الفصل التاسع

بيمارستانات الأندلس

(١) بيمارستان غرناطة

قال الوزير لسان الدين بن الخطيب١ في كلامه عن أمير المسلمين بالأندلس محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن فرج بن يوسف بن نصر، الذي تولى الملك بعد وفاة أبيه في عام ٧٥٥ﻫ: ومن مواقف الصدقة والإحسان من خارق جهاد النفس بناء البيمارستان الأعظم، حسنة هذه التخوم القصوى، ومزية المدينة الفضلى، لم يهتد إليه غيره من الفتح الأول مع تقرير الضرورة وظهور الحاجة، فأغرى به همة الدين ونفس التقوى فأبرزه موقف الأحداق ورحلة٢ الأندلس، ومدرك الحسنات، فخامة بيت، وتعدد مساكن، ورحب ساحة، ودرور مياه، وصحة هواء، ونقد خزائن، ومتوضئات، وانطلاق خيرات، وحسن ترتيب، أبر على مارستان مصر بالساحة العريضة والأهوية الطيبة، وتدفق المياه من فورات الرمل وسود الصخر، وتمرج البحر وانسدال الاشجار. وقال سلادين:٣ إن هذا الأثر المربع الزوايا لا يبلغ من الاتساع والإحكام في البناء مبلغ مارستان قلاوون بالقاهرة، ولكنه كان مرتبًا في بساطته أنيقًا في تفاصيله، وكانت قاعاته البسيطة تدور حول باحة داخلية، في وسطها حوض عميق لقبول الماء من عينين كل عين منها عبارة عن أسد جاث. ولما انتزعت غرناطة من يد العرب سنة ١٤٩٢م حول هذا البناء الصغير إلى دار ضرب السكة، ثم أدخلت عليه تغييرات مختلفة شوهت معالمه ثم تهدم معظمه.
وذكر مارشيه٤ كذلك: أن مارستان غرناطة حول إلى دار ضرب بعد سقوط غرناطة، وحدثت فيه تغييرت مرات عديدة وتهدم ثلاثة أرباعه، ولكنه في مظهره أبسط من معاصره بيمارستان قلاوون، ففي وجهته بعض النوافذ، وفيها أقواس مزدوجة وفي الوسط باب وأسكفة يعلوهما كتابة تشبه أشرعة الفلك، ويدخل من الباب إلى ردهة مربعة الزوايا مستطيلة، وفي وسطها حوض فيه أسدان جاثيان يشبهان مثيليهما في قصر الحمراء وينبغ منهما الماء، وحول الردهة أربعة أروقة ينفتح فيها أبواب طويلة ذات انحناء على شكل نعل الفرس، وفي الزوايا سلاليم يدخل منها إلى الطابق الأول.
ونقل ليفي بروفنسال٥ نص ذكرى بناء السلطان محمد الخامس للبيمارستان سنة ٧٦٧–٧٦٨ﻫ، وهو لوح من الرخام على شكل الباب، مقنطر مركب من قطعتين ملتصقتين التصاقًا تامًّا محفوظ منذ سنة ١٨٥٠م في جناح من بستان قصر الحمراء، نقل إليه من أحد بيوت غرناطة، وعلى أحد وجهي هذا اللوح كتابة في غاية الحفظ تملأ هذا الوجه، وهي مكونة من ٢٦ سطرًا بالخط العادي الأندلسي (شكل ٢٢) وهذه الكتابة:

تخليد ذكرى مارستان بناه السلطان محمد الخامس من بني نصر الغني بالله خاصًّا بمرضى غرناطة الوطنيين.

fig22
شكل ٩-١: ذكرى إنشاء بيمارستان غرناطة.
وهذا هو النص:

الحمد لله، أمر ببناء هذا المارستان رحمة واسعة لضعفاء مرضى المسلمين، وقربة نافعة إن شاء الله لرب العالمين، وخلد حسنة ناطقة باللسان المبين، وأجرى صدقة على مر الأعوام وتوالي السنين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، المولى الإمام السلطان الهمام الكبير الشهير الطاهر الظاهر، أسعد قومه دولة، وأمضاهم في سبيل الله صولة، صاحب الفتوح والصنع الممنوح، والصدر المشروح، المؤيد بالملائكة والروح ناصر السنة، كهف الملة، أمير المسلمين الغني بالله، أبو عبد الله محمد بن المولى الكبير الشهير السلطان الجلل الرفيع المجاهد العادل الحافل السعيد الشهير المقدس أمير المسلمين أبي الحجاج، ابن المولى السلطان الجليل الشهير المعظم المنصور، هازم المشركين وقامع الكفرة المعتدين، السعيد الشهيد الوليد بن نصر الأنصاري الخزرجي، أنجح الله في مرضاته أعماله، وبلغه من فضله العميم وثوابه الجسيم آماله، فاخترع به حسنة لم يسبق إليها من لدن دخل الإسلام هذه البلاد، واختص بها طراز فخر على عاتق حلة الجهاد. وقد أراد وجه الله بابتغاء الأجر والله ذو الفضل العظيم، وقدم نورًا يسعى بين يديه ومن خلفه يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. فكان ابتداء بنائه في العشر الوسط من شهر المحرم من عام سبع وستين وسبعمائة ٧٦٧ﻫ، وتم ما قصد إليه ووقف الأوقاف عليه في العشر الوسط من شوال من عام ثمانية وستين وسبعمائة ٧٦٨ﻫ، والله لا يضيع أجر العاملين، ولا يخيب سعي المحسنين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله وأصحابه أجمعين.

١  الإحاطة في أخبار غرناطة ج٢ ص٢٩.
٢  كذا ولعلها «حلة الأندلس.»
٣  Saladin: manuel d’art musuleman p 200.
٤  Y. Macrais: manuel d’art musuleman p. 559.
٥  Inscription arabe d’Espagne par Levy Provencal p. 164. 1931.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤