ماذا وراء الضيوف

دخل «تختخ» و«محب» إلى غرفة «تختخ» … وأغلقا الباب … وجلسا ساكنين في الظلام فترة من الوقت يستمعان، لعلهما يسمعان وقع الأقدام مرة أخرى … ولكن الصمت ظلَّ سائدًا … عدا صوت الريح التي بدأت تهدأ تدريجيًّا … وصوت الأمواج وهي تتكسَّر على الصخور الضخمة التي تحيط بقصر مزرعة الرياح … ثم قال «تختخ»: لا أظن أن صاحب الأقدام سيتحرك مرة أخرى الليلة بعد أن أحس بأنني كنت أطارده.

محب: هل خرج من المبنى كله؟

تختخ: نعم … فالباب الذي أغلقه خلفه يؤدي إلى خارج القصر من الناحية الغربية!

محب: ألم يقل لك «عماد» شيئًا؟

تختخ: لا … وقد اتفقنا على أن نتحدث في الصباح، فقد كنا جميعًا متعبين وفي حاجة إلى النوم!

محب: إذن أتركك الآن!

وغادر «محب» الغرفة، واستمع «تختخ» إلى صوت قدميه على الأرض الرخامية حتى وصل إلى غرفته، وأغلق الباب، وتمدد «تختخ» في فراشه يُفكر … وخُيِّل إليه أنه يسمع صوت دقات منتظمة في مكانٍ ما … تُشبه ارتطام شيء بالصخور … ثم انقطع الصوت ومضَت فترة من السكون، استغرق خلالها «تختخ» في النوم …

•••

كان صباح اليوم التالي مُختلفًا جدًّا عن الأمس … فقد أشرَقَت الشمس وهدَأت الرياح تمامًا … وعندما خرج المغامرون الخمسة و«عماد» إلى الساحة الأمامية التي تُطلُّ على البحر شاهدُوا منظرًا من أجمل المناظر التي يُمكن أن يراها الإنسان … كان القصر يشمل مساحة تزيد على ألف متر مربع … تحيط به ساحة واسعة من الرمال الصفراء الذهبية، ويُحيط بالجميع سور من الحجر يَمنع مياه البحر من الوصول إلى الساحة والقصر … ولكن السور كان محطمًا في بعض أجزائه، واستطاعت الأمواج أن تَنفُذ منه وتغطي جزءًا من الساحة، وكانت هناك صفوف من النخيل تمتد يمينًا ويسارًا كجناحين كبيرين لطير ضخم … وفي مُنتصَف السور تمامًا كان هناك مرسى للقوارب مبنيٌّ من الصخر … ثم عند نهاية صفِّ النخيل الغربي … كان ثمة كوخ من الحجر … يشبه مُلحَقًا للقصر … ولاحظ المُغامرون على الفور شخصًا يقف خلف زجاج نافذة هذا الملحق ينظر إليهم.

قال «تختخ»: هل هناك سكان آخرون غيرك وعمتك و«زنهار» …؟

رد «عماد» بصوت غامض: دعك من الأسئلة الآن يا «توفيق» وتظاهَرُوا بأنَّكم لم تروا أحدًا … ودعونا نستمر في جولتنا!

طافوا بالمزرعة من الخارج … وشاهدُوا الشريط الضيق من الأرض الذي يَربطُها بمدينة «بلطيم» … ودُهشوا كيف استطاعَت الحمير الأربعة السير عليه في الظلام دون أن تقع في البحر … وكان هناك خطٌّ تليفوني يَربط القصر بالمدينة … وبعض أعمدته كانت مائلةً بتأثير الرياح … وتكاد تسقط في المياه.

بعدها، قادَهُم «عماد» إلى الجناح الشرقي للقصر … وفتح بابًا صغيرًا دخلوا منه، وفوجئوا جميعًا بما شاهدوا … كانوا أمام أضخم مكتبة خاصة شاهَدُوها … غرفة واسعة جدًّا … في نهايتها غرفة أصغر تُشبه مُلحَقًا صغيرًا للمكتبة … بها مكتب من أروع المكاتب التي يُمكن أن يراها إنسان … فهو تحفة حقيقية من خشب الأبنوس الأسود المطعَّم بالعاج … وكانت الجدران كلها مُغطَّاة بأرفف الكتب، ووقف المغامرون وقد أذهلتهم المفاجأة.

قال «عماد»: لقد كان أبي قارئًا عظيمًا … وهاويًا من هُواة التُّحَف النادرة لا مثيل له … وقد جمع هذه الكتب من جميع أنحاء العالم … وبعضُها مخطوطات نادرة تُساوي الكثير … وأشار «عماد» إلى بعض الكراسي الجلدية المغطَّاة بأغطية من القطيفة الزرقاء الداكنة، وقال: تفضلوا … لقد طلبتُ من «زنهار» أن يُحضِر لنا الشاي هنا.

وجلس المغامرون … وقام «عماد» ففتح نافذةً، وتدفَّق نورُ الشمس خلال الزجاج … ثم فتح بابًا يؤدي إلى داخل القصر، ونظر نظرة خاطفة ثم عاد … وفتح الباب الصغير الذي دخلُوا منه، ونظر نظرة أخرى ثم عاد.

وعرف المُغامرون أنه يُريد أن يتأكد أنه لا أحد يتجسَّس عليهم.

قال «عماد»: الآن أستطيع أن أتحدث إليكم، وأريد أولًا أن أعتذرَ عما سببتُه لكم من مشقة، ولكن لم يكن عندي من أعتمد عليه سواكم.

قالت «لوزة» باندفاعِها المعتاد: لقد شوقتنا كثيرًا … ونحن نرجُوك أن تتحدَّث … ما هي الأمور الغامضة التي تَحدُث في مزرعة الرياح؟

عماد: سأَروي لكم كل شيء … ولكن لا بد من العودة قليلًا إلى الوراء … فبعضُ ما يَحدث الآن له جذور في الماضي … وكل الحديث سيدور حول شخصية أبي … وسيتَّضح لكم أن كل ما يحدث الآن مُرتبِط بالماضي وبأبي معًا.

وأحضر «زنهار» الشاي، وخرج … وبدأ «عماد» حديثه قائلًا: لقد رأيتُ أبي على فترات قصيرة مُتقطِّعة … فقد كان دائمًا على سفر … فقد كان يعمل في الاستيراد والتصدير، ومركز عمله هو «باريس» … وعندما كان يَحضُر إلى مصر كان يُضيِّع أكثر وقته في بناء مزرعة الرياح، وتأثيثها … وكان في كلِّ مرة يَحضُر فيها يجلب معه بعض التحف والأثاث النادر والكتب القيمة، حتى أتمَّ مزرعة الرياح … وأنا ما زلتُ طفلًا في الخامسة من عمري … ولي بعض الذكريات عن المزرعة … قبل أن يَطغى البحر عليها … والذي لا شك فيه أن أكثر التحف الثمينة قد اختفَت بطريقة لا أفهمها … والوحيد الذي يعرف كل شيء هو «زنهار»، ولكنه لا يتحدث ولا يبوح بسرٍّ … ويبدو أن عنده اعتقادًا أن أبي سيعود يومًا … فأبي لم يختفِ بطريقة عادية … لقد غرقت السفينة التي كان يستقلُّها، ولم يُعثَر له على أثر.

وصمت «عماد» وبدَت على وجهه ملامح حزن دفين، ثم مضى يقول: منذ عامين اختفى أبي … وحضرتُ للإقامة مع أمي وعمتي هنا … ولكنَّ أمي لم تُطِق البقاء في هذا المكان الموحش وحدها … وسرعان ما قررت أن تعود إلى أسرتها في إنجلترا، وتأخذني معها … ولكن عمتي عارضت … وأصرَّت أن أكمل تعليمي في مصر … وهكذا أقضي فترة الدراسة هنا … ثم أعود إلى إنجلترا لقضاء إجازة الصيف.

قالت «نوسة»: ولكن لماذا سمَّى والدك هذا المكان بمزرعة الرياح … رغم أنها ليست مزرعة بالمعنى الصحيح؟ … كما أن الاسم نفسه يَحمل معنى غريبًا …

قال «عماد»: لا … لا أحد يعرف لماذا سمَّى أبي المكان بهذا الاسم الغريب …

تحدَّث «عاطف» لأول مرةٍ قائلًا: هل هناك سُكان في المكان غيرك أنت وعمتك و«زنهار» والشغالة «سعدية»؟ …

رد «عماد»: نعم … في المبنى الملحق بالقصر … ونُسمِّيه القصر الصغير، ينزل صديق لأبي ومعه خادمه … والرجل يُدعى مستر «كراون» ومساعده أو خادمُه اسمه «مايلز»، وهما في القصر الصغير منذ عشرة أيام!

قال «تختخ»: هل هما مصدر الأمور الغامضة التي تتحدث عنها؟

رد «عماد» مُندهشًا: كيف عرفت؟

تختخ: ليس هذا الأمر بالمستغرب، ولا يحتاج إلى ذكاء … ومن المهم أن تفسر لنا سبب وجودهما؟

عماد: إن مستر «كراون» كان شريكًا لأبي في عمليات كثيرة، منها شراء التحف النادرة من الأماكن البعيدة، وبيعها بأضعاف ثمنها للهواة في أوروبا وأمريكا وبعض البلاد العربية … ويقول إنَّ آخر دفعة من هذه التحف كانت عند أبي … وقد جاء لهذا الغرض …

تختخ: وهل وجد التحف؟

عماد: لا … وقد سمحَت له عمتي التي تُقيم في القصر بصفة دائمة أن يبحث عن هذه التحف في القصر … وقد بحث ولكنه لم يجد شيئًا.

تختخ: وماذا يبقيه إذن؟

عماد: إنه يعتقد أن التحف مُخفاة في مكان سري من القصر … وهو يُحاول الحصول على رسومات القصر ليكتشف الأماكن السرية فيه.

فكر «تختخ» قليلًا ثم قال: هل يقوم بعمليات حفر في أماكن في القصر؟

عماد: لا … ولكن!

تختخ: إنك لا تدري … إنه يحفر محاولًا البحث عن مدخل إلى الأماكن السرية التي يتخيلها … وأمس ليلًا كان يَحضُر هو أو مساعده «مايلز» أو هما معًا …

عماد: هنا نصل إلى الأمور الغامضة … إن مستر «كراون» ومساعده يتجولان في القصر طول النهار … يدقان على الجدران … ويَفحصان قطع الأثاث … ونظرًا لاتِّساع رقعة القصر وكثرة ما فيه من أشياء … فإنني أعتقد أن ثمَّة أشياء تختفي دون أن أدري … كما أن هناك بعض الأشخاص الذين يَحضُرون ليلًا لمقابلة «كراون» ثم ينصرفون دون أن نراهم أو نعرف لماذا حضروا.

قال «محب» باندفاع: ولماذا لا تَطرُد مستر «كراون» هذا؟

فكر «عماد» قليلًا ثم قال: لقد فكَّرتُ في هذا أول الأمر … ولكني في النهاية قررتُ أن أنتظر لسببين … أولًا أنَّ مدة زيارة مستر «كراون» قد أوشكت على الانتهاء، لم يبقَ منها سوى خمسة أيام … ثانيًا أنني متحمِّس فعلًا لأن أكشف أسرار هذا القصر الخفية … فمن المؤكد أن ثمة تحفًا تُساوي مبلغًا طائلًا مُختفية في مكان ما منه … وإذا استطاع «كراون» الوصول إليها فسوف أبلغ السلطات المسئولة للتصرف.

محب: ومن يُدريك أنه لم يجدها؟ … لعله وجدها، ولعله ينقلها خفية مع ضيوفه الذين يأتون ليلًا … ولعله يتظاهَر فقط بالبحث حتى لا تطرده!

عماد: إنني لم أفكر في هذه النقطة … وليس هذا بمُستبعَد!

تختخ: هل يأتي الضيوف كل ليلة؟

عماد: لا!

تختخ: على كل حال سنقُوم بالمُراقبة … وقد نتمكَّن من كشف الحقيقة!

عماد: إنني لا أريد أن أزجَّ بكم في مثل هذه المشاكل، ولكني لم أجد غيرَكم يُمكن أن يهتم بهذا الأمر، خاصَّة وأنه ليس ثمة شيء مُؤكَّد في كلِّ ما يجري!

تختخ: إننا نَقبل عن طيب خاطر أن نساعدك في كشف غوامض هذا الموضوع … وسنبقى معك حتى رحيل «كراون»!

عماد: لقد أعددتُ لكم نزهة على طول الشاطئ لصيد السمك.

قال «محب» متحمسًا: إنني على استعداد … فأنا أحب صيد السمك جدًّا.

وافق الجميع على القيام بالرحلة عدا «نوسة» التي قالت: أظنُّ أنني أُفضِّل القيام برحلة داخل هذه المكتبة … رحلة على الورق … أو مع الورق … فليس من المعقول أن أجدَ مثل هذه المكتبة الرائعة ثم أتركها من أجل أي شيء.

وهكذا غادر المغامرون و«عماد» المكتبة الضخمة، بينما بقيت «نوسة» … كانت تُفكِّر في والد «عماد» … هذا الرجل الذي طاف العالم من أجل إنشاء هذا القصر … ثم اختار من القصر هذه المكتبة ليجعلها مكانه المختار … لو أنَّ وراء هذا الرجل سرًّا … أي سر … فأيُّ مكان يضعه فيه سوى مكانه المفضل … المكتبة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤