتى أقل من ذلك الخاص بعقاقير السرطان: فقط حوالي ١٫٥! بالإضافة إلى ذلك، تختلف الجرعة العلاجية بدرجة ملحوظة بين الأفراد وتتغير حتى لمريض ما مع الوقت. وهذا يجعل عقاقير التخدير الاستنشاقية العقاقير الأكثر خطورة في الممارسة الإكلينيكية الحالية؛ ومن ثَمَّ فإن استخدامها مقصور على أطباء التخدير ذوي التدريب العالي الذين يمكثون مع المرضى خلال كل دقيقة من عملية التخدير حتى يستطيعوا بانتظام ضبط الجرعة لتناسب حالة المريض وتقدم الجراحة.

fig32
شكل ٤-١٧: آلة تخدير حديثة من أوميدا (جنرال إلكتريك).
إن عملية استئصال الزائدة الدودية نادرًا ما تأخذ أكثر من ساعة. وبمعرفة ذلك، اختار دان الإبقاء على تخديركِ بواسطة عقَّار الهالوثان كما أشرنا عاليه. (إن الهالوثان معروف أنه يسبب تلفًا كبديًّا مميتًا في البالغين، رغم أن هذا نادر جدًّا. ولا يفعل هذا أبدًا في الأطفال لحسن الحظ، ولأسباب غير معروفة.) لقد أُعطيتِ الهالوثان، الذي يأتي كسائل مثل كل عقاقير التخدير الفعالة، من خلال «حاوية نحاسية»، وهي نظام يتحكم في التبخير حتى يمكن ضبط الجرعة المعطاة بدقة. يُظهر شكل ٤-١٥ مخططًا للحاوية النحاسية؛ تَظهر الحاوية النحاسية الأصلية وهي ملحقة بآلة تخدير قديمة في شكل ٤-١٦. إن آلات التخدير الحديثة، مثل تلك الموضحة في شكل ٤-١٧، هي أكثر تطورًا بكثير.

إن هذه المبخرات ليست مصنوعة من النحاس كنوع من الزينة: التبخير عملية ماصة للحرارة، تسبب تبريد السائل؛ ومن ثَمَّ تقلل التبخير الإضافي. والنحاس موصل جيد جدًّا للحرارة؛ ومن ثَمَّ فهو قادر على عمل توازن بين حرارته والبيئة المحيطة؛ هذا يكون هامًّا للإبقاء على عملية التبخير عند المستوى المتوقع. ويعمل النظام بتمرير كمية صغيرة من الغاز الحامل، مثل الأكسجين، خلال الحاوية؛ حيث يمر فوق عقَّار تخدير سائل ويصبح مشبعًا بالكامل ببخار التخدير؛ وهذه الكمية الصغيرة من عقَّار التخدير المشبع (التي تكون بتركيز يكون مميتًا لحظيًّا) تُخفف بعد ذلك بكمية أكبر من الغاز ليعطي الخليط النهائي عند التركيز المرغوب. وكما قد تتصورين، احتاج دان لمعرفة قوانين الغازات المثالية خاصته!

دعينا ننظر إلى الحسابات التي قام بها دان. معظم المرضى يحتاجون إلى ضغط جزئي من الهالوثان يقترب من ١٪. إن الضغط البخاري للهالوثان عند درجة حرارة غرفة العمليات العادية البالغة ٢٠ درجة مئوية هو ٢٤٣ ملِّيمترًا زئبقيًّا. أيضًا، دعينا نفترض أنه وضع ١٠٠ ملِّيلتر/دقيقة من الغاز الحامل عبر الحاوية النحاسية. سيكون هذا الغاز مشبعًا ولهذا يكون له ضغط جزئي ٢٤٣ ملِّيمترًا زئبقيًّا. إن جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس قريبة من مستوى سطح البحر حيث الضغط الجوي يكون عامةً ٧٦٠ ملِّيمترًا زئبقيًّا. هذا يعني، في حالتكِ، أن تركيز الهالوثان الخارج من الحاوية النحاسية كان يبلغ تقريبًا ٣٢٪ (أي، ٢٤٣ / ٧٦٠ )؛ لذا، ليحصل دان على تركيز ١٪ المطلوب، مزج الغاز الخارج من الحاوية بنحو ٤٫٥٥ لتر/دقيقة من غاز حامل خالٍ من عقَّار التخدير. وحسب دان معامل التخفيف هذا، بملاحظة أن معدل تدفق الغاز المشبع الخارج من الحاوية النحاسية كان تقريبًا ١٤٧ ملِّيلترًا/دقيقة. وجد دان، كما يمكن أن تلاحظي بسهولة، أن معدل التدفق لا يمكن أن يكون هو المعدل الأصلي البالغ ١٠٠ ملِّيلتر/دقيقة لأن جزيئات غاز «زائدة» جرى «التقاطها» نتيجة عملية التشبع. ثم قليل من العمليات الجبرية البسيطة أوضحت أن هذه الزيادة في الحجم (لكل وحدة زمنية) هي ٤٧ ملِّيلترًا/دقيقة لأن ٤٧ / ١٤٧ × ١٠٠ = ٣٢٪. وليحصل على تدفق كلي ١٪، يجب تخفيف هذه اﻟ ١٤٧ ملِّيلترًا/دقيقة ﺑ ٤٫٥٥ لترات/دقيقة بحيث إن ٤٧ ملِّيلترًا/دقيقة الخارجة من الحاوية من الهالوثان تكون محتواة في تدفق كلي ٤٫٧ لترات/دقيقة (أي، ٤٧ / ٤٧٠٠ × ١٠٠ = ١٪).

إن الضغط البخاري للآيزوفلوران هو أساسًا مساوٍ لذلك الخاص بالهالوثان. لكن الإنفلوران له ضغط بخاري يبلغ ١٧٢ ملِّيمترًا زئبقيًّا في درجة حرارة الغرفة. وفي هذه الحالة، إن تدفقًا غازيًّا قدره ١٠٠ ملِّيمتر/دقيقة خلال حاوية نحاسية محتوية على إنفلوران سائل كان يجب أن يُخفف ﺑ ٣ لترات/دقيقة من الغاز الحامل لنحصل على التركيز المقدر للمريض البالغ ١٪، كما قد تفعلين بنفسك إن أردتِ حساب ذلك الأمر.

(٤) التعقيدات

لاحظ دان بعد ٢٠ دقيقة أن تركيز ثاني أكسيد الكربون في زفيرك قد زاد قليلًا عن القيمة الأساسية الطبيعية خاصته التي تقرب من ٤٠ ملِّيمترًا زئبقيًّا؛ فخلال حوالي ٥ دقائق، زاد إلى ٤٥ ملِّيمترًا زئبقيًّا، لكنه زاد بعد ذلك إلى ٥٥ ملِّيمترًا زئبقيًّا في غضون بضع دقائق أخرى فقط … وكان مستمرًّا في الصعود. وبما أن الجسم يتحكم بشدة عادةً في الضغط الجزئي لثاني أكسيد الكربون بالدم، فإن هذه الزيادة كانت شيئًا مقلقًا. وكان على دان أن يعرف ما المشكلة وكان يجب أن يفعل هذا بسرعة شديدة. ليس من فراغ أن يصف أطباء التخدير عملهم، كما يفعل أيضًا الطيارون، بأنه عبارة عن ساعات من الملل تتخللها لحظات من الذعر!

العملية التي بواسطتها يحدد الأطباء السبب الأكثر احتمالًا لأي علامة مرضية أو عرَض مرضي ما تُسمى «التشخيص التفريقي» وهو المقابل الطبي لقانون ساتون. (ويلي ساتون كان سارق بنوك معروفًا فشلت محاولات القبض عليه لعدة عقود. وعندما قُبِض عليه أخيرًا، سئل عن سبب سرقته للبنوك. أصبح جوابه الشهير: «هذا هو المكان الذي يوجد فيه المال» يُعرف باسم قانون ساتون. في السياق الطبي، هذا يعني أن الأشياء الشائعة شائعة وأن تشخيص المرض الغريب يتطلب قدرًا كبيرًا من الأدلة. في هذا الإطار، يُقال للمتدربين من الأطباء: «عندما تسمع صوت حوافر، لا تفكر في الحُمر الوحشية.» بمعنًى آخر، فكِّر في الأسباب الشائعة للمرض، وليس في النادر منها.) توجد أسباب عديدة لزيادة تركيز ثاني أكسيد الكربون الخارج، وفكر دان في كل واحد منها بالترتيب، بادئًا بالأكثر احتمالًا. في أغلب الأحيان، يتعطل أحد الصمامَين الدقيقَين اللذين ينقلان غازات الزفير إلى جهاز امتصاص ثاني أكسيد الكربون. هذا يمكن أن يحدث عندما تجعل الرطوبة الحاجز يعلق في الوضع المفتوح. مع ذلك أشار فحص الصمامين (اللذين كان لكلٍّ منهما غطاء شفاف مخصص لهذا الغرض) إلى أن كليهما كان يعمل بصورة طبيعية.

السبب التالي الأكثر احتمالًا للزيادة في الضغط الجزئي لثاني أكسيد الكربون الخارج هو تلف جهاز امتصاص ثاني أكسيد الكربون. يتضح هذا من خلال تغيُّرٍ لوني، كما أشرنا عاليه. التلف يسبب أيضًا انخفاض درجة حرارة جهاز الامتصاص إلى درجة الحرارة المحيطة؛ إذ لا تحدث تفاعلات كيميائية (طاردة للحرارة) أخرى. لكن ظل لون جهاز الامتصاص طبيعيًّا إلى حد كبير في حالتكِ. لكن جهاز الامتصاص كان ساخنًا جدًّا عند لمسه!

إن كون جهاز الامتصاص ساخنًا جدًّا هكذا أمر غير عادي، ومقلق؛ لأنه دل على أن جسمكِ كان يُنتج كميات ضخمة من ثاني أكسيد الكربون، وهذا يعني أنكِ كنتِ في حالة فرط أيض شديد. نظر دان بعد ذلك بسرعة في العلامات الأخرى لفرط الأيض، ولاحظ أن معدل ضربات قلبكِ ومعدل تنفسكِ كانا سريعين بطريقة غير طبيعية، وأن درجة حرارة جسمكِ كانت تزداد بسرعة. وفي النهاية، حصل على عينة من دمكِ الوريدي، التي أكدت التركيبة الكلاسيكية للضغط الجزئي العالي لثاني أكسيد الكربون والأس الهيدروجيني المنخفض على نحوٍ غير متوقع. (ولأن «غاز الدم» هذا هو اختبار تشخيصي هام، فإن غرف الجراحة بها آلات تستطيع قياس الأس الهيدروجيني للدم، وثاني أكسيد الكربون وتركيزات الأكسجين في دقيقة فقط أو دقيقتين بعد انتهاء سحب عينة الدم.) إن الضغط الجزئي لثاني أكسيد الكربون لدمكِ الوريدي كان ٩١ ملِّيمترًا زئبقيًّا، والذي هو أكثر مرتين عن المعدل الطبيعي، وكان الأس الهيدروجيني للدم ٦٫٩ — وهي قيمة تكون عادةً مميتة — بغض النظر عن السبب. وهكذا، أصبح التشخيص واضحًا: «فرط الحرارة الخبيث».

فرط الحرارة الخبيث مرض نادر؛ إنه نادر جدًّا، في الحقيقة، لدرجة أن معظم أطباء التخدير يرون حالة واحدة منه فقط في فترة ممارستهم المهنية. إنه مرض وراثي، تتسبب فيه عقاقير التخدير الاستنشاقية ويسبب فرط أيض في العضلات الهيكلية. عندما تُكتشف بسرعة أزمات فرط الحرارة الخبيث وتُعالج بطريقة مناسبة، يكون احتمال الوفاة أقل من ٥٪، وعندما يتأخر التشخيص أو يكون العلاج غير مناسب، يصل احتمال الوفاة إلى ١٠٠٪. أنتِ على قيد الحياة الآن لأن دان اكتشف هذا المرض النادر وقدَّم العلاج المناسب في الحال.

توجد ثلاثة علاجات أساسية لمرض فرط الحرارة الخبيث؛ أولًا: وقف العقَّار المسبب له (الهالوثان، في حالتكِ)، وثانيًا: زيادة التهوية لسحب ثاني أكسيد الكربون الزائد من الرئتين إلى جهاز امتصاص ثاني أكسيد الكربون، وثالثًا، إعطاء عقَّار الدانترولين الذي يعالج فرط الأيض للعضلات الهيكلية. قدَّم لكِ دان العلاجات الثلاثة. وقد كنتِ مريضة بدرجة حرجة وتحتاجين عناية فائقة لحوالي ١٢ ساعة، لكنكِ شُفيتِ بعد ذلك. لحسن الحظ، فرط الحرارة الخبيث يتسبب فيه فقط عقاقير التخدير الاستنشاقية؛ ولذلك، ما دمت لا تتعرضين لهذه الغازات، فإن المرض لن يكون له أي تأثير على حياتكِ. وبما أنه توجد أنواع أخرى من عقاقير التخدير، فيمكن أن تخضعي لجراحة آمنة تمامًا عند الحاجة. ولكن إذا احتجتِ لجراحة، فلا تنسَي أن تخبري طبيب تخديركِ أنكِ معرَّضة للإصابة بفرط الحرارة الخبيث. ودعينا نأمل أنه لم ينسَ الكيمياء التي درستها وتداخلها مع الطب!

مع خالص تحياتي
جون ودان

شكر وتقدير

هذا الفصل مُهدًى إلى والدنا، د. أندرو إم سسلر، بمناسبة عيد ميلاده الثمانين. إن تفانيه في حياته العلمية معروف ويُنظر إليه بإعجاب شديد وامتنان كبير.

جرى تمويل أنشطة التوعية في أوستن التي أدت لظهور هذا الفصل للنور من قِبل مؤسسة العلوم الوطنية (منحة الكيمياء ٠٧٤٩٥٧١).

قراءات إضافية

  • Morgan, G. E.; Mikhail, M. S.; Murray, M. J.; Larson, C. P. Clinical Anesthesiology, 4th Edition, McGraw-Hill Medical, Philadelphia, PA, 2005.
  • Orser, B. A. Lifting the fog around anesthesia. Scientific American 2007, 54–61.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤