آثار مكة

قَلَّ من زُوَّار مكة من يُعْنَى بحاضرها، وما يجيش بخاطر أهلها من رجاء في هذا الحاضر وأمل في المستقبل، فهم يقصدون إليها ليحجوا بيت الله كيما يغفر لهم ربهم ذنوبهم ويطهِّرهم من ماضي حَوْباتهم، وبيت الله فيها هو لذلك مثابتهم، فإذا أقاموا بها التمسوا مزيدًا من المثوبة بزيارة ما بها من آثار النبي وأهل بيته والسَّلف الصالح عليهم رضوان الله أجمعين؛ مِن ثَمَّ كانت نفوسهم لا تتعلق مما في مكة إلا بما يتصل بالماضي البعيد ابتغاء ثواب المستقبل في الآخرة، فإذا عناهم من أمر مكة غير ذلك شيء فما يبتاعونه منها تبرُّكًا به، وحبًّا في ثوابٍ ينالهم أو ينال من تُهدى إليه هذه البركات من ذويهم والمقرَّبين منهم.

ولقد أردت أن أقوم بزيارة هذه الأماكن التي يُضفي أهل مكة عليها ثوب التاريخ لَعَلِّي أجد فيها من الفائدة العلمية ما يشيد بذكرى الذين شادوا المساجد والذين يرقدون الرقدة الأخيرة في المقابر، وتحدَّثت في ذلك إلى غير واحد من شبان مكة ومن أولي الرأي فيها، ولشدَّ ما كان عجبي لقولهم: إن هذه الآثار لا تجد سندًا ثابًا من التاريخ، وإن المؤلفين مختلفون على أكثرها إن لم يكن عليها جميعًا … وبلغ بعضهم في تأكيد رأيه أن قال: إن ما يروى عمَّا سوى الكعبة وما يحيط بها بالمسجد الحرام وعن حراء وثَور كلُّه رجمٌ بالغيب، وهو إلى القصة أدنى منه إلى أنباء التاريخ، وأردتُ أن أمحِّص قولهم، فرجعت إلى بطون ما استطعت الرجوع إليه من الكتب، فلم أجد فيها ما يطمئن إليه السند العلمي الصحيح، وإن روى بعضهم من الأنباء المتواترة عن بعض هذه الآثار ما يجعل الإنسان يتردد بين صحة النبأ وبطلانه ترددًا ينفي الثبوت العلمي، ولكنه لا يثبت النفي العلمي كذلك.

وأفضيت إلى مضيفي بقصدي، فأنبأني أن الشيخ عبد الحميد حديدي خير من يرشدني إلى ما أقصد إليه، والشيخ عبد الحميد حديدي يعمل الآن مع الشيخ عباس قطان في أمانة العاصمة، وكان قبل ذلك قد اشتغل بالتعليم في جدة، وبالقضاء عند أدنى حدود الحجاز من اليمن، كما تثقَّف بالأسفار إلى الهند وجاوة حين شبَّت نيران الثورات والحروب بالحجاز في العهد الأخير، ولم أسأله عن سنِّه، ولكنه يبدو في جوار الخمسين، وهو رجل أسمر اللون كسمرة العرب، مديد القامة نحيفها، لا يلبس العقال بل يكتفي «بالصمادة» على عادة أهل العلم في بلاده، وكانت معرفتي به في هذا اليوم مقدمة صحبة اتصلت طوال إقامتي بالحجاز إلى يوم سفري من يَنْبُع إلى مصر، ولقد أَنِسْتُ إلى هذه الصحبة واطمأننت إليها كل الاطمئنان، وهل كنت أطمع في أكثر مما كان عبد الحميد عليه من سعة الفكر، والبعد عن التعصب، وعدم التقيد إلا بموجب العقل، ومن تبادله الرأي لذلك معي تبادلًا حرًّا في كل ما يعرض لنا حين نقف أمام مشهد نمحِّص ثبوته التاريخي أو موضعه من أنباء حياة الرسول، وأبدى الرجل من هذا اليوم الأول اغتباطًا بصحبته إيَّاي، فشكرته عليه ولن أنساه له.

وكان الشيخ عبد الحميد حديدي يشاطر شبان مكة رأيهم أن ما بمكة من الآثار ليس له من التاريخ سند ثابت على رغم كثرته؛ ولعل ذلك هو الذي جعله لا يُبْدي كبير اهتمام بزيارتي وإياه هذه الآثار أول الأمر، وخاصةً زيارة ما لم يكن منها وثيق الاتصال بحياة محمد، ولعل سببًا آخر دعاه إلى ذلك، فلقد كان لكثير من هذه الآثار فيما مضى قيمة فنية بما أقيم عليه من قِباب، وما شُيِّد لذكره من مساجد، أما اليوم — ومذ حكم الوهابيون بلاد العرب — فقد هُدِمت هذه الآثار الفنية وامَّحت رسومها، فهم أعداء ألداء لكل ما يحسبونه يورث الشبهة في توحيد الله — جل شأنه، وهم يرون في المقابر وزيارتها وإقامة القباب عليها إشراكًا يجب القضاء عليه، وهم يرون فيها — على الأقل — منكرًا تجب إزالته.

وما عسى أن تغني مثلي زيارة آثار لم يبق منها اليوم إلا ما يحفظه الناس أو يروونه عنها؟! وأية فائدة في أن أذهب إلى مقابر المَعْلاة مثلًا حيث قبر خديجة وقبور أجداد النبي وأعمامه، وقد سُوِّيَتْ هذه القبور بالأرض وأصبح ما يرويه حرَّاس المقابر عنها أشبه شيء بحديث خرافة، ولم يُخفِ عبد الحميد ما ساوره من ذلك، ولم يُخف أسفه على زوال القباب الجميلة التي كانت مزارًا لعشرات الألوف من الحجَّاج، والتي كانت تدرُّ لذلك على مكة الخير الوفير، لكنني أبديت من الحرص على زيارة هذه الآثار ما أزالَ تردُّدَه، ولم يلبث حين تبادلنا الحديث بعد زياراتنا في اليوم الأول أن أقبل يضع خطط تجوالنا بهمَّة لا تعرف الملل.

وكانت مقبرة المَعْلاة أول ما اتجهتْ إليه زيارتُنا، وإن بي لزيارة المقابر لهوًى مُلِحًّا؛ فالمقابر مستقر الأعزَّاء الذين سبقونها إلى دار الخلد، وهي مستقر الإنسانية وموضع سكنها بعد الفراغ من واجب الحياة، والمقابر هي العبرة الباقية تحدِّثنا عن الوجود وتصوِّر لنا قيمته، أليس القبر هو الإنسانية الماضية كلها، بل الحياة الماضية كلها لهذا الكون؟! وإذا صح ما قيل من أن من مات قامت قيامته فالقبر هو المظهر المادي لصلة الأحياء والأموات، والأموات هم إخواننا وآباؤنا وأبناؤنا الذين سبقونا إلى الرحيل، والذين يتصلون بنا بعد موتهم بما خلَّفوا لنا من آثارهم، ونتصل بهم نحن اتصالًا لا ينقصه إلا تبادل المنافع في الحياة، ألم يخاطب الرسول — عليه السلام — قتلى بدر من المشركين بعد أن دفنهم المسلمون في القليب بقوله: «يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا؟ فإنني وجدت ما وعدني ربي حقًّا؟!» فلما تحدَّث المسلمون إليه قائلين: «يا رسول الله أتنادي قومًا جَيَّفوا؟!» كان جوابه: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني.»

ومقبرة المَعْلاة تقع في الشمال الشرقي من مكة، وهي فضاء فسيح محصور بين الجبال من شماله وغربه، وتفصل بينه وبين الجبال من الشرق بعض المساجد والمساكن، ويتصل من الجنوب بمنازل أهل مكة، وهذه المقبرة قديمة ترجع إلى عهد الجاهلية، وهي ما تزال — مع ذلك — مقبرة أهل مكة في هذا الزمن الحاضر، ولعل بقاءها مقبرة حتى اليوم يرجع إلى تقديس المكيين للقبور القديمة التي بها أكثر مما يرجع إلى رغبتهم عن اتخاذ مقبرة لمدينتهم فيما وراء الجبال التي تحصرها.

وقبور المعلاة مسوَّاة بالأرض اليوم، وهي لم تكن كذلك قبل أن يدخل الوهابيون الحجاز، ويفصل بينها وبين الطريق منحدر من الأرض يسمو بها وبما تحويه من ذكريات إلى سفح الجبل، وإنك لترى بها على رءوس قبور شواهد نُقشتْ عليها بالخط الكوفي أو بالخط الثُّلث الجميل آيات قرآنية في أغلب الأمر، وأسماء ساكني هذه القبور في بعض الأحيان، ولقد صحبَنا حارس المقبرة في مسيرنا يهدينا أثناءها إلى مقابر بعض الصحابة والتابعين.

وتقدَّمنا غيرَ بعيد، ثم وقف يشير بإصبعه إلى قبر ذكر أنه قبر عبد الله بن الزبير صاحب الجهاد المشهور في مقاومة بني أُمَيَّة، والذي أقام بناء الكعبة في السنة الرابعة والستين من الهجرة بعد أن رماها الحُصَيْن بن نُمَيْر قائد جيوش يزيد بالمنجنيق، وإلى جانب قبر ابن الزبير أشار الحارس إلى قبر آخر ذكر أنه قبر أمه أسماء بنت أبي بكر، ومَدَّ الحارس بصره إلى ناحية الجبل من الشمال ومددنا البصر معه، فأشار إلى جدار قائم في سفح الجبل يحجب ما وراءه ولم يَنْبِس ببِنْتِ شفةٍ، أما الشيخ عبد الحميد حديدي فقد أخبرني أن الإخوان الوهابيين شادوا هذا الجدار ليستروا به قبر خديجة أم المؤمنين وقبور بني هاشم من أجداد الرسول عن الأعيُن؛ وليَحُولوا بين الحُجَّاج وزيارتها للتبرُّك لها؛ لأنهم يرون في الزيارة والتبرك إثمًا، هو إثم الشرك بالله، أو اتخاذ هذه القبور زُلْفَى إليه، وهذا أو ذاك يخالف عقيدتهم الإسلامية ويجعلهم يرمون من يُقدم عليه بالمروق والكفر.

وتقدَّمَنا الشيخ عبد الحميد إلى ناحية هذا الجدار متخطيًا المقبرة التي كنا بها إلى فضاء يعترض السبيل إليه عارض من خشب سُدَّ به الطريق، وطأطأنا رءوسنا واجتزنا هذا العارض، وتسلقنا السفح حتى كنا عند باب قديم قائم في الجدار الذي بصرنا إليه، ودق عبد الحميد الباب بيده، وشعرنا بحركة وراءه، ذلك حارس هذه المقبرة المحرَّمة يزيل الأحجار التي أوصد بها الباب حتى لا يقتحمه مقتحم، وفتح الحارس المصراع، ودخلنا فحيَّانا بتحية من يعرف الشيخ عبد الحميد ومَن كان معنا من ذوي قرابة أمين العاصمة، وبعد هنيهة أشار إلى قبر على يسار الداخل قال: إنه قبر خديجة بنت خويلد أم المؤمنين، وجدة جميع المنتسبين إلى الرسول بأنهم من أبناء ابنته فاطمة وابن عمِّه علي بن أبي طالب، وقد سُوِّي هذا القبر بالأرض كما سُوِّيت سائر القبور بأمر الوهابيين، وتقدمنا خطوتين بعد ذلك إلى قبور قال الحارس: إنها قبور جَدَّي الرسول: عبد المطلب وعبد مناف وعمه أبي طالب، ثم أشار إلى قبر ذكر أنه قبر أمه آمنة، ولم يدهشني ما ذكره عن قبر آمنة مع علمي أنها تُوُفِّيت ودُفِنت بالأبواء بعد الذي ذكره أهل مكة عن هذه الآثار وقيمة سندها من التاريخ، فالقول: بوجود قبر آمنة في هذا المكان إنما كان يُقصَد به إلى الاستزادة مما يدفعه الحجاج أثناء زيارتهم هذه القبور للتبرك.

وعدت أدراجي خطوات، ووقفت مستقبلًا قبر خديجة، هنا إذن يرقد جد النبي وعمه اللذان احتضناه طفلًا أيام يُتْمه! وترقد زوجه الوفية التي وهبته مالها وقلبها وحبها وروحها أيام شبابه وبعد بعثه! في هذه البقعة يثوي أولئك الذين شبَّ محمد بينهم واستظل ببرهم ورعايتهم من يوم وُلد إلى أن جاءهم الموت لسنوات بعد رسالته تعرَّض أثناءها للسوء والأذى والهلاك، عبد المطلب! أبو طالب! خديجة! ما أجلَّ هذه الأسماء وأبقاها على الدهر مذكورة بالتعظيم والإكبار! وإنما بقاؤها واحترامها في اتصالها بهذا الاسم الأكبر؛ اسم محمد النبي العربي الذي استعذب العذاب في سبيل الحق وهداية الناس أداءً لرسالة ربه.

فعبد المطلب الجدُّ البارُّ العطوف هو الذي كان يجلس كل يوم إلى جوار الكعبة مثابة عبادة العرب جميعًا، فإذا جاء حفيده الطفل اليتيم أدناه منه وأجلسه معه على فراشه وربَّت على كتفه وغمره بحبه وإعزازه، وأبناؤه أعمام هذا الطفل جلوس من حول الفراش ما يدنو منهم أحد كما يدنو هذا الطفل، ولا العباس الذي كان ضَرِيب محمد في سنِّه وطفولته.

وأبو طالب العم المسن هو الذي احتضن محمدًا من يوم مات عبد المطلب ومحمد ما يزال في الثامنة من عمره، والذي بقي يوليه من العناية والرعاية أكثر مما كان يولي أبناءه إلى أن شب عن الطوق وتزوج خديجة، والذي أظلَّه بحمايته حين دعا إلى دين الله، ووقف دونه مخافة أن يناله من قريش أذًى، ولئن ينسى التاريخ من أحداثه ما عساه أن ينسى ليذكرَنَّ أبدًا في لَوْحه يوم مشتْ قريش إلى أبي طالب تنذره بالحرب إن لم يسلِّم ابن أخيه أو يَنْهَه عنهم، وليسطرنَّ بأحرف من نور كلمة محمد حين دعاه عمه وقصَّ عليه أمر قريش وقال له: «فأبْقِ عليَّ وعلى نفسك ولا تُحَمِّلْني من الأمر ما لا أطيق»، ليسطرن بأحرف من نور قول الرسول لعمه: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.»

أما خديجة التي اختارت محمدًا لنفسها، والتي ضحَّت من أجله بمالها، والتي آمنت برسالته أول ما أفضى بها إليها، والتي كانت سنده وقوَّته في أدق الساعات التي مرت به أول نزول الوحي عليه وحين إيذاء قريش إياه، أما خديجة أم المؤمنين فلن يَفِيَها حقها كل ما يسجله التاريخ إشادةً بذكرها، فكيف لا تخلد هذه الأسماء في لوح الوجود خلود إجلال وتعظيم وإكبار؟!

وآن لنا أن ننصرف من المقبرة، فاستوقَفَنا الحارس إذ مدَّ يده ممسكًا بها قطعة من القاشاني الأخضر الجميل اللون زُينت أطرافها بنقش فني دقيق وقال: «هذه قطعة من جدار القبة التي كانت على قبر السيدة خديجة!» فقد كان على قبر خديجة قبة شاهقة بارعة الجمال، يذكر المؤرخون أنها بُنيت في السنة الخمسين والتسعمائة من الهجرة أثناء ولاية داود باشا بمصر، وأن الذي بناها أمير دفاتر هذا الوالي، الأمير الشهيد محمد بن سليمان الجركسي، وقد أزال الوهابيون هذه القبة فيما أزالوا من القباب أول دخولهم مكة إرضاء لهوى إيمانهم، ثم بقيت صُورتها الشمسية تشهد بأنها كانت آية بارعة الجمال في فن العمارة براعةً تصد من يفهم هذا الفن عن أن يصيبها بسوء، وكانت إلى جوارها قباب لجدَّي النبي عبد المطلب وعبد مناف ولعمه أبي طالب، بذلك كانت هذه المقبرة بِدْعًا يعشقه من يحبون جمال الفن، وكان الناس يزورونها إجلالًا لهذه القباب وتبركًا بذكرى ساكنيها، أما اليوم فلا يفكر أحد في القباب وقد أُزيلت، ولا يزور أحد القبور وقد حِيلَ بين الناس وبينها بهذا الجدار الذي يصدهم عنها، على أنهم ما فتئوا يحضرون اليوم كما كانوا يحضرون من قبل فيقفون عند هذا الحاجز الذي تخطيناه قبل أن نصعد سفح الجبل فيقرءون الفاتحة ويلتمسون البركة ثم ينصرفون.

قال صاحبي: أرأيت كيف عدا الوهابيون على آثار أهل بيت النبي ولم يرعوا لعواطف المسلمين إزاءها حُرمة! وأجابه آخر: وهل كان لشيء من هذه الآثار وجود في عهد النبي؟! إنما أحدثها الذين حسبوا فيها قربي إلى الله يثابون عنها، وأزالها الذين يرون في بقائها ما لا يرضي الله والرسول؛ فالأمر من هذه الناحية نضال بين عقيدتين، وفِعْل الذين أزالوها أدنى في عقيدتهم إلى حِكمة الإسلام وسُنَّة الرسول، لمَّا تُوفِّي إبراهيم ابن الرسول وتم دفنه، أَمَرَ أبوه بسد القبر، ثم سوَّى عليه بيده ورش الماء وأعلم عليه بعلامة، وقال: «إنها لا تضر ولا تنفع ولكنها تُقِرُّ عين الحي، وإن العبد إذا عمل عملًا أحب الله أن يُتقنه»، ولقد سُوِّي قبر خديجة بعد دفنها في حياة زوجها ولم يقم عليه أحد قبة في عهده، ولا أقام أحد عليه قبة في أيام خلفائه من بعده، وبقي القبر ألف سنة حتى جاء هذا الأمير الشهيد الجركسي فأقام القبة التي هدمها الوهابيون، وإنما شاع بناء القبور والقِباب في عهد الانحلال، ومنذ بدأ الناس يتخذون من سبقوهم زُلْفى إلى الله، فليس من الحق وذلك نبأ التاريخ أن يوصف عمل الوهَّابيين — إذ هدموا هذه القباب — بأنه عدوان على أهل بيت النبي، إنما هو نضال بين عقيدتين كما قدمتُ، وما دام الباعث على بناء هذه القباب قد كان باعثًا دينيًّا، فيجب أن ينظر في حكم إقامتها وهدمها إلى ما قرَّره الإسلام في كتاب الله وسنة رسوله، ولو كان الباعث لإقامة القباب غير ديني لوجب النظر في إقامتها وهدمها نظرة أخرى، ولكان حقًّا أن يلام الوهابيون على ما صنعوا أبلغ اللوم.

كأنما شجعت العبارة الأخيرة صاحبي، فقد انبسطت أساريره لسماعها واتجه إليَّ بعد أن كان يسبقنا إلى باب المقبرة وقال: ولِمَ لا نعتبر الباعث إنسانيًّا هو أن تهوي أفئدة من الناس إلى أهل هذا البلد الأمين القائم بواد غير ذي زرع؟! ولِمَ لا نعتبره دينيًّا دعا إليه تشجيع الذين يؤمنون بعقيدة المقابر والقباب إلى أداء فرض الله بحج بيته؟! لقد أضاع الوهابيون على مكة بهدم القباب موردًا من خير موارد المال فيها، وإنهم ليحسون ذلك اليوم وبعد أن أقاموا بمكة كما نُحِسُّه، ولعلهم يأسفون على ما ضيَّعوا، وإن كنت في ريب من أن يجد الأسف على أمر إلى نفوسهم سبيلًا.

وشاركت في الحديث فقلت: لو أنك يا صديقي رجعت الباعث على بناء هذه القباب إلى فكرة في فن العمارة لشاركتك في تأثيم الذين هدموها، فللفن جلال وسُلطان في حياتنا اليومية وفي حياتنا الروحية جاهلٌ من ينكرهما، وكان لأتباع ابن عبد الوهاب مندوحةٌ عن هدم هذه الآثار الفنية الجميلة بتحريم التقرُّب إلى الله بوساطة المدفونين طَيَّ ثراها تقرُّبًا ينكره مذهبهم في الإسلام؛ ومِن ثَمَّ أراهم حقيقين بالتثريب عليهم ولومهم، ولو عُنف لذلك من شاء في هذا اللوم ما خالفته، لكنني في ريب من أن تفيد القباب بعد ذلك في جلب المال إلى مكة أو جعل أفئدة من الناس تهوي إلى أهلها.

أتممنا هذا الحديث ونحن في طريقنا إلى السيَّارة كي نجوس بها خلال مكة، وأمسك صاحبي حين ركبناها فلم يتابع حواره، وانطلقت بنا السيارة تقف عند مسجدٍ مرَّةً، وعند بئر أخرى، وعند دار تارة، وعند شِعْب أو مضيق في الجبل طورًا، وكذلك فعلنا أيامًا تباعًا، وعبد الحميد يقف مستقبلًا الأثر الذي نقف عنده موقف الدليل أو الحارس يقصُّ عليَّ ما تسطره الكتب وما ترويه الأساطير عن كل واحد منها، بذلك حصَّلتُ فكرة، لا أقول عن آثار مكة، ولكن عمَّا يروى عن هذه الآثار اليوم، ومنها ما هو باق يدل مظهره على شيء من القِدَم، ومنها ما لم يبق له على وجه الحياة أثر.

المساجد الأثرية بمكة لا شيء من الجمال ولا من الفن فيها، ولا عجب، فهي لم تُقَم للعبادة ولا لاجتماع الناس بها، فالناس من أهل مكة ومن زائريها من حجيج بيت الله يقصدون المسجد الحرام ولا يقصدون مسجدًا غيره؛ لذلك نرى هذه المساجد الأخرى لا تزيد على مربع من الأرض تحيط به جدران غاية في البساطة، يعلو من ناحية المحراب سقف ساذج يستند إلى عُمد ليست دون السقف سذاجةً في بنائها، وقَلَّ أن تجد بالمسجد حصيرًا أو قشًّا أو أي فرش يُشعرك أن الناس يصلون فيه، بل الأرض فيه عارية يكسوها التراب، فإذا سألت: فيم إذن أقيمت هذه المساجد؟ علمتَ أنها أقيمت ذكرى لحادث وقع حيث تقوم، فهي إذن أدنى إلى أن تكون نُصُبًا تذكاريًّا تحتفظ بأنباء تسجلها بطون الكتب أو يرويها الرواة منها إلى أن تكون بيوتًا يذكر اسم الله فيها، أو مقصدًا للناس كي يقيموا الصلاة بها.

وقفنا قبالة مقبرة المعلاة عند مسجدين متجاورين؛ أحدهما مسجد الراية، والآخر مسجد الجِنِّ، وسُمِّي الأول مسجد الراية لما يذكر من أن الرسول — عليه السلام — ركز رايته عام الفتح حيث يقوم اليوم هذا المسجد، وسُمِّي الآخر مسجد الجن؛ لأن الله أوحى إلى النبي في هذا المكان الذي كان الجن يستمعون فيه إليه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا. ولِمَسجد الجن باب بأسفل الطريق غير بابه المطروق، وينزل من شاء إليه بضع درجات دون مستوى أرض المسجد، وأهل مكة يذهبون إلى أن الجن كانت تستمع في المكان الذي يؤدي هذا الباب إليه؛ ولذلك كان الناس يزورونه، وقد أُقفل هذا الباب في العهد الأخير بالطين والحجر منعًا للتبرك بزيارته.

وهذان المسجدان من الطراز الذي ذكرناه، والذي يعتبر طراز المساجد في مكة جميعها، وقد زرتُ عددًا منها، بينها مسجد الإجابة ومسجد حمزة، فلم أجد ما يدعو إلى استقصاء شيء عن سائرها، ولم يكن تشابهها في العمارة هو وحده الذي أطفأ ظمأ تطلُّعي، بل أطفأه كذلك أنك لا تقف على نبأ صحيح للذكرى التي يقوم المسجد شاهدًا عليها، فالناس لا يعرفون عن مسجد حمزة القائم بحي المَسْفَلة أكان موضعًا لمولده أم كان أثرًا لنبأ لم يدوَّن في بطون الكتب؟ وكل ما يذكره الذاكرون عن مسجد الإجابة — القائم داخل الشِّعب على مقربة من حراء ومن قصر الملك — أنه قائم حيث حل النبي — عليه السلام — إحرامه بعد عَوْدِه من منًى، ولئن صح ذلك لكان بعد حجَّة الوداع، وهذا أمر لا يقطع بصحته أحد.

والحق أن تعيين الأمكنة التي نزل فيها الوحي، أو التي أوَى إليها الرسول في مناسبةٍ ما ليس أمرًا ميسورًا، فكتب السيرة لم تكتب إلا بعد قرنين أو نحوهما من وفاته، والحديث لم يُجْمَع كذلك ولم يُدون إلا في عهد العباسيين، وإلى يومئذٍ كان المسلمون في شغل بالغزو والفتح وبالثورات الأهلية عن تدوين آثار الرسول، بل لقد اختلفوا في جواز تدوينهما، حتى نادى عمر في الناس: إن من كان عنده شيء عن الرسول غير القرآن فلْيَمْحُه، والخلاف واقع على آثار أدنى بطبعها إلى التحديد من المواضع التي نزل فيها الوحي بسورة من السور أو آية من الآيات، فهو واقع على أماكن لها خطرها، كتحديد مكان حُنَين، وهي من أشهر غزوات الرسول وفيها نزل قرآن، وتحديد منازل الوحي بالسور والآيات لم يتيسر إلا فيما اتصل من هذه السور والآيات بحوادث معيَّنة، والخلاف مع ذلك واقع على التحديد الدقيق للمواضع التي نزلت فيها هذه الآيات والسور، وعلى الحوادث التي نزلت فيها، ولا جَرَم إذن أن يتعذر القول بصحة ما للمساجد القائمة اليوم من دلالة على الآثار المسندة إليها، والراجح أنها أقيمت على الظن لا على اليقين، وأُقيمت لأغراض تتصل بهوى النفوس إلى مكة أكثر مما أقيمت لأغراض علمية ثابتة.

فأما ما سوى المساجد من آثار فبعضه أدنى إلى الصحة فيما يدل عليه، وإن لم يكن أوفر حظًّا من الثبوت العلمي لمن أراد البحث والتمحيص الدقيق.

والآبار بعض هذه الآثار، وهي تختلف عن المساجد في أنها لم تنشأ بعد أجيال من عهد النبي ذكرًا لقصة أو حديثٍ رواه الرواة أو تداوله الكتَّاب، بل كان منها في عهد النبي عدد غير قليل اندثر بعضه وجَدَّ من بعدُ غيرُه، لكنك قلَّ أن تعثر في تواريخ مكة على شيء ثابت عنها، وما سوى زمزم من الآبار تختلف عليه الرواية أشد الاختلاف.

وليس يذكر «الأزرقي» في كتابه «أخبار مكة» عن آبار الجاهلية إلا الشيء القليل، وإن ذكر أساطير شتى عن الآبار التي أنشأتها قريش حين بدأ تكاثر الناس بأم القرى، فأما ما جدَّ بعد الإسلام فكثير، بقي موضع الرعاية ما استقى الناس منه، فلما أَجْرَتْ زبيدة زوج الرشيد الماء إلى مكة لم يبق ما يثير العناية بهذه الآبار، وإن احتفظ أهل مكة منها بما علَّقوا عليه ألوان القصص الديني ليثيروا به تطلع الذين يزورون مكة، والذين يبتغون أثناء زيارتهم إياها كل سبيل للتبرك والمثوبة.

كنت أحفظ في حياتي كثيرًا من الشعر العربي نسيت الآن أكثره، ومما لا يزال عالقًا بذاكرتي قول الشاعر:

كأن لم يكن بين الحَجون إلى الصَّفا
أنيس ولم يَسْمُرْ بمكة سامر

ولم يكن للحَجون ولا للصفا أية صورة معيَّنة في ذهني، وقد عرفتُ الصفا حين سعيت بين الصفا والمروة، وعرفت أنها ربوة أحيطت بالجدران، أما الحَجون فطريق بين جبلي كُدَيٍّ وكُدًى، ويقع أولهما بأعلى مكة، ويسير الآخر حتى يصل إلى أسفلها، وطريق الحجون يصل بين السفوح التي تقع عليها مقبرة المعلاة وما عند المَسْفَلة نحو الجنوب من مكة، ولقيتْنا أول ما برزنا من الحجون بئر عليها بناء غير مرتفع، قال صاحبي: إنها بئر طُوًى، وإن الرسول اغتسل منها حين دخوله مكة عام الفتح؛ ولهذا يسنُّ الاغتسال منها عند دخول مكة، ويضبط الأزرقي وغيره من قدماء المؤلفين اسم هذه البئر على أنها الطُّوَى، والبناء القائم عليها بناء حقير لا أحسب الذين أقاموه قصدوا إلى أكثر من إعلام البئر وحفظها به، والبئر من داخل البناء قد أُحيطت فوهتها بأحجارٍ تشبه البناء، وتدلَّت فيها دلو يشدها حبل غليظ معلق إلى بكرة أحدثها المعاصرون من أهل مكة.

ولم أقف داخل مكة على آبار أخرى غير بئر عثمان المنسوب إحداثها إلى عثمان بن عفان، وهي تقع الآن في رباط المغاربة، والدخول إلى هذا الرباط واجتيازه إلى البئر يعيد إلى الذاكرة أشد أحياء القاهرة القديمة قذارة وبُعْدًا عن أسباب الصحة؛ فقد اجتزنا حارة ضيقة لا تدخلها الشمس، قذرة لا تنظِّفها مكنسة، تزكم الأنف روائح تفوح منها وتجري فيها جراثيم الأنيميا، ودخلنا الرباط، فكأننا دخلنا مستوقدًا أو شرًّا من مستوقد، ولقد حدَّثتني نفسي أن أعود أدراجي قبل أن نبلغ البئر لولا الحياء ممن معي من أهل مكة، ومدخل الرباط أشد من مدخل الحارة ضيقًا وأكثر قذارة، وألفيت إلى جانب جدرانه أشباحًا أحسبهم أشخاصًا يعيشون في هذا الرباط، وبلغنا البئر فإذا فوقها بناء أكثر ارتفاعًا من بناء بئر طوى، وفوَّهتها كفوهتها محاطة بأحجار البناء، يتدلى فيها حبل يدور على بكرة، ويمسك في نهايته دلوًا هي التي يُمْتَح بها ماء البئر.

الدور التاريخية بمكة أثبت نسبًا من المساجد والآبار، وإذا قامت الشبهة في نسب الكثير منها، فبعضها متواترة أنباؤه ولا يشتد عليه خلاف، وأنت واجد من ذكر هذه الدور الشيء الكثير في أقدم ما كُتب من تواريخ مكة، لكن ما يتصل منها بعهد الرسول وما يثبت على التاريخ قليل.

ودار الأرقم أو الخيزران من أشهر هذه الدور وأثبتها نسبًا، وهي تثير في النفس ذكرى من أروع الذكريات في حياة محمد — عليه السلام، فقد كان يجلس في هذه الدار يومًا مع أصحابه والإسلام لا يزال في أول عهده، وقريش ما تزال تحاول القضاء عليه، وكان عمر بن الخطاب على الجاهلية إلى يومئذٍ، ولقد فكر في أن يُريح قريشًا من هذا الذي سبَّ آلهتها وفرَّق أمرها بأن يذهب إليه فيقتله، ولقي في طريقه نعيم بن عبد الله وأظهره على طويَّته، قال له نعيم: والله قد غرَّتك نفسك من نفسك يا عمر! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟! أفلا ترجع إلى أهل بيتك وتقيم أمرهم؟! وكانت فاطمة أخت عمر وزوجها سعيد بن زيد قد أسلما.

وكرَّ عمر راجعًا إليهما حين عرف من نُعَيم أمرهما، ودخل البيت عليهما وعندهما مَن يقرأ القرآن، فلما أحس أهل الدار دُنُوَّه، اختفى القارئ وأخفت فاطمة ما يقرأ، وسأل عمر: ما هذه الهيْنَمة التي سمعت؟! لقد علمت أنكما تابعتما محمدًا على دينه، وبطش بسعيد، فقامت فاطمة تحمي زوجها فصدمها فشجَّها، إذ ذاك هاج هائج الزوجين وصاحا به: نعم أسلمنا، فاقض ما أنت قاض! واضطرب عمر حين رأى ما بأخته من الدم، وغلبه برُّه وعطفه فارْعَوى وسأل أخته أن تعطيه الصحيفة التي كانوا يقرءون، فلما قرأها اهتز وأخذه إعجازها وجلالها وسمو الدعوة التي تدعو إليها، وخرج يريد محمدًا كي يعلن إليه إسلامه.

وسار متوشِّحًا سيفه حتى إذا بلغ دار الأرقم ضرب الباب على من فيه، وقام رجل فنظر من خَلَل الباب ثم عاد فَزِعًا يقول: هذا عمر بن الخطاب متوشحًا السيف، قال حمزة بن عبد المطلب: فَأْذَن له، فإن كان جاء يريد خيرًا بذلنا له، وإن كان يريد شرًّا قتلناه بسيفه، وأمر رسول الله أن يؤذَن لعمر، وقام فتقدَّم نحو الحجرة التي تلي الباب، ولما دخل عمر أخذ النبي بمجمع ردائه وجذبه بقوَّة، وقال له: ما جاء بك يا ابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى يُنزل الله بك قارعة، قال عمر: يا رسول الله، جئتُك لأومن بالله ورسوله وما جاء من عند الله، فكبر محمد تكبيرة عرف أهل البيت من أصحابه أن عمر أسلم، فتفرَّقوا من مكانهم فرحين مؤمنين بأن عمر وحمزة سيحميان رسول الله من خصومه وأذاهم.

وفتَّ إسلام عمر في عضُد قريش وقد دخل في دين الله بالحمية التي كان يُحاربه من قبل بها، لم يرض عن اختفاء المسلمين حين صلاتهم، بل دأب على نضال قريش حتى صلَّى عند الكعبة وصلى المسلمون معه، ثم كان عمر بعد ذلك للإسلام عزًّا في حياة الرسول ومجدًا في خلافة أبي بكر وخلافته.

هذا حادث جليل في تاريخ الإسلام، فمكانه جدير بأن يُذكر، والدار بأن تُصان وأن تُزار، وقد ذهبت إلى زيارتها على مقربة من الصفا وانعطفت إليها في طريق من حارة الباب، وأشار الشيخ عبد الحميد إلى باب مغلق، وقال لي: هذه هي الدار، وسألته: هل من سبيل إلى دخولها؟ فعلمت أنها أصبحت مسكنًا لإحدى الأسر منذ جاء الوهابيون مكة، وأنها من يومئذٍ لا تُزار، وقد رأيت بأعلى الباب كتابة لم أتثبَّتْها على رغم صعود الطريق المنعطف قبالتها صعودًا يجعل نظر الإنسان يكاد يحاذيها، وعلى رغم استعانتي بالمنظار المكبر.

وقد أسفتُ لحرماني من زيارة هذه الدار، أنا الذي زرت بأوروبا أماكن ودورًا صانتها الحكومات ذكرى للعظماء الذين ولدوا بها، أو أقاموا فيها؛ أو لأنها شهدت من حوادث حياتهم أمرًا خلَّدته صحف التاريخ، وإنما هوَّن عليَّ الأسف ما علمته من أن دار الأرقم تغيرت معالمها ولم يبق فيها ما يذكِّر بهذا الحادث العظيم في حياة العالم الروحية، حسبك أنها تدعى اليوم دار الخيزران؛ لما يزعمون من أن الخيزران أمَّ الحليفتين موسى وهارون عمَّرتها أيام العباسيين، والذين زاروا هذه الدار قبل الوهابيين يذكرون أن بابها يفتح على دهليز مكشوف إلى السماء طوله ثمانية أمتار وعرضه أربعة، وإلى يساره إيوان مسقوف على عرض ثلاثة أمتار، وإلى يمينه غرفة في مثل مساحته مفروشة بالحصير، وقد وضع في زاويتها الشرقية حجران أحدهما فوق الآخر، كتب على أعلاهما:

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ
هذا مختبأ رسول الله ودار الخيزران وفيها مبدأ الإسلام.

وكتب على الحجر الأسفل مثل هذه العبارة الأخيرة واسم من أمر بإنشاء هذا الأثر، وهو أبو جعفر محمد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني وزير الشام والموصل، قال الفاسي في شفاء الغرام: «وعمَّره أيضًا الوزير الجواد، وعمَّرته مجاورة يقال لها: مُرَّة العصمة، وعُمِّر أيضًا في سنة ٨٢١ﻫ، والذي أمر بهذه العمارة ما عرفته.»

ليست دار الأرقم التي قص الفاسي نبأها، والتي تحدث صاحب الرحلة الحجازية وصاحب مرآة الحرمين عنها، هي إذن الدار التي أعلن بها عمر بن الخطاب إسلامه، وخير ما يقال: إن البناء القائم اليوم قائم مكان هذه الدار.

ولقد هوَّن على نفسي الأسف كذلك أنني لم أجد إلى زيارتها الوسيلة؛ لأنها كانت مغلقة، وكان يسكنها قوم من أهل هذا الجيل لا يزوِّرونها الناس، ولا يرعَوْن لها حرمة خاصة؛ لأنهم على رأي ابن عبد الوهاب، فهم يظنون أن كل أثرٍ صنمٌ أو نُصُب قد يعبد أو يتخذ إلى الله زُلفى، وربما قام ما يصنعه المسلمون من التبرُّك بهذه الآثار عذرًا للحكومة النجدية في تحريمها زيارة هذه الأماكن، لكنها كانت تستطيع أن تفعل غير ما فعلت ثم تبلغ غايتها، بأن تحرِّم التبرك والزلفى، وتُبيح الزيارة وتجعلها جمة الفائدة، إذ تُعيِّن مَن يفسر للزائرين مغزى هذه الآثار، ولو أنها فعلت لكان صنيعها أجَلَّ فائدة وأعظم أثرًا، ولقد اضطرت إلى مثل هذا الصنيع في أماكن أخرى فأثمر صنيعها خير ثمرة.

ثَمَّ غير دار الأرقم دار أبي سفيان، والمسلمون يذكرونها لقوله — عليه السلام — يوم فتح مكة: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.» وتقع دار أبي سفيان بمكان يقال له: القَبَّان بشارع المدَّعَى، وما بقي منها اليوم لا يمتُّ إلى أصل بنائها بصلة أو نسب، بل دخل في أرض عمَّرتها الحكومة المصرية على عهد محمد علي، وأقامتها إلى جانب تكية فاطمة التي أنشأتها الحكومة العثمانية إذ ذاك، وأكبر الظن أنها عمَّرتها لتكون مدرسة يتعلم فيها أهل مكة؛ فتقسيم البناء على ما رأيته يشهد بذلك، لكن الحكومة العثمانية صاحبة الأمر في الحجاز لم تر أن يبقى المكان مدرسة بعد أن جلت عنه قوات مصر، فجعلت منه مستشفى للمجاذيب الذين يخشى خطر هياجهم، أما اليوم فهو مستوصف يزوره الناس ويصرف منه الدواء، ولقد لقينا الموكل به، وهو سوري، فدار معنا في جوانبه، فكان مما رأيناه به مسجد صغير يقال: إنه قائم موضع دار أبي سفيان حيث كانت على عهد الرسول، وبهذا المستوصف حديقة في داخله ترى فيها من الشجر الأخضر ما لا ترى منه بمكة إلا في بيوت ذوي اليسار.

ويذكرون دار أم هانئ، وهي الدار التي كان بها الرسول — عليه السلام — ليلة الإسراء، وليس لهذه الدار اليوم أثر، فقد دخلتْ في المسجد حين توسيعه، وهي الآن إحدى المدارس المتصلة بالمسجد إلى جوار باب الحميدية، ويطلق عليها اسم مدرسة أم هانئ.

ووقفنا عند دار قال الشيخ عبد الحميد: إنها دار الصِّدِّيق، ولم أعثر بهذا الاسم في تواريخ مكة، وهي مقفلة اليوم لا يدخلها أحد، وموقعها إلى جوار البازان المجرور من عين زُبيدة بالمسفلة، ولست أدري مبلغ ما في نسبة هذه الدار إلى الصديق من صحة.

لم يَطُمَّ الوهابيون الآبار، ولم ينقضوا الدُّور كما هدموا قباب قبور المعلاة، ولعلهم لم يروا الناس يعكفون على الآبار ما يعكفون على القباب؛ فكفاهم أن أقفلوا الدور وأن تركوا الآبار لمن شاء أن يغتسل منها، كما تركوا من شاء يتوضأ من ماء زمزم، لكنهم كانوا أشد بطشًا بآثار أخرى، حتى لقد عَفَّوْا عليها ولم يتركوا لهذا ذكرًا، وكانت هذه الآثار أعز على المسلمين من كل ما تركوا، ولا عجب فهي مولد النبي، ومولد فاطمة ابنته، ومولد علي بن أبي طالب ابن عمه وصهره وأخيه حين آخى بين المسلمين في المدينة، وأنت تمرُّ بها اليوم فتحسبها ميادين خالية حينًا، معمورة بالخيام حينًا آخر، وكثيرًا ما تراها مناخًا للإبل في زمن الحج، وإن قومًا يرونها اليوم وكانوا قد رأوها من قبل أن يطمس الوهابيون على آثارها فيحزُّ الألم في نفوسهم، وتخنق بعضهم العَبْرة وقد تسيل على خده أسفًا لما أصاب هذه المواقع التي كانت من قبلُ موضع إكبار وتقديس كما يجب أن تكون، بل إن منهم من يهون على نفسه هدم القباب، ومنهم من لا يرى به بأسًا؛ لكن هؤلاء وغيرهم يرون في التعفية على معالم هذه الأماكن التي وُلد فيها الرسول وابنته وصهره وِزْرًا لا يعدله وزر، وإكبار هؤلاء لما صنع ابن السعود ورجاله من إقرار الأمن والنظام بالحجاز ومن القضاء على المنكرات فيه، لا يثنيهم عن مُصارحة وزرائه وعن مصارحته هو، برأيهم وإنكارهم هذا القضاء على آثار للرسول وأهل بيته قضاءً لا مسوغ له.

ويشعر أُولو الأمر من الوهابيين بما في قول هؤلاء من صحة، ويرون أن رجالهم الذين فتحوا الحجاز ودخلوا مكة غَلَوْا في تطبيق المذهب غلوًّا كبيرًا حين هدموا من الآثار ما هدموا، قال لي أحدهم: لو أن الملك ابن السعود كان على رأسهم لما وقع من ذلك كل ما وقع، لكنا وجدنا أنفسنا أمام الأمر الواقع، ولسنا نستطيع أن نصرح للناس بأن غُزاتَنا الأولين أخطئُوا؛ فهم أصحاب الفضل في الفتح، وهم الذين طوَّعوا لابن السعود البلوغ بالحجاز في مضمار الإصلاح إلى ما بلغ، على أن شعورنا نحن بخطأ هؤلاء الغزاة يدعونا إلى التفكير في إصلاحه، ولقد فكرنا في أن ننشئ مكان مولد الرسول دارًا للكتب تضم كتب التفسير والحديث والسنة جميعًا، لكنَّ صعوبةً واجهَتْنا لم نستطع التغلب عليها، فقد وقف عُلماء نجد يسألوننا: وكيف تضعون في هذه الدار كتبًا تنطوي على ما يحكم مذهبنا بخطئه؟! إنكم إن فعلتم تكونوا قد ارتددتم عن المذهب، ونزلتم على حُكم أهل الحجاز، وقلبتم فتحنا إياه استعمارًا مكان استعمار، ونحن إنما فتحناه لإقرار حُكم الإسلام الصحيح فيه.

قال محدِّثي: هذه صعوبة واجهتنا لم نستطع التغلب عليها؛ فنحن في حاجة إلى إقرار الرأي العام في نجد أعمالنا لأنه سندنا، وما لم نستطع التوفيق بين سياستنا ومعتقداته فلا بدَّ لنا من النزول على حكمه، فللملك ابن السعود خصوم من رؤساء القبائل في نجد يتهمونه بأنه سخَّر عقيدة أهل نجد الإسلامية لأغراضه ومطامعه السياسية، فلما تم له ما أراد، واستتب له أمر الحجاز، أنس إلى الطمأنينة بترك أهل الحجاز يزاولون من العقائد ما يجاور الشرك ويأباه الإسلام؛ ولذَّ له الفتك بمن يثور على هذه العقائد من أهل نجد أولي الحفاظ على الدين الصحيح والمذهب السليم، وهذا كلام يلقى آذانًا تسمعه وتسيغه، فلا بُدَّ لنا من التوفيق بين آراء العصر الحاضر بما لا تأباه العقيدة السليمة عندنا، وبين تصور قومنا لموجب هذه العقيدة، ونحن لا نستطيع أن نقنع أحدًا منهم بفكرة حرية الرأي، فحرية الرأي عندهم معناها حرية الباطل في غزو العقول؛ لذلك لم نجد بدًّا من أن نُعرِض عن إقامة دار الكتب في موضع مولد النبي، وأن نؤثر عليها إقامة مسجد يذكر فيه اسم الله وتلقى فيه التعاليم الإسلامية الصحيحة.

ولم أجد ما أعترض به على هذا الكلام بعد الذي ذكرته في فصل «مكة الحديثة» من حديث الشيخ حافظ وَهْبة مع علماء نجد عن التعليم، وراقني أن يُبنَى مسجد حيث ولد من يذكر اسمه إلى جوار اسم الله في كل مسجد؛ محمدٌ عبد الله ورسوله، ثم إني خشيت أن يكون حظ هذا المسجد كحظ مساجد مكة إذ يذرها الناس ابتغاء مثوبة الصلاة في المسجد الحرام وعند البيت العتيق، لكن محدثي طمأنني إلى أن المسلمين سيجدون لا ريب من المثوبة في الصلاة بالموضع الذي ولد فيه رسول الله ما يدعوهم إلى الإقبال على هذا المسجد إقبالهم على المسجد الحرام أو بعض إقبالهم عليه.

ويقع مولد النبي بشِعْب بني عامر في أحياء مكة من شرقها، والخلاف يقع على هذا المكان: أوُلِد فيه النبي حقًّا؟ ولقد أورد صاحب المواهب اللدُنية مما روي من ذلك ما قيل من أنه ولد بمكة في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف الثقفي، وكانت في هذا المكان المشهور اليوم، ومن أنه ولد بشِعْب بني هاشم، ومن أنه ولد بالرَّدْم، ومن أنه ولد بعُسفان، ثم إن المسلمين تواضعوا في عصور متأخرة على أن المكان المشهور اليوم هو مولد الرسول، ومنذ القرنين السادس والسابع الهجريين بدأ ملوك الإسلام في اليمن وفي مصر يفكرون في عمارة هذا المكان، ثم فكر ملوك بني عثمان في عمارته في القرن العاشر الهجري؛ فأقيمت فيه قُبَّة عظيمة ومنارة ورتب له مؤذن وخادم وإمام، وكان الطريق المجاور لهذا المكان يرتفع عنه نحو متر ونصف متر، وكان النازل إليه ينحدر على درج يصل به إلى فناء وصفه البتانوني في رحلته، وذكر أن طوله يبلغ اثني عشر مترًا في عرض ستة أمتار، وفي جداره الأيسر باب يدخل الإنسان منه إلى القبة، حيث يجد مقصورة من الخشب، في داخلها رخامة قد تقعر جوفها لتعيين الموضع الذي ولد فيه الرسول، ومن هذه القبة ومن الفناء خارجها تتكون دار مولده — عليه السلام.

نقل صاحب مرآة الحرمين قول العياشي في رحلته تعليقًا على موضع المولد: «ويبعد عندي كل البعد تعيين ذلك من طريق صحيح أو ضعيف؛ لما تقدم من الخلاف في كونه بمكة أو غيرها، وعلى القول: بأنه فيها ففي أي شعابها؟ وعلى القول بتعيين هذا الشِّعب ففي أي الدور؟ وعلى القول بتعيين الدار فيبعد كل البعد تعيين الموضع من الدار بعد مرور الأزمان والأعصار وانقطاع الآثار، والولادة وقعت في زمن الجاهلية، وليس هناك من يعنى بحفظ الأمكنة، لا سيما مع عدم تعلق غرض لهم بذلك، وبعد مجيء الإسلام قد عُلم من حال الصحابة وتابعيهم ضعف اعتنائهم بتعيين الأمكنة التي لم يتعلق بها عمل شرعي لصرفهم اعتناءهم — رضوان الله عليهم — لما هو أهم من ضبط الشريعة والذَّبِّ عنها بالسنان واللسان، وكان ذلك هو السبب في خفاء كثير من الآثار الواقعة في الإسلام من مساجده — عليه السلام، ومواضع غزواته، ومدافن كثير من أصحابه، مع وقوع ذلك في المشاعر الجليلة، فما بالك بما وقع في الجاهلية؟! لا سيما ما لا يكاد يحضره أحد إلا مَن وقع له كمولد علي، ومولد عمر، ومولد فاطمة — رضوان الله عليهم جميعهم.»

عفَّى الإخوان الوهابيون كذلك على كل أثر لمولد فاطمة، فهو الآن فضاء كمولد أبيها، وما ذكره المؤرخون عن مولد الرسول، يصدق على مولد ابنته في مبلغ ثبوته، وفاطمة قد ولدت بدار خديجة، كما ولد بها أبناء النبي، وبدار خديجة أقام النبي منذ تزوَّجها إلى أن هاجر من مكة، أي: من الخامسة والعشرين إلى الخمسين من سنه؛ فهي إذن قد شهدت بعثه، وشهدت ائتمار قريش به وأذاها إياه وتعذيبها أصحابه لعقيدتهم، ولقد نزل عليه الوحي فيها غير مرة، فطبيعي — وذلك شأنها — أن يبقى على التاريخ أثرها، وفي نفوس المؤمنين جميعًا ذكرها.

عفَّى الوهابيون على كل أثر لهذه الدار، فهدموا ما كان الناس يزورونه من رسومها، وهم لم يهدموا في الحق دار خديجة، إنما هدموا ما أقيم ذكرى لها، وهي قد عمِّرت في عهد الخليفة الناصر العباسي، ثم عمِّرت في عهد الملك الأشرف صاحب مصر، وعمَّرها كذلك ملك مصر الظاهر برقوق، ولعلها عمِّرت بعد ذلك غير مرة، والظاهر أن عمارتها كانت تختلف شكلًا، فيما يتصوره الناس، عما كانت عليه في عصر النبي، فما وصفها به الفاسي في «شفاء الغرام» يختلف عن صفتها في رحلة البتانوني، فبينما كانت في عهد الفاسي على صفة المسجد وكانت لها عقود وأساطين إذا هي في رحلة البتانوني بالغة غاية البساطة، تنحدر عن الأرض انحدار مولد النبي، وينحدر النازل إليها درجات عدة، فيواجهه عن يمينه بهو وغرفة فسيحة، وعن يساره باب يدخل الإنسان منه إلى ثلاث غرف، كانت إحداها سكنًا للنبي مع خديجة، وكانت الثانية سكنًا لبناتها، وغرفة ثالثة صغيرة يطلق الكُتَّاب عليها اسم غرفة الوحي، وكانت فيما يذكرون مصلى النبي ومهبط الوحي عليه، وأمام ذلك كله بِعُرْض البيت مكان مرتفع يظن البتانوني أن خديجة كانت تخزن فيه تجارتها.

أسائل نفسي: لو أن دارًا في الغرب حَوَتْ من الذكريات الخالدة ما حوته دار خديجة، وأراد رجال الفن هناك أن يقيموا لهذه الذكريات رمزًا، فماذا عساهم يصنعون؟ فهي قد حَوَتْ ذكريات نفسية وروحية وعقلية لم تحو مثلَها دارٌ غيرها؛ في هذه الدار وقفت خديجة ترقب في عِلِّية لها عَوْد محمد بتجارتها من الشام، فلما دخل عليها في شبابه وقوَّته وذكائه وأمانته وقع من قلبها وهي في الأربعين سنًّا، وفي هذه الدار عرف محمد اليُسر بعد العسر، ورخاء العيش بعد شدته، وفيها أنجب أبناءه من خديجة، فكان الوفاء لزوجه، والبر بأبنائه، وكان في ذلك أسوةً ومثلًا كما كان في أمانته بين قومه، وفيها رغب عن الرخاء وعن نعمة العيش، وسما فوق عواطف الزوجية والأبوة وانقطع للتحنث في حِرَاء — بعد أن سما بخديجة إلى مثل سموه — وجعلها أشدَّ تطلعًا إلى موضع تأمله منها إلى ربح تجارتها وازدياد مالها، وإليها رجع من حِراء بعد الوحي الأول وقد ملك عليه الفزع كل نفسه وهو يقول: زمِّلوني زملوني، فوجد في خديجة الزوج الوفية البارة العطوف، وفيها انقطع إلى ربه يعبده ويدعوه أن يهيئ له الأسباب لدعوة قومه إلى الهدى ودين الحق، وفيها نزل عليه الوحي بعد فتوره، وفيها ذاق لذة الحقيقة والدعوة إليها لذةً تسمو على خصومة قريش وأذاها، وفيها ماتت خديجة وحزَّ الألم في نفسه لفراقها، ثم هوَّنت رسالته الكبرى عليه ألمه، وفيها بات ليلة اعتزم الهجرة إلى يثرب، وقد أحاط بها فتيان مكة يريدون قتله، إن في كل واحدة من هذه الذكريات الباقية على الدهر ما يُلْهِم ربَّ الفن أسمى صور الفن وألوانه، ولكنها إذ تتداعى جميعًا إلى نفسه تذره في حيرة لا يجد وسيلة إلى صورة أو معنًى مستقلٍّ بذاته يجسمها جميعًا ويطبع منها في النفس أثرًا باقيًا بقاءها، اللهم إلا أن يلهَم صورة تمثل الدعوة إلى التوحيد في أسمى صور التوحيد صفاء وقوة، فهذه الدعوة هي جوهر الحياة ورحيقها في حياة النبي العربي وفي تعاليمه.

أصاب الوهابيون مولد عليٍّ في شعب بني هاشم بما أصابوا به مولد النبي ومولد فاطمة، فهو اليوم فضاء لا أثر فيه، ولعل أولي الأمر في الحجاز يفكرون في تعميره، ولعلهم يوفقون حين يعملون لأثر لا يثير الحفائظ بين الشيعة وأهل السنة.

بمكة آثار غير المسجد والآبار والدور؛ بها الجبال وشِعابها، حين كان المسلمون يأوون من أذى المشركين، والأساطير التي أضيفت على هذه الجبال ليست أقلَّ بهاء مما يضفيه أهل مكة على سائر الآثار فيها، لكن التاريخ لا يثبت من هذا كله شيئًا.

والأثر الخالد الحق في مكة بيت الله، وكل أثر غيره يتصل به ويعنو له، إليه يُوَلِّي الناس وجوههم وهم بمكة، وحيثما كانوا ولَّوْا وجوههم شطره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤