لا شيء غير المطر

عند قرية «الحامول» القريبة من «بلطيم»، توقَّف الأتوبيس تمامًا عن السير … وأعلن السائق أن أيَّ مُحاولة للتقدم بعد هذا تُعتبَر انتحارًا ومُغامَرة بأرواح الركاب … وأنه لن يتقدم خطوة واحدة حتى يتوقف المطر تمامًا … ثم يتحرَّك بعدها بساعة عندما تجف الأرض نسبيًّا … ونزل الركاب الذين بقوا في الأتوبيس ولم يكن عددهم يَزيد على العشرة … ونزل المغامرون الخمسة أيضًا … وأسرع كلُّ من نزل يَحتمي من المطر بسقف المقهى الصغير حتى ضاق بمن فيه … وأشار «تختخ» إلى الأصدقاء ليحتموا من المطر بجانب عشة من البوص والحطب … ووقفوا جميعًا وقد وضعوا أيديهم في جيوبهم … ينظرون إلى الأرض الخضراء الواسعة والمطر يَهطل عليها مدرارًا … والأشجار الكبيرة وقطرات المطر السميكة تنزل من أوراقها وأغصانها … وعلى امتداد الرقعة الزراعية بعيدًا في الأفق الأسود بدت مدينة بلطيم … مجرَّد شبح ضخم يربض عند الأفق … ولأنَّ المدينة عالية عن الأرض فهي مقامة على مجموعة من التلال المرتفعة … بدت من بعيد كأنها معلَّقة بين السحب … كان كل شيء يدعو للأسى والضيق، لولا أن «عاطف» قال فجأةً: ماذا دهاكم … يبدو كأننا ذاهبون للعزاء؟!

واندفع بعض الحماس إلى قلوب المغامرين عندما مضى الفتى المَرِح يقول: السماء تمطر … أليس هذا طبيعيًّا في الشتاء … الرحلة شاقَّة أليس أمرًا عاديًّا بالنسبة للمُغامرين الخمسة الذين طالما اجتازوا الأهوال؟!

قالت «نوسة»: معك حق يا «عاطف» … لقد استسلمنا للتعاسة!

عاطف: أكثر من هذا سأجد لكم حلًّا للموقف فورًا. ودون انتظار … دق «عاطف» باب العشة … ونظر إليه المغامرون في استنكار … ولكنه لم يهتم، بل مضى يدقُّ وسرعان ما فتح الباب الخشبي القديم … وأطل وجه فلاحة عجوز … فقال لها «عاطف»: هل أجد ماءً للشرب يا عمة؟

ردت السيدة: طبعًا يا ولدي … ولكن لماذا تقفون هكذا في البرد؟

عاطف: توقف الأتوبيس عن السير بسبب المطر … ونحن ذاهبُون إلى «بلطيم»!

قالت السيدة: يحدث هذا كثيرًا … تفضلوا بالدخول.

نظر «عاطف» إلى المغامرين مُبتسمًا، فقال «تختخ»: ولكن يا عمة … قد نضايقك!

قالت السيدة بلطفٍ شديد: على الرحب والسعة يا أولادي … شبر من الأرض يتسع للأحباء … تفضلوا.

ودخل الأصدقاء وبينهم «زنجر» الذي أسرع بالدخول خشية أن ينسوه … وكانت دهشتهم شديدة … لأن العشة كانت دافئة … ولكن دهشتهم زالت عندما وجدوا في جانب العشة «كانونًا» مشتعلًا … وبجواره ولد صغير وبنت يتناولان الطعام.

قالت السيدة وهي تمدُّ يدها بكوب الماء إلى «عاطف»: إن ولدي وزوجته ذهبا إلى السوق في القرية المجاورة، ولن يعودا قبل المساء … وهذان طفلاهما.

مدت «لوزة» يدها في حقيبة يدها، وأخرجت قطعتي شيكولاتة وقالت: أرجو أن يقبلا منِّي هذه الهدية البسيطة يا عمة.

فرح الطفلان كثيرًا بالورق الملوَّن … وتركا الطعام وانهمكا في أكل الشيكولاتة … أما السيدة العجوز، فأخذت تعدُّ الشاي على «الكانون» الذي أحاط به الأصدقاء يلتمسون الدفء في نيرانه المشتعلة وقد غرق كلٌّ منهم في خواطره، فساد الصمت إلا من صوت المطر المتساقط على سقف العشة … ولم تَمضِ سوى دقائق قليلة حتى قدمت لهم السيدة العجوز الشاي … ومعه طبق من الجبن القديم يسبح في «المش» الأحمر … وبعض عيش «البتاو» الجاف، فانهمكوا جميعًا في تناول الطعام الفلاحي اللذيذ … وهم يُمطرون السيدة العجوز بعبارات الشكر على كرمها المصري الأصيل.

وعندما انتهى الأصدقاء من طعامهم خرج «محب» يرى الموقف … وفوجئ أن الركاب قد تلاشوا تقريبًا عدا قليل منهم … بينما أغلق السائق عليه نوافذ وأبواب الأتوبيس واستغرق في النوم … وكانت الطرقات والحقول قد تحوَّلت كلها إلى بِرَك من الماء … وبدا واضحًا أنه من الصعب أن يتحرك الأتوبيس مرةً أخرى هذا اليوم … ونظر «محب» إلى ساعته … كانت قد تجاوزت الثانية والنصف بعد الظهر … ومعنى ذلك أنه لم يبقَ على هبوط الظلام إلا ثلاث ساعات أو أقل … فماذا يفعلون؟

عاد «محب» بالسؤال إلى المغامرين الذين أخذوا يناقشون الموقف، وسمعتهم السيدة العجوز فقالت: إلى أين أنتم ذاهبون يا أولادي؟

قال «تختخ»: إلى «بلطيم» يا عمة، وبعدها إلى مزرعة صديق لنا.

هزَّت السيدة رأسَها قائلة: لن تستطيع أيَّة عربة أن تسير على الأرض الزلقة … وقد شاهدنا حوادث كثيرة في الشتاء … وليس هناك سوى حل واحد.

التفت إليها الأصدقاء متسائلين … فقالت: أن تستخدموا الحمير … الحمار لا يقع أبدًا في الوحل فهو مدرَّب على السير فيه!

قال «تختخ»: وكيف نَحصُل على الحمير يا عمة؟

ردت السيدة العجوز: بعد قليل سيَصل ولدي وزوجته من السوق ومعهما حمارنا … ومن الممكن استئجار حمارَين آخرين من الجيران … لقد كنتُ أتمنَّى أن أدعوكم إلى قضاء الليل هنا … ولكن المكان لا يليق بكم.

قالت «نوسة»: إنك يا عمة في غاية الكرم … بارك الله لكِ، ونحن موافقون على استئجار الحمير.

مضت ساعة أخرى … وتوقف المطر … وسمع المغامرون صوت حوافر الحمار الهادئة وهي تقف أمام الباب … وأسرعت السيدة العجوز تفتح لابنها وزوجته … وكانا محمَّلَين بمشتريات السوق من أغذية وفاكهة … سعيدَين رغم مياه المطر التي كانت تقطر من ثيابهما … وخلال الدقائق التالية تم التعارف بين «جودة» وزوجتِه والمغامرين.

وشرحت السيدة العجوز لابنها ما جرى، فقال: وإلى أين أنتم ذاهبون بعد بلطيم؟

قال «تختخ»: سنَذهب إلى «مزرعة الرياح»!

بدت الدهشة والتوجُّس على وجوه الثلاثة … وقال «جودة»: مزرعة الرياح؟ إنها في مكان مُتطرِّف من شاطئ البحر … وهي مزرعة منكوبة وسيئة الحظ لكلِّ مَن دخلها.

تختخ: لماذا؟

جودة: لا أدري … ولكن الذين ذهبوا إليها — ولستُ منهم — عادوا يحكون قصصًا وحكايات مفزعة عن أصوات تَصدُر هناك … وعن سيدة عجوز تُقيم وحدها مع خادمٍ أخرس وأبكم … وأشياء أخرى.

قالت العجوز مُعلِّقة: لماذا تذهبون إلى هذا المكان المشئوم يا أولادي … إنكم تُعرِّضون حياتكم للخطر … عودوا إلى بلدكم … ولا داعيَ لهذه الرحلة.

صمت الأصدقاء وتبادلوا النظرات، ولكن «محب» المندفع قال: لنا صديق هناك يا عمة طلب منا زيارته وموعدُنا معه اليوم.

ثم التفتَ إلى «جودة» وقال: نُريد استئجار ثلاثة حمير تحملنا إلى هناك وسندفع لك ما تطلب.

هرش «جودة» رأسه وبلل شفتيه ثم قال: سيهبط الظلام بعد قليل، ولن نصل هناك قبل صلاة العشاء.

تختخ: هذا يُناسبنا جدًّا … وسنَدفع لك ثلاثة جنيهات!

كان المبلغ مغريًا فقال «جودة»: لا بأس … سأخرج وأعود إليكم بعد نصف ساعة …

انهمكت السيدة العجوز وزوجة ابنها في إخراج مشتريات السوق، بينما اجتمع الأصدقاء أمام العشَّة يَتناقشون … ولم يَحدُث أي خلاف بينهم … لقد قرروا جميعًا الذهاب إلى «مزرعة الرياح» برغم التحذير الذي سمعوه … فطالما سمعوا مثل هذه الحكايات المخوفة، عن أماكن كثيرة زاروها.

وفي الموعد الذي حدَّده «جودة» ظهرت الحمير الثلاثة … وقام المُغامِرون بتوديع السيدة العجوز شاكرين لها فضلها، ثم ركب كلٌّ من «محب» و«نوسة» على حمار و«عاطف» و«لوزة» على حمار … و«تختخ» السَّمين على حمار وحده، ومعه أكثر الحقائب، بينما ركب «جودة» حماره، وانطلقت القافلة.

سار «جودة» في المقدمة … ثم «تختخ» ثم «لوزة» و«عاطف» ثم «محب» و«نوسة» … كان المطر قد توقَّف تمامًا … ولكن الريح كانت ما زالت تهبُّ بشدة عبر السهول الواسعة محمَّلة برائحة الزرع والطين … وأخذت ملامح مدينة «بلطيم» تتضح شيئًا فشيئًا كلما مضوا في سيرهم … وفي تمام الساعة الخامسة والنصف وصلوا إلى «بلطيم» وبدَت كمدينة مهجورة … لا أحد في الشوارع، ولولا أضواء الكهرباء المنتشرة في الطرقات الرئيسية لبدت كمقبَرة كبيرة ليس بها إنسان.

كانت بحيرة «البرلس» على يسارهم … ومياهها الرمادية تمتد إلى ما لا نهاية … فساروا بمحاذاتها فترة، ثم انحرفوا يمينًا، ومضوا وسط أشجار النخيل المكثفة وقد هبط الظلام تمامًا … ولم يَعُد عندهم ما يعتمدون عليه في سيرهم إلا غريزة الحمير التي مضت تشق الظلام دون أن تقع في بِرَك المياه المتناثِرة … أو تنحرف عن خط سيرها الذي كان «جودة» يحدده بالصياح: شي … شي … ثم يستخدم عصاته الصغيرة في تعديل خط سير الحمير يمينًا ويسارًا.

بعد نحو نصف ساعة من مغادرة «بلطيم» بدا صوت البحر الهادر يصل إليهم تدريجيًّا … وازدادت سرعة الهواء وبرودتُه … وأحست «لوزة» بأسنانها تصطك … وبعدم قدرتها على الإحساس بأصابع يديها وقدميها … وفكَّرت — ربما لأول مرة في حياتها — أن بعض المغامرات والألغاز ليست من اختصاص المغامرين الخمسة … ولكن قبل أن تَسترسِل في أفكارها سمعت صوت «زنجر» يرتفع فوق صوت الرياح، وهو ينبح بشدة وباهتياج … وتوقف الحمير عن السير، وأخذت تتراجع في فزع واضطراب … ودُهشت «لوزة» وقالت ﻟ «عاطف» الذي كان يجلس أمامها على الحمار: ماذا حدث؟

رد «عاطف»: لا أدري … لا بدَّ أن خطرًا يواجهنا حتى ينبح «زنجر» بهذه الطريقة، وتوقف الجميع عن السير … وأخذ «جودة» يُهدِّئ من ثائرة الحمير التي كانت تحاول الانطلاق عائدة … ولكنه نزل، وأخذ يردُّها. وتقدم «زنجر» وحده في الظلام ينبح بشدة، وسمع المغامرون صوت معركة تدور في الظلام بين «زنجر» وبين عدوٍّ مجهول … فقفَز «محب» و«تختخ» مُحاولَين اللحاق ﺑ «زنجر»، ولكن «جودة» صاح بهما: عُودا … إنهما بعض ذئاب أو ثعالب المنطقة تبحث عن الطعام وتريد مهاجمة الحمير.

قال «تختخ» بصوت مُرتفع فزع: ولكنها ستفتك ﺑ «زنجر» إذا لم نلحق به!

جودة: وماذا في إمكاننا أن نفعل … هل معكم سلاح؟

تختخ: لا … ولكن معنا بطاريات!

وأخرج كل واحد من المغامرين الخمسة بطاريته، وتقدموا بالقرب من المعركة الناشبة، وأطلقوا أضواء الكشافات … وتقدم «جودة» بشجاعة يُمسك عصاته، ويطلق صيحات عالية … وعلى ضوء الكشافات بدا عددٌ من الذئاب يتراجع … وقد وضعت أذيالها بين أفخاذها … بينما ظل «زنجر» ثابتًا مكانه ينبح في ضراوة ووحشية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤