حكاية الآثار

في صباح اليوم التالي وقع الحادث الرابع، قام اللص الشبح بسرقة علبة مجوهرات من إحدى الفيلات بنفس الطريقة؛ صوت السعال … الأقدام الثقيلة … ثم يتلاشى اللص في الهواء، ولا يترك خلفه سوى آثار قدمَيه الكبيرتَين، وآثار القفَّاز على الحائط.

لم يذهب «تختخ» هذه المرة لبحث السرقة، بل بقي في البيت، وقد سيطرت عليه حالةٌ من الكآبة والضيق؛ فليس هناك شيء يمكن عمله بعد كل هذا، ومن الواضح أن اللص أذكى منهم جميعًا، أو أنه توصَّل إلى طريقةٍ سحرية للاختفاء … وفي محاولةٍ أخيرة لمعالجة اللغز، أخذ «تختخ» يقرأ المعلومات التي جمعها من الحوادث الثلاثة السابقة … وما سمعه عن الحادث الرابع، وفجأةً قفزت إلى ذهنه فكرة هائلة … هامة جدًّا … حتى كاد يطير من الفرح وهو يُفكِّر فيها.

قال «تختخ» في نفسه: إن أي لص في العالم يحرص عادةً بعد الحادث على إخفاء آثار بصمات أصابعه أو أقدامه، وكثيرٌ من اللصوص يقومون بمسح آثارهم من مكان الحادث حتى لا يستدل رجال الشرطة عليهم بتتبُّع هذه الآثار … ولكن هذا اللص على العكس … إنه يُبرز آثار قدمَيه ويدَيه في كل مكان، ومن المدهش أنه يكاد يضع آثاره في أماكن بارزة حتى تكون تحت أنظار الباحثين ورجال الشرطة … ما معنى هذا؟ لا يمكن أن يكون معناه أنه يُريد أن يُقبض عليه … على العكس إنه يقصد قطعًا أن يُبعد الأنظار عنه، ويلفت نظر الشرطة للبحث عن شخصٍ آخر … فهذه الآثار ليست لرجلٍ ضخم، على العكس، إنها في الغالب لرجلٍ ضئيل الجسم، يُريد أن يوهم الشرطة أنه رجلٌ طويل؛ عريض حتى يُضلِّلهم عن الحقيقة.

لم يكد «تختخ» يصل إلى هذا الاستنتاج حتى ضرب رأسه بيده وصاح: لقد وجدتها … وجدتها … وجدتها، ثم انطلق إلى الشارع متجهًا إلى مكان السرقة الرابعة التي وقعت ذلك الصباح.

كان الشاويش «فرقع» موجودًا، يبحث هنا وهناك، وينقل الآثار التي تركها اللص على الورق، ويكتب مذكِّرات عن الحادث، فلمَّا اقترب منه «تختخ» نظر إليه الشاويش في يأسٍ شديد، ثم قال: ماذا أتى بك إلى هنا؟ هل ستحل اللغز؟ إنك لن تحل هذا اللغز أبدًا، بل إنه لغزٌ غير قابل للحل على الإطلاق.

ردَّ «تختخ» بصوتٍ غامض: لقد أصبحت رشيق القوام أيها الشاويش، ولا بد أنك تقوم بتمريناتٍ رياضية منتظمة.

الشاويش: وماذا يُهمك في ذلك؟ وهل هذا التعليق السخيف هو الذي يحل اللغز؟

تختخ: أبدًا، ولكن لا تُتعب نفسك في التمارين كثيرًا، وعلى كل حال سوف أُريحك قريبًا من هذا اللغز.

ثار الشاويش وصاح قائلًا: أنت تُريحني؟! من أنت حتى تُريحني أو تُتعبني أيها الطفل المغرور؟! فرقع من هنا، فرقع.

ولكن «تختخ» لم يتحرَّك، لقد دخل الحديقة وعاين الآثار، ثم صعد إلى الدور الثاني وعاين آثار القفَّاز، ثم سأل الشغَّالة التي كانت في المنزل وحدها في ذلك اليوم بضعة أسئلة.

ركب «تختخ» دراجته بعد ذلك وانطلق مسرعًا إلى العزبة، حيث يسكن «عبد السميع» بائع الروبابيكيا، كان يُريد أن يُقابله ويتحدث معه؛ فقد كان في ذهنه فكرة يُريد أن يتأكَّد منها، ولكن «عبد السميع» لم يكن في المنزل، ورفضت زوجته الحادة الطبع أن تُجيب عن أية أسئلة سألها «تختخ»، فذهب إلى بوَّاب منزل اللواء «سيف الدين» الذي رحَّب به مرةً أخرى فقال له «تختخ»: آسف لأنني سأسألك عن ذلك الحذاء القديم مرةً أخرى، ولكن أرجو أن تكون هي المرة الأخيرة.

البواب: شيءٌ غريب أمر هذا الحذاء! … هل تُريد واحدًا مثله؟

تختخ: لا، أبدًا، إنه مرتبطٌ بقضيةٍ هامة أُريد بحثها، والآن هل تذكر أن لهذا الحذاء نعلًا من الكاوتش المخطط؟

قال البواب ببساطة: طبعًا أذكر هذا يا أستاذ؛ فسيادة اللواء يضع لجميع أحذيته نعلًا من الكاوتش ليتحمَّل وزنه الثقيل، وإلَّا لاستهلك أي حذاء في أسبوعٍ واحد.

شكر «تختخ» البواب، فهذه المعلومات التي يُريد أن يسمعها بالضبط، ثم انطلق عائدًا إلى البيت.

كان الأصدقاء الأربعة في انتظاره بعد أن عرفوا بوقوع الحادث الرابع، وكانوا جميعًا تبدوا عليهم الكآبة بعد أن فشلوا في حل اللغز، ولكنهم فوجئوا ﺑ «تختخ» وهو يبتسم ابتسامةً عريضة، بل إنه كان يُصفِّر لحنًا راقصًا بشفتَيه، وهو ينظر إليهم بغموض.

قالت «لوزة» تسأله: إنك لست في حالةٍ اعتيادية اليوم يا «تختخ»، هل عثرت على كنزٍ من الجواهر؟

قال «تختخ» مبتسمًا: لقد عثرتُ على اللص الذي يسرق الجواهر، والذي أصبح عنده كنز منها بالتأكيد، لكنه لن يتمتَّع به كثيرًا.

لوزة: هل تعتقد أنك وصلت إلى اللص الخفي … اللص الشبح؟

فتح جميع الأصدقاء عيونهم وآذانهم وهم ينظرون ويستمعون إلى «تختخ» الذي قال: إنني لم أعرف اللص بعد، ولكنني أعتقد أنني سوف أصل إليه خلال ٢٤ ساعةً من الآن …

قال «مُحب» في اندفاع: إذا استطعت أن تحل هذا اللغز يا «تختخ»؛ فسوف أدعوك إلى تناول الجيلاتي لمدة أسبوع على حسابي.

نوسة: وأنا أدعوك في الأسبوع الذي بعده.

عاطف: وأنا أدعوك إلى السينما.

تختخ: شكرًا لكم … إن جائزتي الوحيدة هي حل اللغز، وسوف أستأذن رجال الشرطة في الاحتفاظ بالحذاء الكبير؛ لأنه سيكون أحسن أثر أحتفظ به من ذكريات هذه المغامرة.

لوزة: قل لنا يا «تختخ»، هل عرفت اللص فعلًا؟

تختخ: آسف ألَّا أقول لكم الآن؛ فقد تكون النظرة خاطئةً وأتعرَّض إلى سخريتكم … امنحوني فرصةً حتى الغد.

في تلك الليلة قضى «تختخ» وقتًا طويلًا في محطة «المعادي»، وكأنه يتمتَّع بالنسيم الهادئ القادم من النيل، ولكنه في الحقيقة كان يُراقب القادمين من القاهرة؛ فقد كانت في ذهنه فكرة معيَّنة يُريد أن يُثبتها، ولكنه لم يكن واثقًا منها … وبعد أن انقضى جزءٌ طويل من الليل دون أن يظهر ما يُريد، ترك مكانه، واتجه إلى العزب الموجودة في غرب «المعادي»، حيث يسكن «عبد السميع» بائع الروبابيكيا. أخذ «تختخ» يتجوَّل وخلفه الكلب «زنجر» الذي كان مندهشًا لاهتمام صاحبه بهذه الرحلة الليلية في أماكنَ مظلمة، ولكن رغبة «تختخ» في إثبات فكرته جعلته يستمر في التجوُّل والمراقبة، وفي ساعةٍ متأخِّرة من الليل سمع «تختخ» صوت تاكسي مقبل من بعيد، فاتجه إليه محاولًا اللحاق به والنظر في داخله، ولكن التاكسي تجاوزه مسرعًا فلم يستطع «تختخ» رؤية الراكب الذي كان به.

عاد «تختخ» إلى البيت، وقد زاد يقينه أنه سيحل اللغز، ولكنه قرَّر أن يحله بطريقةٍ مختلفة عن كل الألغاز السابقة، سيحله أمام الجميع وأمام المفتش «سامي» والشاويش «فرقع» بأسلوبٍ ليس له مثيل؛ فليست هناك مطاردات ولا مغامرات، وسوف يجعل اللص يُسلِّم نفسه إلى رجال الشرطة بلا متاعب.

وفي الصباح كان أول شيء فعله «تختخ» أن طلب من الأصدقاء الحضور إلى بيته في السادسة مساءً، ثم اتصل أيضًا بالمفتش «سامي» وقال له: أرجو أن تحضر هذا المساء إلى منزلنا لتناول الشاي.

المفتش: سيسرني أن أراك، ولكن هل من الضروري الحضور اليوم؟

تختخ: إذا كنت تُحب القبض على اللص الشبح.

سكت المفتش قليلًا، ثم قال: هل أنت متأكِّد؟!

تختخ: إذا صحَّت نظريتي؛ فسوف نقبض عليه وأنت تتناول الشاي، وبالمناسبة يا سيدي المفتش، أرجو أن تُحضر «نشوى» معك، لقد حضرت بداية اللغز، ومن حقها أن تحضر نهايته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤