الفيلُ الأبيضُ

(١) «أَبُو الْحَجَّاجِ»

كَانَتِ الْحَيَوَاناتُ تَتَكلَّمُ في قَدِيمِ الزَّمانِ: أَعْنِي في الْعُصُورِ الْأُولَى الَّتِي انْقَضَى عَلَيْها آلافُ السِّنِيْنَ. كَانَتْ تَتَكَلَّمُ كَما يَتَكَلَّمُ الْإنْسَانُ. وَقَدْ عاشَ — في تِلْكَ الْأَيَّامِ الْغابِرَةِ — جَمْهَرَةٌ مِنَ الْأَفْيالِ عِيشَةً رَغْدَةً هَنِيئةً، في بَعْضِ الْغَابَاتِ الْقَريبَةِ مِنْ جِبال «الْهِمَلَايَا» في الْهِنْدِ.

وَكانَتْ تِلكَ الْأَفْيالُ جَمِيلةَ الْمَنْظَرِ، حَسَنَةَ الشَّكْلِ، وَقَدْ فاقَها جَمِيعًا فيلٌ يُدْعَى: «أَبا الْحَجَّاجِ»، وَهُوَ أَبْيَضُ، ضَخْمُ الْجُثَّةِ، نَبِيلُ الْنَّفْسِ؛ فَأَصْبَحَ بَيْنَ الْأَفْيالِ جَمِيعًا خَيْرَ مِثَالٍ لأنْبَلِ الْمَزايا، وَأكْرَمِ الْأخْلاقِ.

(٢) «أُمُّ شِبْلٍ»

أَمَّا «أُمُّ شِبْل» — وَهِيَ أُمُّ ذلكَ الْفيلِ الْوَديعِ الكَرِيمِ النَّفْسِ — فَقَدْ كانَتْ، وَالْحَقُّ يُقَالُ، حَكِيمَةً مُجَرِّبَةً، تَجْمَعُ — إِلَى سُمُوِّ السَّجَايا — بُعْدَ النَّظَرِ، وَأَصالَةَ الرَّأْي، وَصِدْقَ الْفَراسَةِ (صِحَّةَ الاِسْتِدْلالِ مِنَ الظَّواهِرِ الْبادِيةِ). وَلكِنَّ الشَّيْخُوخَةَ أَقْعَدَتْها — لِسُوءِ الْحَظِّ — وَأَعْجَزَتْها عَنِ السَّيْرِ، وَكُفَّ بَصَرُها (عَمِيَتْ). فَاشْتَدَّ عَجْزُها، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْها آفَاتُ الْهَرَمِ وَعِلَلُهُ؛ فَلَبِثَتْ — في مكانِها — لا تَنْتَقِلُ خُطْوَةً، وَلا تُحَرِّكُ قَدَمًا.

(٣) وَفاءُ «أَبِي الْحَجَّاجِ»

وَقَدْ كانَ وَفاءُ «أَبِي الْحَجَّاجِ» لِأُمِّهِ عَلَى أَحْسَنِ ما يَفي وَلَدٌ بَارٌّ لِوالِدَتِهُ الْحَنُونِ. نَعَمْ، عُنِيَ «أَبُو الْحَجَّاج» ﺑ«أَمِّ شِبْلٍ» الْعِنَايَةَ كُلَّها، وَلَمْ يَأْلُ جُهْدًا في إِسْعَادِها وَبِرِّهَا، وَتَلْبِيَةِ طِلْبَتِها.

وَكان «أَبُو الْحَجَّاج» يَخْرُجُ — كُلَّ يَوْمٍ — لِيَجْمَعَ لِأُمِّهِ الْعَجُوزِ أَطْيَبَ الْفَواكِهِ الْبَرِّيَّةِ اللَّذيذةِ الطَّعْمِ، وَلا يَدَعُ لَها مَجَالًا لِلتَّحَسُّرِ عَلَى أيَّام شَبابِها الأُولَى؛ لأنَّهُ كانَ يَقُومُ لَها بكلِّ ما تَشْتَهِيهِ مِنْ أَلْوان الْأَطْعِمةِ، وَصُنُوفِ الْأَشْرِبَةِ.

(٤) لُصُوصُ الْأَفْيال

وَلكنَّ أَمْرًا وَاحِدًا كانَ يُزْعِجُ «أَبا الْحَجَّاجِ» وَيَهُمُّهُ، وَيَمْلَأُ نَفْسَهَ حُزْنًا وَأَسًى؛ ذلِكَ: أَنَّهُ رَأَى كَثيرًا مِنَ الْأَفْيالِ الْأُخْرَى، تَسْرِقُ طَعامَ أُمِّهِ الْعَجُوزِ، الَّتِي كُفَّ بَصَرُهَا، وَاشْتَدَّ عَجْزُها.

وَقَدْ أنَّبَهُمْ «أَبُو الْحَجَّاج» عَلَى ذلِكَ مَرَّاتٍ عدَّةً، وَأَظْهر لَهُمْ — في أَجْلَى بَيانٍ، وَأَوْضَحِ أُسْلُوبٍ — أَنَّ عَمَلَهُمْ هذا غايةٌ في النَّذالَةِ، وَلُؤْمِ الطَّبْعِ، وَفَسادِ الْخُلُقِ، وَحَذَّرَهُمْ مِنَ الْعَوْدَةِ إِلَى مِثْلِ هذِهِ الْفَعْلَةِ الْمَمْقُوتَةِ الشَّنعاءِ. وَلكِنَّ الْأَفْيالِ لَمْ تُقْلِعْ عَنْ عادتِها، وَلَمْ تَكُفَّ عَنْ سَرِقَةِ الطَّعامِ الَّذِي كانَ «أَبُو الْحَجَّاج» يَكُدُّ — طُولَ يَوْمِهِ — لِيَجْمَعَهُ لِـ«أُمِّ شِبْلٍ».

(٥) الْعُزْلَةُ

وَفي ذَاتِ يَوْمٍ انْتَحَى «أَبو الْحَجَّاج» أُمَّهُ جَانِبًا، وَقَالَ لَها مَحْزُونًا: «لَقَدْ تَمَادَى أَصْحابُنا الْأَفْيالُ في جَوْرِهمْ وَعُدْوانِهمْ عَلَيْنا. وَخَيْرٌ لِي وَلكِ يا أُمَّاهُ — فيما أَرَى — أَنْ نَعِيِشَ في عُزْلَةٍ، بَعِيدَيْنِ عَنْ هؤُلاءِ اللُّصُوصِ الْخَائِنِينَ، فَإِذا رَأَيْتِ رَأْيِي وَرَضِيتِ عَنْ هذا الاقْترَاحِ فَلا تَتَوَانَيْ في الذَّهَابِ مَعِي إِلَى كَهْفٍ قَرِيبٍ، قَدْ تَخَيَّرْتُهُ لِسُكْنَانَا جَمِيعًا، وَهُوَ عَلَى مَسَافَةٍ غَيْرِ بَعِيدَةٍ مِنْ هذِهِ الْغَابَةِ. فَماذا أَنْتِ قَائلَةٌ؟»

فارْتاحَتْ «أُمُّ شِبْلٍ» لِهذا الاقْترَاحِ السَّديدِ، وَلَمْ تُعَارِضْ في تَلْبِيَتِهِ، وسارتْ — مِنْ فَوْرِها — إِلَى حَيْثُ يَقُودُها «أَبُو الْحَجَّاجِ»، حَتَّى وَصَلا إلى مَأْواهُما الْجَدِيدِ، وَاسْتَقَرَّا في الْكَهْفِ.

وَكانَ الْكَهْفُ حَسَنَ الْمَوْقِع، قَرِيبًا مِنْ بَعْضِ الْمُرُوجِ الْمُخْصِبَةِ، الْمَمْلُوءَةِ بِأَطْيَبِ الْفواكِهِ الْبَرِّيَّةِ، وَأَشْهَى الثِّمَارِ اللَّذِيذَةِ، وَإِلَى جانِبِهِ بُحَيْرَةٌ صَغِيرَةٌ، مُغَطَّاةٌ بِأَزَاهِيرِ «اللُّوتَسِ» حَيْثُ عاشَ «أَبُو الْحَجَّاج» مَعَ أُمِّهِ زَمَنًا طَوِيلًا، آمِنَيْنِ وَادِعَيْن، قَرِيرَيِ الْعَيْنِ، نَاعِمَيِ الْبالِ، لَمْ يُكَدِّرْ صَفْوَهُما أَيُّ كَدَرٍ.

(٦) نَصِيحَةُ «أُمِّ شِبْلٍ»

وَذاتَ مَساءٍ كانَ «أَبُو الْحَجَّاج» يَتَحَدَّثُ إِلَى «أُمِّ شِبْلٍ» في الْغَارِ — عَلَى عادَتهما — ويَخُوضانِ شَتَّى الْأَسْمارٍ وَمُخْتَلِف الذِّكْرَياتِ. وَإِنَّهُما لَكذَلِكَ، إِذْ طَرَق آذانَهُما صِياحٌ عالٍ يُدَوِّي في الْغَابَةِ عَلَى مَقْرَبةٍ مِنْهُما. فَقالَ «أَبُو الْحَجَّاجِ»: «أَلا تَسْمَعِينَ — يا أُمَّاهُ — إِلَى هذهِ الصَّيْحاتِ الْعالِيَةِ؟ إنَّها — بِلا رَيْبٍ — صَيْحاتُ إنْسانٍ يَطْلُبُ النَّجْدَةَ، وَيَلْتَمِسُ الْغَوْثَ، وَلَعَلَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَقعَ فَرِيسةً في قَبْضَةِ أَحِد أَعْدائه، وَلا بُدَّ لي مِنَ الْإِسْراعِ إِلَيْهِ، لَعَلِّي أَسْتَطِيعُ إِنْقَاذَهُ مِنَ الْهَلَاكِ.»

فَقالتْ لَهُ «أُمُّ شِبْلٍ»، وَهُيَ تُحَذِّرُهُ عاقِبَةَ هذا الْأَمْرِ، وَتَزْجُرُهُ عَنْ التَّعَرُّض لَهُ: «كَلَّا — يا وَلَدِي — لا تَفْعَلْ؛ فَإِننِي — وَإنْ رَأَيْتَنيِ عَجُوزًا عَمْياءَ، وَذلِكَ حَقٌّ لا رَيْبَ فِيهِ — أَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِين غَدْرَ الآدَمِيِّيْنَ بِنا، وَإِيِقاعَهُمْ بِجِنْسِنا، وَتَفَنُّنَهُم في طُرُقِ الِاحْتِيالِ عَلَى صَيْدِنا. وَإِنَّنِي لَأُؤَكِّدُ لَكَ أَنَّكَ إذا أَنْقَذْتَ هذا الْإِنْسانَ التَّاعِسَ الْمِسْكِين، وَخَلَّصْتَهُ مِنَ الْهَلاكِ، فَلَنْ يُقَابِلَ هذا الْإِحْسانَ بِغَيْرِ الْإِسَاءَةِ وَالْجُحُوْدِ وَالْخِيانَةِ وَالْكُنُودِ.»

(٧) مُخالَفَةُ النَّصِيحَةِ

وَلكنَّ «أَبا الْحَجَّاجِ» لَمْ يُصْغِ إِلَى نَصِيْحَةِ أُمِّهِ، وَلمْ يُطِقِ الْبَقاءَ إِلَى جانبها، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَن يَتَلَكَّأَ في إِغاثَةِ الْبَائِسِ الْمَلْهُوفِ، وَأبَى إِلَّا أَنْ يُنْقِذَهُ مِمَّا أَلَمَّ بهِ؛ فَقالَ «لأمِّ شِبْلٍ» مُتَلطِّفًا: «اغْفِرِي لِي — يا أُمَّاهُ — أَنْ أُخَالِفَ نُصْحَكِ لِلْمِرَّةِ الْأُوْلَى في حياتي؛ فَلَيْسَ في وُسْعِي أَنْ أَكُفَّ عَنْ مُعَاوَنَةِ طَالِبِ نَجْدَةِ أَيًّا كانَ جِنْسُهُ، وَلَنْ أُطِيقُ سَمَاعَ هذهِ الصَّيْحاتِ الْعَالِيَةِ الْمُؤْلِمةَ، دُونَ أَنْ أَبْذُلَ جُهْدِي في إِنْقاذِ صَاحِبِها مِنْ مَأْزِقِهِ.»

(٨) حَدِيثُ الْحَطَّابِ

ثُمَّ أَسْرَعَ «أَبُو الْحَجَّاجِ» صَوْبَ الْجِهَةِ الَّتي انْبَعَثَتْ مِنْها الصَّيحاتُ؛ حَتَّى إذا بَلَغَ بُحَيْرَةَ «اللُّوتَسِ» لَمَحَتْ عَيْناهُ رَجُلًا يَلْبَسُ ثِيابَ الْحَطَّابِينَ. وَلَمْ يَكَدْ «أَبُو الْحَجَّاجِ» يَدْنُو مِنْهُ، حَتَّى هَمَّ الرَّجُلُ بِالْفِرارِ مِنْ شِدَّةِ الْرُّعْبِ وَالْخَوْفِ. وَلكنَّ «أَبا الْحَجَّاجِ» قالَ لَهُ مُتَلَطِّفًا:

«لا تَخْشَ مِنِّي شَيْئًا — أَيُّها الْغَرِيبُ — وَحَدِّثْنيِ بِحَدِيثِكَ لَأَتَعَرَّفَ قِصَّتَكَ؛ فَما جِئْتُ إِلَّا لِإِنْقاذِكَ مِنْ وَرْطَتِكَ، وَلَعَلِّي قَادِرٌ عَلَى تَخْفِيفِ أَلَمِكَ، وَدَفْعِ شِكَايَتِكَ.»

فَقالَ لَهُ الْحَطَّابُ، وهُوَ شَارِدُ الْفِكْرِ: «وا أَسَفاهُ، أَيُّها الْفِيلُ الْأَبْيضُ النَّبِيلُ الْكَرِيمُ النَّفْسِ! أَلَا لَيْتَكَ قَادِرٌ عَلَى إِغَاثتِي وَإِنْقَاذِي مِمَّا أَنا فِيهِ؛ فَقَدْ ضَلَلْتُ طَرِيقي — مُنْذُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ كَاملَةٍ — في هذهِ الْغَابَةِ الْوَاسِعَةِ الْمُوحِشَةِ، الَّتِي لا يَقْطُنُها أَحَدٌ مِنْ بَنِي الْإِنْسانِ، وَيَئِسْتُ مِن الْعَوْدَةِ إِلَى مَدِينَةِ «بَنارِسَ»؛ فَمَنْ لِي بِمَنْ يَهْدِينِي سَوَاءَ السَّبِيلِ؟»

فَقالَ لَهُ «أَبُو الْحَجَّاجِ»، وَقَدِ امْتَلَأَتْ نَفْسُهُ سُرُورًا وَغِبْطَةً، لِقُدْرَتِهِ عَلَى مُسَاعَدَتِه: «ما أَيْسَرَ ما تَطْلُبُهُ أَيُّها الْحَطَّابُ، فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تَرْكَبَ ظَهْرِي، لأَحَمِلَكَ إِلَى حَيْثُ يَعِيْشُ أَبْنَاءُ جِنْسِكَ مِنَ النَّاسِ.»

(٩) صَنِيعُ الْفيلِ

فَابْتَهَجَ الْحَطَّابُ بِذلِكَ أشَدَّ الابْتِهاجِ، وَقَفَزَ عَلَى ظَهْرِ الفِيلِ الْأَبْيَضِ فَرِحًا مَسْرُورًا. ثُمَّ انْطَلَقَ «أَبُو الْحَجَّاجِ» يَعْدُو بِهِ مُسْرِعًا — خِلالَ الْغابَةِ الْوَاسِعَةِ الْأَرْجاءِ — حَتَّى بَلَغا مَدِينَةَ «بَنارِسَ».

فَقالَ لَهُ «أَبُو الْحَجَّاجِ»: «لَمْ يَبْقَ عَلَيْكَ — أَيُّها الْحَطَّابُ — إِلا بُرْهَةٌ قَلِيْلَةٌ، لِتَصِلَ إِلَى بَيْتِكَ؛ فَإِنَّ مَدِينَةَ «بَنارِسَ» — كَما تَراها — قَرِيْبَةٌ مِنْكَ، وَلَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَها إِلا خُطُواتٌ مَعْدُودَةٌ.»

فَهَمَّ الْحَطَّابُ بِأَنْ يَشْكُرَ لِلْفِيلِ النَّبِيلِ هذِهِ الْيَدَ الْبَيْضَاءَ الَّتِي أَسْداها إِلَيْهِ، إِذْ أَنْقَذَهُ مِنَ الْهَلاكِ الْمُحَقَّقِ، وَهَداهُ إِلَى الطَّرِيقِ بَعْدَ أَنْ ضَلَّ. وَلكِنَّ «أَبا الْحَجَّاج» ابْتَدَرَهُ قائِلًا: «كَلَّا، لا تَشْكُرْ لِي صَنِيعِي؛ فَإِنِّي لَقَرِيرُ الْعَيْنِ، مُنْشَرِحُ الصَّدْرِ بِما فَعَلْتُهُ؛ فَقَدْ أَتَحْتَ لِي فُرْصَةً ثَمِينَةً، لِأَداءِ واجبِي في مُعَاوَنَةِ بَائِسٍ مَلْهُوفٍ، وَإِنْقاذِ ضَالٍّ حَائِرٍ، بَعْدَ أَنْ تَقَطَّعَتْ بِهِ الْأَسْبابُ.»

ثُمَّ عادَ «أَبُو الْحَجَّاجِ» إِلَى كَهْفِهِ الْبَعِيدِ، وَهُوَ مُبْتَهِجٌ بِما أَسْداهُ إِلَى الْحَطَّابِ الْمِسْكِينِ مِنْ صَنِيعٍ. وَلَمْ يَدْرِ الْفِيلُ النَّبِيلُ ما يَخَبِّئُهُ لَهُ الْقَدَرُ مِنْ أَحْداثٍ وَخُطُوبٍ، وَلَمْ يَدُرْ بِخَلَدِهِ أَنَّ الْخَيْرَ قَدْ يَجْلُبُ الشَّرَّ، وَأَنَّ الْإِحْسانَ قَدْ يُجْزَى عَلَيْهِ بالْإِساءَةِ وَالْجُحُودِ.

(١٠) غَدْرُ الْحَطَّابِ

وَكانَ الْحَطَّابُ — لِسُوءِ حَظِّ «أَبِي الْحَجَّاجِ» — غَادِرًا، خَبِيثَ النَّفْسِ، لَئِيمَ الطَّبْعِ. وَقَدْ وَسْوَسَ لَهُ الشَّيْطانُ، فَجَرَّهُ الطَّمَعُ إِلَى الْخَديعَةِ وَالْخِيانَةِ، وَزَيَّنَتْ لَهُ نَفْسُهُ الْخَبِيثَةُ أَنْ يَغْدِرَ بِصَاحِبِهِ، وَيَجْزِيَهُ عَلَى إِحْسانِهِ أَقْبَحَ الْجَزاءِ.

وَلَمْ يَبْقَ في خَاطِرِهِ أَنَّ «أَبا الْحَجَّاجِ» قَدْ أَنْقَذَهُ مِنْ حَيْرَتِهِ وَضَلالهِ، وَوَقاهُ عادِيَةَ الْهَلاكِ، وَأَنَّهُ — لِذلِكَ — جَدِيرٌ بِالثَّناءِ، لِبِرِّه بِهِ وَعَطْفِهِ عَلَيْهِ؛ بَلْ شَغَلَهُ الطَّمَعُ عَنِ الوَفَاءِ، وَسَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ الْغادِرَةُ أَنْ يَكْفُرَ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ، وَيَجْحَدَ ذلِكَ الْإحْسانَ، فَقالَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ: «لَقَدْ هَلَكَ الْفِيلُ الْأَبْيَضُ الَّذي كان في قَصْرِ مَلِكِ «بَنارِسَ»، قُبَيْلَ خُرُوجِي مِنَ الْمَدِينَةِ بِأَيَّامٍ، وَلا شَكَّ أَنَّ الْمَلِكَ سيُكَافِئُنِي أَجْزلَ مُكافَأَةٍ، إِذا اسْتَطَعْتُ أَنْ أُوقِعَ هذا الفِيلَ في قَبْضتيِ أسِيرًا، وَأُقَدِّمَهُ لِلْمَلِكِ هَدِيَّةً ثَمِينَةً.»

وَما لَبِثَتْ هذِهِ الْفِكْرَةُ الجارِمَةُ أَنْ أَصْبَحَتْ عَزْمًا وَتَصْمِيمًا، فَراحَ الْحَطَّابُ يُنْعِمُ بَصَرَهُ في تِلْكَ الطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكَها «أَبُو الْحَجَّاجِ»، وَظَلَّ يُجِيلُ لِحَاظَهُ في أَشْجارِها الْعالِيَةِ، وَتِلالِها الْمُرْتَفِعَةِ، وَهِضَابِها الشَّاهِقَةِ، الَّتِي يَمُرُّ عَلَيْها في أَثْنَاءِ السَّيْرِ؛ حَتَّى لا يَضِلَّ طَرِيقَهُ إِذا هَمَّ بِالْعَوْدَةِ إِلَيْها مَرَّةً أُخْرَى. وَما زالَ كَذلِكَ حَتَّى حَذَقَها، وَتَعَرَّفَ طَرَائِقَها جَمِيعًا.

(١١) بَيْنَ يَدَيِ الْملِكِ

وَلَمْ يَكَدِ الْحَطَّابُ يَصِلُ إِلَى «بَنارِسَ»، حَتَّى مَثَلَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ وَقالَ لَهُ مَسْرُورًا: «لَقَدِ اهْتَدَيْتُ إِلَى الْفِيلِ الْأَبْيضِ الْجَدِيِرِ بِأَنْ يَحُلَّ مَكَانَ «أَبِي كُلْثُومٍ»، ذَلِكَ الْفِيلِ الْهَالكِ الذي فَقَدَهُ مَوْلايَ، وَحَزِنَ لِفَقْدِهِ حُزْنًا شَدِيدًا.»

وَظَلَّ الْحَطَّابُ يَصِفُ لِمَلكِ «بَنارِسَ» جَمالَ «أَبِي الْحَجَّاجِ»، وَيُطْنِبُ لَهُ في تَعْدَادِ مَزاياهُ وَمَناقِبِهِ، حَتَّى أُعْجبَ بِهِ الْمَلِكُ — عَلَى السَّماعِ — وَقالَ لِلْحَطَّابِ: «لَيْسَ أَشْهَى إِلَى نَفْسِي مِنَ الْحُصُولِ عَلَى هذا الْفِيلِ الظَّرِيفِ الَّذِي تَصِفُهُ لِي، فَارْجِعْ إِلَى الْغابَةِ — مِنْ فَوْرِكَ — في عِصابَةٍ مِنْ مَهَرَةِ صَيَّادِي الْفِيلَةِ الْمَشْهُورِينَ في مَدِينَتِي. وَمَتَى نَجَحْتُمْ في صَيْدِ الْفِيلِ الْأَبْيَض، فَإِنِّي مُكافِئُكَ ومُكافِئُهُمْ عَلَى ذلِكَ أَجْزَلَ مُكافَأَةٍ.»

(١٢) عِنْدَ بُحَيْرَةِ «اللُّوتَس»

فَابْتَهَجَ الْحَطَّابُ بِما سَمِعَ، وَأَسْرَعَ — في رِفاقَةِ الصَّيَّادِينَ — يَقُودُهُمْ في شِعاب الْغابَةِ، ويُرْشِدُهُمْ إِلَى الطَّرَائِقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى كَهْفِ «أَبِي الْحَجَّاجِ»، حَتَّى بَلَغُوا بُحَيْرَةَ «اللُّوتَس» بِلا مَشَقَّةٍ، حَيْثُ وجَدُوا «أَبا الْحَجَّاجِ» يَجْمَعُ الْفاكِهَةَ لِعَشاءِ أُمِّهِ الْعَجُوزِ.

وَلَمْ يَكَدْ «أبو الْحجَّاج» يَسْمَعُ وَقْعَ خُطُوَاتِهِمْ، حَتَّى رَفَعَ إِلَيْهِمْ رَأْسَهُ، وِأَجالَ فيهِمْ بَصَرَهُ؛ فَلَمَحَ صَاحِبَهُ الْحَطَّابَ بَيْنَ صَيَّادِي الْأَفْيالِ، فَأَدْرَكَ الفِيلُ الذَّكِيُّ أَنَّ الْحَطَّابَ قَدْ غَدَرَ بِهِ، وَجازاهُ عَلَى مَعْرُوفِهِ أَلْأَمَ جَزَاءٍ. وَتَحَقَّقَ لَهُ كلامُ أُمِّهِ، وَنَدِمَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ نَصِيحَتَها الثَّمِينَةَ حِينَ لا يَنْفَعُ النَّدَمُ.

(١٣) فيِ الْأَسْرِ

وَأَرادَ «أَبُو الْحَجَّاج» أَنْ يَهْرُبَ؛ حَتَّى لا يَقَعَ في قَبْضَتِهِمْ أَسِيْرًا. وَلَكِنَّ الصَّيادِينَ الْأَذْكِياءَ الْمُدَرَّبِينَ عَلَى صَيْدِ الْفِيَلَةِ، عَدَوْا في أَثَرِهِ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ مَسَالِكَ الْهَرَبِ، وَسَدُّوا مَنَافِذَ الطَّرِيق، وَبَذَلُوا كُلَّ ما في وُسْعِهِمْ — مِنْ حِيلَةٍ وَمَهارَة — حَتَّى أَوْقَعُوهُ في شِبَاكِهمْ أَسِيرًا ثُمَّ سَارُوا بِهِ في طَرِيقِهِمْ إِلَى مَدِينةِ «بَنارِسَ»، مَسْرُورِين مَزْهُوِّينَ بِما وُفِّقُوا إِلَيْهِ مِنْ فَوْزٍ وَانْتِصارِ.

(١٤) حُزْنٍ «أُمَّ شِبْلٍ»

وَظَلَّتْ «أُمُّ شِبْلٍ» الْمِسْكِينَةُ جَاثِمَةً في كَهْفِها تَرْتَقِبُ عَوْدَةَ وَحيدِها «أَبِي الْحَجَّاج»، حَتَّى جاءَ اللَّيْلُ وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْها؛ فَتَوَجَّسَتْ شَرًّا، وَساوَرَتْ نَفْسَها الْهُمُومُ وَالْأَحْزان، وَخَشِيَتْ أَنْ يَكُوْنَ قَدْ أصابَهُ سُوءٌ، أَوْ لَحِقَ بِهِ أَذًى.

وَلَمَّا طَالَتْ غَيْبَةُ «أَبِي الْحَجَّاج»، أَيْقَنَتْ

«أُمُّ شِبْلٍ» الْعَجُوز أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ أَسِيرًا في قَبْضَةِ الصَّيَّادِينَ؛ فَوَلْوَلَتْ وَبَكَتْ، وَظَلَّتْ تَنْدُبُ حَظَّها التَّاعِسَ، وَتَقُولُ في نَفْسِها مَحْزُونَةً مُتَحَسِّرَةً: «الْوَيْلُ لي مِنْ بَعْدِكَ يا «أَبَا الْحَجَّاجِ». فَما أَدْرِي: كَيْفَ أَصْنَعُ بَعْدَ أَنْ فَقَدْتُ مَعُونَتَكَ، وَحُرِمْتُ بِرَّكَ بِي، وَعَطْفَكَ عَلَيَّ؟ وَما أَعْرِفُ: كَيْفَ أَعِيشُ في هَذِهِ الْعُزْلَةَ، وَلَيْسَ لِي مَنْ يُطْعِمُنِي تِلْكَ الْفَاكِهَةَ الشَّهِيَّةَ، أَوْ يَهْدِينِي إِلَى بُحَيْرَةِ «اللُّوتِسِ»، لِأُرْوِيَ مِنْها ظَمَئِي إِذا عَطِشَتُ؟ أَلا إِنَّنِي — مِنْ بَعْدِكَ يا «أَبا الْحَجَّاج» — لَا شَكَّ هَالِكَةٌ جُوْعًا وَعطَشًا، في هذِهِ الْبُقْعَةِ النَّائِيَة! فَيا لَيْتَنا تَنَبَّأْنا بِهذا الْمُصابِ قَبْلَ وُقُوعِه، وَفَطَنَّا إِلَى هذِهِ الْكارِثَةِ، وَعَرَفْنا عَوَاقِبَ الْأُمُورِ قَبْلَ أَنْ تَحُلَّ بِنا مُفَاجِئَةً، وَتَنْزِلَ بِنا عَلَى غِرَّةٍ. وَيا لَيْتَنا لَبِثْنا — حَيْثُ كُنَّا — آمِنَيْنِ، لا يُرَوِّعُنا عَدُوٌّ، وَلا يَجْرُؤُ عَلَى الدُّنُوِّ مِنَّا كَائِنٌ كان!»

(١٥) حُزْنُ «أَبِي الْحجَّاج»

أَمَّا جَزَعُ «أَبِي الْحَجَّاجِ» وحُزْنُهُ، فَقَدْ فاقا جَزَعَ أُمِّهَ وَحُزْنَها، فَلَقَدْ بَرَّحَ بِهِ الْوَجْدُ، وَاشْتَدَّ بِهِ الْأَلَم، لِوَحْدَةِ أُمِّهِ وَضَعْفِها وَعَجْزِها عَنِ الْحَياةِ مِنْ بَعْدِه. وظَلَّ يَقُولُ في نَفْسِه، وهُوَ سائِرٌ في طَرِيقهِ إِلَى حَيْثُ يَقُودُهُ صَيَّادُوهُ الْأَشِدَّاءُ: «لَكِ اللَّهُ يا «أُمَّ شِبْلٍ»! فَما أَدْرِي: كَيْفَ تُصْبِحِينَ في مَحَلِّكِ بَعْدِي، أَيَّتُها الْأُمُّ الْحَنُونُ الْبارَّةُ؟ أَلا لَيْتَني أَصْغَيْتُ إِلى نَصِيحَتِكِ، وَقَبِلَتُ رَأْيَكِ، وَلَمْ أُخالِفْ مَشُورَتَكِ. إِذَنْ غَنِمْتُ السَّلامَةَ وَالتَّوْفيق، وَنَجَوْتُ مِنَ الْغَدْرِ وَالْجُحُودِ.

لَقَدْ حَذَّرْتِنِي — يا أُمَّاهُ — كَيْدَ الْإِنْسانِ وَجُحُودَه؛ فَلَمْ أُصْغِ إِلَى نَصِيحَتِك، وَلَمْ أَنْتَفِعْ بِتَحْذِيركِ. وَلَوْ أَنَّنِي سَمِعْتُ مَقَالَتَك، وَأَخَذْتُ بِرَأْيِكِ السَّدِيدِ؛ لَعِشْتُ طُولَ عُمْرِي هَانِئًا وَادِعًا، نَاعِمًا بِالْحُرِّيَّةِ بِجِوَارِك، وَلَمْ أَقَعْ في قَبْضَةِ هؤُلاءِ الْأَشْرارِ الْغَادِرِين.

وَما أَدْرِي: كَيْفَ تَصْنَعِين — يا أُمَّاه — بَعْدَ أَنْ تَقَطَّعَتْ بِكِ أَسْبابُ الْحَياة، وَفَقَدْتِ نَاصِرَكِ الْوَفِيَّ الْأَمِينَ، وحُرِمْتِ وَلَدَكِ الصَّادِقَ الْمُعِينَ؟»

(١٦) مُكافأَةُ الْمَلكِ

وَلَمَّا مَثَلَ الصّيَّادُونَ والْحَطَّابُ بيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ، وَمَعَهُمُ الْفِيلُ الْأَبْيَضُ، أُعْجِبَ الْمَلِكُ بِمَنْظَرِهِ، وَسُرَّ بِهِ سُرُورًا عَظِيمًا. وكانَتْ أَماراتُ الْكَآبةِ وَالْحُزْنِ بِاديَةً عَلَى مَلَامِحِ «أَبِي الْحَجَّاجِ»، ولكِنّها لَمْ تَنَلْ مِنْ جَمالِ شَكْلِه، وبَهاءِ مَنْظَرِه؛ فَقالَ الْمَلِكُ: «ما أَجْمَلَهُ فيلًا رَائِعَ الْمَنْظَرِ، بَهِيَّ المَلامِح، مُشْرِقَ الطَّلْعَةِ! فَلَأَتَّخِذَنَّهُ — مُنْذُ الْيَوْم — مَرْكَبي؛ فَهُوَ أَفْخَمُ فِيلٍ رَأَيْتُهُ أَوْ سَمِعْتُ بِهِ في حَيَاتِي.»

ثُمَّ أَجْزَلَ الْمَلِكُ مُكافَأَةَ الْحَطَّابِ وَالصَّيَّادِين، وَأَمَرَ أَتْباعَهُ أَنْ يَتَخَيَّرُوا أَحْسَنَ مَكانٍ في الْإِصْطَبْلِ الْمَلَكيِّ؛ لِيَحُلَّ فِيهِ «أَبُو الْحَجَّاج»، كَما أَمَرَهُمْ أَنْ يُحَلُّوهُ بِأَثْمَنِ اللَّآلِئِ وَأَنْفَسِ الْيَواقِيت.

(١٧) مَرَضُ «أبِي الْحَجَّاج»

وَمَرَّتْ عَلَى هذا الْحادِثِ أيَّامٌ قَلِيلَةٌ، ثُمَّ أَرادَ المَلِكُ أَنْ يَرْكَبَ الْفِيلَ الْأَبْيَضَ، وَيَطُوفَ بِهِ في الْمَدِينَةِ؛ فَقالَ لَهُ أَتْبَاعُهُ، وَالْحُزْنُ بادٍ عَلَى وُجُوهِهم: «إِنَّ الْفِيلَ الْأَبْيَضَ — يا مَوْلانَا — قَدْ مَرِضَ مَرَضًا خَطِيرًا، وانْتابَهُ ضَعْفٌ شَدِيد، وَهُو — مُنْذُ حَضَرَ أَرْضَنا — لَمْ يَذُقْ طَعامًا وَلا شَرابًا. وَقَدْ تَخَيَّرْنا لَهُ أَشْهَى الْأَطْعِمَةِ والْأَشْرِبةِ مِنَ الْفاكِهةِ وَالْحَشائِش، فَلَمْ يَذُقْ مِنْها شَيْئًا.»

فارْتاعَ الْمَلِكُ لِهذا النَّبَأِ، وَأَسْرَعَ — في الْحال — إِلَى الْإِصْطَبْل؛ فَرَأَى عَلَى وَجْهِ «أَبِي الْحَجَّاج» سِيما الْكَدَرِ وَالْهَمِّ، فَصاحَ بِهِ قَائِلًا: «ما بالُكَ — أَيُّها الْفِيلُ الْكَرِيِمُ — قَدْ تَغَيَّرَتْ مَلامِحُك، وَسِيءَ وَجْهُك وَتَبَدَّلَتْ أَطْوارُكَ؟ أيُّ شَيْءٍ بِغَّضَ طَعامَنا وَشَرابَنا إلَيْك؟ أَتُرَى خَدَمي قَدْ أَهْمَلُوا الْعِنايةَ بِأَمْرِك؟ أَمْ تُراهُم قَصَّرُوا في تَخَيُّرِ ما يُرْضِيكَ مِنْ لَذائِذِ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي تَشْتَهِيها نَفْسُك؟»

(١٨) شَكْوَى «أَبِي الْحَجَّاج»

فَهزَّ «أَبُو الْحَجَّاج» رَأْسَهُ الضَّخْمَ، وَقالَ بِصَوْتٍ خافِتٍ، قَدِ ارْتَسَمَتْ فيهِ نَبَراتُ الْحُزْنِ والْأَسَى: «كَلَّا يا مَوْلاي!»

فَقالَ لَهُ الْمَلِك، وَقَدِ اشْتَدَّ شَوْقُهُ إِلَى تَعَرُّفِ قِصَّتِهِ: «خَبِّرْني — في صَراحَةٍ — أَيُّها الْفِيلُ الْكَرِيمُ عَنْ سِرِّ هَمِّكَ وَاكْتِئابِك؛ فَإِنِّي باذِلٌ جُهْدِي في إِسْعادِكَ وَتَحْقيقِ أُمْنِيَّتِكَ، إِذا وَجَدْتُ إِلَى ذلِكَ سَبِيلًا.»

فَقالَ «أَبو الْحَجَّاج» في لَهْجَةٍ حَزِينَةٍ: «شُكْرًا لَكَ أَيُّها الْمَلِكُ الْعَظيمُ عَلَى عِنايَتِكَ بِأَمْرِي، واهْتِمامِكَ بِشَأْني. وَلَقَدْ سَأَلْتَني عنْ مَصْدَرِ حُزْنِي، واقْترَحْتَ عَلَيَّ أَنْ أَتَمَنَّى عَلَيْكَ الْأَمَانِيَّ. وَلَيْسَ لي مِنْ أُمْنِيَّةٍ في هذِهِ الْحياةِ أَعْظَم مِنْ أَنْ أَعُودَ إِلَى أُمِّيَ الْعَجُوزِ التَّاعِسَةِ الْعَمْياءِ، الَّتي تَرَكْتُها في الْغابَةِ وَحيدَةً لا عائِلَ لها، وَهيَ تُوْشِكُ أَنْ تَهْلِكَ جُوعًا وَعَطشًا في كَهْفِها. وَلَنْ أَطْعَمَ شَيْئًا بَعْدَها، ولَنْ أَسْتَسِيغَ الزَّادَ وَهِيَ تَتَضَوَّرُ جُوعًا، وَلا تَجِدُ إِلَى الطَّعامِ سَبِيلًا.»

فَسأَلَهُ مَلِكُ «بَنارِسَ» عَنْ قِصَّتِه؛ فَحَدَّثَهُ بها كُلَّها، وَأَخْبَرَهُ بِانْتِقالِهِ هُوَ وأُمُّهُ إِلَى مَكانٍ بَعيدٍ عَنْ قَطِيعِ الْفِيَلَة، وكَيْفَ عاشَ مَعَ أُمِّهِ أَسْعَدَ عَيْشٍ في عُزْلَةٍ وادِعَةٍ هَنيئَةٍ؛ حَتَّى جاءَهُما الْحَطَّابُ، وَكانَ مَقْدَمُهُ عَلَيْهِما شُؤْمًا وَخَرابًا؛ فَكَدَّر صَفْوَ عَيْشِهِما الرَّغِيدِ بِخِيانَتِهِ وَغَدْرِهِ.

(١٩) الْفَكاكُ مِنَ الْأَسْرِ

كَانَ مَلِكُ «بَنارِسَ» عادِلًا رَحيمًا، يُؤْثِرُ الْإِنْصافَ، وَيَرْتاحُ لِلْمَعْرُوفِ؛ فَقالَ لِلْفِيلِ الْأَبْيَضِ، عَلَى شَغَفِهِ بِهِ، وَرَغْبَتِهِ في اسْتِبْقائِهِ: «أَيُّها الْحَيَوانُ النَّبِيلُ، إِنَّ طِيبَةَ قَلْبِكَ، وَحُسْنَ طَوِيَّتِكِ، قَدْ أَظْهَرا — أَمامِي — خِسَّةَ الْجِنْسِ الآدَمِيِّ وَغَدْرَهُ. وَقَدْ أَطْلَقْتُ سَراحَكَ — مُنْذُ الآنَ — فعُدْ إِلَى أُمِّكَ وَارْعَها، وَتَوَلَّ أَمْرَها، وَثابِرْ عَلَى بِرِّكَ بِها، وَعَطْفِكَ عَلَيْها ما حَيِيتَ.»

فَشَكَرَ لَهُ «أَبُو الْحَجَّاج» عَدالَتَهُ وكَرمَه وَإِحْسانَه، وقال له مُغْتَبِطًا فَرْحان: «لَنْ أَنْسَى لَكَ هذا الْجَمِيلَ!»

(٢٠) اجْتِماعُ الشَّمْلِ

ثُم أَسْرَعَ «أَبو الْحَجَّاج» في طَرِيقِهِ إِلَى كَهْفِ أُمِّهِ، عَلَى ما بِهِ مِنْ ضَعْفٍ وهُزالٍ، وجُوعٍ وعَطَشٍ. وَلا تَسَلْ عَنْ فَرَحِهِ وَابْتِهاجِهِ حِينَ رَأَى أُمَّهُ لا تَزالُ عَلَى قَيْدِ الْحَياةِ. وَلا تَسَلْ عَنْ فَرَحِ «أُمِّ شِبْلٍ» بِوَلدِها حِينَ عادَ إِلَيْها بَعْدَ يَأْسٍ مِنْ عَوْدَتِهِ!

وَلَمْ يَكَدْ يَسْتَقِرُّ بِهِ الْمُقامُ، حَتَّى قَصَّ عَلَى أُمِّهِ كلَّ ما حَدَثَ لَهُ في أَثْناءِ غَيْبَتِهِ. فقالَتْ لهُ مُتأَلِّمَةً: «لَقَدْ كان عليكَ — يا وَلَدي — أَن تُصْغِيَ إِلَى نَصيحتي! فهلْ آمَنْتَ الآنَ بِغَدْرِ الآدَمِيِّينَ، وجُحُودِ بَنِي الْإنْسان؟ وَهَلْ أَدْرَكْتَ أَنَّ سُوءَ النِّيَّةِ — كَما حَدَّثْتُكَ — مُتَأَصِّلٌ في نُفُوْسِهِمْ مُنْذُ الْقِدَمِ؟»

فَقال لَها «أَبُو الْحَجَّاج»: «لَيْسُوا جَمِيعًا خَوَنَةً وَغَادِرِينَ — يا أُمَّاهُ — فَإِنَّ فِيهِمُ الطَّيِّبَ وَالْخَبِيثَ، وَالْمُحْسِنَ وَالْمُسِيءَ. وَلَوْلا أَنَّ مَلِكَ «بَنارِسَ» عادِلٌ رَحِيمٌ، سَرِيُّ النَّفْسِ، لَما وَجَدْتُ إِلَى الْفَكاكِ مِنْ أَسْرِي سَبِيلًا طُولَ الْحَياةِ.

وَما أَحْسَنَ أَنْ نَنْسَى — يا أُمَّاهُ — غَدْرَ الْحَطَّابِ، وَلا نَذْكُرَ إِلَّا كَرَمَ الْمَلِكِ وَإِحْسَانَهُ؛ فَإِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ.»

(٢١) خاتِمَةُ الْقِصَّةِ

وَقَدْ بَرَّ «أَبُو الْحَجَّاجِ» بِما قالَ، وَنَسِيَ — مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ — غَدْرَ الْحَطَّابِ وَخِيَانَتَهُ، وَجُحُودَهُ وَإِساءَتَهُ.

وَلكِنَّهُ ظَلَّ — حَياتَهُ كُلَّها — يَذْكُرُ صَنِيعَ مَلِكِ «بَنارِسَ»، وَيَشْكُرُ لَهُ مَعْرُوفَهُ الَّذِي أَسْداهُ، وَلا يَنْساهُ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤