الفصل الثامن

لنجعلْ علم الأحياء مصورًا: الكيمياء والتصوير الخلوي

إليزابيث إم نولان
معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

إليزابيث إم نولان هي الأستاذ المساعد للكيمياء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. حصلتْ على درجة البكالوريوس من كلية سميث (نورثامبتون، ماساتشوستس)؛ حيث أجرتْ أبحاثًا مع الأستاذ آر جي لينك على التأثيرات الإلكترونية الفراغية في الألكانات المُستبدَلة البسيطة. حصلت على الدكتوراه من معهد ماساتشوستس تحت إشراف الأستاذ ستيفن جيه ليبارد؛ حيث تناوَلَ بحثُها تصميم وتوصيف واستخدام المُستشعِرات الفلورية ذات الجُزيئات الصغيرة لتصوير الزنك في البيولوجيا العصبية وكشْفِ الزئبق في المحلول المائي. بعد ذلك تابعَتْ أبحاث ما بعد الدكتوراه تحت إشراف الأستاذ كريستوفر تي والش في مدرسة هارفارد للطب؛ حيث درَسَتِ التخليق الحيوي للببتيد المُضاد للبكتيريا للميكروسين المُترافِق E492m.

مرحبًا أنجيلا

كيف حالُك؟ هل تَستمتِعين بعامِكِ الجامعي الثاني، وفصولك، وسكنكِ الجامعي الجديد؟ أنا حزينة أنَّنا افتقدناكِ في تجمُّعِ الأسرة السَّنوي الأسبوع الماضي! ولكني أتفهَّمُ مدى الانشغال في بداية الفصل الدراسي، وأن السفر بالطيران ليس مُمتِعًا هذه الأيام في ظلِّ كثرةِ إلغاء وتأخير الرحلات الجوية (ورحلتك من النرويج لم تكُن منذ وقتٍ طويل). أنا مُتأكِّدة أنَّ والدتك قد قصَّتْ عليك كلَّ ما دار في الحفل وكل أخبار أقاربك. لستُ في حاجةٍ لأن أقول إن التجمُّع كان مُمتعًا وآمُل أن تَحضريه العام القادم. لقد ذكر العمُّ فرانك أنه كان في سان دييجو مُؤخَّرًا، وأنَّكُما قد وضعتُما خُططَكِ المستقبلية وناقشتُماها. وكم كانت سعادتي حين علمتُ أنك تُفكِّرين في دراسة الكيمياء، ولا أستطيع الانتظارَ للتعرُّف على الأبحاث التي أجريتِها خلال الصيف في النرويج. لقد اقترح العمُّ فرانك أن أشارككِ قدْرًا يسيرًا من خِبراتي في الجامعة وما بعد الدكتوراه، بعد ذلك ذكرَتِ الخالةُ مارثا أنكِ قد سبقَ أن أبديتِ اهتمامًا بمعرفة المزيد بشأن كيفية دراسة الكيميائيين للنُّظم البيولوجية، وارتأتْ أنك ربما تَودِّين أن تعرفي ولو قليلًا عن كيفية مُساهمة الكيميائيين في التصوير البيولوجي. قالت الخالة مارثا أيضًا إنكِ سقطتِ من فوق درَّاجتِكِ وأُصيبَتْ ركبتُك، وإنك كنتِ تحتاجين إلى فحصٍ بالرَّنين المغناطيسي قُبَيل رحلتكِ للنرويج مُباشَرة؛ يا لها من راحةٍ أنِ انتَهى كلُّ شيءٍ على ما يُرام! أتساءل إن كان خضوعُك للرَّنين المغناطيسي قد أثار اهتمامك بالتصوير …

لقد كانت أبحاثي بعد الدكتوراه في عِلم الإنزيمات والتخليق الحيوي للمُنتجات الطبيعية أبعد ما تكون عن مجال التصوير، ولكن رسالتي للدكتوراه كانت في هذا المجال. في أثناء دراستي الجامعية، سعَيتُ لتصنيع مُستشعِراتٍ فلورية ذات جُزيئات صغيرة يُمكن استخدامها لتصوير الأيونات الفلزِّية في الخلايا أو الأنسجة الحيوية. ربما تتساءلين، لماذا جُزيئات صغيرة؟ ماذا تَعني «فلورية»؟ كيف تَمضين في إجراء هذه النوعية من الأبحاث؟ أتمنَّى أن تتوصَّلي إلى فَهمٍ أفضلَ مع الوقت خلال رسالتي. سوف أُخبرك فيما يلي بقدْرٍ من المعلومات حول المُستشعِرات الفلورية ذات الجُزيئات الصغيرة كتلك التي صنعتُها أثناء دراستي الجامعية؛ غير أنَّ الأهم، في اعتقادي، أنْ أُقدِّم لك تقييمًا لتنوُّع استراتيجيات وطُرق التصوير البيولوجي.

يَنطوي هذا المجال، بصورةٍ عامة، على استخدام التحليل الطَّيفي (أي الفَلْوَرة والرنين المغناطيسي)، أو النشاط الإشعاعي لتصوير البِنى والظواهر البيولوجية، ويُمكن للكيميائيين من كلِّ التخصُّصات الفرعية أن يُساهِموا في مجال التصوير؛ فالتقدُّم في التصوير يتطلَّبُ أجهزة جديدة، وجُزيئات جديدة، وطُرقًا تحليلية جديدة. علاوةً على ذلك، يُوفِّر التصوير فُرصًا لجهودٍ تُعاونية رائعة بين الكيميائيين والعلماء في التخصُّصات الأخرى (كالفيزياء، والأحياء … إلخ)، وحتى الأطباء. وقد حالَفَني الحظُّ أثناء فترة دراستي للحصول على الدكتوراه وتعاونتُ عن كثبٍ مع بعض علماء البيولوجيا العصبية، وتعلَّمتُ الكثير والكثير؛ فقد كان العمل في المُختبر يومًا بعد يوم مُختلفًا تمامًا، وأدركتُ وجود مزايا حقيقية في العمل المُشترك بين الكيميائيين والبيولوجيين. ربما تنْخرِطين في تَعاوُنٍ مُشابِهٍ يومًا ما! على أي حال، قبل أن أنحرِف إلى تأمُّلات وقِصَص، وبما أنني متخصِّصة في الكيمياء غير العضوية والكيمياء الحيوية، فأودُّ أن أُخبرك كيف يُساهِم الكيميائيون في التصوير الخلوي من خلال توفير «أدوات» جديدة، تتمثَّل عمومًا في بروتينات وجُزيئات صغيرة مُخلَّقة، ومنهجياتٍ لتصوير الخلايا، والأعضاء، والظواهر البيولوجية (كالنشاط الإنزيمي، وانتقال البروتين بين المقصورات الخلوية، وإرسال الإشارات … إلخ) وحلائل داخل الخلايا أو عَيِّنات الأنسجة. إذا كان لدَيك فضول لمعرفة المزيد حول كيفية تطوير طُرق جديدة للتحليل الطيفي واستخدامها، أو تصميم الجهاز، فأَبْلغيني فقط وبِمَقدوري أن أَدُلَّك على المراجع ذات الصِّلة.

(١) الفَلْوَرة والبروتينات الفلورية للتصوير

سوف أبدأ بالحديث قليلًا عن البروتينات الفلورية، وكيف أحدثَتْ ثورةً في مجال البيولوجيا التجريبية. لعلَّ من المُساهمين الأساسيين في هذا المجال الأستاذ روجر واي تسيان بجامعة كاليفورنيا في سان دييجو. لقد حصل الأستاذ سيان، كما تعرفين بالتأكيد، بالاشتراك مع مارتن شالفي وأوسامو شيمومورا، على جائزة نوبل في الكيمياء لعام ٢٠٠٨، لاكتشاف وتطوير بروتين فلوري يُسمَّى البروتين الفلوري الأخضر GFP. يجب أن تَطَّلِعي على مُحاضرته في احتفالية استلام جائزة نوبل، وربما عليك مُحاولة زيارة مَعمَلِه.
بدايةً، لعلَّكِ تَتساءلين: ما المقصود بالفَلْوَرة؟ ولِمَ هي مُفيدة للتصوير الخلوي؟ تحدُث الفَلْوَرة عندما يمتصُّ جُزيءٌ ما طاقةً في شكل ضوء (تذْكُرين من منهج الكيمياء في المرحلة الثانوية أن E = hν؛ حيث E هي الطاقة، وh ثابت بلانك، وν تردُّد الضوء)، وهو ما يَنتُج عنه استثارة أحد إلكتروناته إلى حالةٍ ذات طاقةٍ أعلى تُسمَّى «الحالة المُثارة» (شكل ٨-١). يُوجَد العديد من الحالات المُثارة، وبعد حدوث الاستثارة الأولية، سوف يَمرُّ الإلكترون بعملية «انحلال لا إشعاعي»، بما يعني أن الإلكترون سوف يفقِد بعض طاقته وينحدِر إلى حالةِ إثارةٍ أقلَّ طاقةً من الحالة المُثارة الأولية. وبعد فترةٍ من الوقت، سوف يرتدُّ الإلكترون إلى الحالة الأرضية ويُطلِق فوتونًا من الطاقة في شكل ضوء؛ هذا الضوء هو فَلْوَرة أو «انبعاث» (نُنَوِّهُ هنا إلى أن اللفَّ المِغزلِيَّ للإلكترون المُثار يجِب أن يكون واحدًا في الحالة الأرضية والمُثارة من أجل حدوث الفَلْورة، ولكني لن أتطرَّق إلى هذه التفاصيل الآن). تُشبِهُ الفَلْوَرة أو طيف الانبعاث مُنحنًى مُقعَّرًا لأسفل، وهي أشبَهُ بطَيفٍ امتصاصي. ربما جمَّعتُ أطيافًا امتصاصية أثناء التجارب المَعملية في الكيمياء العامة، واستخدَمتُ قِيَم الامتصاص الأقصى للطول المَوجي Amax في مُخطط قانون بير البياني. ثَمَّةَ تطابُقٌ بين أطوال الاستثارة والانبعاث الموجية لجُزيءٍ ما والأطوال المَوجية للحدِّ الأقصى للاستثارة والانبعاث. ونتيجة للانحلال اللاإشعاعي في الحالة المُثارة، يتحوَّل طيف انبعاث الفَلْوَرة عامَّةً إلى أطوالٍ مَوجية أكبر (ذات طاقة أقل؛ لأن E = hc؛ حيث c هي سرعة الضوء وλ هو الطول المَوجي) بالنسبة إلى طيف الاستثارة المُناظِر. بعبارةٍ أخرى، تكون الاستثارة في حدِّها الأقصى ذات طاقةٍ أعلى عامة (أي طول مَوجي أقصر) من الحدِّ الأقصى للانبعاث. وهذا الفرق بين الحدود القصوى للاستثارة والانبعاث يُسمَّى «انزِياح ستوك».
fig49
شكل ٨-١: مُخطَّط بسيط لمُستوى الطاقة عند استثارة إلكترون من الحالة الأرضية لفلوروفور، والانحلال اللاإشعاعي للإلكترون إلى حالةٍ مُثارة ذات طاقة أقل، وعودة الإلكترون إلى الحالة الأرضية، مما ينتُج عنه الضوء الفلوري المُلاحظ (الانبعاث).

الفلوروفور أو الجُزيء الفلوري هو أحد مُكوِّنات بروتين أو جُزيء صغير يظهر فلورة، ويُمكن أن يُسمَّى أيضًا «واسمة فلورية»، أو «كروموفور»، أو «مجس فلوري». لكل فلوروفور أطوال مَوجية مُميزة للاستثارة والانبعاث. بعبارة أخرى، سوف يتفَلْوَر الجُزيء الفلوري عند استخدام ضوءٍ مُنبعثٍ من طاقة مُعيَّنة، مُقابل للطول المَوجي للاستثارة. وتشمل أمثلة الفلوروفورات البروتين الفلوري الأخضر، وبروتينات انبعاثية أخرى ذات صلة، وجُزيئات صغيرة مثل الفلوروسين والكومارين. والكثير من الجُزيئات الحيوية لها فلورة داخلية؛ فنجد حمض التربتوفان الأميني، على سبيل المثال، يتفَلْور في المنطقة فوق البنفسجية للطيف المغناطيسي الكهربي.

تُستخدَم بعض الفلوروفورات فقط لوسم عُضية مُعيَّنة أو بروتين، والبعض الآخر يكون بمثابة «دلالات» أو «مُستشعِرات»؛ لأنها مُصمَّمة لإظهار أي تغيُّر يحدُث في الفَلْورة عقب حدوث اختلالٍ ما أو التعرُّف على الحليلة أو المادة المُراد تحليلها. على سبيل المثال، تُشير بعض المُستشعِرات إلى تغيُّر في شدَّةِ الفَلْوَرة، إما ﺑ «الإطفاء» وإما ﺑ «الإضاءة» عند التعرُّف على الحليلة (فَكِّري في إطفاء وإضاءة مِصباح الضوء). ثَمَّة مُستشعِرات أخرى تكون «مقياسًا نسبيًّا»، بسبب حدوث تغيُّر نسبي في الطول الموجي للاستثارة أو الانبعاث أو كليهما معًا. بعبارة أخرى، يتحوَّل طيف الاستثارة أو الانبعاث لمُستشعِر المقياس النِّسبي إما إلى أطوال مَوجية أقلَّ أو أعلى مع إدراك وجود الحليلة. وقد استُخدِمت المُستشعِرات الفلورية لكشْفِ أو تصوير الأنشطة الإنزيمية، وتوزيعات الأيون الفلزي (كالكالسيوم، والزنك، والنحاس … إلخ)، ووجود جُزيئات صغيرة مثل أكسيد النيتريك NO وفوق أكسيد الهيدروجين H2O2 في الخلايا الحية.

يُمكِن استخدام المَجاهِر الفلورية لقِياس الفَلْوَرة ورصدِها داخل الخلايا أو في عيِّنات الأنسجة. وكما هو الحال في أجهزة الكمبيوتر والهواتف الخلوية، تُوجَد أنواعٌ كثيرة ومُختلِفة ذات سِماتٍ مُختلفة، ووصف كلِّ هذه الإمكانات يُمكن أن يَستغرِق دهرًا! ولإعطاء بعض الأمثلة، يَستعين مِجْهر الفَلْوَرة السطحية بمصباح زينون كمصدرٍ للضوء من أجل حدوث الاستثارة، بينما يَستخدِم المِجهر المُتَّحِدُ البؤرة نظامًا ليزريًّا لاستثارة العَيِّنة. وتحت الظروف المثالية، سوف يكون للمِجْهر الفلوري «مجال ساطع» أو «طَور مُتبايِن» يَسمح بالتقاط صورة للعَيِّنة عندما يُسلَّط عليها الضوء الأبيض، وتوفِّر هذه الصورة معلوماتٍ عن التوجيه المكاني للخلايا أو عَيِّنة النسيج في طبق بتري. بعد ذلك، يمكن تحويل المِجهر إلى وَضع الفَلْورة وتحديد المناطق المُتفلوِرة من العَيِّنة ودراستها. في بعض الأحيان، تَستلزِم الضرورة في دراسات «التصوير الحي» (حيث تكونُ الخلايا حية، على عكس النَّظَر إلى خلايا «ثابِتة» مَيتة ومُتَّصِلة بشريحة مِجهرية)، أن يكون المِجْهَر داخل حاضِنة كي تَظلَّ درجة الحرارة ومُستويات ثاني أكسيد الكربون مُناسبة بما يَضمَن بقاء الخلية. ويُمكن أن يكون اقتناء هذه الأنظمة باهِظَ التكلِفةِ ومُستنزِفًا للوقت إلى حدٍّ كبير. وعلى الرغم من أن مُعظم المُختبَرات التي تُجري قدْرًا كبيرًا من التصوير تَمتلِك مَجاهرها الخاصة، فإن مُعظَم الجامعات تضمُّ وحداتٍ للفحص المجهري يُمكن استخدامها من قِبَل الطلاب وباحثي ما بعدَ الدكتوراه بنظام الحَجْز. ربما تَرغَبين في معرفة إن كانت جامعة كاليفورنيا في سان دييجو تملِك مثل هذه الوحدات. سيكون من المُفيد للغاية أن تزوري إحدى هذه الوحدات والقيام بجولةٍ سريعة بها.

لِنَعُدْ إلى البروتينات الفلورية واستخداماتها في التصوير الخلوي. خُلاصة القول أن البروتينات الفلورية قد أحدثتْ ثورةً في علم الأحياء! إذا استغرقتِ بضعَ لحظاتٍ لتصفُّح دوريات علمية مثل «سيل»، و«ساينس»، و«نيورون»، فسوف تجدين حتمًا كثيرًا من الأبحاث وُظِّفتْ فيها البروتينات الفلورية لإجراء دراساتٍ على شتَّى أنواع الظواهر الخلوية؛ فقد تُستخدَم لوَسْم عُضيةٍ ما، أو رصدِ حركةِ مرور المُستقبِلات في الخلية العصبية، أو تصوُّر تخليق البروتين. أظنُّكِ قد سمعتِ كثيرًا من قبلُ عن البروتين الفلوري الأخضر الذي استُخلِص من قنديل البحر البلوري. وقد سُمِّي هذا البروتين بهذا الاسم لأن له طولًا مَوجيًّا انبعاثيًّا قدره ٥٠٩ نانومتر، يقَعُ في المنطقة الخضراء للطَّيف المرئي؛ ونتيجةً لذلك يُشِعُّ ضوءًا أخضرَ بعد حدوث الاستثارة (عِلمًا بأن قِمَّة استثارته الأساسية تبلُغ ٣٩٥ نانومترًا). وللبروتين تركيب بيتا الأسطواني، ويقَع الفلوروفور في مركز الأسطوانة. بعد اكتشاف البروتين الفلوري الأخضر واستنساخِه، استُعمِلَت تقنية تُسمَّى التطفير لتصنيع أشكالٍ عديدة للبروتين الفلوري الأخضر. خلال عملية التطفير، التي ربما تعرَّفتِ عليها في مُقرَّر علم الأحياء الجُزيئية، تُجرى تغييرات في تَسلسُلِ الحمض النووي من أجل استبدال حمض بديل بحمض أميني داخلي المنشأ. من خلال هذه التقنية، طُوِّرت أشكالٌ مُختلفة للبروتين الفلوري ذات خواصَّ فلورية مُختلفة (لَمَعان أكبر، ألوان مُختلفة … إلخ)، وكثير من هذه الأشكال يُستخدَم يوميًّا في المُختبَرات في جميع أنحاء العالم، وتشمل بعض الأمثلة البروتين الفلوري الأخضر المُعزَّز، والبروتين الفلوري الأصفر، والبروتين الفلوري الأزرق.

لماذا يُعدُّ البروتين الفلوري الأخضر ومُشتقَّاته أدواتٍ فعَّالة لعِلم الأحياء والتصوير الخلوي؟ الإجابة على هذا السؤال تكمُن في القلب من عِلم الأحياء الجُزيئية؛ فمن السهولة بمكانٍ ربطُ البروتين الفلوري الأخضر ببروتينات أخرى أو ببتيدات باستخدام تقنيات عِلم الأحياء الجُزيئية (سوف أتخطَّى التفاصيل الآن، ولكن التقنيات تقع ضِمن فئة «الاستنساخ»)، ثُمَّ إدخال مُترافقات البروتين؛ البروتين الفلوري الأخضر في مَزارع الخلية وإفرازها. على سبيل المثال، عند ربط البروتين الفلوري الأخضر ببروتين أو ببتيد يحتوي على إشارة تمركُز داخل الخلايا (أيْ تَسلسُل من الأحماض الأمينية عمومًا)، يُمكن توجيه البروتين الفلوري الأخضر إلى هدفٍ بين خلوي مثل الميتوكوندريا أو جهاز جولجي. وتُتيح هذه التقنية تَحكُّمًا دقيقًا في تمركُز البروتين الفلوري الأخضر؛ فإذا الْتَحَم التسلسل الميتوكوندري المُوجَّه بالبروتين الفلوري الأخضر، فسوف يقتصِر البروتين — ومن ثَمَّ تفلْوُر البروتين الفلوري الأخضر — على وجوده في الميتوكوندريا. وإذا اندمج البروتين الفلوري الأخضر مع غِشاء بروتيني، فلن تُلاحِظ فلْوَرَتَه إلا حيثما يُفرَز هذا البروتين في الغِشاء الخلوي. خلال عملي على رسالة الدكتوراه، استخدمتُ بروتينات اندماجية للبروتين الفلوري الأحمر لوَسْم العُضيات الخلوية، مثل جهاز جولجي والميتوكوندريا من أجل دراسات التصوير. وكان منشأ حاجتنا إلى وسم هذه العُضيات هو استهدافُنا تحديد التمركُز الخلوي لبعض مُستشعِرات الزنك التي قُمتُ بتصنيعها؛ فمُستشعِرات الزنك كانت تُعطي انبعاثًا ضوئيًّا أخضر؛ ومن ثَمَّ استطعْنا مُقارَنة وتركيب اللون الأحمر من البروتينات الفلورية الحمراء، والأخضر من مُستشعِر الزنك لتحديد تمركُزه. ونظرًا لأن مَزْج الأحمر والأخضر يُعطي أصفر، فإنَّ وجود طبقةٍ تُظهِر اللون الأصفر يدلُّ على تمركُز تَشارُكي جيد للمَجسَّات الفلورية تحت الدراسة.

بالإضافة إلى استخدام البروتينات الفلورية كواسِمات، يُمكن كذلك استخدامها في المُستشعِرات، وإحدى الطُّرق للقيام بذلك تكمُن في تخليقِ دلالةٍ لانتقال طاقة رنين فلوري. لا بُدَّ أن تحتوي دلالات انتقال طاقة الرنين الفلوري على جُزيئين من الفلوروفور لهما سِمات طَيفية مُختلفة، وغالبًا ما تُسمَّى هذه المجموعات الثنائية من الفلوروفور ﺑ «أزواج انتقال طاقة الرنين الفلوري»، ومن أمثلتها اللوروسين/الرودامين، والبروتين الفلوري الأصفر/البروتين الفلوري الأزرق. في مُعظَم دلالات انتقال طاقة الرنين الفلوري، يُفصَل جُزيئا الفلوروفور بواسطة عُنصر التعرُّف على الحليلة. على سبيل المثال، قد يُفصَل البروتين الفلوري الأصفر والبروتين الفلوري الأزرق بواسطة بروتين آخر أو تَسلسُل ببتيدي رابط للفلز، أو يُمكن تعديله بنوعٍ مُعيَّن من الإنزيمات. وفي غياب الحليلة (أي فلز، إنزيم)، تكون جُزيئات الفلوروفور بعيدةً بعضها عن بعض ولا تتفاعل معًا؛ فتؤدي استثارة البروتين الفلوري الأزرق إلى انبعاثٍ للبروتين الفلوري الأزرق؛ وبالمِثل، تؤدِّي استثارة البروتين الفلوري الأصفر إلى انبعاث للبروتين ذاته. أما في وجود الحليلة، فتتغيَّر بِنية دلالة انتقال طاقة الرنين الفلوري، ويقترِب جُزَيئا الفلوروفور أحدُهما من الآخر؛ ممَّا يترتَّب عليه استثارةٌ للبروتين الفلوري الأزرق، ينتُج عنها انتقال الطاقة إلى البروتين الفلوري الأصفر (حيث يقفِز إلكترون البروتين الفلوري الأزرق المُثار أساسًا إلى الحالة المُثارة للبروتين الفلوري الأصفر)، بدلًا من انبعاث البروتين الفلوري الأزرق. ونظرًا لأن إلكترون البروتين الفلوري الأزرق المُثار قد قفز إلى الحالة المُثارة للبروتين الفلوري الأصفر، يُلاحَظ انبعاثٌ من البروتين الفلوري الأصفر وليس انبعاثًا من البروتين الفلوري الأزرق. وبِمُقارنة انبعاث البروتين الفلوري الأزرق والأصفر قبل وبعد التعرُّف على الحليلة، نحصُل على قياسٍ نِسبي لتركيز الحليلة. ويُمكن إنتاج دلالة انتقال طاقة الرنين الفلوري في الخلايا الحية، إلى جانب استخدامها لرَصْد الظواهر الخلوية الداخلية، شأنها في ذلك شأن البروتينات الاندماجية للبروتين الفلوري الأخضر. ومن الأمثلة على ذلك استخدام انتقال طاقة الرنين الفلوري لرَصْد تدفُّق الكالسيوم داخل الخلية (بعض من دلالات انتقال طاقة الرَّنين الفلوري التي طوَّرَها مُختبَر تسيان بجامعة كاليفورنيا في سان دييجو تُسمَّى «الكاميليون»)، ودخول الزنك إلى الميتوكوندريا، والنشاط الإنزيمي.

(٢) جُزيئات فلورية صغيرة للتصوير

أتذْكُرين ما ذَكَرْتُه عن أن عملي في رسالة الدكتوراه قد اشتمل على تخليق جُزيئات فلورية صغيرة؟ الجُزيئات الفلورية الصغيرة (شكل ٨-٢) هي بدائل للبروتينات الفلورية للتصوير في الوسط الحيوي. يذهب البعض إلى أن الجُزيئات الصغيرة، مثل الفلوروسين والرودامين، تُقدِّم مزايا تفُوق مزايا البروتينات؛ لأنها أصغر بكثيرٍ من البروتينات الفلورية؛ ومن ثَمَّ يُفترَض أن تُسبِّب خللًا أقلَّ للنظام البيولوجي الطبيعي الخاضع للفحص.
fig50
شكل ٨-٢: (أ) بعض أمثلة للفلوروفورات ذات الجُزيئات الصغيرة المُستخدَمة في دراسات الأحياء والتصوير الخلوي. يُمكن تعديل هذه الفلوروفورات من حيث التركيب لتزويد الجُزيئات الفلورية بخواصَّ مثل القُدرات الاستشعارية للمواد المُحلَّلة الحيوية. (ب) تفاعُل كيميائي يُنتِج نُسخة مُؤسْترة من الفلوروسين وما يعقُبُه من تَحلُّلٍ مائي لروابط الإستر بواسطة إنزيمات الإستيراز داخل الخلايا عقِبَ دُخولها إلى السيتوبلازم.
قبل أن أنسى، من الطُّرق الرائعة للتعرُّف على أنواع الجُزيئات الصغيرة المُستخدَمة في التصوير الخلوي الحصول على نُسخةٍ قديمة من دليل شركة «مولكيولار بروبس» (هي الآن جُزءٌ من شركة إنيتروجين) والتنقُّل عبْر صفحاته (هوجلاند ٢٠٠٢). سوف تجِدين مجموعةً ضخمة من جُزيئات الفلوروفور مُتوافِرة تجاريًّا، إضافةً إلى أن الدليل يُقدِّم مُخططاتٍ بيانية مُفيدة لتركيباتها ولمَحاتٍ مُختصَرةً عن الإثارة/الانبعاث. بعض الصبغات لها أسماء طريفة، مثل أخضر أوريجون وأحمر تكساس. لا تكشف الأسماء الكثير عن التراكيب الكيميائية، لكنها على الأقلِّ تدلُّ على نوع الانبعاث. فكلٌّ من أخضر أوريجون وأحمر تكساس عبارة عن كوروموفورات تقوم على مُركَّبات الزانثينون. ويُعدُّ أخضر أوريجون أحد مُشتقَّات الفلوروسين، وعادةً ما يُستعان بالفلوروسين ومُشتقَّاتُه في عِلم الأحياء؛ لأنها مُتوافِقة مع الماء، وتحتاج إلى استثارةٍ مرئية (علمًا بأنَّ استثارة طاقة أعلى مثل الأشعة فوق البنفسجية، تُلحِق ضررًا بالخلايا، مثلما تُلحِق سفْعةُ الشمس ضررًا بجِلدِك!) وشديدة السطوع عند الرقم الهيدروجيني الفسيولوجي (بعض جُزيئات الفلوروفور لها انبعاث حسَّاس للرقم الهيدروجيني). أما أحمر تكساس فهو مُشتقٌّ من الرودامين. أما ثُنائي بيروميثان البورون BODIPY، فهو فلوروفور آخَر صغير الجُزيئات يُستعمَل أيضًا في التصوير الخلوي وله مُعامِل انطفاء بالغ الارتفاع (تَذكَّري قانون بير، الامتصاص = )، يُساهِم في فلْوَرَته اللامعة. ثَمَّةَ جُزيئات أخرى تُستخدَم في التصوير، تشمل الكومارين، والجولوليدين وسيمينافثوفلوروسينات. ثَمَّة فلوروفلورات كثيرة أخرى (مثل البيرين، الكينولين … إلخ)، لكن بعضها يفتقِر إلى قابِليَّة الذَّوَبان في الماء أو الانبعاث المُتألِّق الذي يُعَدُّ سِمةً مُميِّزة مثالية للعديد من التجارب البيولوجية.
على المُستوى التركيبي، يُمكن إدخالُ كلِّ أنواع التعديلات على جُزيئات الفلوروفور. وهذه التغييرات يُمكن أن يَترتَّبَ عليها جُزيئات ذات خواصَّ مُختلِفةٍ مثل التوزيع الخلوي أو التفاعُلية. ولعلَّ من الأمثلة المُهمَّة على ذلك تعديل شظية الزانثينون في الفلوروسين؛ فعلى الرغم من استخدام الفلوروسين في تصوير الخلية من الداخل، فإنه لا يستطيع النَّفَاذ إلى غشاء الخلية! والخدعة تكمُن في أسْتَرَةِ جُزء الزانثينون (في إشارةٍ إلى كيمياء مجموعة الحماية الخاصة به، مثلما ستدْرُسين هذا العام في الكيمياء العضوية)، ممَّا ينتُج عنه شكل مُحايد وأكثرُ حبًّا بكثيرٍ للدهون (شكل ٨-٢). ثَمَّة أُلفة بين المُركَّبِ المُحبِّ للدُّهون واللبيدات، كما أن غشاء الخلية يكون عبارة عن طبقةٍ ثنائية من اللبيدات. ونتيجة للأسْتَرة، يستطيع الفلوروسين أن يَعبُر غشاء الخلية، وبمجرَّد دخوله الخلية، تقوم إنزيمات تُسمَّى إنزيمات الإستيراز بتحليل روابط الإسْتر بالماء وينطلق الفلوروسين غير المُعدَّل. وتعمل هذه التفاعُلات البسيطة التي تَستهدِف تكوين رابطة الإستر وتحليلها المائي على توفير وسيلة خفية لتوصيل جُزيءٍ غير نافِذٍ إلى داخل الخلية.

إذا نظرتِ في دليل شركة «مولكيولار بروبس»، سوف تَرَين أن عددًا من جُزيئات الفلوروفور ذات الجُزيئات الصغيرة تُباع كمُحدِّداتٍ للعُضيات. على سبيل المثال، يُعزَل الصباغ الأحمر ميتو تريكر بواسطة الميتوكوندريا، بينما يتمركَز الصباغ الأخضر ليسوتريكر في الجسيمات الحالَّة. أما الهوكست، فهي صبغة خاصة تُستخدَم لتلوين نواة الخلية، وهي تُوفِّر وسيلةً لدراسة الشكل النووي الذي يُعدُّ مُؤشرًا على سلامة الخلية. على سبيل المثال، تُظهِر الخلايا غير السليمة والمُحتضِرة نُويات مُتكاثِفة، بينما الخلايا السليمة لها نُويات ذات شكلٍ بيضاوي نوعًا ما.

بالإضافة إلى توفيرها واسِمات فلورية، نجِد للفلوروفورات ذات الجُزيئات الصغيرة أيضًا تطبيقات في التعرُّف على الحلائل الحيوية. وغالبًا ما تُسمَّى جُزيئات الفلوروفور هذه دلالات، أو كاشفات، أو مُستشعِرات. وقد أُعلِن عن الكثير من الجُزيئات الفلورية الصغيرة التي تُراقِب تغيُّر الرقم الهيدروجيني، والأنشطة الإنزيمية، والحلائل (جُزيئات حيوية صغيرة مِثل البيروكسيد، وغازات مثل أكسيد النيتريك) في مَزرعة الخلية. وتحتوي العديد من هذه الكاشفات على جُزيئات الفلوروفور، مثل الفلوروسين، والرودامين وثُنائي بيروميثان البورون. في رَسالتي للدكتوراه قمتُ بربْطِ مُتمخلِبات أيونات فلزية بالفلوروسين واستخدمتُها للكشف عن الزنك في الخلايا الحية ونَسيج المخ. وتعمل بعض المُختبَرات الأكاديمية بنشاطٍ على تصميم مُستشعِرات فلورية جُزيئية صغيرة مُتوافِقة حيويًّا، من ضِمنها تلك المُختبرات الخاصة بالأستاذ ستيفن جيه ليبارد بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والأستاذ كريستوفر فارني بمعهد جورجيا التقني، والأستاذ كريستوفر آر تشانج بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، والأستاذ كازونوري كويد بجامعة بطرسبرج، ومركز أبحاث التصوير الجُزيئي بمدرسة هارفارد الطبية. كذلك تُوجَد مُختبرات كثيرة أخرى حول العالَم تعمل على تصميم المُستشعِرات الفلورية الجُزيئية الصغيرة. إذا ألقيتِ نظرةً على مُحرِّك بحث للمراجِع العلمية على شبكة الإنترنت مثل PubMed (وأحثُّك على ذلك)، سوف تجِدِين على الأرجح عشرات الدَّوريَّات والمقالات التي تتناوَل هذا الموضوع العام، وسوف تعرفين أيضًا أن المُستشعِرات الفلورية لا تقتصِر بأيِّ حالٍ من الأحوال على التصوير البيولوجي؛ إذ يُوجَد فَيض من الاستخدامات الأخرى لهذه الجُزيئات، ولكنِّي عليَّ الاحتفاظ بمِثل هذه القصص لوقتٍ آخر!

(٣) توسيم مُحدِّد المكان للبروتينات بواسطة جُزيئات التصوير الصغيرة

آمُل أن أكون قد أقنعتُكِ بأن الجُزيئات الفلورية الصغيرة مُفيدة حقًّا للتصوير البيولوجي. ومع ذلك، فهي لا تخلو من القيود؛ فغالبًا ما قد يكون من الصعب التنبُّؤ بسلوك جُزيءٍ صغيرٍ في مزرعة الخلية، هل سيخترِق غشاء الخلية؟ إذا كان الأمر كذلك، أين سيذهب؟ وإذا لم يكن كذلك، أنستطيع إدخال تعديلات تركيبية لإعطائه نَفاذِيَّة (كما مع أسْتَرة الفلوروسين)؟ من المشاكل التي تكتنِفُ الكثير من الفلوروفورات ذات الجُزيئات الصغيرة أنها تتمركَز تلقائيًّا في الخلايا، أو يُعاد توزيعها في الخلايا، أو حتى تتسرَّب من الخلايا بمرور الوقت. وهذه السلوكيات يُمكن أن تكون مشكلة، حسب طبيعة التجربة وبروتوكول التصوير. لكِ أن تتخيَّلي الحاجة إلى إجراء تجربة تصوير تمتدُّ على مَدار يوم كامل باستخدام صبغة تتسرَّب من الخلايا بعد ساعاتٍ قليلة فقط! لحُسن الحظِّ أنَّ عددًا من الكيميائيين قد ابتكروا طرُقًا لحلِّ هذه المُشكلة.

عكفتْ مجموعاتُ بحثٍ عديدة على التَّعامُل مع المشاكل المُتعلِّقة بتمركُز الفلوروفور وحركته من خلال تطوير طُرقٍ تُنشئ رَوابط تَساهُمية في أماكنَ مُحدَّدة تربِط المَجسَّات الفلورية بالبروتينات داخل أو خارج الخلايا (شكل ٨-٣). تعتمِد هذه الطرق عمومًا على ربط مجسٍّ جُزيئي صغير ذي مجموعة تفاعُلية بببتيد أو بروتين مُحدَّد مُفرَز في الموقع الخلوي المرغوب (كما يحدُث مع مُترافِقات البروتين الفلوري الأخضر التي ذكرتُها، حيث استخدمتُ تقنيات الأحياء الجُزيئية في هذا العمل). ونظرًا لتكوُّن رابطة تَساهُمية بين البروتين أو الببتيد والواسِم، لا تستطيع الصبغة أن تنتشِر في الخلية تلقائيًّا ودون تحكُّم. يُوصَف التَّوسيم هنا بأنه «مُحدِّد الموقع»؛ نظرًا لعدم حدوث التفاعل الكيميائي إلا في مَوضع وجود البروتين أو الببتيد المُفرَز، على فرْض عدَم وجود تفاعُلات جانبية.
كان لمجموعة الأستاذ روجر تسيان الريادة في ابتكار طريقةٍ تَستخدِم جُزيئًا صغيرًا تُسمَّى FLAsH (شكل ٨-٣)، وهو مُركَّب فلوري مُكوَّن من ذرَّتَين من الزرنيخ (حيث FL ترمُز للفلوروسين، وAs للزرنيخ). يتميَّز الزرنيخ بمُستوًى عالٍ من الأُلفة مع بقايا الثيول (حيث –SH ترمُز لمجموعة الثيول). يتفاعل FLAsH مع تتابُع ببتيد رُباعي السيستين Cys-Cys-X-X-Cys-Cys ليُعطي روابطَ تَساهُمية (حيث ترمُز Cys إلى حمض السيستين الأميني، فيما ترمُز X لأي حمضٍ أميني آخر، ويفضَّل حمض برولين جليسين، فيما تعني الواصلات الصغيرة بين الرموز أن هذه الأحماض الأمينية مُرتبطة معًا بروابط ببتيدية). يُمكن دمج هذا التسلسُل للأحماض الأمينية الستة، والذي يُسمَّى «واسمًا»، مع أحد البروتينات وتُفرَز في مواضِعَ مُحدَّدة داخل الخلايا. ويُعدُّ FLAsH جُزيئًا قابلًا للنَّفاذ إلى الخلية؛ ومن ثَمَّ يستطيع الارتباط بتتابُع ببتيد رُباعي السيستين ليُعطي واسِمًا فلوريًّا مُتصلًا تَساهُميًّا. ومنذ بدْءِ استخدامه في أواخر التسعينيات من القرن العشرين، جرى تحضير مُضاهيات لجُزَيء FLAsH ذات أطوالٍ مَوجية مُختلفة للاستثارة والانبعاث، و/أو ذات مجموعات تفاعُلية إضافية لاستخدامها في تطبيقاتٍ أخرى. غير أنَّ لطريقة FLAsH بعضَ العيوب، كشأن مُعظم الطُّرق الأخرى. فنجِد أن النشاط التفاعُلي لِمُركَّب الزرنيخ الثنائي لا يقتصِر كليةً على التتابُع Cys-Cys-X-X-Cys-Cys. فالزرنيخ عنصرٌ مُحبٌّ للثيول، ونتيجة لذلك، يُمكن لجُزيء FLAsH أن يتفاعَل على نحوٍ غير مُحدَّدٍ مع البقايا الأخرى للسيستين في الخلية؛ ومن ثَمَّ يُمكنه أن يَسِم الكثير من البروتينات داخل الخلية، ممَّا يترتَّب عليه فَلْوَرة في الخلفية، وهو ما قد يُؤدِّي إلى تعقيد عملية تحليل البيانات.
fig52
شكل ٨-٣: أمثلة لجُزيئاتٍ صغيرة تُستخدَم في طُرق التَّوسيم في موقعٍ مُحدَّد. (أ) يوضِّح بِنية جُزيء FLAsH ومُترافق ٤ -فوسفوبانتي ثينيل-فلوروفور. (ب) بِنية مُترافِق بنزيل جواندين-فلوروفور، ومُخطَّط للرَّبط التَّساهُمي للفلوروفور AGT. (ﺟ) تركيب البيوتين والمُضاهي الكيتوني للبيوتين. كما يُوضِّح الرَّسْم رَبْطًا لمُضاهي الكيتون بمدمج البروتين-الببتيد المُستقبِل والتفاعُل اللاحِق مع هيدرازيد الفلوروفور لإنشاء الرَّبط التَّساهُمي للفلوروفور.
لذلك وُضِعَتْ خططٌ عديدة للتغلُّب على التَّوسيم غير المُحدَّد في الخلايا الذي ينشأ عن التفاعُلات الجانبية للفلوروفور مع الجُزيئات الحيوية الأخرى. ومِثل طريقة FLAsH، تَستخدِم هذه الطُّرق واسِماتٍ من بروتينات أو ببتيدات صغيرة، وتندمج هذه الواسمات مع أحد البروتينات وتُفرَز في نِقاط التمركُز الخلوية المرغوبة. بعد ذلك، يُدخل فلوروفور يحتوي على جُزء تَفاعُلي قادر على الارتباط تَساهُميًّا بالواسم ومن ثَمَّ يتحقَّق التَّوسيم المُحدَّد المَوقِع. ثَمَّةَ عاملان مُهمَّان في تطوير هذه الطرق هما (١) حجم الواسم. (٢) انتقائية الربط. ومن المُسلَّمات العامة في هذا الصدد أن الواسم الصغير يكون أفضل من الواسم الكبير؛ لأن الحجم الصغير أقلُّ عُرضةً لإحداث اضطراب بليغ للنظام البيولوجي. كذلك يُعدُّ التفاعُل البالغُ الانتقائية الذي يُوفِّر الرَّبط التَّساهُمي بين الواسم والواسم الفلوري أمرًا مُهمًّا لتجنُّب التوسيم غير المُحدَّد وفلورة الخلفية.
ثَمَّة طريقة تستعين بواسم بروتيني، قادمة من مُختبَر الأستاذ كاي جونسون بسويسرا. يُفرِز البشر بروتينًا يُسمَّى O6-alkylguanine-DNA transferase (أو اختصارًا AGT). لهذا البروتين دَور في إصلاح الحمض النووي، ويَنقل مجموعة الألكيل من ركيزته — O6-alkylguanine-DNA — إلى واحدٍ من بقايا السيستين المُتخلِّفة منه نقلًا لا انعكاسيًّا. ونتيجة لذلك، تُصبِح مجموعة الألكيل الواقِعة أصلًا داخل الحمض النووي مُرتبِطَة تَساهُميًّا ببقايا السيستين في البروتين AGT. وقد وجَدَ الباحِثون في مُختبَر جونسون أن AGT سوف يتلقَّى كثيرًا من الجُزيئات الصغيرة المُخلَّقة كركائز إذا رُبِط جُزء benzylguanine-O6 (BG)، وفيها تلك المُحتوية على جُزيئات الفلوروفور، مثل الفلوروسين والرودامين (شكل ٨-٣). عند توظيف مُترافِق الفلوروفور-بنزيل جوانين، يُصبح الفلوروفور مُرتبطًا تَساهُميًّا ﺑ AGT الذي يُمكن أن يُفرِز بإفراطٍ في الخلايا المُنزرِعة، وباستخدام عِلم الأحياء الجُزيئية لإدخال تَسلسُلات توجيهية، يُمكن توجيه إفرازه إلى السَّيتوبلازم، والعُضيات، والغشاء الخلوي. وتُؤدِّي المُعالَجة اللاحِقة للإفراز المُفرِط لبروتين AGT من قِبَل الخلايا المُنزَرِعة مع مُترافِقات الفلوروفور-بنزيل جوانين إلى ربط تَساهُمي للفلوروفور وتَوسيم مُحدَّد الموقع. ومُؤخَّرًا استُخدِمت هذه الطريقة لتمركُز مُستشعِرات الزنك (الثنائي) والكالسيوم (الثنائي) في مَوقِعٍ مُحدَّد داخل الخلايا. من العيوب المُحتمَلة لهذه الطريقة أن حجم واسم AGT؛ حيث AGT > ٢٠٠ حمض أميني، أكبرُ بكثيرٍ من تَتابُع رُباعي السيستين المُستخدَم للتوسيم بواسطة جُزيء FLAsH. كذلك قد يؤدي البروتين AGT الداخلي المَنشأ إلى تعقيد الأمور ويتسبَّب في حدوث فلْوَرة خلفية؛ نظرًا لإفراز خلايا الثديِيَّات لبروتين AGT.
ثمة طريقة أخرى قادِمة من مَعمل الأستاذ كريستوفر تي والش بمدرسة هارفارد الطبية. يدرُس مُختبَر والش التخليق الحيوي للمُنتجات الطبيعية (والمُنتجات الطبيعية هي جُزيئات صغيرة من خلق الطبيعة). ما العلاقة بين تخليق المُنتجات الطبيعية والتصوير الخلوي؟ على غِرار طريقة AGT؛ حيث يُستخدَم بروتين لإصلاح الحمض النووي، يتَّضِح أنَّ بعض البروتينات الداخلة في تجميع المُنتَج الطبيعي تكون مُفيدة لتَوسيم سطْح الخلية. فبروتينات حامِلة الببتيد PCPs هي مجالات تضمُّ من ٨٠ إلى١٢٠ حمضًا أمينيًّا تتألَّف من مُركَّبات مُصطنعة من الببتيد اللاريبوزومي، والتي هي عبارة عن مُعقَّدات ضخمة بروتينية تَستخدِمُها العديد من الفصائل الميكروبية، مثل بكتيريا الزائفة والمتسلْسِلة، تُستخدَم للتصنيع الحيوي للمُنتَجات الطبيعية من المُركَّبات الطليعية الشائعة للحمض الأميني. سوف يُنشئ إنزيم يُسمَّى ٤ -فوسفوبانتيثينيل ترانسفيراز رابطةً تَساهُميةً بين جُزء الفوسفوبانتيثينيل من الإنزيم المُرافق A ببقايا مُحدَّدة من مُركَّب السيرين في مجال البروتين حامل الببتيد. ويستطيع أحد إنزيمات فوسفوبانتيثينيل ترانسفيراز، وهو إنزيم Sfp يأتي من ميكروب يُسمَّى العَصوية الرقيقة، نقْلَ مُترافقات ٤ -فوسفوبانتيثينيل-فلوروفور إلى مجالات البروتين حامل الببتيد. وكما قد تُخمِّنين، يَسمح هذا الاختلاط لإنزيم Sfp ومُترافِقات ٤ -فوسفوبانتيثينيل-الفلوروفور (شكل ٨-٣) باستخدامهم لوَسْم مُدمجات البروتين؛ البروتين حامل الببتيد. وكما ذكرت أعلاه، تضمُّ مجالات البروتين حامل الببتيد من ٨٠ إلى١٢٠ حمضًا أمينيًّا، ممَّا يجعلها أصغر من واسم AGT، وإن ظلَّتْ كبيرةً نسبيًّا. وللتغلُّب على هذا القصور المُحتمَل، حدَّدت مجموعة والش واسِمًا قصيرًا لبقايا ١١‏-ببتيد والذي يُعدُّ ركيزة إنزيم Sfp. ونتيجة لذلك، يتعيَّن إدخال ١١ حمضًا أمينيًّا إضافيًّا فقط في أي بروتين من أجل توسيمه. أما على صعيد التصوير الخلوي، فيقتصِر استخدام هذه المَنهجية على سطح الخلية؛ نظرًا لأن إنزيم Sfp ومُترافقات ٤ -فوسفوبانتيثينيل-فلوروفور لا تستطيع أن تَنفُذَ إلى الخلية. مع ذلك، يُوجَد كثير من التطبيقات لتَوسيم البروتينات على سطح الخلية؛ وقد كانت هذه الطريقة تُستخدَم للتوسيم الفلوري لمُستقبِل الترانسفيرين.
سأخبِرُكِ بطريقةٍ أخرى من طرق التَّوسيم تُستخدَم في دراسات تصوير الخلية. تُتيح هذه الطريقة، التي طوَّرَتْها الأستاذة أليس واي تينج بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تَوسيم سطح الخلية وتَستخدِم إنزيم بيوتين ليجاز من بكتيريا الإشريكية القولونية. يَعمَل هذا الإنزيم على تحفيز ربط البيوتين بإحدى بقايا حمض الليسين المُدمَجة في بقايا ١٥-ببتيد يُسمَّى «الببتيد المُتقبِّل». أظهر مُختبر تينج أيضًا أن إنزيم بيوتين ليجاز يَستقبِل مُضاهيًا كيتونيًّا مُصطنعًا للبيوتين كركيزة (شكل ٨-٣). تغيب المجموعات الوظيفية للكَيتون من الجُزيئات الحيوية مثل الدهون، والبروتينات، والسُّكريات، وتتفاعل مع الهيدرازيدات. ونتيجة لذلك، يُمكن إضافة هيدرازيد فلوروفور آخَر إلى مَزرعة الخلية بمُجرَّد ارتباط المُضاهي الكيتوني للبيوتين تَساهُميًّا بالببتيد المُتقبِّل المُفرز على سطح الخلية، وسوف يتفاعَل فقط مع المُضاهي الكَيتوني لتوفير ربطٍ مُحدَّد المَوقع للفلوروفور. وعلى غِرار طريقتَي FLAsH وPCP/Sfp، تستعين هذه الطريقة بواسِمٍ ببتيدي صغير نسبيًّا. وعلى عكس الطرق التي يُربط فيها واسِمُ الفلوروفور في خطوةٍ واحدة، تتطلَّب طريقة البيوتين ليجاز حدُوثَ تفاعُلَين لدمْج واسِمِ الفلوروفور: (١) ربْط مُحفِّز بواسطة إنزيم بيوتين ليجاز للمُضاهي الكيتوني للبيوتين. (٢) تفاعُل الكَيتون مع مِجسِّ الفلوروفور-هيدرازيد. وينبغي أن أُشير إلى أن الركيزة الطبيعية لإنزيم بيوتين ليجاز، ألا وهي البيوتين، تُوفِّر وسيلةً أخرى لرَبْط مُحدَّد المَوقع للفلوروفور. ويُعدُّ الستربتافيدين من البروتينات التي تَتَّسِم بأُلفة عالية للغاية مع البيوتي، ويُمكن أن يكون مُترافِقًا مع أشياء كثيرة، من بينها الفلوروفورات والنِّقاط الكمومية (النقاط الكمومية هي بلُّورات نانوية شِبه مُوصِّلة تُعطي انبعاثًا فلوريًّا لامعًا). عقبَ الرَّبط المُحفَّز بإنزيم البيوتين ليجاز للبيوتين مع الببتيد المستقبل، يُمكن إضافة مُترافِقات الستربتافيدين لدمْج وَاسِمٍ ما عَبْر تفاعُل البيوتين مع الستربتافيدين. وقد استخدَم مُختبر تينج هذه الطريقة في دراسات التصوير الفلوري للأعصاب؛ حيث وُسِم مُستقبِل حمض AMPA (اختصار الألفا أمينو-٣-هيدروكسي-٥-ميثيل-٤-أيزوكسازول حمض البروبرينوك) بواسطة النِّقاط الكمومية.

أتمنَّى أن تكون هذه الأمثلة الأربعة قد أعطتْكِ فكرةً عن الطُّرق الإبداعية والمُتنوِّعة التي طوَّرَها الكيميائيُّون لرَبْط الواسِمات الفلورية تَساهُميًّا وفي موقعٍ مُحدَّد من أجل أغراض التصوير الخلوي. سوف يكون مُثيرًا أن ترَي كيف تُوظَّفُ هذه المَنهجِيَّات في الدراسات المستقبلِية لظواهرَ بيولوجية، مثل تأشير الخلية، والفسيولوجيا العصبية، وسيكون مُثيرًا أيضًا أن نعرِف كيف يُقرِّر الكيميائيُّون التَّعامُل مع تحدِّي التحكُّم في التمركُز المِجسِّي. ونظرًا لتركيزي على الفلوروفورات الصغيرة الجُزيئات، ينبغي أن أُشير كذلك إلى أن هذه الطُّرق يُمكن أن تُستخدَم لربط «أشياء» أخرى مثل النقاط الكمومية، أو مجسَّات الأُلفة، أو جُزيئات صغيرة أُخرى ربما تكون ذات أهمية.

(٤) التصوير بالرنين المغناطيسي

لِنَدَعِ الفلْوَرة جانبًا قليلًا الآن. إن التصوير الخلوي لا يقتصِر على الطُّرق القائمة على الفلورة، والكيميائيُّون يُساهِمون أيضًا في تطوير تقنيات تصوير بديلة، مثل التصوير بالرنين المغناطيسي. هل فكَّرتِ كيف قد تؤثِّر الكيمياء على تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي بعد حادثة الدرَّاجة ورحلتك اللاحِقة إلى الطبيب الصيف الماضي؟ إذا كانت الإجابة لا، فلتُعيدي التفكير ثانية!

كما مع تَجربتك في جَرْح ركبتك، كثيرًا ما يُستخدَم التصوير بالرنين المغناطيسي في الطبِّ التشخيصي؛ فهو تقنية غير إشعاعية وغير باضِعة، ممَّا يجعلها مثالية للطبِّ السريري. تَعتمِد هذه التقنية على الفروق أو «التباين» في الرنين المغناطيسي النووي التي تحدُث في مواضِعَ مُختلِفةٍ في العَيِّنة. سوف تتعرَّفين على الرَّنين المغناطيسي النووي في الكيمياء العضوية هذا العام، والتصوير بالرَّنين المغناطيسي قائم على هذه المبادئ. إيجازًا، سوف يكون للبروتونات المُختلِفة في الجسم (بروتونات جُزيئات الماء عمومًا) مَجالات مغناطيسية مُختلفة مُرتبطة بها اعتمادًا على الوسط المُحيط بها، وهذه الفروق سوف تُحدِث تغييراتٍ في إشارة الرنين المغناطيسي؛ ففي المُخ، مثلًا، يُمكن للرنين المغناطيسي أن يُميِّز المادة البيضاء عن الرمادية. ولكن أحيانًا ما يكون حَسْم الملامح التشريحية المُختلِفة أو الخلايا غير مُمكِن بواسطة الرنين المغناطيسي فقط. وفي هذه الحالات، لا بُدَّ من الاستعانة ﺑ «عوامل تَبايُن» من أجل الحصول على أشعَّة رنين مغناطيسي غَنيَّة بالمعلومات. وغالبًا ما تكون عواملُ التبايُن عبارة عن جُزيئات صغيرة مُصطنعة أو عبارة عن جُسيمات أكسيد الحديد النانوية، وينبغي أن تُغيِّر خواصَّ الرنين المغناطيسي النووي لجُزيئات الماء. بعد ذلك، سوف يكشِف مسح الرَّنين المغناطيسي التغيُّرات في خواصِّ الرنين المغناطيسي النووي لجُزيئات الماء في العضو أو النسيج أو الجسم، والتي تَنتُج من استخدام عامل التَّبايُن. ونظرًا لأن عوامل التبايُن تُطبَّق على المرضى، فلا بُدَّ أن تكون مُتوافِقة بيولوجيًّا (أي أن تكون ذات سُمِّيَّة أقل، وقابِلية للذَّوبان في الماء، وتُفرز سريعًا … إلخ).

تحتوي الكثير من عوامل التبايُن ذات الجُزيئات الصغيرة للرَّنين المغناطيسي على أيونات اللانثانيد. وغالبًا ما يُطلَق على اللانثانيدات العناصر «الأرضية النادِرة»، وتشمل العناصر من ٥٧ إلى ٧١ من عناصر الجدول الدوري. تُعدُّ اللانثانيدات، والجادولينيوم (الثلاثي) خاصة، مُفيدة للتصوير بالرنين المغناطيسي؛ نظرًا لمُلاءمة خواصِّها الإلكترونية والمغناطيسية للتكنولوجيا. سوف يرتبِط أيون الجادولينيوم بمُتَمَخلِب (وهو جُزيء فلزي تَناسُقي) يُضفي أيَّ عددٍ من السِّمات — كقابلية الذَّوَبان في الماء، والتمركُز داخل الخلية، والخواصِّ المغناطيسية، وما إلى ذلك. ولعلَّ من أهمِّ سِمات العديد من عوامل التبايُن القائمة على الجادولينيوم أنَّ جُزيء الماء يرتبِط تَناسقيًّا بمركز الجادولينيوم. وبِمُجرَّد أن يُصبِح جُزيء الماء هذا في الوسط الحيوي، يُمكِن أن يتبادَلَ مع جُزيئات الماء الأخرى في البيئة المُحيطة، وينشأ عن هذا التبادُل تَغيُّر الرنين المغناطيسي الحيوي لجُزيئات الماء في المَوقِع مَحلَّ الاهتمام؛ ومن ثَمَّ توليد إشارة الرنين المغناطيسي. ومن بين المُختبرات الأكاديمية التي تعكُف على تخليق ودراسة عوامل تبايُن الرنين المغناطيسي المُحتوية على اللانثانيد مُختبر الأستاذ توماس ميد بجامعة نورث ويسترن، والأستاذ كينيث رايموند بجامعة كاليفورنيا في بيركلي.

غالبًا ما تُستخدَم ربيطات عديد الكربوكسيلات الأميني مع عوامل تَبايُن الرنين المغناطيسي القائمة على الجادولينيوم، والبعض منها يُستخدَم طبيًّا اليوم (شكل ٨-٤). وتُعدُّ هذه الربيطات خيارات جيدة؛ لأنها تُعطي مُعقَّدات ثابتة للغاية (حيث يرتبِط عديد الكربوكسيلات بمركز الجادولينيوم) مع سُمِّيَّة مُنخفِضة. أحد عوامل التبايُن ذات البِنية البسيطة جادولينيوم-ثنائي أمين الإيثلين رُباعي حامِض الخلِّيك Gd-DOTA، والذي أعطَتْ تعديلاته مُعامِل تَبايُن للرنين المغناطيسي ذا خواصَّ أو وظائفَ إضافية. على سبيل المثال، قام مُختبر ميد بربط سيترويد RU-486 تساهُميًّا مع Gd-DOTA. ويرتبِط الستيرويد انتقائيًّا بمُستقبِل البروجيسترون (سيترويد). كذلك بُذِلت جهود لرَبْط الفلوروفلورات ﺑ Gd-DOTA وعوامل تبايُن أخرى. تُتيح هذه النوعية من المُترافِقات تصوير عَيِّنةٍ واحدة باستخدام تقنيتَي الفَلْوَرة والرنين المغناطيسي، وهو ما يُمكن أن يكون ذا فائدة في تحديد الأورام واستئصالها جِراحيًّا.
fig53
شكل ٨-٤: بِنية ربيطة DOTA ومُترافِق ستيرويد-DOTA. يربِط DOTA الجادولينيوم بذرَّات النيتروجين الثلاثية الأمينات الأربع وذرَّات الأكسجين الكربوكسيلية الأربع، مُوفِّرًا بذلك مَوقِعًا مَفتوحًا لجُزيء ماء لتكوين روابط تناسُقية.

بالإضافة إلى الجادولينيوم، تُعدُّ جُسيمات أكسيد الحديد النانوية والجُزيئات الصغيرة المُحتوية على المنجنيز مُفيدة في التصوير بالرَّنين المغناطيسي في الوسط الحيوي. يُوجَد أيضًا اهتمامٌ كبير بتصميم مُستشعِرات قائمة على الرَّنين المغناطيسي. وعلى غِرار المُستشعِرات القائمة على الفَلْوَرة، يُمكِن استخدام مُستشعِرات الرَّنين المغناطيسي لرصْد أو اكتِشاف أي تَغيُّر يطرأ على الرقم الهيدروجيني، والأيونات الفلزية (الكالسيوم، والزنك، والنحاس)، والنشاط الإنزيمي، وغير ذلك من الظواهر البيولوجية الأخرى.

(٥) الطب النووي واستخدام النشاط الإشعاعي للتصوير

في الختام، دَعينا نتناوَلُ بعض الجُزيئات الصغيرة التي تُستخدَم في الطبِّ النووي ونذكُر أيضًا بعض التَّحدِّيات الخاصَّة التي تُواجِهُ الكيميائيين في هذا المجال. يَنطوي الطبُّ النووي على استخدام النظائر المُشعَّة في كشْفِ المرَض وعِلاجه. فيما يَتعلَّق بعملية الكشف، يُمكِن توظيف «المُقتفِيات» المُشعَّة لتوفير صُورٍ للجسم والأعضاء والأنسجة المريضة. وأودُّ أن أُحدِّثك قليلًا عن المُقتفِيات المُشعَّة وتصنيعها. فلقد قدَّم الكيميائيُّون، وما زالوا، إسهاماتٍ عظيمة في هذا المجال.

fig54
شكل ٨-٥: جُزيئات صغيرة مُستخدَمة في الطبِّ النووي.
هل سمعتِ عن الكارديولايت (شكل ٨-٥)؟ ربما ذَكَره أستاذك في مادة الكيمياء التمهيدية كمُركَّبٍ تَناسُقي له تطبيقات في الطب. إنه عامِلٌ مُشعٌّ لتصوير القلب ويحتوي على النظيرِ المُشعِّ التكنيشيوم 99mTc (حيث m تعني «شِبه مُستقِر»)، ويُعدُّ مثالًا رائعًا يُوضِّح كيف يُمكن تطبيق الكيمياء غير العضوية الأساسية في التصوير الحيوي. اكتشَفَ هذا المُركَّب الأستاذ آلان ديفيدسون، أستاذ الكيمياء المُتفرِّغ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. يرتبِط مركز التكنيشيوم في الكارديولايت تَناسُقيًّا في نَمَط ثُماني الأوجه بستِّ ربيطاتٍ من السيانيد CN، يحتوي كلٌّ منها على مجموعة ألكيل لجعل الجُزيء مُحبًّا للدهون بدرجةٍ كافية. ونظير التكنيشيوم المُشع 99mTc هو باعِث لجُسيمات جاما، وله عُمر نِصفي يبلُغ حوالي ستِّ ساعاتٍ فقط. وعُمر النصف هو مِقدار الزمن الذي يَستغرِقه التكنيشيوم المُشع، أو أي عنصرٍ مُشع، ليَفقِد نِصف كمية إشعاعِه الأصلي. ولهذه الخواصِّ أهمية من منظور الطبِّ العلاجي؛ لأن إشعاعات جاما يُمكن كشفُها بسهولةٍ عن طريق التصوير بالأشعة السينية، وبسبب قِصَر فترة عُمر النصف، لا يَمتدُّ النشاط الإشعاعي طويلًا في الجسم. على الجانب الآخر، تخلُق هذه السِّمات بعضَ التحدِّيات المُهمَّة للكيميائي الساعي لتحضير مُستحضَراتٍ تشخيصية جديدة قائمة على التكنيشيوم! أول هذه التحدِّيات أنَّ إعداد مُركَّب باستخدام موادَّ مُشعَّةٍ وسامَّة يتطلَّب احتياطاتٍ مُعيَّنة لتجنُّب التعرُّض المُباشر لها. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي الانتهاء من إعداد أيِّ مُركَّب كيميائي سريعًا جدًّا؛ لأنَّ فترةَ العُمر النِّصفي للتكنيشيوم المُشع 99mTc قصيرة جدًّا. ومِن العار أن يتحلَّل المُقتفِي قَبل استعمالِه على المريض! إذن ما الذي يستطيع أن يَفعله كيميائي تجريبي للتغلُّب على هذه المشاكل؟ إذا نظرْنا إلى الجدول الدوري، نرى أن التكنيشيوم TC هو عُنصر من عناصر المجموعة السابعة ويقَع بين المنجنيز Mn والرينيوم Re. ويُعدُّ الرينيوم أكثرَ ثَباتًا بكثيرٍ من التكنيشيوم ومُضاهِيًا جَيدًا له. فيستطيع المُتخصِّصون في الكيمياء التَّخليقية أولًا إعداد نماذجَ لعوامِل التصوير الجديد القائم على التكنيشيوم باستخدام الرينيوم. وبعدَ الوصول للمُستوى الأمْثَلِ في التَّركيب والتَّنقِية بواسطة التكنيشيوم المشع، يُمكن تَكرار تركيب المُستحضَر بنظير التكنيشيوم لتوليد المُقتفي الجديد.
لا تقتصِر تقنيات التصوير في الوسط الحيوي المُستخدَمة في الطبِّ النووي على استخدام التكينشيوم؛ إذ يُوجَد نَواةٌ مُهمَّة أخرى للتشخيص هي الفلورين المُشِع 18F. يُستخدَم هذا النَّظير كمُقتَفٍ في التصوير المَقطعي بالإصدار البوزيتروني. ومثل التكنيشيوم المُشع 99mTc يُصدِر الفلورين المُشع 18F إشعاعات جاما، وعُمره النِّصفي قصير جدًّا؛ إذ يبلُغ حوالي ساعتَين؛ ولذلك يجِب توليد النظير المُشعِّ باستخدام جهاز سيكلوترون (مُسرِّع دَوَراني) قريب للغاية من وِحدة التصوير الطبي. ومن المُستحضَرات التشخيصية المُهمَّة التي تحتوي على الفلورين المُشع (18F) ٢-فلورو-٢-دي-أوكسي-دي-جلوكوز (فلوروديوكسي جلوكوز، شكل ٨-٥)، ويُستخدَم لكشْفِ الآفات السَّرَطانية. فَخَلايا السَّرَطان تتطلَّب كميَّاتٍ كبيرة من الجلوكوز؛ ومن ثَمَّ سوف تمتصُّ — وتُمثَّل غذائيًّا — كمًّا كبيرًا من الفلوروديوكسي جلوكوز أكثر من الخلايا الطبيعية المُحيطة، وهذا الاستهلاك المُتفاوت سوف يُفسِّر التبايُن الملحوظ في صورةِ الأشعة المَقطعية للوَرَم.
ما المطلوبُ لتطوير مُقتفِيات إشعاعيَّة تحتوي على الفلورين المشع 18F وكيف يُمكِن للكيميائيين المُساهَمة في ذلك؟ نظرًا للقِصَر الحادِّ للعمر النِّصفي للفلورين المُشع، يجب إدخاله إلى المُركَّبات الطليعية للمُقتفِي المُشع بكفاءة عالية وفي مرحلةٍ مُتأخِّرة جدًّا (إن لم تكن المرحلة النهائية!) من عملية التركيب. وإحدى الطُّرق لإدخال الفلورين المُشع 18F في جُزيء عضوي تكوين رابطة C—F، لكن هذه الكيمياء خادِعة جدًّا ولم تُسبَر أغوارها نِسبيًّا؛ فعلى عكْس الوَفْرة المُتاحة في التفاعُلات المعروفة التي تعمَل كوسيطٍ في تكوين روابط C—C وC—N وC—O (سوف تتعرَّفين على بعضها هذا العام في الكيمياء العضوية)، تُوجَد طُرق قليلة لخلْق روابط C—F وبعضها ليس فعَّالًا للدرجة؛ لهذا فمن الأهمية بمكانٍ إجراء دراسات جَوهرية على تكوين رابطة C—F، من أجل تطوير جُزيئات تحتوي على الفلورين المُشع 18F من أجل استخدامِها في الطبِّ النووي. ولحُسن الحظ، تُوجَد مَعاملُ عديدة، تشمل مجموعات الأستاذة ميلاني سانفورد بجامعة ميشيجن، والأستاذ توبياس ريتر بجامعة هارفرد، تعكُف على مُواجَهة هذه المشكلة، وتوضيح كيمياء جديدة مُثيرة في الوقت نفسه. على سبيل المثال، أفادت كِلتا المجموعتين مُؤخَّرًا بأنَّ مُعقَّدات البالاديوم يُمكن أن تُستخدَم كوسيطٍ لتكوين رابطة C—F.
من واقِع هذه الأمثلة للمُقتفِيات المُشعَّة، آمُل أنكِ الآن تُقدِّرين أن الكيمياء غير العضوية والعضوية الأساسية تُمثِّلان قِيمةً لا تُقدَّر للطب النووي والمُستحضرات التشخيصية. فالكيمياء التي ربما تبدو للوهلة الأولى أبعدَ ما تكون عن مجال التصوير — مثل تكوين روابط C—F — يُمكن أن يكون لها تأثير هائل في هذا المجال.

حسنًا يا أنجيلا، أعتقد أن هذا يكفي في الوقت الحالي. لم أكن أتوقَّع أن هذه الرسالة سوف تَطول هكذا وصار الوقت مُتأخِّرًا، والمقهى الذي أجلس فيه على وشْكِ الإغلاق. كما ذكرتُ في السابق، لقد قررتُ أن أُباشِر أبحاثي بعد الدكتوراه بعيدًا عن مجال التصوير، ولكنِّي آمُل أن أكون قد أقنعتُكِ بأن مجال التصوير الخلوي/الجُزيئي مجالٌ مُثير ويُوجَد كثيرٌ من الوسائل للكيميائيين للمُساهَمة فيه. أرجو أن تُبلِّغيني إذا أردتِ أيَّ اقتراحاتٍ لمَراجِع أو قراءات، أتمنَّى أن أراك في التجمُّع العائلي العام القادم، إن لم يكُن قبل ذلك! إذا سافرتِ إلى بوسطن في وقتٍ ما، أرجو أن تُبلغيني؛ سأكون سعيدةً أن آخُذكِ في جولةٍ حول المدينة، وفي المُختَبر بالطبع. خالِص تمنِّياتي لك فيما تبقَّى من فصلك الدراسي، اعمَلِي بجِدٍّ واستمتعي!

إلى اللقاء
ليز

قراءات إضافية

  • Bottrill, M.; Kwok, L. ; Long, N. J. Lanthanides in magnetic resonance imaging. Chemical Society Reviews 2006, 35, 557–571.
  • Chen, I. ; Ting, A. Y. Site-specific labeling of proteins with small molecules in live cells. Current Opinion in Chemical Biology 2005, 16, 35–40.
  • Haugland, R. P. Handbook of Fluorescent Probes and Research Products, 9th Edition. Molecular Probes, Inc., Eugene, OR 2002. Available at http://www.probes.com.
  • Johnsson, N. ; Johnsson, K. Chemical tools for biomolecular imaging. ACS Chemical Biology 2007, 2, 31–38.
  • Nobel Prize Lectures for the 2008 Nobel Prize in Chemistry to Osamu Shimomura, Martin Chalfie, and Roger Y. Tsien. Available at http://nobelprize.org/nobel_prizes/chemistry/laureates/2008/index.html.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤