دعوة على غير انتظار

سمع «تختخ» صوت جرس الباب وهو يدقُّ … كان قد استيقظ لتوِّه من النوم ونظر في ساعته … الثامنة والنصف صباحًا … لقد تأخَّر في النوم … ولكن لا بأس … فاليوم هو أول أيام إجازة «نصف السنة» … ومن الممكن أن يتأخَّر ويَستمتِع بدفء الفراش في هذا اليوم البارد … وسمع رنين الجرس مرةً أخرى في الطابق الأسفل من الفيلا … ثم سمع الباب وهو يفتح … ومضَت دقائق ثم أغلق الباب.

ظلَّ جالسًا في فراشه يحدق في فضاء الغرفة نصف المظلمة … لم يكن هناك ما يفعله هذا الصباح، في الحادية عشرة موعد لقائه مع بقية المغامرين … وسمع صوت أقدام تصعد السلَّم الداخلي للفيلا … ثم سمعها وهي تتَّجه إلى غرفته، وعرف على الفور أنها الشغالة «حسنية» … وسمع دقًّا على بابه فصاح: ادخلي يا «حسنية»؟

دخلت الشغالة وفُوجئ بأن في يدها ورقة مدَّتْها إليه، ثم قالت: برقية لك يا أستاذ «توفيق».

برقية! هكذا فكَّر «تختخ» وهو يمدُّ يده ليتسلَّمها … وأبقاها في يده دون أن يفضَّها … حاول أن يُقيم بعض الاستنتاجات حولها … من أين أنت؟ من الذي أرسلها؟ ماذا يكون فيها؟ الأسئلة المعتادة التي تُحيط بأي شيء … من أين … ومن هو المُرسل … ولأيِّ غرض؟

وهزَّ رأسه مُتضايقًا فلم يصل إلى أي شيء … وقال في نفسه: يبدو أنَّ ذهني قد تلبد بمرور الوقت دون مُغامَرات ولا ألغاز؟!

وهكذا دون أن يصل إلى أيِّ استنتاج مُحدَّد فتَح البرقية … وألقى نظرة سريعة على التوقيع … كان التوقيع «عماد حلمي» … وتذكَّرَه على الفور … إنه زميله في المدرسة … الولد الوسيم الحزين الذي يُقيم مع بعض أقاربه في المعادي بعد اختفاء والده، وسفر والدته الإنجليزية إلى لندن.

ماذا يريد «عماد»؟

وبدأ يقرأ البرقية: توفيق خليل … ثم العنوان … ثم السطور التالية:

أرجوكم الحضور فورًا إلى المزرعة. إن أمورًا غامضة تجري هنا … وأنا وحيد مع عمَّتي العجوز … أنتظركم يوم السبت.

أحسَّ «تختخ» لأول وهلة بالتوتُّر … فهناك أمور غامضة وهذه هوايتُهم … حل الأمور الغامضة … وبسرعة أخذ ذهنه يتصوَّر ماذا يُمكن أن تكون هذه الأمور وكيف يعالجها هو و«محب» و«نوسة» و«لوزة» و«عاطف» … و«زنجر» أيضًا … ولكن عاد سريعًا إلى الواقع … هل يُمكن إقناع والده ووالدته وبقية آباء وأمهات المغامرين بالسفر إلى «بلطيم» حيث تقع مزرعة «عماد»؟

وبإحساس المغامر اندفع خارجًا من غرفته … فاغتسل سريعًا … ثم نزل إلى الطابق الأرضي … وعرف أن والده ووالدته قد خرجا مُبكِّرَين … فتناول إفطارًا سريعًا ثم كوبًا من الشاي … وأمسك بالتليفون، وأخطر المُغامِرين الأربعة بما حدث … ثمَّ حدد موعدًا بعد نصف ساعة في حديقة منزل «عاطف» حيث تتمُّ اجتماعات المغامرين.

في العاشرة إلا ربعًا تقريبًا … كان المغامرون الخمسة يتبادَلون التحيات في حرارة برغم أنهم كانوا معًا جميعًا أمس … ولكنهم كانوا يُحبُّون بعضهم البعض … وقد نال «زنجر» جزءًا من العواطف الحارة.

قال «تختخ»: كما أخبرتُكم تليفونيًّا … وصلتني برقية من صديقي «عماد حلمي» … وأنتم جميعًا تعرفونه.

قالت «نوسة»: إنه ولد لطيف جدًّا … ويُؤلمني ما أراه في عينيه من حزن!

تختخ: لو أن أيَّ إنسان مكانه لكانت هذه هي مشاعره … والده اختفى في ظروف غريبة، وعادت أمه الإنجليزية إلى بلادها … لظروف خاصة … وهو يعيش وحيدًا مع بعض أقاربه.

عاطف: دعونا من العواطف … ماذا سنفعل؟

تضايقت «لوزة» وقالت: لماذا أنت قاسٍ هكذا؟

عاطف: أخشى أن تُحوِّلوا الاجتماع إلى مأتمٍ للعزاء … وأمامنا قرار لا بدَّ من اتخاذه هل سنُسافر أم لا؟

وردَّت «لوزة» في عناد: سنسافر طبعًا … صديق في محنة … وأمور غامضة … ومزرعة بعيدة … ماذا تريد أكثر من هذا لنسافر؟

عاطف: نحتاج إلى موافقة أسرنا!

تحدَّث «محب» لأول مرة فقال: أعتقِد أنهم لن يُمانعُوا … فقد حقَّقنا جميعًا نتائج مُمتازة أثناء النصف الأول من السنة الدراسية، وسنَطلُب هذه الرحلة كجائزة مُقابل عملِنا باجتهاد وحصولنا على النتائج الطيبة!

تختخ: في هذه الحالة … سنتحدَّث تليفونيًّا الساعة الرابعة بعد الظهر … وإذا حصل كل منَّا على مُوافَقة أسرته … فيتمُّ تجهيز حقائب السفر … ولاحظوا أن الجو سيكون أشد برودة في «بلطيم» … فاستعدوا بملابس ثقيلة؟

قالت «لوزة»: وهل سيأتي «زنجر» معنا؟

قال «عاطف» ضاحكًا: إذا وافقتْ أسرته!

ولم يتمالك الأصدقاء أنفسهم فضحكوا جميعًا، وقال «تختخ» وهو يتجه إلى باب الحديقة: أعتقد أنه يأتي معنا … وباعتباري ولي أمره … فقد وافقتُ على سفره … فما دامت هناك أمور غامضة … ﻓ «زنجر» لا بدَّ أن يكون موجودًا!

•••

بين الساعة الرابعة والخامسة بعد الظهر تمَّت الاتصالات التليفونية … وتوالَت الأنباء المُفرحة … وافقت أسرة «محب» و«نوسة»، ووافقَت أسرة «عاطف» و«لوزة» ثمَّ وافقَت أسرة «تختخ»، وهكذا تحدَّدت الساعة السادسة صباحًا موعدًا للقاء في محطة «المعادي» للحاق بأتوبيس السابعة والربع الذي يُغادِر المحطة في «باب الحديد» في هذا المَوعِد إلى «بلطيم»، ومن باب الاحتياط قام «تختخ» بالاتصال بالمفتش «سامي» وأخطره بالرحلة … وتمنَّى لهم صديقهم المفتش رحلة طيبة … ورجاهم كالعادة ألا يُعرِّضوا أنفسهم للمَخاطر … ولم تكَد الساعة تدق الثامنة مساء حتى أوى الجميع إلى مضاجعهم للحصول على أكبر قدر من النوم والراحة … فقد سافروا إلى «بلطيم» من قبل، ويعرفون أن الرحلة شاقة ولا تقلُّ مدة السفر عن أربع ساعات … ثمَّ إن المزرعة التي طالما حدث «عماد» «تختخ» عنها … تبعد عن بلطيم نحو عشرين كيلومترًا … جزء منها لا تَسير فيه السيارات، بعد أن طفت مياه البحر على شواطئ الدلتا الشمالية، وغمرت أجزاء كبيرة منها بالمياه.

وعندما أوى «تختخ» إلى فراشه أخرج خريطة لمنطقة بحيرة «البرلس» حيث تقع «بلطيم» على شاطئها الشمالي الغربي … ثم وضع نقطة على المكان الذي توقع أن تُوجد فيه المزرعة التي تحمل هذا الاسم الغريب «مزرعة الرياح»، وفي نفس هذا الوقت كانت «نوسة» تتحدث مع «محب» قائلة: هذا الاسم غريب … إنه يُثير في النفس نوعًا من الحزن أو الأسى … أليس كذلك؟

رد «محب» وهو يشدُّ الأغطية على جسمِه: إنكِ قارئة واسعة الخيال … ولست أرى إلا أن صاحب التسمية رجل مُختلُّ التفكير … أو أن رياحًا قوية اعتادَت أن تهبَّ على المزرعة فحملت هذا الاسم.

قالت «نوسة»: على العكس … إنه ليس مُختل التفكير … إنه رقيق الحس … إنَّ الاسم يُذكِّرني باسم رواية مرتفعات «وذرنج» التي كتبتها الأديبة الإنجليزية «شارلوت برونتي» … إنه يشبه النغمة الحزينة.

رد «محب» وهو يُعطيها ظهره: غدًا على كل حالٍ سنَرى مزرعة الرياح … وربما تُغيِّرين رأيك في هذا الكلام.

وأطفأ «محب» النور وغاص تحت الأغطية في فراشه … بينما ظلت «نوسة» مستيقظة فترة من الوقت قبل أن تستسلم لسلطان النوم.

في السادسة من صباح اليوم التالي، كان المغامرون الخمسة و«زنجر» يقفون على محطة المعادي وكان اليوم باردًا، بل شديد البرودة، وقد اختفت الشمس خلف سحاب أسود منخفض … ولما كان اليوم يوم جمعة … فلم يكن هناك عدد كبير من المسافرين في هذا الصباح الباكر … وهكذا وجدوا لأنفسهم أماكن للجلوس … وقبع «زنجر» بجوار «لوزة» … وأخذ يَرقُب الطريق عبر زجاج النافذة، وهو يتساءل عن هذا السفر المفاجئ في هذا البرد … ويتذكَّر كُشكَه الخشبيَّ الدافئ ويتمنَّى لو أعفاه المغامرون من هذه الرحلة السخيفة … ولكن يد «لوزة» الحانية جعلته يعاود النظر في المسألة … كيف يبقى وحيدًا وهم مسافرون!

بعد أربعين دقيقة كان المغامرون الخمسة في باب الحديد … وعند الباب الخلفي للمحطة الضخمة كان موقف سيارات «بلطيم» … وركبوا الأتوبيس … وبالطبع قطعوا تذكرة للسيد «زنجر» الذي بدأ يستمتع بالرحلة بعد أن تغلَّب على البرد.

انطلق الأتوبيس في موعده … وسرعان ما غادر منطقة شبرا المزدحمة، وأخذ يزيد سرعتَه منطلقًا على الطريق الزراعي السريع … وقالت نوسة: ما زال الجو باردًا ويُنذِر بالمطر!

رد «تختخ»: نرجو ألا تُمطر حتى نصل إلى المزرعة … فالأمطار على السواحل الشمالية عادة أغزر من المناطق الوسطى في الجمهورية … وستُصبح الطرق زلقة ويصعب السير عليها.

ولكن تمنِّيات «تختخ» لم تتحقَّق، فلم يكد الأتوبيس يصل إلى مدينة كفر الشيخ حتى أخذت السماء تُرسل رذاذًا ناعمًا خفيفًا … بدأت الأرض بعده تلمع بالماء … وتوقف الأتوبيس في المحطة، ونزل الأصدقاء إلى مقهًى صغير وطلبوا شايًا وأخذوا يرمقون السماء بعيون قلقة … وبعد نصف ساعة توقفها الأتوبيس في كفر الشيخ … عاد المغامرون إلى أماكنهم … وانطلق الأتوبيس، وقد بدأ الرذاذ الناعم يتحوَّل إلى مطر غزير وبدأت مسَّاحات الزجاج تعمل رائحة غادية.

وبدأ الأتوبيس الضخم يترنح من جانب إلى جانب كأنه يرقص … وأحس المغامرون أن قرار الرحلة لم يكن مُناسبًا في هذا الجو … خاصة وأن المطر بدأ يتحوَّل إلى سيل تدفعه الرياح الهوجاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤