الفصل السابع

استشعار الأكسجين

ماري-ألدا جيلز-جونزاليس
المركز الطبي التابع لجامعة جنوب غرب تكساس في دالاس

وُلدت د. جيلز جونزاليس في مدينة جيريمي في هاييتي. حصلت على درجة بكالوريوس علوم في الكيمياء الحيوية من جامعة ولاية نيويورك في ستوني بروك ودرجة الدكتوراه في الكيمياء الحيوية تحت إشراف د. جوبند خورانا في معهد ماساتشوستش للتكنولوجيا. منذ إتمامِها دراسات ما بعد الدكتوراه مع د. ماكس بيروتس في مُختبر البيولوجيا الجُزيئية التابع لمجلس البحوث الطبية في إنجلترا في ١٩٩٥، أخذت تدير مُختبراتها الخاصة أولًا في جامعة ولاية أوهايو وحاليًّا في المركز الطبي التابع لجامعة جنوب غرب تكساس؛ حيث تدرُس مع زملائها مُستشعِرات الأكسجين البيولوجية.

عزيزتي أنجيلا

إذن أنت لا ترتدين الجوارب غير المتوافِقة أو أربطة الأحذية المفكوكة. تُمشِّطين شعرك، وتبدين جذَّابة في مظهرك بل وحتى تضعين شيئًا من المكياج! وتملكين من التهوُّر ما يجعلك تطمَحين لأن تكوني كيميائية. حسنًا! يبدو أنكِ لستِ ممَّن يضعون حياتهم المهنية في مُقدِّمة أولوياتهم. ليس لديَّ ما أقوله لهؤلاء الذين يُحاولون تجنيدي لمساعدتهم في رسْم خريطةٍ لكل تفصيلة من تفاصيل حياتهم. يصعُب على المرء أن يُصبح «قدوة» (كم أكرَه هذه الكلمة!) عندما تكون حياة العلماء على هذا القدْر البالغ من السرنديبية. أظنُّ أنك ستُصبحين عالمة؛ عالمة شابَّة مُبتدئة. إذا كان الحال كذلك، لا أستطيع أن أدفعك بعيدًا عن هذا المسار، بالرغم من أنه ليس بالتأكيد لضِعاف القلوب، أبطالي العلميُّون هم جاليلو جاليلي وراشيل كارسون؛ هذا النوع من العلماء الذين فضَّلوا المُلاحظة على فنِّ الكلام في زمانهم ودفعوا من أجل هذا ثمنًا باهظًا. من هُم علماؤك المُفضَّلون؟ أحد أصدقائي، وقد أصبح مشهورًا ومُتقاعدًا في الوقت الحالي، يُخبرني أنَّ أباه الكاهن أقام صلاة خاصَّة لرُوحه قبل السماح له أن يبدأ مشوار الدراسات العُليا. ربما كان أبوه على حق. صديقي هذا مُحنَّك؛ إذ خاض الكثير جدًّا من المعارك العلمية. رغم جوائزه وألقابه الكثيرة، كنتُ على ثقةٍ من أنني أستطيع استثارة غضبهِ بالإتيان على ذِكر عالِم أو أكثر. كان يستفيض في الجدل.

كنتُ أتمنَّى أن أقول إن مظهركِ وخلفيتكِ الاجتماعية لن يكونا على قدْرٍ من الأهمية في مجالٍ جافٍّ وموضوعي مثل الكيمياء. فكيف لا يكونان كذلك؟ العلم مشروع مُجتمعي. إذا كانت أبحاث الكيمياء في الولايات المتحدة يُهيمِن عليها حاليًّا مجموعة سُكانية لا تُشبهكِ بأي حالٍ من الأحوال، فيجِب أن تعتبري هذا دليلًا على خَللٍ ما وإشارةً إلى أنَّ هناك حاجةً ماسة لأشخاصٍ مثلك. هنا تكمُن ميزتك في واقع الأمر. وحيث إنه لم يُخبركِ أحد بالطريقة التي ينبغي أن تسير بها الأمور، ربما تكونين بحاجةٍ فحسب إلى إيجاد طريقةٍ جديدة. أعترِف أنني لستُ مُبرَّأةً تمامًا من مصلحة شخصية في تشجيعك على هذه الخطوة المبدئية. طموحاتي العلمية أكبر بكثيرٍ من اكتساب شُهرة شخصية. أحلُم بأن يأتي الوقتُ الذي يُعترَف فيه، مثلًا، بأن الأمريكيين من أصلٍ أفريقي مُتميزون ومُتفرِّدون بنفس درجة تميُّز وتفرُّد موسيقى الجاز. فكِّري في صوت جوني هارتمان وساكسفون جون كولتزان وهُما يؤدِّيان أغنية «لاش لايف» التي ألَّفها بيلي سترايهورن، وذلك بصُحبة ماكوي تاينر على البيانو، وجيمي جاريسون على البيس جيتار، وإليفن جونز على الطبول. أغمِضي عينَيك واحفَظي هذه الفكرة عن ظهر قلب.

(١) إعادة تعقُّب جُذوري

يُخبرونني بأنَّني نشأتُ مثلكِ فقيرةً، بالرغم من أنَّني لا يُمكنني أن أزعم بأمانةٍ أنني نشأتُ على هذا النحو. صحيح أنني قضيتُ طفولتي في جزيرة هايتي مع أُسرتي المُمتدَّة الكبيرة التي تكدَّست في غرفة أو غرفتَين بمنازل على الطراز المعماري الاستعماري آيلة للسقوط. لكن اعتبار هذا هو الجانب الوحيد الذي له خصوصية في طفولتي من المُمكن أن يكون إجحافًا للبهجة والسِّحر اللَّذين تَغلغلا في حياتي اليومية، أو للناس الذين نشأتُ بينهم والأجواء التي عايشتُها. كيف يتأتَّى لسائحٍ مارٍّ أو عاملٍ بالصليب الأحمر أن يعلَمَ بالأيام التي قضيناها بالداخل، والاستمتاع بالتَّنميقات الأسلوبية التي يُضيفها الكبار إلى حِكاياتِنا الشعبية الكثيرة، في الوقت الذي كانت تعصِف فيه الأعاصير الغاضبة بأشجار نخيلنا الطويلة؟ كيف يُمكن أن يُوصَف المرء بأنه فقير بينما لم يكُن الثراء المادي محلَّ اهتمامٍ قط؟ نشأتُ لأعرفَ أن أقاربي يُضحُّون يوميًّا من أجل رفاهيتي. إن المزايا التي نعِمتُ بها في ظلِّ هذه الأسرة المُمتدَّة المُحبَّة والحانية تجعلني مَدينة لهم بالكثير. في البداية، اعتقدتُ أن جانبًا من مسئوليتي هو تقديم الدعم المادي لها، ونظرًا لافتقادي العادةَ التي دأبَتْ عليها الطبقة الوسطى في التنشِئة وهي توجيه كلِّ مَوهبةٍ أو قُدرة غريزية لتصير مِهنة، أسقطتُ الكلية تقريبًا من حساباتي، وعندما التحقْتُ بالجامعة بالفِعل، فعلتُ ذلك اعتقادًا مِنِّي أنَّني سأحصل على التدريب الذي أُصبِح به طبيبة. لم يكن ليُصبحَ الدافع وراء هذا أكثرَ تفاهةً من هذا؛ كان الطبيب هو الشخص الذي لدَيه أعلى مُستوًى من التعليم الرَّسمي والفني، وكانوا يَعتبرونني طالبةً موهوبةً يُمكنها «تحقيق الكثير». لم يكن أحد يدري — فضلًا عنِّي — ما هذا الكثير الذي يُمكِنني تحقيقُه وما المكانة التي ينبغي أن أبلُغَها؟ لم يكن مسموحًا لي بأن أصِل إلى تلك المكانة هناك. ففكرة الشرود والبحث عن الذات — التي هي فِكرة عصرية رائجة — لم تكُن خيارًا مُتاحًا. فأفراد عائلتي الذين لم يَحظَوا بمزايا التعليم الرسمي كانوا أذكياء، ورائعين وواسعي الحيلة، وكنتُ مُكلَّفة بالمهمة المُخيفة المُتمثِّلة في تحسينهم (شكل ٧-١). لحُسن الحظ، قدَّمتِ الجامعة شبكةً من الاختيارات التي لا تكاد تنتهي. هناك؛ حيث أصبح عدم امتلاكي وجهةً مُحدَّدة ميزةً بالنسبة إليَّ. وقد جذبَتْني الكيمياء العضوية بوضوحها ومنطِقها أكثرَ من أيِّ مادةٍ أخرى.
fig44
شكل ٧-١: كاتبة هذه الرسالة في هايتي برِفقة نِساء عائلتها. تُظهِر الصورة الكاتبة (في الجانب السُّفلي الأيسر) وهي في سِنِّ الثامنة مع جدَّتِها الكُبرى وأمِّها وخالاتها.

يتعيَّن عليكِ بذْل قُصارى جُهدكِ في دراساتكِ للكيمياء العضوية بجانب الكيمياء الفيزيائية والرياضيات. ينبغي على المرءِ أن يُتقِن هذه المواد من أجل فهْم عِلم الأحياء بأيِّ طريقةٍ تتجاوَز الطُّرق الوصفية أو السطحية. كما ينبغي على المرء أن يَحترِم عِلم الأحياء كذلك، إذا كانت الكائنات الحية هي ما يسعى المرءُ لفَهمِه. الأفكار الخيالية الجامحة التي لا تستنِد إلى أساسٍ فيما يتعلَّق بكيمياء الكائنات الحية المُفترضة، يُمكن أن تُضفي غموضًا بالتأكيد بدلًا من توضيح المسارات نحوَ حلِّ مُشكلات الكيمياء الحيوية.

(٢) مُستشعِرات الأكسجين

فكِّري مثلًا كيف تستشعِر الكائنات الحية الأكسجين الجُزيئي. أعترِف بأن هذه القضية تستولي على اهتمامي شخصيًّا. ربما تتساءلين: «لماذا لا بدَّ أن تَستشعِر الكائنات الحية الأكسجين؟» في الواقِع هذا السؤال يأخذُنا إلى لبِّ القضية. فالغلاف الجوي للأرض يحتوي حاليًّا على ٢٠٪ من الأكسجين (أغلب النسبة المُتبقِّية هي النيتروجين). كان الحال دائمًا على ذلك النحو. جميع الأكسجين الموجود في الغلاف الجوي نتَجَ عن أفعال الكائنات الحيَّة. بدأ هذا الغاز في التراكُم منذ نحو ٢٫٥ مليار سنة، عندما تعلَّمَتِ البكتيريا الزرقاء أن تشطُر الماء إلى هيدروجين وأكسجين، كطريقةٍ للحصول على المزيدِ من طاقة الشمس. بالعودة إلى الوَراء، لم تكن الكائنات الحية قد تعلَّمَتْ بعدُ الطريقةَ التي تتعامَلُ بها مع الأكسجين بأمان، ونظرًا لأنه غاز مُؤكسِد وكاوٍ، فإنه يُمثِّل سُمًّا لمُعظَم الكائنات الحية. ما هي الطريقة التي يُمكن أن تكون قد لجأت إليها الكائنات الدقيقة الأخرى؟ يُمكن للمرء أن يَفترِض أن مُعظمَها قاوَمَ بِشدَّةٍ مُتَّخِذًا حِيَلًا دفاعية وتوصَّلَ أكثرُها قُدرةً على الابتكار إلى طُرُقٍ لاستشعار الأكسجين من أجل تجنُّبِه. واليوم، لا نزال نجِد كائناتٍ دقيقةً قديمة مثل بكتيريا الميثان ثيرموأوتوتروفيكام وأيروفيرام بيرنكس (نوع من الأحياء المُحِبَّة للظروف القاسية) لا يزالان يَستخدمان مُستشعِرات الأكسجين من أجل تجنُّبه. هذه المُستشعِرات تربِط الأكسجين بالهيم، وهو جُزيء بالتأكيد قد ورَدَ ذِكره في الدروس المُتعلِّقة بالهيموجلوبين. في الواقِع، المُستشعرات مثل تلك الموجودة في أيروفيرام بيرنكس هي أسلاف بروتين الهيم للميوجلوبين والهيموجلوبين اللذين نَعرِفهما حاليًّا واللذين يُؤدِّيان وظيفة نقْل الأكسجين. بعبارةٍ أخرى، بدأتِ الكائنات الحيَّة في استشعار الأكسجين لأنه كان سُمًّا بالنسبة إليها؛ ومن ثَمَّ كانت بحاجةٍ إلى تجنُّبه. وبالرغم من أن الأكسجين لا يزال يُمثِّل سُمًّا، فعلى حدِّ قول براكلسوس: «الجرعة المُناسِبة تُميِّز السُّمَّ عن الترياق.» أمَّا نحن البشر والكائنات الحية الأخرى فلم نرفَع الجرعة المَسموح بها فحسْب من هذا السُّم، ولكنَّنا أيضًا تعلَّمْنا الاعتماد عليها من أجل حرْق الطعام واستخلاص الطاقة منها.

بقدْر ما نَعلم، مُعظم البكتيريا الحية التي تَستشعِر الأكسجين حاليًّا تفعَل ذلك من أجل الحصول على معلوماتٍ عن موقعها، وليس بهدَف تجنُّب الأكسجين. فكِّري مثلًا في برطمان من الماء النَّقي به فُقَّاعات هوائية في درجة حرارة الغرفة (٢٣ درجة مئوية) والضغط الجوي العادي. بعدما يصِل هذا الماء إلى درجة الاتِّزان التامِّ بفِعل الهواء، فإن هذا الماء سيحتوي على ٢٥٠ ميكرومترًا من الأكسجين. وهذا التركيز للأكسجين يُمكن أن يُتوقَّع من أيِّ شيءٍ يصِل إلى حالة الاتِّزان التامِّ بفِعل الهواء؛ لكن القِلَّة القليلة من الخلايا الحية هي التي تُحقِّق هذا الاتزان. في أجسامنا، الطبقة السطحية لخلايا الرئتين هي الوحيدة التي تستفيد من مزايا هذا التركيز العالي من الأكسجين. في عددٍ من طبقات الخلايا التي تقَعُ أسفلَ هذه الطبقة، يَنخفِض الأكسجين انخفاضًا ملحوظًا لتَصِل إلى مستوًى بسيطٍ من التَّشبُّع بالهواء. ويحدُث شيء ربما يكون أكثرَ جذريَّةً بالنسبة إلى الكائنات الدقيقة مثل البكتيريا. في الطبيعة، تعيش البكتيريا في أغلب الأحيان في أغشيةٍ حيوية عبارة عن طبقاتٍ رقيقة من إفرازات البكتيريا من الجُزيئات الكبيرة (التي في أغلبها سُكَّريات مُتعدِّدة) على مواد الأساس الصُّلبة. وبالنسبة إلى بكتيريا الزائفة الزنجارية أو البكتيريا العنقودية الكُروية الذَّهبية، هذه الطبقات لا يتجاوز سُمكها ٠٫٢ ملِّيمتر، وينخفِض تركيز الأكسجين من ٢٥٠ ميكرومترًا إلى ٠ ميكرومتر تقريبًا في نِطاقِ سُمكٍ ضئيلٍ لا يتجاوَز ٠٫٠٥ ملِّيمتر. هذا الانخفاض الحادُّ جدًّا في الأكسجين يَحدُث لأن البكتيريا الحية تستهلِك بنشاطٍ هذا الغاز. وبصرْف النظر عن الكيفية التي ينشأ بها عوَز الأكسجين هذا، فإن البكتيريا الموجودة في طبقاتٍ مُختلفة من هذا الغِشاء الحيوي الذي يبلُغ سُمكُه ٠٫٠٥ ملِّيمتر تعيش في بيئاتٍ تختلف اختلافًا هائلًا في تركيزاتها من الأكسجين أكثرَ من الاختلاف بين مُستوى سطح البحر وأعلى قِمَّة جبل إفرست بالنسبة إلى رئة إنسان (مثل نحو ٢٥٦ ميكرومترًا مُقابل ٨٥ ميكرومترًا من الأكسجين).

(٣) مُستشعِر FixL

برغم أنه من الواضح حاليًّا أن البكتيريا المُسبِّبة للأمراض تكتسِب درجةً عالية من المناعة ضِدَّ المُضادَّات الحيوية إبَّان عيشها في الأغشية الحيوية، وبرغم أن مُستشعِرات الأكسجين الخاصة بها ستكون مُهمَّةً دون شكٍّ بالنسبة إلى مجال الطب، فإن العمل الذي تدفعه الرغبة في فَهْم المُستشعِرات بدلًا من الرغبة في إنتاج عقاقير جديدة هو ما قاد مُصادفةً إلى فَهْمٍ أفضلَ لهذه المُستشعِرات. في الواقع، العمل الأساسي المُتعلِّق بمُستشعِرات الأكسجين البكتيرية لم يُجرَ على البكتيريا المُسبِّبة للأمراض، ولكنه جرى على أنواعٍ من بكتيريا الريزوبيا النافعة. تعيش الريزوبيا بطريقةٍ تكافُلية مع البقوليات في عُقَدٍ جذرية حيث تعمل على تثبيت غاز النيتروجين من الغلاف الجوي من أجل تكوين أملاح نيتروجينية يستفيد منها النبات كسماد. ويمكن أن تُنفِّذ هذه البكتيريا كيمياء تثبيت النيتروجين هذه في ظلِّ غيابٍ تامٍّ للأكسجين. فهي تَستخدم مُستشعِرات الأكسجين من أجل معرفة هل كانت موجودة داخل عُقدة جِذرية أزال النباتُ الأكسجينَ منها، لكنْ زوَّدها بالكثير من الأدينوسين الثلاثي الفوسفات.

وبروتينات استشعار الأكسجين هذه التي اكتُشِفت لدى بكتيريا الريزوبيا هي كينيزات يُطلَق عليها FixL. ومثل العديد من البروتينات التي لها دور في عملية توصيل الإشارات البيولوجية، تُترجِم هذه البروتينات المعلومات المُتعلقة بإشارة خارجية إلى لُغةٍ كيميائية يسهُل على الخلية فَهمُها. وعن الاستفادة من الجمع بين الكيمياء والأحياء، تمكَّنْتُ أنا وزملائي من إثبات أن بروتين FixL ينقل معلوماتٍ تتعلَّق بغياب الأكسجين من عامِلِه الهيمي المساعد عن طريق فسفرة عامل النسخ الذي يُطلَق عليه FixL (وهو بروتين أيضًا) في التفاعُل التالي:
ATP + FixJ—deoxy-FixL ADP + p-FixJ
بعد ذلك يتَّجِه بروتين p-FixJ إلى تنشيط جميع الجينات في بكتيريا الريزوبيا الضرورية لتثبيت النيتروجين.
fig45
شكل ٧-٢: تنقية أحد بروتينات استشعار الأكسجين. (أ) محلول بروتين بكتيريا الإشيريكية القولونية سايكليز استشعار الأكسجين المُباشر بعدَ تنقيتهِ جُزئيًّا بالترسيب من محلول مِلحي (كبريتات الأمونيوم). (ب) نفس البروتين ممتز على عمودٍ محشوٍّ بمصفوفة مبادل أنيوني (ثنائي إيثيل أمينوسيفاروز). باستخدام أس هيدروجيني pH مُتعادل هنا، تحتجِز المصفوفة البروتين لأنه يحمِل شُحنة سالبة صافية.
fig46
شكل ٧-٣: تمثيل تخطيطي لتأثير الذاكرة في بروتين FixL، الأكسجين (نقطة صغيرة) يرتبِط بسرعة مع بروتين FixL منقوص الأكسجين (الدائرة المملوءة) (أ). وفي الحال يُغلِق إنزيم كينيز (الدائرة المفتوحة) (ب). بعد انفصال الأكسجين عن بروتين FixL يستعيد البروتين نشاطَه لكن ببطء (ساعة)؛ لهذا جُزيءٌ واحدٌ من الأكسجين يُمكن أن يُغلق العديد من بروتينات FixL مَنقوصة الأكسجين (ﺟ–ﻫ). بما أنَّ الزمن الذي يَستغرقه البروتين ليَستعيد نشاط إنزيم كينيز أكبر من مُتوسط الزمن الذي يستغرقه بروتين FixL منقوص الأكسجين ليجِد جُزيء أكسجين، فإن العديد من بروتينات FixL النشطة منقوصة الأكسجين ستعاوِد الارتباط بالأكسجين قبل أن تتمكَّن من استعادة نشاطها بالكامل (و، ز). في النهاية، يحدُث الاتِّزان؛ نسبة جُزيئات بروتين FixL في حالات مختلفة لن تتغيَّر، ولكن يحدُث تناوُب لجُزيئاتٍ مُختلفة بين هذه الحالات (و–ﺣ).
وبروتين FixL له لون أحمر داكن جميل، أشبَهُ بلون الدم، عند تعرُّضه للهواء (شكل ٧-٢). وعند إزالة الهواء، يكتسِب بروتين FixL لونًا أرجوانيًّا خفيفًا. وكبديلٍ عن ذلك، يُصبح لونه أحمرَ كرزيًّا لامعًا عندما يُضاف أول أكسيد الكربون إليه. هذه التغييرات في الطريقة التي يمتصُّ بها البروتين الضوء مُفيدة جدًّا ويمكن الاستفادة منها في حساب مقدار السرعة ومُستوى الإجادة اللذين يتفاعل بهما الأكسجين الجُزيئي أو جُزيء آخر مع بروتين يحتوي على الهيم مثل اﻟ FixL. تَمكنَّا مؤخَّرًا للمرة الأولى من فحص العلاقة بين الجرعات والاستجابة فيما يتَّصِل ببروتين FixL، أو بعبارة أخرى، إلى أي مدًى يُجيد بروتين FixL تشكيل p-FixL بينما نُضيف المزيد من الأكسجين إليه. تطلَّبَتْ هذه الدراسة الجمع بين المعلومات المُتعلقة بالأكسجين الجُزيئي المُرتبط ببروتين FixL والمعلومات المُتعلقة بمُعدَّل تحويل بروتين FixJ إلى بروتين p-FixJ. وكان من المُبهِج أن نرى أن النتائج التي توصَّلْنا إليها في أنبوبةِ اختبارٍ اتَّفَقَت تمامًا مع الاستجابة العامة من جانب تثبيت نيتروجين الريزوبيا للأكسجين الجُزيئي. والأهمُّ من ذلك أن القياس الكمِّي الواعي لبياناتنا ساعَدَنا في اكتشاف أن بروتين FixL يُمكنه أن يتذكَّر بالفِعل الارتباط بالأكسجين الجُزيئي. (شكل ٧-٣).

(٤) اتِّصال كلِّي

كتَبَ عالِم البيئة الرائع جون موير يقول: «عندما يَشدُّ المرء شيئًا واحدًا في الطبيعة، يجِد أنه مُعلَّق ببقية العالم.» العمل الذي أجريتُه بخصوص بروتين FixL قادَني إلى الاعتقاد بأنه في مجال العلوم ربما لا يكون ما يدرُسه المرء مُهمًّا على الإطلاق ما دام يدرُسه دراسةً جيدة؛ فعلى سبيل المثال، أنا وزملائي تعلَّمنا مُؤخَّرًا أن اثنين من عائلة بروتين FixL يُوجَدان في بكتيريا المُتفطِّرة السلية، وهي مُسبِّبة لأمراضٍ تُسبِّب حاليًّا العدوى لثُلث البشر. لحُسن الحظ، الكثير من حالات العدوى كامِنة؛ حيث تظلُّ البكتيريا خاملةً لعقود في بعض الأحيان. في بكتيريا المُتفطِّرة السلية، يُوجَد بروتينَا استشعارٍ شبيهَان ببروتين FixL يُطلق عليهما DevS وDosT. وتمامًا مثل بروتين FixL، يعمل بروتينا DevS وDOsT على فسْفَرة عامل نَسْخ يعمل بدَوره على تنشيط العديد من الجينات. لكن في بكتيريا المُتفطِّرة السلية، لا يُمثِّل هذا إجراءً تعاونيًّا لكنه استجابة سريعة للجهاز المناعي البشري المُصمَّم على إهلاكها (شكل ٧-٤). ونتيجة لذلك يُتوصَّل إلى هدنة. في هذا الإجراء الجديد، تبقى البكتيريا حية، لكنها لا يُمكن أن تستمر، على الأقلِّ بينما يبقى الجهاز المناعي البشري سليمًا.
fig47
شكل ٧-٤: تفاعُلات نافعة ومُسبِّبة للأمراض تدخل فيها البكتيريا مع عائلها، وهذه التفاعُلات تُقاس بمُستشعِرات أكسجين مُشابهة، اللوحة اليسرى تُظهر عُقدة جذرية يحدُث فيها تفاعُل تَكافُلي بين البكتيريا النافعة التي تحمِل اسم المُجتذِرة اليابانية وفول الصويا الذي يُمثِّل العائل. عندما تقطع عُقدة سليمة تبدو وردية اللون، وذلك لأن بروتين هيمي يُسمَّى ليجيموجلوبين يصنَعُه النبات لتقليل نسبة الأكسجين الحر، وهذا يرتبط بتثبيت النيتروجين النشط عن طريق البكتيريا التكافُلية. اللوحة اليُمنى تُظهِر منطقة صغيرة من رئةٍ بشرية مُصابة بالسُّل في مناطق المرَض الكامن، وهي تتميَّز بورَم حُبيبي بهوامش لِيفية ومناطق نَحْرٍ قِشري (أشبه بالجُبن) في مركزها. الورَم الحُبيبي والخلايا العِملاقة يُمثِّلان محاولة من الجسم لحجْز العامل المُعدي.
fig48
شكل ٧-٥: مُقارنة تركيب كشَّاف أكسجين مع كشَّاف ضوئي. هنا، تركيب كرتوني لمنطقة الرَّبط الهيمي لبروتين FixL لبكتيريا المُجتذِرة اليابانية (التركيب الغامِق) مُقارَن مع منطقة كشف الضوء الخاص بالبروتين الأصفر النشط ضوئيًّا (التركيب الباهِت). الهيم هو الجُزيء الغامِق في مركز تركيب بروتين FixL؛ إنه يحدُث فقط في بروتين FixL ويرتبِط مُباشرةً مع الأكسجين. الجُزيء الباهِت في الجُزء السُّفلي من الصورة هو عامل مُساعِد هيدروكسي سينامات الذي يحدُث فقط في البروتين الأصفر النشِط ضوئيًّا ويكتشف الضوء مُباشرة.
وقد اكتشفْنا أيضًا أنَّ بعض أقارب بروتين FixL قادرون على ترجمةِ معلوماتٍ تتعلَّق بارتباط الأكسجين بأنواعٍ مُختلفة من الكيمياء. ومن أمثلة ذلك طائفة إنزيمات السايكليز (التي يُطلَق عليها نِطاق بروتين سايكليز GGDEF) التي يُمكن أن تشقَّ هذه النوكليوتيدات الحلقية. وهذه الإنزيمات التي تُشارك بنشاطٍ في تشكيل الغِشاء الحيوي تلعبُ دَورًا مُهمًّا على الأرجح في الأفعال المُدمِّرة للعديد من أنواع البكتيريا المُمرِضة.
وأخيرًا، سأترككِ لتتأمَّلي الفكرة القائلة بأن جُزء بروتين اﻟ FixL الخاص بكشف الأكسجين يُشبِهُ إلى حدٍّ بعيد جُزء كشف الضوء من طائفة مُستشعِرات الضوء البكتيرية (شكل ٧-٥). ومن ثم يبدو أنَّ الطبيعة تمكَّنَتْ عن طريق الجمْع بين القدْر الهائل من الصبر والانتقاء الواعي من صُنع مُستشعِرٍ للأكسجين الجُزيئي ومُستشعِرٍ للضوء من نفس القالب. هل يستطيع أيُّ مُهندسٍ إنجازَ عملٍ مُبهرٍ كهذا؟ مثل هذه الاكتشافات التي يُمكن أن تصِل إلى جوانبَ مُهِمَّة من العالم الطبيعي وتُسلِّط الضوء عليها هي مصدر روعة لا ينفَدُ ناهيكِ عن ميزة أن تكوني برفقة أصدقاء جيدين من العلماء الذين تَتشاركين معهم ذلك الاستمتاع الكبير.

حظًّا سعيدًا في دراساتك.

خالص التحية
ماري ألدا

شُكر وتقدير

تشكُر المؤلِّفة مُؤسسةَ العلوم الوطنية الأمريكية على دَعْمها المالي المُتمثِّل في المِنْحة رقم MCB620531 كما تشكُر مُؤسَّسة ولتش على مِنْحتها رقم I-1575.

قراءات إضافية

  • Gilles-Gonzalez, M. A.; Gonzalez, G. A surfeit of heme-based sensors. In The Smallest Biomolecules: Diatomics and Their Interactions with Heme Proteins, Ghosh, A. (ed.), Elsevier, Amsterdam, 2008.
  • Lane, N. Oxygen: The Molecule That Made the World, Oxford University Press, Oxford, UK, 2002.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤