سر الورقة الغامضة

جلست «نوسة» وحيدة في قاعة المكتبة الضخمة، كانت هذه هي أكبر مكتبة خاصة شاهدتها في حياتها … وكانت صفوف الكتب تقف شامخة كأنها صفوف الجنود في استعراض … وقامت «نوسة» كالمسحورة تقرأ عناوين الكتب … وكانت المكتبة مقسَّمة كموضوعات، كل موضوع يشمل مختلف الكتب التي تتصل به … وقد تأنق صاحبها في تجليدها بألوان مختلفة … فبدت كأنها حديقة رائعة بها ورود وزهور وثمار الفكر الإنساني … وكان هناك سلَّم مُتنقِّل للوصول إلى رفوف الكتب العليا … وصعدت «نوسة» على السلم وأخذت تقرأ عناوين الكتب عندما سمعت باب المكتبة يُفتح … ونظرت إلى القادم فرأت رجلًا طويلًا نحيفًا يدخل في هدوء … ويبدو أنه لم يكن يتوقع وجود أحد، فقد اتجه على الفور إلى المكتب، وأخرج من جيبه كيسًا جلديًّا … أخرج منه مجموعة من الأدوات الدقيقة وأخذ يعمل في أدراج المكتب … وحبست «نوسة» أنفاسها وهي تُشاهده … كانت تقف على السلم بعيدًا في ركن المكتبة في مكان مظلم نسبيًّا … وكانت بين قرارين … أن تتحدث أو تسعل لتلفت نظره إلى وجودها … أو تظل ساكنة لترى ما يفعل … وأخذت بالقرار الأخير سريعًا … فهذا الرجل لا بد أن يكون «كراون» أو مساعده «مايلز» وكلاهما جاء للاستيلاء على التحف النادرة التي جمعها والد «عماد»، وهي في الأغلب سبب الأمور الغامضة التي تجري في مزرعة الرياح … وهي فرصة ذهبية لترى ماذا يريد الرجل.

أخرج الرجل درج المكتب العلوي … ثم الدرج الثاني، ثم انحنى وأدخل رأسه في الفتحة التي نشأت عن إخراج الدرجين بعد أن أخرج بطارية صغيرة من جيبه أدخلها في الفتحة … وانتهزت «نوسة» الفرصة ونزلت بهدوء وحذر إلى أرض المكتبة ثم اختفَت خلف أحد الكراسي الضخمة … وجلسَت على ركبتَيها وأخذت تطلُّ برأسها على الرجل تُراقب ما يفعل …

استمر الرجل في العمل فترة، ثم سمعت «نوسة» ثلاث طرقات على الباب، وبسرعة أخرج الرجل رأسه من الفتحة … وأعاد الدرجين إلى مكانَيهما … وفي نفس الوقت دخل «زنهار» المكتبة وتوقف عندما شاهد الرجل مكانه … وأخذا يتبادلان النظرات لحظات، ولاحظت «نوسة» أنها نظرات تفيض بالتحدِّي والكراهية.

كان الإنجليزي مُستندًا على المكتب، ثابت الأعصاب، وقد مد يده فتناول كتابًا وأخذ يقلب فيه … ومشى «زنهار» داخل المكتبة حتى وصل إلى أحد رفوف الكتب وأخذ كتابًا وخرج … ودهشت «نوسة» فلم تكن تتصور أن يكون «زنهار» على قدر من الثقافة يسمح له بالقراءة … خاصة وأن الكتاب الذي أخذه كان من أحد صفوف اللغة الفرنسية … وبنفس الخطوات السريعة التي دخل بها غادر المكتبة … وأدركت «نوسة» أن ثمَّة شخصًا يقف خارج المكتبة يُنبه الرجل الذي في داخلها عن حضور أي شخص … وأحست بالخوف أن يَكتشِف الرجل وجودها … ولكن رغبتها في كشف أسرار المكان والناس دفعتها إلى الاستمرار …

عاد الرجل يعمل بعد أن أخرج الدرجين مرةً أخرى … ولاحظت «نوسة» أنه في المرة الثانية أخرج من جيبه قطعةً من الورق، وأخذ ينظر فيها ثم وضعها على المكتب …

استمر الرجل يعمل بعض الوقت … ثم أخرج مجموعة من الأوراق الملفوفة وفردها على المكتب وأخذ يتأملها بانتباه شديد … ثم أعاد الدرجين إلى مكانَيهما … وغادر الغرفة … وانتظرت «نوسة» لحظات ثم أسرعت إلى مكان الدرجين … وحاولت أن تفتح الدرج العلوي ولدهشتها وجدته مغلقًا … وأدركت أنها من مكانها البعيد لم تُلاحظ أن الرجل استخدم مفتاحًا في فتح الدرج، ولاحظت أن قطعة الورق الصغيرة التي كان الرجل قد أخرجها من جيبه ووضعها على المكتب ما زالت مكانها … فمدَّت يدها وأخذتها … وفي هذه اللحظة سمعت صوت أقدام قادمة من داخل القصر إلى المكتبة … واستنتجت أن الرجل قد اكتشف أنه نسي الورقة وعاد لأخذها فقد كان مسرعًا … ووضعت «نوسة» الورقة في جيبها ثم اندفعت خارجة من الباب الذي يُؤدِّي إلى ساحة القصر … وأغلقت الباب خلفها …

نظرت «نوسة» حولها وشاهدت «زنهار» يقف عند السور الصخري المحيط بالقصر … ورآها فتظاهرت بأنها لا تراه، وسارت في هدوء ناحية السور في الاتجاه المضاد لمكان «زنهار» كان عقلها يدور بسرعة … ونفَسُها ميدانًا لمختلف المشاعر … لقد قادتْها الصدفة إلى معرفة بعض تحرُّكات الرجال الثلاثة «زنهار» و«كراون» و«مايلز»، ومن المؤكد أن الورقة التي حصلت عليها لها أهمية كبيرة.

سارت حتى وصلت السور الصخري، ثم انحرفت يسارًا واتجهت إلى غابة النخيل التي تمتد في ناحيتَي السور … وغاصت في ظلال النخيل حتى أحسَّت أنها بعيدة عن كل رقابة ووقفت تحت نخلة، وأخرجت الورقة من جيبها وعرضتها لضوء الشمس الذي كان يتسلَّل من بين سعف النخيل … ووجدتها ورقة قديمة صفراء … قد اهترأت من كثرة الاستعمال، ووجدت على أحد وجهَيها رسمًا دقيقًا للمكتبة بلا كتب، الرفوف والزوايا الحجرية التي أصبحت مُغطَّاة بالخشب … والمكتب … وعلى مكان الدرج العلوي من المكتب كانت هناك بضع كلمات باللغة الإنجليزية، قرأتها فوجدت أنها تُشبه شفرة لفتح الدرج من أسفل كما فعَل الرجل …

قلبت «نوسة» الورقة … وعلى الوجه الآخر وجدَت مجموعة من الأرقام أخذت تمعن النظر فيها … كانت الأرقام مكونة من مجموعات … المجموعة الأولى أكبر من بقية المجموعات برقمين … وأخذت تتأملها …

٣ ١٥ ٢١ ٣ ٦
٣٥ ٦ ٣
٣١ ٨ ٤
٤٠ ١٢ ٩
٤٨ ١٢ ٢
٧٢ ٨ ٤
٨٨ ١٢ ١
١٠٠٠ ١٨ ٨

وقفت «نوسة» مبهورة أمام الأرقام … ماذا تعني؟ هل هناك علاقة بين رقم «٦» ورقم «٣» المتكرر في الصفين الأولين؟ لماذا كانت المجموعة الأولى تزيد رقمين عن بقية المجموعات؟ لماذا يتردَّد رقم «٨» أكثر من أيِّ رقم آخر، هل جمعُ الأرقام يُمكن أن يؤدي إلى شيء؟ إن مجموع أرقام الصف الأول «٤٥»، ومجموع أرقام الصف الثاني «٤٤»، ومجموع أرقام الصف الثالث «٤٣» … فهل تَتناقص بقية الأرقام دائمًا؟ … ولكن الأرقام لا تسير على نفس القاعدة … فمجموع أرقام الصف الرابع «٦١» …

كانت «نوسة» مُستغرقة في فحص هذه الأرقام، ولكن حاسَّتها السادسة نبهتها أن ثمة من يقترب، فأسرعت تضع الورقة في جيبها وتُصغي … وتأكَّدت أن ثمة شخصًا يسير في غابة النخيل … ودارت بسرعة … واختفت خلف النخلة وأخذت تختلس النظر، وصوت الأقدام رغم الأرض الرملية يبدو واضحًا في الصمت السائد، حتى رأت «زنهار» يسير وهو يمدُّ رأسه إلى الأمام كأنه ثعلب يتشمم طريق فريسته … وأدركت أن «زنهار» يبحث عنها … وهو لا يُمكن أن يبحث عنها إلا لسبب واحد … الورقة … لا بد أن الرجل الإنجليزي عاد يَبحث عنها فلم يجدْها … وأثار مُشكلة واتَّهم «زنهار» الذي استنتج عندما رآها تخرج من المكتبة أنها هي التي أخذتها …

أخذت الأقدام تقترب منها في شكل دائرة … وعرفت أنها إذا وقفت مكانها فسوف يصل إليها «زنهار» سريعًا، وهكذا تحركت من مكانها في هدوء وحذر … وأخذت تُسرع الخطو مُبتعِدة، ثم تتوقف لحظة أخرى تُنصت … كان من الصعب أن تتبين صوت الأقدام إلا من مكان قريب. وأدركت أن «زنهار» سيصل إليها سريعًا … فهو أدرى بطرقات غابة النخيل … وهكذا قررت أن تجري في اتجاه الشاطئ مرة أخرى لعلها تصل إلى حيث يصطاد الأصدقاء لتَعرض ما حدث عليهم … وأخذت تجري … ولكن كثافة النخيل واختفاء ضوء الشمس تدريجيًّا وراء سحاب أسود، واضطرابها أمام هذه المطاردة جعلها تفقد الاتجاه الصحيح … وأخذت تغوص تدريجيًّا في غابة النخيل الواسعة …

كانت الورقة في يدها، وذهنُها يعمل بسرعة … ووجدت أن الحل الأفضل أن تُخفي الورقة في أي مكان ثم تُواجه «زنهار» دون خوف … وأخذت تنظر حولها في مُحاولة للبحث عن مكانٍ مُناسب، ووجدت نخلة صغيرة قد مدَّت أفرعها التي ما زالت صفراء كالشَّعر المنكوش وأسرعت إليها، ودست الورقة بين الأفرع … ثم وقفت قليلًا تتأمَّل المكان حتى ينطبع في ذاكرتها … وعادت تسير في هدوء مبتعدة عن المكان، وسرعان ما وجدت نفسها أمام «زنهار».

فوقفت تنظر إليه، كان وجهه الخشن الملامح جامدًا … وفي عينيه نظرة صياد يبحث عن فريسة … وأصابها الذعر ماذا تفعل مع هذا الأخرس الأصم؟ كيف تتفاهم معه؟ ومرت لحظات استجمعت فيها شجاعتها … وتذكَّرت المهمة التي جاءوا من أجلها … وهكذا رفعت يديها وأخذت تُشير له مُحاولةً إفهامه أنها ضلَّت الطريق … وأنها تبحث عن طريق العودة.

ظل وجه «زنهار» جامدًا … وهو ينظر إليها … وبدا واضحًا أنه فهمها … ولكن بدلًا من أن يقودها إلى الطريق، أو يشير إليها … مدَّ يدَه إليها بطريقة فهمتْها على الفور … كان واضحًا أنه يطلب منها الورقة … وتظاهَرت أنها لا تفهم، وأعادت إشارتها إليه … ولكنَّه ظلَّ مادًّا يده … ومرَّت لحظاتُ صمتٍ ثم تقدم «زنهار» منها وعلى وجهِه علامات التصميم، وبدا واضِحًا أنه يُمكن أن يفعل أي شيء للحصول على الورقة … ولم تدرِ «نوسة» ماذا تفعل سوى أن تُطلق ساقيها للريح …

أخذت تجري دون أن تدري إلى أين … كان كلُّ ما يُهمها أن تجري وألا تقع في يد هذا الأصم الأبكم الذي لا يُمكن التفاهم معه … وظلَّت تَجري فترة دون توقُّف ودون أن تَلتفِت حولها حتى أحسَّت أن قدميها تضعفان تدريجيًّا … وأنفاسها تتسارع، وشعرت أن صدرها سينفجر … ولم يعد أمامها إلا أن تتوقف … فتوقفت واحتضنت جذع نخلة تَحتمي بها من الوقوع والتفتت خلفها ورأت «زنهار» يقترب منها مادًّا يده … وأحست أن وعيها يغيب تدريجيًّا، ولكن في هذه اللحظة حدث ما لم تتوقعه أبدًا … سمعت نباح «زنجر» قادمًا من بعيد … وخلفه بعض الأصوات البعيدة … وفجأة عندما اقترب «زنهار» منها تمامًا ظهر «زنجر» … وبقفزة واحدة انقض على «زنهار» وعضَّه عضَّةً أطلقت صيحة غضب من «زنهار»، ولكن «زنجر» مضى يُهاجمه وهو ينبح بشدة وضراوة … وسقطت «نوسة» على الأرض على الأرض … وفي نفس اللحظة ظهر المُغامرون ومعهم «عماد»، وشاهدوا ما يحدث …

صاح «تختخ»: «زنجر»!

وتوقف الكلب لحظة، ثم كاد يَهجم مرةً أخرى عندما قفز «تختخ» إليه يمنعه … وفي نفس الوقت أسرع بقية الأصدقاء إلى «نوسة» التي ابتسمت لهم، وقال «محب» وهو ينحني عليها: «نوسة» ماذا حدث؟

أشارت إلى «زنهار» دون أن تَقوى على الكلام، فقال «عماد»: هل حاول أن يؤذيك؟ …

هزَّت «نوسة» رأسها علامة الإيجاب، فالتفت «عماد» إلى «زنهار» غاضبًا، وأخذا يتبادلان إشارات سريعة فهم منها المغامرون أن «عماد» يُؤنِّبه … وأن «زنهار» يشرح له شيئًا … ثم أمسك «زنهار» … بذراع «عماد» وأخذه جانبًا … وأخذ يشرح له بالإشارات … و«عماد» يشير له فاهمًا … ثم أمسك «عماد» بيد «زنهار» وأخذه إلى ناحية الأصدقاء وأشار لهم بيده … ثم وضعها على قلبه … كان يعني أنهم أصدقاؤه … وأحنى «زنهار» رأسَه، وبدت عليه علامات الندم والأسف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤