في غابة النخيل

كانت الموسيقى تتدفَّق في الحجرة، ومعها كلمات رقيقة تقول:

عندما أطوف العالم …
عندما أرى كل شيء …
أعود إليك …
حيث تولد الرياح …
أعود إليك …
لأنك وطني!
يا أرض الرياح!
يا مزرعتي …

بدا المغامرون … و«عماد» وحتى «زنجر» كأنهم تحت تأثير سحر رقيق … وأحست «نوسة» كأنما ترى فارسًا يخوض المياه … ويعبر الصحارى ويصعد الجبال … ويُحارب وينتصر … ثم يعود إلى هذه الأرض المحبوبة … حيث مكانه … حيث مزرعة الرياح …

وانتهت الكلمات وظلَّت الموسيقى ترنُّ في أنحاء الغرفة الواسعة معبِّرة عن ريح هادئة وصوت أمواج … ثم تلاشَى كلُّ شيء وساد الصمت.

قال «محب»: يا لها من أغنية رائعة!

والتفت «عاطف» إلى «عماد» وقال: لقد كان والدك رجلًا حساسًا رقيقًا … ولقد فهمنا الآن لماذا سمَّى هذا المكان مزرعة الرياح … لقد كان رجلًا رحالة … ولكنه كان يُحبُّ مصر … ويحب هذا المكان منها … فسماه مزرعة الرياح!

قالت «نوسة»: هل مكتبة والدك الموسيقية منظَّمة مثل الكتب؟

قال «عماد»: نعم … كل شريط فيها له رقم!

نوسة: وما هو رقم هذا الشريط؟

رد «عماد»: إنه رقم «١٥» في الأغنيات الخفيفة.

وتذكرت «نوسة» فورًا وقفزت من مكانها، تذكرت أن أحد الأرقام في الورقة هو الرقم «١٥»، وربما كان أول رقم … فهل يدلُّ هذا على شيء؟

قال «تختخ»: ماذا حدث يا «نوسة» هل تذكرت شيئًا؟

نوسة: نعم … إن رقم الشريط موجود في الورقة، رقم «١٥» أحد أرقام الورقة التي تركتها في غابة النخيل … ولعله الرقم الأول … هل يعني هذا بالنسبة لكم شيئًا؟

تختخ: بالتأكيد … إذا كان رقم الشريط مُسجَّلًا على الورقة، فليس هناك سوى احتمالين … الأول أن تكون الورقة كلها خاصة بأرقام أشرطة في المكتبة الموسيقية … أو أن الأرقام ترمز إلى أشياء في هذه المكتبة!

نوسة: ألا تعني شيئًا بالنسبة للكتب ذاتها؟

تختخ: ربما!

ساد الصمت بعد هذا الحوار … كانت أذهان المغامرين جميعًا تدور حول الورقة التي في الغابة … إنَّ إعادتها أصبحت مسألة حيوية جدًّا … ولكن كيف؟ قام «تختخ» من مكانه وذهب إلى نافذة المكتبة ونظر إلى الخارج عبر الزجاج، كان الليل داكن السواد والريح تهبُّ بشدة … وكان من الواضح أن أية محاولة للخروج في هذه اللحظة غير مُجدٍ على الإطلاق، إن لم يكن خطرًا … فعاد إلى مكانه، وغرق كل منهم في خواطره فترة، ثم قال «تختخ» وهو ينظر إلى ساعته: لقد آن الأوان لننام … وموعدنا الثامنة صباحًا للِّقاء والذهاب إلى غابة النخيل.

وقاموا جميعًا، وذهبوا إلى غرف نومهم … وسرعان ما اندسُّوا تحت الأغطية اتقاء للبرد … ولكن «نوسة» أخذت تتقلَّب في فراشها … كانت تفكر في الورقة … وفي الأرقام وفي اللغز … لقد وضعت يدها على أول الخيط، وقد يَضيع منها، وتضيع بذلك فرصة قد لا تسنح مرة أخرى … وجلست في الفراش … وكان الظلام سائدًا كالعادة إلا من بعض لمبات الجاز التي وضعت في دهاليز القصر … وسمعت «نوسة» صوت تنفُّس «محب» المنتظم … وعرفت أنه غارق في النوم … جلست تفكر … كان رقم «١٥» يدور في حلقات في ذهنها … هذا الرقم ماذا يعني؟ … إنها تتذكر جيدًا أنه أحد أرقام الورقة … إنه يدلُّ على شيء ما … فماذا يعني؟

إنها الآن تتذكَّر شيئًا آخر … لقد كان الرقم الأول بالتأكيد … فكيف تستفيد من هذه المعلومة الآن؟ … نعم الآن … إنها لا تُطيق صبرًا … وقامت من فراشها وارتدت الروب … ثم خرجت إلى الدهليز … كان الصمت يلف القصر إلا من زفيف الريح وساعة كبيرة دقاقة في الصالة … وحملت إحدى اللمبات ونزلت على السلَّم الحجري بهدوء ومضت إلى المكتبة … ستبحث عن كل شيء فيها فيه رقم «١٥» وفتحت الباب ودخلت، وتوقفت تنظر إلى صفوف الكتب في الضوء الخفيف المنبعث من اللمبة … إنَّ قلبها يحدثها أن لغز قصر الرياح في هذه الكتب … فيها … أو خلفها أو تحتها … أو فوقها … وهناك علاقة بين الأرقام وبين هذه الكتب … وأخذت تَمضي مع صفوف الكتب الإنجليزية تعدها وعند كل كتاب رقم «١٥» كانت تمد يدها وتُخرجه وتنظر إلى غلافه، الكتاب الأول الذي عثرت عليه كان قصة «موبي ديك» لمؤلفها الأمريكي «هيرمان ميلفيل» رواية عن صيد الحيتان تَذكُر أنها رأته في السينما، وأخذت تُقلب صفحات الكتاب، علها تجد فيه ورقة أخرى، ورقة تُفسر اللغز، ولكن الكتاب كان خاليًا، ومضت إلى الرف الثاني ومضت حتى الكتاب رقم «١٥» وأخرجته، كان رواية «الجريمة والعقاب» لمؤلفها الروسي «ديستويفسكي» وأخذت تُقلب صفحات الكتاب … ولكنها لم تجد شيئًا، ومضت إلى الرف الثالث، ووصلت إلى الكتاب رقم «١٥» ومدت يدها لتخرجه … كان كتابًا قديمًا قد قرئ كثيرًا … فغلافه رغم أنه أنيق وفاخر … إلا أنه مُستعمَل بكثرة … ولم تكد تُلقي نظرة عليه حتى اهتزَّت كلها وخفَق … قلبها خفقانًا شديدًا … كان على غلاف الكتاب رسم يمثل القصر تمامًا … ومزرعة الرياح … كأنه صورة … وكان مكتوبًا عليه «مزرعة الرياح» … ارتعدت يدها وهي تفتح الكتاب، ولكنها في هذه اللحظة سمعت شيئًا … ليس زفيف الرياح ولا صوت الساعة … كان صوت أقدام تقترب، ثم بابًا يُفتح … وأسرعت فأعادت الكتاب مكانه … ثم التفت إلى الباب ورأت «كراون» يقف في الضوء الخفيف ينظر إليها … وتمالكت أعصابها بسرعة … ومضَت تَنظر في صفوف الكتب، وتَنتقِل من مكان إلى آخر … متظاهرة بأنها لا تهتم بوجوده … كانت تَخشى شيئًا واجدًا … أن يكون قد رآها وهي تمسك الكتاب بين يديها … لو أنه عرف الكتاب وقرأ عنوانه فسوف يتوصَّل إلى حلِّ اللغز … فلو أن كتابًا هو الذي يحلُّ لغز مزرعة الرياح لكان كتاب مزرعة الرياح.

وتقدم «كراون» حتى توسط الغرفة ثم قال: ماذا تفعلين هنا؟

نظرت إليه بثبات وقالت: إنني أبحث عن كتاب أقرؤه!

كراون: دعك من هذه الأعذار غير الصحيحة، إنكِ تَبحثين كما يبحث زملاؤك عن سر اختفاء التحف، وأنا الآن مُقتنِع أنك أنت وليس «زنهار» التي أخذت الورقة التي كانت معي، وأنك أخفيتها في مكانٍ ما من غابة النخيل، وسوف تَأتين معي الآن لإحضارها!

نوسة: إنك لا تستطيع أن تُثبت ما تقول!

كراون: لقد فحصنا آثار قدمَيك وعرفنا كل شيء … وأنت الآن كنت تبحثين في المكتبة عن شيء دار بخاطرك حول سرِّ التحف المختفية … وستبوحين لنا بكل شيء … وتقدم منها «كراون» وعيناه تقدحان شررًا … وحاولت «نوسة» أن تصرخ ولكن صوتها ضاع … لم تستطع أن تفعل شيئًا، وظهر «مايلز» في هذه اللحظة، وانقضَّ «كراون» عليها، فأغلق فمها بيده، ثم حملها ببساطة رغم ضعفه الظاهر، وخرج من المكتبة.

أسرعا بها إلى غابة النخيل، وبعد فترة وضعها «كروان» على الأرض، وأمرها أن تسير، وكان القمر قد ظهر من خلف السُّحب، وأخذ يضيء الغابة الساكنة لحظات ثم يَختفي، وأخرج كلٌّ منهما كشافًا ضخمًا، وأضاءا الطريق … كانا يَتبعان خطواتها الواضحة على الرمال … وسرعان ما توغلوا في أحشاء الغابة، وكانت «نوسة» تضمُّ «الروب» حول جسمها محاولة اتقاء البرد، وهي تفكر فيما حدث، لقد ضاع كلُّ شيء في ثوانٍ قليلة، وكان خطأً منها أن تنزل إلى المكتبة وحدها … كان يجب أن تعرف أن «كراون» و«مايلز» لن يَخسرا المعركة بهذه البساطة.

كان تتبُّع الآثار في الظلام شاقًّا … ولكن «كراون» و«مايلز» كانا مُصمِّمَين، وهكذا مضوا رغم الظلام … وكلما مروا بمكان هزت «نوسة» رأسها … فلم يكن المكان الذي أخفت فيه الورقة … وطال الوقت … وفجأة قال «كراون»: اسمعي … لا تُحاولي خداعنا … إذا لم تعثري على الورقة الليلة، فإن أصدقاءك كلَّهم سيتعرَّضون لخطر شديد …

قالت: «نوسة»: إنك لن تُهددني …

كروان: أؤكد لك أن بقية زملائك معرضون لخطر شديد … إنَّ لنا أصدقاء في هذه الأنحاء، وقد أخطرناهم بكل شيء … وإذا لم تُسلمي الورقة لنا الآن … فسوف يَخطفون البنت الصغيرة … فمعهم مفاتيح القصر … ولن تعثروا لها على أثر.

أدركت «نوسة» أن «كراون» قد أحكَمَ خُطته … وأنَّ الحل الوحيد هو تسليم الورقة، وهكذا مضت بسرعة تفحص الأرض معهما … لقد هزَّها ما هدَّدها به «كراون» … فليس مُهمًّا أن يحلوا اللغز أو لا يحلوه، المهم الآن مصير «لوزة»، وما قد يَحدُث لها … وفجأة رأت النخلة التي وضعت بين سعفها الصغير الورقة، وتوقَّفت … كان القرار في هذه اللحظة يَعني نهاية المغامرة أو تعريض «لوزة» للخطر، فلم تتردَّد، فتقدَّمت من النخلة، ومدَّت يدها بين السعف الصغير وأخرجت الورقة.

في هذه اللحظة حدث شيء لم يكن في الحسبان … فقد ظهر من بين النخيل شبح جرى بسرعة ناحية «نوسة» وعلى الضوء البعيد القادم من القمر عرفتْه … كان «زنهار» الذي انقضَّ عليها، واختطف الورقة، وأسرع يَجري، ولحق به «كراون»، ولكن بضربة قوية من يده ترنح «كراون» وسقط على الأرض، وسمعت «نوسة» في هذه اللحظة طلقة مسدَّس انطلق من يد «مايلز» ولم تَنتظِر «نوسة» أكثر من هذا … انطلقت تجري بكل قوتها، وقد جعلت اتجاهها ناحية صوت أمواج البحر، أخذت تجري وتجري دون توقف غير ملتفتة إلى شيء، حتى لاح لها شبح القصر من بعيد … وكانت أنفاسها مُتسارعة وقلبها يكاد يقفز بين ضلوعها، ولكنها لم تتوقف، وظلت تجري وتجري حتى سقطت على باب القصر …

ظلَّت مُستلقية فترة من الوقت والصمت سائد حولَها … ثم سمعت صوت أقدام على بلاط القصر تَقترب من الباب فنادت: «محب» … «محب»!

وكان «محب» فعلًا … لقد استيقظ فلم يجدها، ونزل يبحث عنها … وفتح «محب» الباب وشاهدها فصاح: «نوسة»!

وانحنى عليها فقالت له: إنني بخير … ولكن الأمور تطوَّرت بسرعة … أيقظ «تختخ»!

ساعدها «محب» على الوقوف، وصعد معها السلالم ثم أدخلها إلى فراشها، وغطاها وقال: ماذا حدث؟

نوسة: إنها حكاية طويلة … أيقظ «تختخ»!

وخرج «محب» مُسرعًا وبعد لحظات قليلة شاهدت «تختخ» يدخل وقد بدت عليه آثار النوم، فقالت «تختخ» لقد عثرت على الورقة … ولكن …

قال «تختخ»: ولكن ماذا؟

ردت «نوسة» بإعياء شديد: أخذها «زنهار»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤