الليل … والبحر

ابتعدت الذئاب واختفت في النخيل المتكاثف، وقال «جودة»: يجب أن نتقدم سريعًا … فقد تعاود الهجوم مرة أخرى … إنها ذئاب جائعة، والذئب الجائع من أشرس الحيوانات.

ومضت قافلة الحمير مرة أخرى حتى تجاوزت غابة النخيل … ووصلَت إلى شاطئ البحر، وتوقف «جودة» وأشار إلى نقطة سوداء بعيدة يلمع فيها ضوء شاحب وقال: هذه هي مزرعة الرياح … وصمت قليلًا ثم أضاف: والطريق الوحيد إليها شريط ضيق من الرمال والصخور … وستكون المسافة شاقة فحافظوا على توازُنِكم.

وصاح بالحمير: حا … حا … شي …

ومضت الحمير الأربعة على الشريط الرملي الضيق … وكانت الأمواج العالية تتكسَّر على الشريط الساحلي … وكثيرًا ما تطغى عليه … وكان المغامرون الخمسة قد أخرجوا بطارياتهم، وأخذوا على ضوئها الخفيف يُراقبون الشريط الرملي وهو يتَّسع أحيانًا … ويَضيق أحيانًا … ويتلاشى أحيانًا خلف المياه، حتى كانت الحمير تسير وقد وصلت المياه إلى مُنتصَف سيقانها.

شيئًا فشيئًا تقدمت القافلة وأخذ الضوء الشاحب يتزايد تدريجيًّا … وبعد نحو ساعة من السير البطيء … وصلوا إلى ساحة رملية … تبرُز فيها صخور ضخمة … وفي ركن من الساحة التي تُشبه الجزيرة … كانت مزرعة الرياح … بناءً ضخمًا لا تبدو تفاصيله واضحة في الظلام، مبنيًّا من الحجر والصخر، يبدو كقلعة من قلاع القرون الوسطى … وقد ارتفعت فوق تلٍّ من الصخور الضخمة … التي كانت الأمواج العالية تتكسَّر عليها في وحشية …

وعلى مبعدة نحو مائة متر منها كان ثمَّة مبنًى أصغر حجمًا … يشبه فيلا صغيرة …

وقد لمعَ فيه ضوء متأرجح.

قال «جودة» وهو ينزل: هنا تَنتهي مهمتي!

رد «تختخ» وهو يمد له يده بالنقود: ولكن يجب أن تقضيَ الليلة معنا!

جودة: لا … لا بد أن أعود!

تختخ: ولكن يا «جودة» … هذه الذئاب في الطريق!

جودة: لا تخشَ شيئًا … سوف أمرُّ على أحد أصدقائي في عزبة النخيل، وهو يملك بندقية يمكن أن نُفرِّق بها الذئاب.

تختخ: هل أنت متأكد أنك لا تحتاج إلى معونتنا … أو تبقى معنا؟

جودة: لا!

تختخ: إذن مع السلامة … وشكرًا لكم جميعًا على كرم ضيافتكم!

واستدار «جودة» بحماره، فأدارت الحمير الثلاثة رءوسها وسارت خلفه … ووقف الأصدقاء في الساحة الرملية يرقبون قافلة الحمير تبتعد … وكانت الريح تهبُّ بشدة، ولكن «لوزة» لاحظت أنها ليست باردة كما توقَّعت … وقرَّرت أن تسأل «تختخ» فيما بعد عن هذه الظاهرة.

تقدم الأصدقاء، وكلٌّ يحمل حقيبته … وسبقهم «تختخ» إلى الباب الخشبي الضخم المسلح بالحديد وأضاء كشافه حتى عثر على زرِّ الجرس فضغط عليه … ومضت فترة دون أن يظهر أحد، فعاد يَضغط مرةً أخرى ويستمع … وخُيِّل إليه أنه يسمع هديرًا يشبه صوت ماكينة تدور يخفيها صوت الريح القوية.

فجأةً انفتح الباب … وظهر على عتبته رجل طويل القامة … جامد الوجه … يلبس ما يشبه ملابس البحارة … ونظر إلى الأصدقاء فقال «تختخ»: نحن أصدقاء «عماد»! لم يردَّ الرجل بكلمة ولكنه أفسح الطريق … ولم يكَد الأصدقاء يدخلون الصالة الواسعة التي تتوسَّط مبنى مزرعة الرياح حتى شاهدوا «عماد» ينزل سريعًا من سلم حجري يدور حول الجدار ويصل إلى وسط الصالة.

صاح «عماد»: «توفيق»!

وصاح «تختخ»: «عماد»!

وأسرع «عماد» يُلقي بنفسه بين ذراعي «تختخ» الذي احتضنه في محبة، وقال «عماد» بصوت أقرب ما يكون إلى البكاء: لقد يئستُ تمامًا من حضوركم!

قال «تختخ»: كانت الظروف أقوى منا!

عماد: بالتأكيد، قد بذلتم جهدًا رائعًا للوصول في هذا الجو العاصف الممطر!

تختخ: أقدم لك أصدقائي.

وأخذ «عماد» يُبادلهم السلام وهو يقول: لقد قابلتكم من قبل، ولكن لعلكم لا تذكرونني!

وفي هذه اللحظة … وقبل أن يردَّ أحد … ظهرت في جانب الصالة سيدة يتراوَح عمرُها بين الخمسين والخامسة والخمسين … شَعرُها الأسود تناثَرَت فيه شُعَيرات بيضاء … لها وجهٌ طيب وإن لم يكن جميلًا … وتضع على عينَيها نظارات طبية … وتلبس على ثيابها السوداء الثقيلة شالًا من الصوف السميك.

وقدمها لهم «عماد» قائلًا: عمَّتي السيدة «فتحية»!

وأخذت السيدة تسلم عليهم واحدًا واحدًا … وتُقبلهم في سعادة وهي تقول: لم أكن أُصدِّق أنكم ستأتون … أهلًا بكم وسهلًا!

وأشارت السيدة إلى الرجل الطويل القامة وقالت: «زنهار» … ولكن يُمكن أن تدعوه بأي اسم؛ فهو لا يسمع ولا يتكلم.

وأحنى «زنهار» رأسه للأصدقاء في مودة … وأخذت السيدة تُشير إليه بيديها، وسرعان ما كان يحمل حقائب المغامرين كلها مرة واحدة، ثم يصعد السلم الحجري إلى الطابق الثاني … ودعت السيدة «فتحية» الأصدقاء إلى الجلوس … واختارت كرسيًّا بجوار «لوزة» وأخذت تتحدث إليها … بينما جلس «عماد» بجوار «تختخ» وهمس في أذنه: إنَّ عمتي لا تعرف سبب دعوتكم … إنني فقط أخبرتها أنكم تُحبُّون أن تقضوا إجازة نصف السنة هنا … وقد رحَّبَت بحضوركم كثيرًا!

همس «تختخ»: وما هي الأمور الغامضة التي أشرت إليها في برقيتك …؟

رد «عماد» بنفس الصوت الهامس، وقال: سأزورُك في غرفتك بعد ساعة وأكلمك!

قال «تختخ»: كنتُ أُفضِّل أن يستمع المغامرون جميعًا إلى ما ستقول … فأنت تعرف أننا نعمل جميعًا معًا … من المفيد أن يستمعوا إليك مباشرة بدلًا من أن أَرويَ لهم مرةً أخرى ما قلته … إنهم جميعًا أذكياء وقد يكون من المفيد أن يطرحوا الأسئلة عليك مباشرة.

عماد: إذن سنخرج في الصباح في جولة في المزرعة … ونتحدث!

تختخ: هذا يناسبنا جدًّا!

عاد «زنهار» ووقف بجوار السلم وأخذ يتفرس الأصدقاء بعينَين نافذتين، حتى شعرت «لوزة» برجفة تسري في جسمها، وقالت السيدة: هل تَتناولون عشاءكم أولًا؟!

من المؤكد أنكم جوعى!

قالت «نوسة»: أفضِّل شخصيًّا أن أغتسل ثم نعود للعشاء!

قالت السيدة «فتحية»: بارك الله فيك يا ابنتي … هذا كلام العقلاء، هيا إذن جميعًا إلى غرفكم … وسيُريكم «عماد» أين هي … وسأقوم مع «زنهار» بإعداد العشاء.

وقف الأصدقاء، وصعدوا مع «عماد» السلَّم الحجري إلى الطابق الثاني … وكالعادة كانت هناك غرفة ﻟ «محب» و«نوسة» … وأخرى ﻟ «عاطف» و«لوزة» … ثم كان «تختخ» وحده … وقال «تختخ»: سنكون جميعًا على مائدة العشاء بعد ربع ساعة.

ساد المغامرين جو من الطمأنينة والراحة بعد عناء اليوم الطويل … وكانت غرفهم جميعًا مريحة رغم قِدَمها … وفي الموعد المحدَّد تمامًا كانوا جميعًا ينزلون السلم إلى الصالة التي تؤدي إلى قاعة الطعام … وسرعان ما كانوا يُحيطون بمائدة من أجمل الموائد التي شاهَدُوها … كانت تحفة في صناعتها الدقيقة … وكراسيها العتيقة مُتمشية مع الجو العام للقصر القديم، وأخذت عيون الأصدقاء تدور مبهورة مع اللوحات الرائعة التي تُزيِّن الجدران … ودواليب الفضيات والصيني التي تغطي الحوائط، والتي كانت لدهشتهم الشديدة فارغة.

كان الطعام مكوَّنًا من البطاطس المحمَّرة الساخنة … والبوفتيك … والخضار المسلوق، وكان المغامرون جوعى … فأحسُّوا أنه أجمل طعام تناولوه … وكان «زنجر» من نفس الرأي … فقد أعطته السيدة «فتحية» كمِّية من اللحم أشبعت جوعه.

وبعد تناول العشاء قال «محب»: إنني لم أرَ قصرًا بهذا الجمال من الداخل … إن شكله من الخارج يتناقَض تمامًا مع روعته الداخلية!

قالت السيدة «فتحية»: إنك لم ترَه عندما كان أخي الأستاذ «حلمي» على قيد الحياة … لقد قضى حياته كلها يجلب له التحف من جميع أنحاء العالم … لقد كسب الكثير، الكثير جدًّا وأضاعه كله على هذا القصر، خاصة التحف، والكتب النادرة.

قالت «لوزة»: وأين ذهب كل هذا؟

ولاحظت على الفور أن السيدة «فتحية» و«عماد» قد بدا عليهما الارتباك … وأن «تختخ» ينظر إليها … وكادت تستمر في حديثها لولا أن «تختخ» قال: إنه موقع فريد … وقصر لم نرَ مثله … ولعلنا نهارًا نستطيع أن نرى بقيته!

قالت السيدة «فتحية» وهي تقوم: إن شاء الله … تُصبحون على خير!

وأخذ «زنهار» ينظف المائدة، بينما قال «عماد»: هل تُفضِّلون النوم الآن …؟

تختخ: نعم … لقد كان يومًا مرهقًا … وفي الصباح سوف نتحدث.

وتبادل الأصدقاء تحيات المساء مع «عماد»، ثم انصرفوا إلى غرفهم بعد أن اطمأنوا على مكان نوم «زنجر» عند مدخل المطبخ في مكان دافئ.

دخل «تختخ» غرفته … فجلس على مقعد بجوار الفراش وأخذ يفكر في هذه المغامرة … كان كل شيء عن احتمال حدوث شيء ما … ولكن ما هو هذا الشيء؟ ولماذا يُخفي «عماد» مشاعره عن عمته؟ وما هو موقف هذا الرجل «زنهار» من هذه الأحداث كلها؟ …

كانت هذه الأسئلة وغيرها تطوف بذهنِ «تختخ» ونظر إلى ساعته … كانت قد تجاوزت العاشرة ليلًا … وأحسَّ بأنه في حاجة للنوم … فخلع ثيابه … وتمدَّد لينام.

لا يدري «تختخ» كم من الوقت مضى وهو نائم … ولكنه استيقظ تدريجيًّا على شعور مُبهَم بالتوتُّر … ظلَّ مُستلقيًا في فراشه ثم فتح عينَيه … وفُوجئ بأن الدنيا حوله تسبح في ظلام دامس … فمدَّ يده إلى زر النور الذي يجاور فراشه وضغط عليه … ولكن الظلام ظلَّ سائدًا … ظلامًا كثيفًا أحس معه بانقباض … وجلس في فراشه … وخُيِّل إليه أنه يَسمع صوت خطوات خارج غرفته، فنزل بخفَّة وأسرع إلى الباب يَفتحه ونظر إلى الدهليز … وكان يسبح في الظلام أيضًا … ولكنه استطاع أن يسمع صوت أقدام تبتعد بسرعة … ولم يتردَّد «تختخ» … وأسرع خلف صوت الأقدام ووجد نفسه ينزل السلم الداخلي للفيلا … ووجد الصالة الواسعة تَسبح في الظلام أيضًا … وأخذ يتحسَّس طريقه وتمنَّى لو كان قد أحضر كشافه معه … وقبل أن يُفكِّر كيف يَتصرَّف اصطدم بمقعد صدمة عنيفة … وترنَّح المقعد وسقط محدثًا دويًّا في الصمت السائد … وأحسَّ «تختخ» بألم عنيف في ساقه … وسمع صوت بابٍ يُفتح ويُغلق في نهاية الصالة … ثم ساد الصمت من جديد …

وقف مكانه لحظات … ولكن شيئًا لم يحدث … فأخذ يتحسَّس طريقه عائدًا … معتمدًا على الحائط حتى وصل إلى السلم فأخذ ينقل أقدامه في هدوء حتى وصل إلى الدهليز، ولم يكَد يتقدم خطوات فيه حتى انطلق ضوء من كشافٍ سقَط عليه … وأعشى عينيه لحظات قبل أن يسمع صوت «محب» يقول «تختخ» …

قال «تختخ»: ماذا أيقظك؟

محب: سمعت منذ لحظات صوتًا في الصالة السفلى … هل كنت هناك؟

تختخ: نعم … ثمة شخص كان يتلصَّص علينا … وخرج من القصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤