الفصل التاسع

الكيمياء الحيوية غير العضوية: الحماس تجاه التَّلاعُب بالفلزات

كارا إل برين
جامعة روتشستر

كارا إل برين أستاذ الكيمياء في جامعة روتشستر، بنيويورك. حصلتْ على درجة البكالوريوس في الكيمياء من كلية كارلتون في نورث فيلد، بولاية مينسوتا؛ حيث أجرتْ أبحاثًا مع الأستاذ لين بافنجتون على الرَّنين النووي المغناطيسي للنشوِيَّات. نالتْ درجة الدكتوراه في مُختبَر الأستاذ هاري بي جراي بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في باسادينا، بولاية كاليفورنيا، في دراسةِ ارتباط خواصِّ الربيطات الرابطة لبروتينات الهيم المُهندَسة وِراثيًّا. في أثناء عملِها لنَيل شهادتها الجامعية، قضتْ فترةً في مُختبَر إيفانو برتيني بجامعة فلورنسا؛ حيث تعرَّفَتْ على الرنين النووي المغناطيسي للجُزيئات الحيوية البارامغناطيسية، وأكملتْ تدريبها بعدَ نَيل الدكتوراه كزميلٍ للمعاهد القومية للصحة في مُختبر الأستاذ جيرد إن لامار بجامعة كاليفورنيا، بديفيز؛ حيث أجرتْ دراسات الرنين النووي المغناطيسي على بروتينات الحديد-الكبريت البارامغناطيسية المُركَّبة. في روتشستر، تعمل مجموعة برين على استخدام مجموعة من تقنيات التحليل الطَّيفي لدراسة البِنية الجُزيئية والإلكترونية لبروتينات الهيم وطَيِّها في عائلة السيتوكروم c.

عزيزتي أنجيلا

أثِقُ أنكِ قد تأقلمتِ مرَّة أخرى مع الحياة بعد عودتك إلى جامعة كاليفورنيا، بسان دييجو، بعد فترة إقامتك في النرويج. أنا مسرورة جدًّا أن أبهيك قد علِمَ أنك ستسافرين عبْر أوسلو أثناء زيارتي لمساعدي هناك ورتَّب لنا لقاء. لقد كانت النرويج جميلة بالتأكيد، وأتطلع لزيارتها مرةً أخرى مُستقبلًا. عندما كنتُ طالبة أفكِّر في العمل بوَصْفي كيميائية في المُجتمع الأكاديمي، لم أتصوَّر قطُّ أن من مُميِّزات اختياري لهذا المَجال ما أتاحَهُ لي من فُرَصٍ عديدة للسَّفَر. فما بين الذهاب إلى المؤتمرات وزيارة المعاونين، تمنَحُكِ هذه المِهنة فُرصة غير مُتوقَّعة لرؤية العالَم.

لقد كان وقْتُنا معًا قصيرًا؛ ومِن ثَمَّ لم تُتَحْ لنا فُرصة للحديث كما نشاء؛ لذا، وكما وعدتُ، ها أنا أُتابع الحديث معكِ الآن لأخبِرَك أكثرَ عن مجال الكيمياء الحيوية غير العضوية، وأنواع الأشياء التي يدرُسها العلماء العاملون في هذا المجال. الكيمياء الحيوية غير العضوية، ببساطة، هي دراسة كيمياء العناصر في الأنظمة البيولوجية. يشتمل هذا المجال على دراسة العناصر الفلزية واللافلزية في الأحياء، وإن كان مُعظم التركيز مُنصبًّا على الفلزات؛ لأنها في الحقيقة تُشكِّل الجزء الأكبر من الجدول الدوري؛ ومن ثَمَّ سوف أستخدِم في الغالِب مُصطلح «فلزات» في مُناقشتي للمجال. أتفهَّم أنكِ، مثل كثيرٍ من الطلاب الجامعيين، لم تدرُسي بعدُ الكيمياء الحيوية غير العضوية ولم تَسمَعي سوى القليل عنها. لقد ذَكرْتِ أنك قد تعلَّمتِ في الكيمياء التمهيدية أنَّ الحديد يلعَب دَورًا حيويًّا في حمْل الأكسجين في دمك. وربما سمِعْتِ، خارج نطاق الدراسة، قِصَصًا إخبارية عن مخاطر صبغات الرصاص السامَّة والجدَل حول الزِّئبق في اللِّقاحات، ممَّا يرسُم صورةً أكثر خُبثًا لأدوار الفلزات في الأحياء. فقط لو كُنتِ اعتبَرْتِ الأدوار الإيجابية جديرةً بالاهتمام أيضًا! رغم ذلك، فكلُّ هذه الأمثلة تُوضِّح الأوجه المُختلِفة للكيمياء الحيوية غير العضوية، وإن كان هُناك ما هو أكثر من ذلك بكثير.

في ضوء اتِّساع هذا المجال، أجِد نفسي مُضطرَّةً لاختيار بِضعةِ مجالات فقط لأُخبِرَك أكثر عنها؛ فلو كتبْتُ عن كلِّ شيءٍ في المجال، لصار ذلك موسوعةً وليس خطابًا! أولًا، أعتقِدُ أني سأكتُب عن ثلاثة موضوعات من شأنها أن تَمنَحكِ بعض المعلومات العامَّة عن المجال: (١) نظرة عامَّة على أسباب وكيفية استخدام الأنظمة البيولوجية للمعادن. (٢) أمثلة للأدوار التي تَضطلع بها البروتينات المُحتوية على الفلزَّات (البروتينات الفلزية) في المُحيط الحيوي. (٣) طرُق للكشف عن الفلزات في الأنظمة البيولوجية ودراستها. بالإضافة إلى ذلك، أردتُ أن أُخبرك عن بعض المجالات التي ذكرتِ أنك قد سَمعتِ القليل عنها في مُقرَّراتٍ أخرى وأثناء تصفُّح الإنترنت، مثل (١) دَور الأيونات الفلزية في مرَض ألزهايمر. (٢) الأدوية القائمة على الفلزات. من المُفترَض أن هذا سوف يُعطيك مُقدِّمة واسِعة عن أنواع الجُزيئات التي نَدرُسها والتقنيات التي نستخدمها، إلى جانب بعض الأمثلة المُحدَّدة — المُتعلِّقة بصحة الإنسان — لدراساتٍ عن كلٍّ من الفلزات الموجودة طبيعيًّا والفلزات المُدخَلة في الأنظمة البيولوجية.

(١) حَيَوات غير عضوية!

من الأمور التي ستُواجِهينَها حال قرَّرتِ العملَ في مجال الكيمياء الحيوية غير العضوية الالتباسُ الذي يتسبَّبُ فيه مُصطلَح «غير عضوية»، لا سيما بين غير العلماء، بل حتَّى بين العلماء الآخرين. فغالبًا ما يَسألُني الآخرون في حيرة: «هل تقصدين القول إنَّكِ تَدرُسين الكيمياء «العضوية» الحيوية؟» لأنَّ مُصطلَح «عضوي» عادةً ما يكون مُرتبطًا بالأشياء الحيَّة، بينما يرتبِطُ مُصطلَح «غير عضوي» بالأشياء غير الحيَّة. على العكس، إن الكيمياء غير العضوية والحياة ليستا فقط مُتوافِقَتَين بالكامل، ولكن الحياة «تتطلَّب» عناصر وجُزيئات تقَع خارج اختصاص الكيمياء العضوية. ولِتوضيح هذه النقطة، أدرَجْتُ جَدولًا دَوريًّا يُشير إلى العناصر الأساسية للحياة، وسوف تَرَين أنه يُوجَد عناصرُ عديدة مُستخدَمة بجانب الكربون، والهيدروجين، والنيتروجين، والأكسجين، والكبريت، والفوسفور، التي تُركِّز عليها مُعظَم كُتُب الكيمياء الحيوية الدراسية (شكل ٩-١).
fig55
شكل ٩-١: جدول دَوري يُشير إلى عناصر تنتفِع بها الكائنات الحية، وقد حُذفت اللانثانيدات والأكتينيدات؛ إذ لم يُعرَف أنَّ أيًّا منها ضروري للحياة. ثَمَّة عناصرُ إضافية كثيرة تُستخدَم في المجسَّات والعقاقير. (المصدر: برتيني وآخرون، ٢٠٠٧.)
لعلَّكِ قد اختبرتِ أهمية الكيمياء غير العضوية لصحتك في سِنٍّ صغيرة حتى لو لم تُدركي ذلك. بل ربما أخبروك حين كنتِ طفلةً أن تناوُل السبانخ يَمنحُكِ عضلاتٍ قوية وأن شُربَ اللَّبن يمنحك عظامًا قوية. ولو كان أبواك ضَليعَين في التغذية، فرُبما أضافا أنَّ هذا بِسبب كون السبانخ مصدرًا للحديد الذي يلعَبُ أدوارًا عديدة تتعلَّق بالوظائف العضلية، وأن اللَّبن مصدرٌ للكالسيوم، وهو مُكوِّن حيوي للمعدن الحيوي الذي نَعرِفُه باسم العَظْم. تُوجَد عناصرُ أخرى مطلوبة للحياة لا تحظى بالكثير من الاهتمام على طاولة الطعام. على سبيل المثال، عادةً ما لا يُفكِّر الناس في الكوبلت كعنصر غذائي، ولكنَّه مُكوِّن أساسي لفيتامين B12 الذي يُوجَد في اللحم، والبَيض، ومُنتجات الألبان، ومطلوب لتكوين خلايا دَموية وعصبيَّة سليمة. تحتاج الأشياء الحية إلى فلزات أخرى تبدو غريبة، مثل المنجنيز، والسلينيوم، والموليبدنوم. وبالإضافة للفلزات الأساسية، تَستهلِك الكائنات الحية أحيانًا عناصرَ ليستْ ضرورية للحياة ولكنها ذات تأثير على وظائف الأعضاء؛ فقد يأخُذ مريض السَّرَطان، على سبيل المثال، عقَّارًا من عقاقير العلاج الكيميائي قائمًا على البلاتين، أو ربما يبتلِع طفل رقائق الطِّلاء التي تُئوي الرصاص بينما يلعَب في صندوق الرَّمل. وتندرِج دراسة كيفية هذه الفلزات غير الضرورية على الكائنات الحية، إيجابًا وسلبًا على حدٍّ سواء، أيضًا ضِمن نِطاق الكيمياء الحيوية غير العضوية. وقد وَجدْتُ، من واقِع خِبرتي، أنه حالَما انتبهتُ إلى أهمية الفلزات في عِلم الأحياء، بدأتُ مُلاحظتها في كلِّ مكان. الأمر أشْبَهُ بِما يحدُث عندما تتعلَّمين كلمة من مُفردات اللغة لأول مرة، وتُدركين فجأةً بعد ذلك أنك قد سَمِعتِها في الأخبار، أو قرأتِها في كتاب، وما إلى ذلك.
fig56
شكل ٩-٢: مُخطَّط فِن يُوضِّح مُختلف مجالات الكيمياء المُرتبِطة بالكيمياء الحيوية غير العضوية (المساحة المُظلَّلة). وقد كُتِبَ في المجالات المُتداخِلة التخصُّصات الأوثَق ارتباطًا بالكيمياء الحيوية غير العضوية بالخطِّ الأسود الكبير. يُجسِّد هذا المُخطط وسيلةً واحدة فقط من الوسائل المُمكِنة لتمثيل العلاقة المُتبادَلة بين هذه المجالات المُختلفة داخل نِطاق الكيمياء.
غالبًا ما تُعتبَر الكيمياء الحيوية غير العضوية مجالًا مُتخصِّصًا، إلا أنه لا يجب الخلْط بين كلمة «مُتخصِّص» وكلمة «ضَيِّق»؛ لأن المُتخصِّصين في الكيمياء الحيوية غير العضوية لا بُدَّ أن يستفيدوا من المَعرِفة المُستمدَّة من كل فروع الكيمياء (شكل ٩-٢). لا بُدَّ، بالطبع، أنهم على دراية بالكيمياء «غير العضوية» للأيونات الفلزية (والعناصر اللافلزية)، ولكنهم أيضًا على دراية بالجُزيئات «العضوية» والأجزاء التي تتفاعل معها، وكثيرًا ما يستخدمون الطُّرق «الفيزيائية» لإجراء قياسات، وبالطبع يتعاملون مع كلٍّ من الجُزيئات البيولوجية أو يَضعُون عملهم في سياقٍ بيولوجي أو كِلا الأمرَين معًا. قد يقود تحديد المدى المطلوب من المعرفة للعمل في مجال الكيمياء الحيوية غير العضوية البعضَ إلى التشتُّت، ولكنه كان بالنسبة إليَّ عنصرَ جذبٍ رائعًا. فبِصِفَتي مُتخصِّصة في الكيمياء الحيوية غير العضوية، أُقدِم على الاستفادة من أحدثِ التطوُّرات في مُختلِف مجالات الكيمياء الفرعية عندما أعمل مع طُلَّابي في المُختبر، وهو ما أجِدُه أمرًا في غاية الإثارة، إلى جانب ما به من تشجيع لي على تطوير صندوق أدوات مُتنوِّع للطُّرق المُستخدَمة لمواجهة المسائل المُهمَّة، والتي تُشكِّل وسيلةً مُثمرة ومُحرَّرة للطاقات لمُمارسة العِلم والتجارب المَعملية. غير أنه قد يكون ضربًا من التحدِّي أن أواكِبَ أحدث التطوُّرات في مجالٍ واسعٍ ويضمُّ تخصُّصاتٍ عديدة، وهو ما يَجعلني راغبةً في القول إنه مثلما تحتاج الحياة بكلِّ أشكالها إلى فلزات، يحتاج المُتخصِّصون في الكيمياء الحيوية غير العضوية إلى الهِمَّة! على الجانب الآخر، يُتيح اتِّساع الكيمياء الحيوية غير العضوية كمجالٍ للعلماء أن يَجِدوا عُنصرًا من مُكوِّنات المجال للتركيز عليه، يتناسَبُ مع مَواطن قُوَّتِهم واهتماماتهم، سواء كان التركيب، أو التحليل الطَّيفي، أو النظرية، أو الكيمياء الحيوية، أو حتى بيولوجية الخلايا. يُمكنك القول إنه يُوجَد شيء يتناسَبُ مع كلِّ شخص.

حسنًا، أتمنَّى أن أكون قد أوضحتُ فِكرة أن غير العضوي لا يَعني غير حي؛ ومن ثَمَّ سيكون السؤال القادم الذي يتبادَرُ إلى ذِهن أي كيميائي هو، «لماذا» تُشكِّل عناصرُ عديدة جدًّا، من ضِمنها الفلزات، ضرورةً أساسية للحياة. تتنوَّع الجُزيئات الحيوية في بِنياتها ووظائفها، والتنوُّع الكيميائي ضرورة أساسية للحياة. وفي ضوء ذلك، يكون من السهل أن تُدرِكي لماذا تقوم الحياة على الكربون، في ظلِّ ما له من كيمياء شديدة التنوُّع، كونه قادرًا على تكوين روابط مع غيره من العناصر في شكل خَطِّي (كما في الأسيتلين)، أو شكلٍ ثلاثي مُستوٍ (كما في الإيثلين)، أو رُباعي الأوجه (كما في الهيدروكربونات)، وتكوين مُركَّبات مع مُعظَم العناصر الأخرى في الجدول الدوري، وتكوين جُزيئات صغيرة ثابتة، وحلقات، وبوليمرات ذات وزنٍ جُزيئي عالٍ. لا يُوجَد عنصر آخَر يمتلك كل هذه السِّمات. ورغم تَعدُّد قُدرات ووظائف الكربون، يُوجَد عددٌ من الأشياء لا تستطيع الجُزيئات العضوية القيام بها بسهولة، على الأقلِّ دون بعض المساعدة، في حِين يسهُل على الجُزيئات غير العضوية القيام بها. أول هذه الأشياء أنَّ الكربون لا يستطيع الارتباط بأكثرَ من أربعِ مجموعات مختلفة، بينما الأيونات الفلزية قد ترتبِط بما لا يَقلُّ عن مجموعة واحدة وحتى ٨ أو ١٠ مجموعات (غالبًا ما تُسمَّى ربيطات). بالإضافة إلى ذلك، يُكوِّن الكربون روابط قوية مُوجَّهة، وبينما تُعدُّ هذه الخاصية مُفيدة للثَّبات، فإنها تجعل تكوين الرابطة وكسرها أمرًا صعبًا. في المُقابل، تستطيع الأيونات الفلزية تكوين روابط ضعيفة نسبيًّا ولكنها ثابتة مع العديد من الربيطات، ممَّا قد يُتيح حدوث تبادُلٍ سهل. ثَمَّةَ طريقة أخرى تُظهِر بها الجُزيئات غير العضوية نشاطًا تَفاعُليًّا مُختلفًا عن الجُزيئات العضوية تتمثَّل في قُدرة العديد من الأيونات الفلزية على استقبال ومَنْح إلكترون في المرة الواحدة بسهولة، وأحيانًا أكثر من إلكترون على نحوٍ مُتتابِع، وتستطيع البقاء ثابتة (غير تفاعُلية نِسبيًّا). وهذا النوع من النشاط أساسي في عملياتٍ مثل التمثيل الضوئي والتنفُّس، التي تلعَب فيها الأيونات الفلزية أدوارًا جَوهرية (وإن كان يُوجَد أيضًا بعض الجُزيئات العضوية التي تعمل كمانِحات ومُستقبِلات للإلكترون). وهذه القُدرة التي تتَّسِم بها بعض الأيونات الفلزية على تغيير حالة الأكسدة بسهولة بِوِحدتَين أو أكثر تجعلها مُكوِّنات قيِّمة للجُزيئات الحيوية التي تُحفِّز التحوُّلات العديدة الإلكترون. وأخيرًا، تستطيع الأيونات الفلزية تحقيق كثافة شُحنة عالية، أي تستطيع أن تحمِل شحنة مُوجبة في حجمٍ صغيرٍ نسبيًّا، ممَّا يجعل الأيونات الفلزية أحماض لويس جيدة، أو مُستقبِلات جيدة لأزواج الإلكترونات، ممَّا يُتيح لها تنشيطَ جُزيئاتٍ أُخرى حسْب الحاجة لإجراء تفاعُلات.

كمثال للخواصِّ المُتميِّزة للفلزات، تأمَّلي وظيفة هيموجلوبين البروتين حامل الأكسجين، الذي يمتلك ذرَّةَ حديدٍ تربِط إما خمس (في الشكل المنزوع الأكسجين) أو ستَّ مجموعات (في الشكل المؤكسَج)؛ فهو قادر على ربط غاز الأكسجين على نحوٍ عكسي، رابِطًا إياه بسرعة في الأنسجة الغنية بالأكسجين فيما يُطلِقه في الأنسجة الفقيرة في الأكسجين، وهو ما يُعدُّ أمرًا لافتًا للنظر؛ لأن الأكسجين عاملُ أكسدة قوي ولا يَتفاعَل عكسيًّا مع الجُزيئات العضوية في العموم (في الحقيقة، نحن نُشير إلى هذا التَّفاعُل بالاحتراق). عندما يرتبِط الأكسجين، يُغيِّر حديد الهيموجلوبين حالته المُؤكسدة النشطة من +٢ إلى +٣، ثُمَّ يعود إلى +٢ عند إطلاق الأكسجين. وتُعدُّ خواصُّ الأيون الفلزي مُهِمَّةً لوظائف الهيموجلوبين.

(٢) فلزات، فلزات، فلزات، على طول الطريق

في ضوء الأنشطة التفاعلية التي تُظهرها الفلزات، لا نجد غرابة في أن المحفِّزات البيولوجية العديدة، المعروفة بالإنزيمات، تستفيد من الأيونات الفلزية (يُشار إليها كعوامل فلزية مساعدة). يمكن أن تكون الإنزيمات أحماضًا نووية، لكن الغالبية العظمى منها عبارة عن بروتينات. ولسوف أشير إلى الإنزيمات البروتينية في هذه الرسالة. تُعزِّز الإنزيمات معدلات التفاعل عن طريق خفْض حواجز الطاقة بين المتفاعلات والنواتج، والواقع أن القدرة على تحفيز التفاعلات تُعتبَر ضرورةً لكل أشكال الحياة. فلا بُدَّ أن تُحفِّز الكائنات الحية تفاعلات لتكسير المواد الغذائية، وبناء الجُزيئات الضخمة، وضخِّ الأيونات عبْر الأغشية، وإصلاح الجينات التالِفة، أو المرور بعملية التمثيل الضوئي. ومن خلال قُدراتها على ربط وتحرير الربيطات، والانخراط في انتقالاتٍ إلكترونية، وتعمل كأحماض لويس، تلعَب الأيونات الفلزية أدوارًا رئيسيةً في كل هذه العمليات. والواقع أن ما بين ٣٠–٥٠٪ من البروتينات تقريبًا تربِط العوامل المُساعِدة الفلزية.

إحدى السُّبل لتوضيح هذه النقطة دراسة الدورات الجيوكيميائية الحيوية للعناصر، وهو من الموضوعات التي شاهدتُ فيها خطبةً جميلة للأستاذ إد ستيفل في بداية حياتي المهنية، وترَكَ لديَّ أثَرًا؛ لأنه أوضح الترابُط بين المُحيط الأرضي والمُحيط الحيوي، وسلَّط الضوء على الأدوار البالغة الأهمية التي تضطلِع بها الإنزيمات الفلزية في هذه الدورات. والمقصود بالدورات الجيوكيميائية الحيوية مجموعة من تفاعلات مُترابِطة مُحفَّزة تُحوِّل العناصر الضرورية للحياة (ومنها الكربون، والهيدروجين، والنيتروجين، والأكسجين، والكبريت، والفوسفور) إلى أشكالٍ مُختلِفة. ولعلَّ أشْيَعَ ما سمعتُ به من بين هذه الدورات دورة النيتروجين، وتُعدُّ الخطوة الأشهر هي تثبيت النيتروجين، وفيها يُحفِّز إنزيم النيتروجيناز تَفاعُلًا ملحوظًا يُختزَل فيه جُزيء النيتروجين الخامل N2 بواسطة ستَّة إلكترونات لإنتاج جُزَيئَين من الأمونيا، وهو شكل من أشكال النيتروجين مُفيد لمُعظم أشكال الحياة. والتثبيت هو مُجرَّد خطوة واحدة فقط من دورة النيتروجين، الموضَّحة في شكل ٩-٣، مع إشارةٍ لأنواع الأيونات الفلزية الداخلة في تحفيز كل خطوة؛ سوف تُلاحِظين أنَّ كل خطوةٍ تحتاج إلى عوامل فلزية مُساعِدة. ويُعدُّ تحديد بِنيَةِ الإنزيمات المطلوبة لهذه الدورة وخواصها وآلية عملها، مثالًا لمجالٍ يخضع حاليًّا لأبحاثٍ مُكثفة في الكيمياء الحيوية غير العضوية. وفي إطار تناوُلنا لطُرق ربط الإنزيمات الفلزية بين تفاعلٍ وآخَر في دورة النيتروجين، تَحضُرني قصة عن عالِم (يتغيَّر اسمُه في مختلِف نُسَخ القصة)، اقتربَتْ منه امرأة عجوز، بعد حديثٍ له عن طبيعة الكَون، وأخبرَتْهُ أنَّ الأرض لا تطفو في الفضاء ولكنها محمولةٌ على ظهْر سُلحفاة. عندما سألها العالِم، ظنًّا منه أنه سيَجعلُها تُغيِّر رأيها سريعًا: ما الذي يرفَع تلك السُّلحفاة، كانت إجابتها «ثَمَّة سلاحِف، سلاحِف سلاحِف، على طول الطريق!» في دورة النيتروجين، تكون الفلزات مُنتشرة على طول الطريق، مع اعتماد كل تفاعُل مُحفز للبروتين الفلزي على الآخر، ولكن دون أن يكون أحد منها بمنزلة نقطة بداية حقيقية.
fig57
شكل ٩-٣: دورة النيتروجين، مع تسليط الضوء على العوامل الفلزية المساعدة المشمولة في كل خطوة. (المصدر: مقال «الدورات البيوكيميائية للعناصر النادرة في المُحيطات»، بقلم إف إم موريل، وإن إم برايس. دورية ساينس ٢٠٠٣، العدد ٣٠٠، ٩٤٤–٩٤٧.)

(٣) هل تَرَين ما أراه؟

كان مصدر الإلهام لبعض الدراسات المُبكرة في الكيمياء الحيوية غير العضوية هو ما رآه العلماء رأْيَ العين بمعنى الكلمة؛ فقد قادت حِدَّة اللون الأزرق المُميِّز لبروتينات النحاس الزرقاء علماء الكيمياء غير العضوية إلى إدراك أنَّ ثمَّةَ شيئًا مميزًا فيما يتعلق بمحيط أيون النحاس في هذه البروتينات، كما تيسَّر اكتشاف بروتينات الهِيم المُسمَّاة سيتوكرومات، بفضل كونها المواد الأكثر حِدَّةً في لونها، المُستخلَصة من الخلايا («سيتو» و«كروم» تعنيان «خلية» و«لون» على التوالي). إن ظهور اللون يكون نتيجة للامتصاص الانتقائي لأطوال مَوجية خاصة لضوء مَرئي مُنبعث من مادةٍ ما، وهذا الامتصاص الانتقائي للضوء وفقًا للون (الذي يُناظِر التردُّد) من شأنه أن يصِف أيضًا نَوعًا من التحليل الطيفي، الذي يُعرَّف بأنه دراسة تفاعُل الإشعاع الكهرومغناطيسي مع المادة، ويأتي في عِدَّة أشكالٍ مُختلِفة. كذلك يُقاس امتصاص الضوء المرئي، بالإضافة إلى الأشعة فوق البنفسجية والأشعة تحت الحمراء القريبة بالتحليل الطَّيفي الإلكتروني، ولكن هذا يمثل جُزءًا صغيرًا من الطيف الكهرومغناطيسي (شكل ٩-٤). تستخدم الطُّرق الطيفية طاقاتٍ مُختلِفة للإشعاع، ومن ثَمَّ تستكشف الخواص المتنوعة للجُزيئات الحيوية بدقَّة. ومِن أمثلة الطُّرق الطيفية التي تَستخدِم إشعاعًا مُنخفِض الطاقة (في نطاق التردُّد الراديوي) الرنين المغناطيسي النووي، الذي يستكشف انتقالات اللفِّ المِغزَلي النووي الفردي. وتُفيد هذه الطريقة في الحصول على معلومات بِنيوية؛ لأنها تُقدِّم معلوماتٍ عن مُحيط كلِّ نواة. وللحصول على معلوماتٍ حول الغزْل الإلكتروني، نحتاج إلى استخدام إشعاع ميكروويف أعلى قليلًا في الطاقة، وهو الإشعاع الذي يُستخدَم في التحليل الطيفي بالرنين البارامغناطيسي الإلكتروني. لدَيْنا على الجانب الآخر الطُّرق الطيفية العالية الطاقة، مثل التحليل الطيفي لامتصاص الأشعة السينية، التي تَستخدِم إشعاعًا عالي الطاقة لاستثارة إلكترونات مُقيَّدة بإحكام، وتقدِّم معلومات حول البنية المَوضعية حول فلز مُحدد. وقد لعِب علماء الكيمياء الحيوية غير العضوية، منذ تأسيس المجال، أدوارًا في تطوير طُرقٍ طيفية جديدة وتطبيقها؛ فالبيئات المُثيرة وغير العادية التي تجِد فيها الفلزات نفسها في الجُزيئات البيولوجية تجعلها تكتسبُ خواصَّ تستدعي إخضاعها للدراسة الطيفية. بالإضافة إلى ذلك، توفِّر الطُّرق التي تستكشف الفلز نفسه مُباشرة طريقة «لفصل» موقع الفلز عن باقي جُزيءٍ حيويٍّ كبير، أو حتى عن مكونات أخرى داخل الخلية الحية، وهي وسيلة للحصول على معلومات شديدة التفصيل عن موقع فلزٍّ ما حتى لو كان مُجرَّد مُكوِّنٍ مُتناهي الصغر في نظامٍ بالغ التعقيد.
fig58
شكل ٩-٤: تردُّدات الإشعاع (في ث−١) لبعض الطرق الطيفية المُستخدمة من قِبَل علماء الكيمياء الحيوية غير العضوية. يَتوازى التردُّد العالي مع الطاقة العالية.

تعتمِد المعلومات التي تستطيعِين الحصول عليها من التحليل الطيفي بالتأكيد على الطريقة التي تَستخدمينها؛ فرُبَّما تَكونين قادرَةً على تحديد التركيب الجُزَيئي، أو تَماثُل موقع الفلز، أو التحرُّكات الجُزيئية، أو طاقات اهتزاز الروابط، أو الطاقات المَدارية، أو المسافات بين أنوية مُعينة، أو طاقات التفاعلات بين الإلكترونات، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. إن الطرق الطيفية تُشكِّل صندوقَ أدوات قويًّا! ثمَّةَ شيءٌ مُهِمٌّ عليكِ أن تَعِيه جيدًا، وهو أنَّ ما تَرَيْنَهُ يعتمد، كما هو الحال مع كلِّ القياسات، على كيفية رُؤيتك لشيءٍ ما. تَأمَّلي تلك القصة الخُرافية حول مجموعة من الأشخاص يتفحَّصون فِيلًا باللَّمس فقط؛ حيث يلمس كلٌّ منهم جُزءًا مُختلفًا من الفيل (الخرطوم، والناب، والساق)، ومن ثَمَّ يتوصَّل كلٌّ منهم إلى استنتاجٍ مُختلف تمامًا حول سِمات الحيوان. بالمِثل، ربما يَمنحك استخدام طريقةٍ طيفية واحدة إجابةً ظاهرية مُختلفة عن طريقةٍ أخرى، وهذا هو السبب الذي يدفع عُلماء الكيمياء الحيوية غير العضوية في الغالب لاستخدام طُرق عديدة مُختلفة. ومع ذلك، في بعض الحالات، يكون لدينا بِضع طُرقٍ فقط نستطيع أن نَستخدمها؛ فالفلزات ذات «الأغلِفة المُغلقة» (أي كلُّ مدارات التكافُؤ مُمتلِئة) من الصعب استكشافها باستخدام التحليل الطيفي. ولسُوء الحظ، يشمل هذا عددًا من الفلزات المُهمَّة بيولوجيًّا، مثل الكالسيوم، والماغنسيوم، والزنك. ويَجري الآن تطوير طُرقٍ جديدة، سأُعلِّق عليها بعد قليل، للمساعدة في دراسة هذه الفلزات.

كانت تَجارِب الكيمياء الحيوية غير العضوية، على مدى مُعظم تاريخها، تُجرى على عَيِّناتٍ مُنتَقاة من جُزَيءٍ حيوي فلزي مُركَّز في محلولٍ مائي مُنظِّم (رغم أن بعض التجارب قد أُجرِيَت على عيِّناتٍ مُجمَّدة أو مواد صُلبة). بالإضافة إلى ذلك، يتمُّ اختيار تركيز الجُزيء الحيوي والوسط الذي يحتويه المُستَخدَمَين في تجربةٍ ما، عامَّة، طبقًا لمُتطلَّبات التجربة وليس وفقًا لماهية بيئة مَوقع الجُزيء. وهذا ليس بالمنهج المَنطقي؛ لأنَّ الجُزيئات الحيوية الكبيرة مُعقَّدة تمامًا بطبيعتها، ومن أجل الحصول على معلومات تفصيلية عن بِنيتها ووظيفتها، يكون من المُفيد، بل من الضروري، ألا يكون لديكِ موادُّ أخرى موجودة قد تتداخَل مع إجراء القياسات أو تفسير البيانات أو كليهما. وأيًّا كان الحال، فنادِرًا ما نَعرِف البيئة الحقيقية التي يتعرَّض لها الجُزيء الحيوي عندما يقوم بوظيفته داخل الخلية، إن عرفناها من الأساس، وإن كُنَّا نعرِف أن البيئة الخلوية مُختلفة تمام الاختلاف عن محلولٍ مائي مُنظِّم بسيط. فالجُزء الداخلي من الخلية «يتَّسِم بالفوضى» على نحوٍ بالغ؛ إذ يكتظُّ بمَقصورات وعُضيَّات عديدة، ومجموعة كاملة من الجُزيئات الكبيرة ومواد أيْضيَّة من بينها أنواعٌ ربما تكون تفاعُلية (مثل المواد المُؤكسِدة أو المُختزلة)، والتي ربما تُربِك بِنية الجُزيئات الحيوية ونشاطها (مثل الرُّبيطات والأغشية). وقد فكَّر علماء الكيمياء الحيوية غير العضوية أكثر ممَّا اعتادوا بشأن الكيمياء غير العضوية داخل الخلية، والتي تشمل خواص الجزيئات الحيوية الفلزية وسلوكها في مُحيطٍ خلوي، بالإضافة إلى السؤال الخاص بكيفية ضبط الخلايا لمُستويات الأيونات الفلزية داخلها. ولعلَّ ممَّا يجعل السؤال الثاني مُهمًّا في سياق الكيمياء غير العضوية والطب حقيقة أنه يُوجَدُ مدًى محدود للتركيز «الصحي»، يُشير الانخفاض عنه إلى وجود نقص، فيما يعني الارتفاع فوقَهُ وجودَ سُميَّة، لكل الأيونات الفلزية على كلٍّ من المُستويات الخلوية والعضوية.

تتطلَّب دراسة الأيونات الفلزية والجُزيئات الحيوية الفلزية داخل الخلايا وضْع طُرق تسمح بالكشف النوعي، الحسَّاس والسريع داخل المحيط الخلوي المُعقَّد. وقد ركَّزَتْ بعض الدراسات في هذا المجال على إجابة السؤال السَّهل المُخادع: «ما هو تركيز الفلز في الخلية؟» مُستعينةً في ذلك بتقنيات الكيمياء غير العضوية التقليدية المُطبَّقة بذكاء على المُحيط الخلوي. وتُشير الشواهد إلى أن مُستويات الأيونات الفلزية الحُرَّة (أي غير مُرتبطة بِجُزيئاتٍ أخرى) قليلة جدًّا، ممَّا يُلمِح إلى تحكُّمٍ شديد في مُستويات الأيونات الفلزية في الخلية. وقد ساعد الرَّبط مع خِبرة العلماء البيولوجيين في توجيه السؤال الاستيضاحي التالي: «كيف تتحكَّم الخلية في مستويات الأيونات الفلزية؟» من خلال تجميع طُرق من مجالات عِلم الوراثة، والكيمياء غير العضوية، وعِلم الأحياء البنيوي، أُحرِز تقدُّمٌ عظيم في فَهم كيفية استهلاك الخلايا للأيونات الفلزية وإفرازها وكيفية تحقيق الخلايا تَحكُّمًا شديدًا في مُستويات الأيونات الفلزية. ولعلَّ من الاكتشافات التي تم التوصُّل إليها في هذا الصَّدد أنَّ الخلايا تستخدم بروتيناتٍ تُسمَّى الوصيفات الفلزية (أوشابرونات) لربط الفلزات ونقْلِها داخل الخلية. كذلك اكتُشِف أن البروتينات تعمل كمُستشعِرات للأيون الفلزي في الخلية، من خلال ربْط أيون فلزي مُعيَّن والمرور بتغيُّر في الشكل يُحفِّز عملياتٍ أخرى في الخلية مُتصلة بالتحكُّم في مُستويات هذا الأيون الفلزي. وقد أُجري هذا العمل على أيونات فلزات مثل الزنك، والمنجنيز، والحديد، والنحاس، وأيضًا على مجموعات الهيم المحتوية على الحديد.

ثَمَّة نهجٌ مُختلف، ولكنه ذو صِلة، لدراسة الكيمياء غير العضوية في الخلية يتضمَّن تطوير مجسَّاتٍ كيميائية نافذة للخلايا للأيونات الفلزية. ولهذا الأسلوب أهمية خاصة للأيونات الفلزية «الساكنة طيفيًّا». ويُطلق على هذه الجُزيئات أيضًا مُستشعِرات؛ لأنها تُعطي إشارةً لوجود أيون فلزي للباحث العملي. ويُمثِّل تَصميم مُستشعِرات الأيون الفلزي تَحدِّيًا مُهمًّا لعلماء الكيمياء غير العضوية لكثرة مُتطلَّباتها. ولسوف أستخدِم استشعار الزنك كمثال؛ نَظرًا لِما جذَبَهُ من انتباهٍ مُؤخَّرًا. لا بُدَّ أولًا أن يُظهِر المُستشعِر تغيرًا جوهريًّا في التألُّق الضوئي عند ربط الزنك، ويُفضل أن يكون هذا التغيُّر مصحوبًا بزيادةٍ في وجود الأيون (إذ يَصعُب تفسير فقدان الإشارة أو غيابها). ويُعدُّ التألُّق هو الإشارة المُفضلة؛ نظرًا لإمكانية كشفها حتى على مستوى الجُزيئات المُنفردة وفي وجود بِنًى وجُزيئاتٍ أُخرى داخل الخلية. ولا بُدَّ أن يكون لدى المُستشعِر انتقائية للزنك عن جميع الأيونات الفلزية والمكونات الأخرى داخل الخلية، بما فيها تلك التي تُوجَدُ بتركيزاتٍ أعلى من الزنك. كذلك يجِب أن تكون قابِلية المُستشعِر للزنك عالية بما يكفي لربطِهِ عند تركيزات مُنخفضة، ولكن دون أن تكون مُرتفعة بما يتعذَّر معه إطلاق الزنك عند استشعار وجود نقصٍ كبيرٍ في تركيز الزنك. سوف تُتيح قوَّة الربط المُثلى هذه قياس التغيُّرات في تركيز الزنك مع الوقت (أي التدفُّق)؛ ولكي يكون المُستشعِر قادرًا على التحكُّم في التدفُّق، يجِب أيضًا أن يربط الزنك بطريقةٍ سريعة وقابلة للعكس. ولاستخدامه في الأنسجة الحيوية، يُفضَّل أن تكون لديه القُدرة على إحداث فلورة بواسطة ضوء تألقي ذي طاقة مُنخفِضة (بحيث يكون مَرئيًّا للأشعة تحت الحمراء القربية)، وينبغي أن يكون قابلًا للذوبان في الماء وثابتًا مع الوقت. والوضْع المثالي أن يكون غير سامٍّ، وهو ما يَسمَح له بأن يُستخدَم في الكائنات الحيَّة ورُبما للتطبيقات الطبية.

إن تحقيق كلِّ هذه المُتطلَّبات يُشكِّل تَحدِّيًا إلى حدٍّ كبير كما هو واضح! رغم ذلك، ثَمَّةَ تطوُّرات مُبهِرة قد طرأتْ على هذا المجال؛ فقد طُوِّرَ عددٌ من مُستشعِرات الزنك، كان من بينها بعض المُستشعِرات التي تُظهِر نشاط «إضاءة»، أي أنها تُصبِح مُتفلورة عند ربط الزنك. عادةً ما يحتوي تصميم المُستشعِر على جُزءٍ يتكوَّن من جُزيءٍ فلوري معروف ومُثير يُمكن أن يُغيِّر شِدَّة فلورة المُستشعِر عند ربط الفلز (شكل ٩-٥). بعض المُستشعرات صُمِّمت بحيث تُمتصُّ داخل الخلايا، ممَّا يسمح باستشعار الزنك داخلها. وقد أظهرتْ هذه الأنواع من المُستشعِرات فَعاليتها في تصوير المناطق الغنية بالزنك في أدمغة الثَّدْيِيَّات (شكل ٩-٥). وهذا الأسلوب في فحْص الأنواع غير العضوية في الخلية يسمَح لعالِم الكيمياء غير العضوية بالغَوص في بيئة الخلية الداخلية، مُحقِّقًا بذلك دمجًا حقيقيًّا للكيمياء غير العضوية بالأحياء.
fig59
شكل ٩-٥: تركيب مُستشعِر الزنك ZnAF-2F يُظهِر الفلوروفور والأجزاء المُحفزة (إلى اليسار). كما يَعرِض صورًا فلورية لشرائح من قرن أمون من مُخِّ فأر مُحمَّلة بمُشتقٍّ نافذ للخلية من المُستشعِر ZnAF-2F (إلى اليمين). أما المنطقة اللامعة، فتُشير إلى موقع تركيز الزنك. (مُقتبَس من مقالٍ بقلم تي هيرانو، وكيه كيكوشي، وواي أورانو، وتي ناجانو بعنوان: «تحسين المجسَّات الفلورية للزنك، ZnAF، وتطبيقاتها الحيوية». مجلة الجمعية الأمريكية للكيمياء ٢٠٠٢، ١٢٤، ٦٥٥٥–٦٥٦٢.)

(٤) لقدْ خطرتِ الفلزات بذهني

الآن وقد أعطيتُكِ نظرةً عامَّة مُستفيضة عن أنواع الجُزيئات المدروسة والتقنيات المُستخدَمة في مجال الكيمياء الحيوية غير العضوية الرحيب، أودُّ أن أُخبركِ أكثرَ قليلًا عن بعض مجالات الدراسة في هذا المجال. أعلم تمامًا مدى تنوُّع اهتماماتك، ولكنك ذكَرْتِ أن تطبيق الكيمياء لدراسة المُشكلات الطبية الحيوية مجالٌ جاذِب لك. لذا سوف أُركز على هذا المجال في أمثلتي التي تتعلَّق بدور الأيونات الفلزية في مرض ألزهايمر، واستخدام الفلزات كمواد صيدلانية.

كان لإدراك الأدوار الأساسية التي تلعبها الفلزات في الجهاز العصبي المركزي أثره في ظهور مجال «الكيمياء العصبية الفلزية»، الذي أشرتُ إليه سريعًا عندما كتبتُ لك عن استشعار الزنك في أنسجة الدماغ. ومثل كل جوانب الكيمياء الحيوية غير العضوية، يُعدُّ هذا المجال في حدِّ ذاته مجالًا مُتَّسِعًا للغاية، ويشتمل على دراسات، مثل تطويرِ مجسَّاتٍ لفلزاتٍ ذاتِ صِلة بالاضطرابات العصبية، وتوصيف تركيب قناة أيونية، وتحليل البروتينات الداخلة في نقْل وتوصيل الإشارات بواسطة الكالسيوم في الجهاز العصبي، وفحص تأثيرات الرَّصاص على الدماغ على المُستوى الجُزيئي.

من الاضطرابات العصبية التي تضْطَلِع فيها الأيونات الفلزية بدَوْرٍ بارزٍ مَرَض ألزهايمر، الذي يُعدُّ الشكل الأكثر شُيوعًا للخَرَف، وهو مرَض قاتل وتَصاعُدي، يتميَّز بتكوين لُويحات بروتينية في الدماغ. تتكوَّن هذه اللويحاتُ من بِنًى مُمتدَّة لوحدات تكرارية من ببتيد يُعرَف باسم أميلويد بيتا، وتُسمَّى هذه الوحدات ألياف الأميلويد. تُشكل ببتيدات أميلويد بيتا بِنًى موضعية مُنتظمة الشكل تُعرَف بلُويحات بيتا، والتي تُعدُّ سِمة شائعة للعديد من البروتينات القابِلة للذوبان. غير أنه في حالة أميلويد بيتا، تُشكِّل هذه البِنى التكرارية تجمُّعاتٍ غير قابلة للذوبان (شكل ٩-٦). ثَمَّةَ تساؤلات كثيرة رائعة تُحيط بأميلويد بيتا ومرَض ألزهايمر، من بينها أنه بالرغم من أن هذه اللُّويحات تكون موجودة دائمًا لدى مرضى ألزهايمر، فإن دور اللويحات في تقدُّم المرض غير معروف عمومًا. ثانيًّا: يُوجَد ببتيد أميلويد بيتا في أدمِغة الأشخاص الذين لا يُعانون من ألزهايمر، ووظيفته مجهولة، على الرغم من وجود أدلَّة تُشير إلى أنه ربما يلعب دورًا في الذاكرة أو ربما يكون له نشاط عصبي واقٍ. ثالثًا: تَبيَّن أن ببتيد أميلويد بيتا يُمكن أن يتعرَّض لتغيُّرٍ في الشكل يُعرَف بسُوء الطي، والذي يُمكِن أن يُؤدِّي إلى زيادة تكوُّن ألياف الأميلويد، ولكن الأسباب المُؤدِّية إلى حدوث هذا التغيُّر الشكلي غير مفهومة. في الحقيقة، إن مرض ألزهايمر يفرِض على الكيميائيين مُواجهة تحدِّيات مُثيرة.
fig60
شكل ٩-٦: نماذج بنيوية لمُعقَّدات تجمَع بين النحاس وببتيدات مُشتقَّة من سلسلة أميلويد بيتا الببتيدية. (أ) نموذج مُقترَح للتَّرابُط التَّناسُقي مع نموذج ببتيد يَمنعُ فيه ربْطُ النحاس تكوين الألياف. (ب) البنية البلورية لمُعقَّد ببتيد-نُحاس يُعزِّز فيه الرَّبطُ تكوين الألياف. (ﺟ) نموذج بِنيوي لترتيبات بِبتيديَّة في الألياف. باستثناء سلسلة هستيدين جانبية، لا يظهر في الشكل سوى السلسلة الرئيسية للببتيد. تُمثَّل أيونات الزنك في صورة كراتٍ صغيرة، بينما تشير الخطوط المُنقَّطة إلى وجود رابطة هيدروجينية بين ببتيدات مُرتَّبة في لُويحة بيتا مُوازِية. (مقتَبس من ملخَّص بحثي بقلم جيه دونج، وجيه إم كانفيلد، وإيه كيه ميتا، وجيه إي شوكس، وبي تيان، ودبليو إس تشايلدرز، وجيه إيه سيمونز، وزد ماو، وآر إيه سكوت، وكيه وورنكي، ودي جي لين، بعنوان: «تصميم أيون فلزي تَناسُقي لضبْط تجمُّع ألياف الأميلويد وَسُمِّيَّتها». من مَحاضِر جلسات الأكاديمية الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة الأمريكية ٢٠٠٧، ١٠٤، ١٣٣١٣–١٣٣١٨.)
إذن، من أين تدخُل الكيمياء غير العضوية في الصورة؟ إنها تبدأ من مُلاحظات تُفيد بأن مُستويات أيونات الزنك والنحاس كانت مُرتفعة ارتفاعًا غير طبيعي في أدمغة مَرضى ألزهايمر. ومن ثَم، وُجِد أن هذه الأيونات الفلزية يُمكن أن ترتبط بأميلويد بيتا بطُرقٍ مختلفة، وأنَّ الزنك والنحاس ربما يلعبان دورًا في تكاثُر ألياف الأميلويد بواسطة ببتيدات تشابُكية. ومِمَّا اكتُشِف في الآونة الأخيرة أن طبيعة المجموعات من ببتيد أميلويد بيتا التي ترتبط بأيونات النُّحاس يُمكِن أن تلعب دورًا في تزايُد التجمُّع أو تثبيطه؛ فعندما يرتبط النُّحاس في شكلٍ أو ترتيبٍ مُعيَّن، يمنع التجمع، بينما الربط في ترتيب مُختلِفٍ يُعجِّل التجمع (شكل ٩-٦). وكشفت دراسات مُصاحِبة على الخلايا العصبية للفئران أن شكل النحاس-الببتيد الذي لم يتجمَّع لم يكن سامًّا، بينما الشكل الذي تجمَّع كان سامًّا. وتدلُّ هذه النتائج على وُجود صِلة مُباشرة بين الكيمياء غير العضوية لتفاعُلات الفلز-الربيطة ووجود تأثير بيولوجي في الخلية ذات الصِّلة لفهم أسباب مرض ألزهايمر. ثَمَّةَ دراساتٌ أُخرى في مجال الكيمياء الحيوية غير العضوية تُقدِّم خلفية مُهمَّة لهذا العمل، وتضمُّ دراسات أساسية على ربْط النحاس بربيطات صغيرة وببتيدات، وتحليلات لكيفية تأثير الفلزات على بِنية الببتيد والبروتين والتغيُّرات التي تطرأ على أشكالها. ومع استمرار تعمُّق فَهْمِنا لكلِّ هذه الظواهر، تتزايد الفُرَص لتطوير علاج شافٍ لهذا المرَض المُدمِّر. بالإضافة إلى ذلك، قد تؤدِّي معرفة كيفية تطوُّر ألزهايمر إلى توفير دلائل تتعلَّق بكيفية منع حدوثه من الأساس.

(٥) عقاقير من «ذهب»

تقع دراسات أدوار الأيونات الفلزية في مرَض ألزهايمر ضِمن مجال «الفلزات في الطب». وبالإضافة لتحليل الكيفية التي تلعَب بها الأيونات الفلزية الموجودة طبيعيًّا داخل كائنٍ حيٍّ دورًا في الصحة والمرَض، يشتمِل هذا المجال أيضًا على دراسة تأثيرات الفلزات المدخلة إلى الجسم، سَواء دُون قصد (مثل الزئبق في سوشي التونة التي تتناولها)، أو عن قَصْد في شكل عقاقير تحتوي على فلزات. أعتقد أني سأكتب قليلًا حول المُستحضَرات الصيدلانية الفلزية، التي تُعدُّ مجالًا ذا تاريخٍ طويل ومُبشِّر باستمرار.

من أكثر العقاقير القائمة على الفلزات نجاحًا سيسبلاتين وكربوبلاتين، وهي مُعقَّدات بلاتينوم (الثنائي) تُوصَف على نطاقٍ واسعٍ لعلاج عدد من أنواع السرطان، خاصةً سرطان الخِصية والمِبيَض. ولعلَّ أكثرَ ما يلفِتُ النظر في هذه العقاقير، في رأيي، مدى بساطة تركيبها؛ بالنظر إلى كون السِّيسبلاتين مُعَقَّدًا تناسُقيًّا بسيطًا (شكل ٩-٧أ). أذكر أنني كنت في مثل عُمرِك تقريبًا عندما سمعتُ لأول مرَّة عن العقاقير غير العضوية، وكان أول ما تساءلتُ بشأنِه هو: «كيف لشخصٍ أن يُفكِّر في أخْذِ مُركَّبٍ بلاتيني لعلاج السرطان؟» إنَّ القصة وراء كيفية اكتشاف نشاط السيسبلاتين المُضاد للسرطان، في الحقيقة، مُثيرة للغاية، إلى جانبِ ما تُقدِّمه لنا من إيضاحٍ لكيفية تطبيق العلم في «العالَم الواقعي»؛ ولهذا السبب، أعتقد أنها تستحقُّ أن أُوجِزها لك هنا.
fig61
شكل ٩-٧: تركيبات (أ) cis-Pt(NH3)2Cl2 (سيسبلاتين)، (ب) trans-Pt(NH3)2Cl2، و(ﺟ) أورانوفين.
كان مُكتشِف نشاط السيسبلاتين المُضاد للسرطان هو بارنت روزنبرج، وهو أستاذ في الكيمياء والفيزياء الحيوية بجامعة ولاية ميشيجن. والمُثير في قصته، رغم كونه شيئًا مألوفًا، أنَّ بحثَهُ لم يكن مُوجَّهًا بأيِّ حالٍ نحو تطوير عقَّار مُضاد للسرطان أو حتى مُعقَّدات البلاتين، بل كان اهتمامه مُنصبًّا على معرفة تأثير تطبيق مجال كهربي على نُموِّ البكتيريا. عند إجراء تجربته لاحَظ أن البكتيريا الإشريكية القولونية E. coli التي أنماها في وجود مجال كهربي أصبحتْ أكثر طولًا بالمُقارنة بالإشريكية القولونية العادية بسبب تثبيط انقسام الخلية. ونظرًا لإجرائه تجاربَ ضابِطة دقيقة، قرَّرَ الأستاذ روزنبرج أن ما أثَّرَ على البكتيريا ليس المجال الكهربي، بل مُركَّب نتجَ أثناء التجربة. واتَّضَح أن أقطاب البلاتين تفاعَلَتْ مع مكوِّنات مُستنبت النمو البكتيري، مكوِّنةً مُركَّبات بلاتينية (ثنائية). وأظهرتْ تجاربُ أُخرى أنه كان مُعقد البلاتين ذي الصيغة Pt(NH3)2Cl2 هو المسئول عن هذا النشاط، تحديدًا الأيزومر cis-Pt(NH3)Cl2 (شكل ٩-٧أ)، المعروف أيضًا باسم سيسبلاتين. واللافِت أنَّ الأيزومر الآخر trans-Pt(NH3)Cl2 (شكل ٩-٧ب) لم يكن له التأثير ذاته.
كان الاكتشاف في حدِّ ذاته في غاية الإثارة، لكن الأستاذ روزنبرج لم يتوقَّف عند هذا الحد؛ إذ أدرَكَ أن قُدرة السيسبلاتين على وقْفِ انقسام الخلية يُمكن أن تكون لها قيمة علاجية ضِدَّ السرطان، ومضى يَختبِر نَشاطه ضدَّ الأورام لدى الفئران، وكانت هذه التجارب ناجحة، وفي عام ١٩٧١، دخل السيسبلاتين في تجارب إكلينيكية على البَشَر ولا يزال حتى يَومِنا هذا من العقاقير المُهمَّة المُضادَّة للسرطان. وفي سبيل الوصول إلى هذه النتيجة النهائية، كان على الأستاذ روزنبرج ألا يسمح لنفسه باتِّباع فرضيات بسيطة، وكان عليه أن يكون على استعداد لاستكشاف مجالٍ بَحثيٍّ جديد. وما زالت الدراسات على نشاط السيسبلاتين والمُركَّبات ذات الصِّلة مُستمرة، ووفَّرت معلومات قَيِّمة عن آلية عمله على المستوى الجُزيئي، بما في ذلك كيفية ارتِباطه بالحمض النووي ليجعله ينحرِف عن مِحوَره اللَّولبي (شكل ٩-٨). وتُوفِّر هذه المعلومات الجوهرية أساسًا قيِّمًا لتطوير عقاقير أُخرى مُضادَّة للسرطان.
fig62
شكل ٩-٨: تركيب الناتج المُتكوِّن بين السيسبلاتين والحمض النووي، والذي حدَّده التصوير البلوري بالأشعة السينية. يَظهَر البلاتين باللون الأسود، بينما تظهر قاعدتا الحمض النووي اللَّتان تَربِطان البِلاتين كعِصِي. لاحظ انحِراف الحمض النووي عن مِحوره الحلزوني المُستقيم بطبيعته. (وَضَع التركيب كلٌّ من: يو إم أوندورف، وإم إيه رونالد، وكيو هي، وسي أو بابو، وإس جيه ليبارد الأساس لمعرفة الحمض النووي المُعدَّل بفعل السيسبلاتين بواسطة بروتينات إتش إم جي. دورية «نيتشر» ١٩٩٩، ٣٩٩، ٧٠٨–٧١٢.)
فئة أخرى من العقاقير غير العضوية التي وجدتِ استخدامًا إكلينيكيًّا واسعًا هي مُركَّبات الذهب (في شكل Au(I)) المُستخدَمة في علاج التِهاب المفاصل الروماتويدي، أحد أمراض المناعة الذاتية. وبالرغم من أن عقاقير الذهب مثل أورانوفين (شكل ٩-٧ﺟ) قد أظهرت بعض النجاح في الحدِّ من الأعراض؛ فلم يَعُدْ هناك إقبالٌ على استخدامها خلال السنوات الأخيرة، نظرًا لظهور علاجاتٍ ذات مفعول أسرع وتأثيرات جانبية أقلَّ في السوق. لا تزال مُعقدات الذهب في حَيِّز الاستخدام، ولكن فقط كملاذٍ أخير. وكان ممَّا أعاق تحسين عقاقير الذهب أن الآلية التي تعمل بها في مُكافحة التِهاب المفاصل الروماتويدي لا تزال غامِضة، على الأقلِّ حتى الآن. في أوائل عام ٢٠٠٨، ذُكر أن أملاح الذهب تَعوق إطلاق بروتين يُعرَف ﺑ HMGB1 من نَواةِ الخلية، وهي عملية تلعب دَورًا في تعزيز الالتهاب، الذي هو سِمَةٌ مُميِّزة للمرَض، ويتمُّ ذلك من خلال تثبيط جُزَيْئين آخَرَين، بروتين إنترفيرون بيتا والجُزيء الصغير أكسيد النيتريك، وهي عوامل تُعزِّز إطلاق HMGB1. والمُثير في الأمر احتواء السائل الذي يَحمي المفاصل على قدْرٍ أكبرَ بكثير من بروتينات HMGB1 من الأنسجة الأخرى في الجسم، وهو الاكتشاف الذي أيقظ من جديدٍ الاهتمام بأملاح الذهب كعِلاجات لهذا المرض. ومع تطوُّر فَهْم تأثير الذهب على نحوٍ أفضل، ربما يُمكِن تصميم علاجات قائمة على الذهب أسرع تأثيرًا وأكثر أمْنًا. قد تأتي التَّحسينات في العقاقير في شكل الذهب المُستخدَم في العلاج أو طريقة توصيل الدواء للمواضِع المُستهدَفة أو كليهما معًا. من التطوُّرات الإضافية المُفيدة في هذا الصَّدد الحصول على معلومات أكثر على المستوى الجُزيئي عن كيفية تداخُل الذَّهب مع الجزيئات المساهمة في إطلاق HMGB1. ويُعدُّ هذا العمل مثالًا جيدًا يُوضِّح كيف يمكن لدراسةِ آلية عمل الجُزيئات على مُستوًى أساسي أن يكون لها تأثير إيجابي على حياة الناس.

إنَّ مُركبات البلاتين والذهب التي كتبتُ عنها هنا ما هي إلا أمثلة قليلة للعقاقير غير العضوية. ثمَّةَ عقاقير أخرى تُستخدَم حاليًّا، تشمل مُعقدات الجادولينيوم والتكنيشيوم التي تعمل كعوامل تبايُن للتصوير الطبي، والبلومايسين المُحتوي على الحديد، وهو عامل مُضاد للسرطان، وأملاح الليثيوم المُستخدَمة لعلاج الاضطراب الثنائي القطب، وأملاح الكالسيوم والماغنسيوم المُستخدمة كمُضادَّات للحموضة. وتشمل التطوُّرات الحديثة إدخال الفلزات في الطب والكيمياء النانوية (أو كيمياء الجُزيئات الفائقة) التي تقَع تحت مِظلة «طب النانو». وممَّا يحظى بأهمية خاصة استخدام الجُسيمات النانوية غير العضوية كعوامل لتوصيل الدواء وكعوامل تصوير. يجِب أن تسألي الأستاذ كوهين في جامعة كاليفورنيا في سان دييجو أكثر عن هذه الأمور؛ لأنه خبير في هذا المجال.

إن استخدام الفلزات في الطب مجالٌ جاذِب لمن تَستهويهم فكرة تطوير عقاقير سوف يكون من شأنها تخفيف الأعراض وعلاج المرض، أي فكرة إحداث تأثير إيجابي ومُباشر على حياة الناس. من المُهمِّ أن تَضعي في اعتباركِ أن الطريق لتطوير عقَّار جديد طويل، ومُعبَّد بالصدفة كما يتبيَّن من قصة السيسبلاتين. ولكن أي دراسات تُعزِّز فَهْمَنا لكيفية تفاعل الفلزات مع الجُزيئات الحيوية، وكيفية تعامُل الخلايا والأنسجة مع كلٍّ من الأيونات الفلزية الطبيعية والمُدخلة، وكيفية مُساهمة الفلزات الموجودة طبيعيًّا في سلامة وظائف الخلية؛ سوف تُعزِّز قاعدة معرفتنا الأساسية التي هي ضرورية ليس فقط لتطوير العقاقير، ولكن أيضًا لفَهم كيفية ظهور الأمراض وتطوُّرها. وفي النهاية، فإنَّ أي مجالٍ بَحثي يَستهويكِ هو مجال سوف تتفوقين فيه، وسوف يكون وسيلةً يُمكنك بها التأثير في عالمنا؛ فمن المُثير والمُلهِم حقًّا أن تَسلُكي مسارًا مهنيًّا تُحقِّقين من خلاله إسهامًا علميًّا بأوسع مَعانيه ومن ثَمَّ للإنسانية. وهذا يَسري على أيِّ مجالٍ تُقرِّرين دخوله. آمُل أن تَعتبري الكيمياء الحيوية غير العضوية مجالًا مُتخصِّصًا في الكيمياء لأنه في رأيي، الذي لا أُنكِر أنه مُنحاز، يُتيح فُرَصًا عظيمة ويُقدِّم مجموعةً مُثيرة من المُشكلات للدراسة وطُرقًا للتطبيق. أتمنَّى لكِ الأفضل في مساركِ المِهني المستقبلي، وأتوقَّع أن أراكِ ثانيةً، ربما في مؤتمر، ربما في مكانٍ بعيدٍ مُثير.

مع أطيب أمنياتي
كارا

قراءات إضافية

  • Bertini, I.; Gray, H. B.; Stiefel, E. I.; Valentine, J. S. Biological Inorganic Chemistry: Structure and Reactivity, University Science Books, Sausalito, CA, 2007.
  • Bioinorganic Chemistry: Biocatalysis and Biotransformation. Current Opinion in Chemical Biology 2007, 7(2), 113–240.
  • Bioinorganic Chemistry Special Feature. Proceedings of the National Academy of Sciences of the United States of America 2003, 100(7), 3562–622.
  • Metals: Impacts on Health and the Environment. Science 2003, 300, 925–47.
  • Metals in Chemical Biology. Nature Chemical Biology 2008, 4(3), 143–57; 168–75; 185–93.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤