مقدمة

«الأذكياء يجيدون النظر كثيرًا إلى مياه البحار، أما الطيبون فيتطلعون دائمًا إلى الصحاري والجبال»، تلك كلمة قالها كونفوشيوس، ذات مرة، في ماضي الزمان، وكانت تعبيرًا صادقًا عن الشروط أو الظروف القائمة في الطبيعة والتي تسهم في صياغة التكوين النفسي والذهني للناس، حسب عناصر البيئة الجغرافية والاجتماعية، مِن ثَم المحيطة بهم. وقد تأثرت الصين بظروف بيئتها الطبيعية، وتشكلت تبعًا لها شخصيتها الثقافية بسمات محددة مما صاغته لها جغرافيتها؛ إذ لم يكن هناك سوى البر الواسع الممتد من الصحاري إلى الجبال، صحيح أن الشطآن كانت تطل على بحار مترامية، لكنها لم ترَ من البحر سوى الشاطئ (تعبير مناسب جدًّا ذلك الذي يطلقونه على تايوان والصين الأم، عندما يراد له أن يكون محايدًا، فيقال: الشعب الصيني على الشاطئين)، فالبحر دائمًا نكرة، وهو موطن الغموض والظلام، حيث يُبتلَع الضياء وبهجة الأحلام على قمم الموج. وتحكي أسطورة صينية قديمة أن ابنة الملك «ياندي» أرادت أن تستحم بالقرب من الشاطئ، فبينما هي في الماء، ثار الموج فجأة؛ واختطفها إلى الأعماق، ولم تشأ الآلهة أن تدعها حبيسة البحر الكبير، فمنحتها روح عصفور جميل، وأسمتها «جينوي» (الروح الحارس)، وكان أن حلقت بها الأجنحة الصغيرة عاليًا، لكنها أبت إلا أن تقتلع بمنقارها كل ما استطاعت أن تحمله من حصى الجبال لتلقم به دوامات الماء؛ علها تغلق فم البحر الواسع وتطم جوفه العميق. وبقيت الصين عصفور جينوي، تبغض البحر منذ فجر التاريخ، حتى القرن التاسع عشر الميلادي تقريبًا. ظلت الصين عصفورًا يحلق فوق أرضه الطيبة، ينزع من قمم الجبال ما يسد به أفواه الخطر، ولطالما بقيت تلك الحضارة العظيمة حبيسة البحر والجبل، حيث انطوت على نفسها في كهف عزلة تاريخية طويلة، على عكس اليونان القديمة التي تطلعت في ثقة إلى قمم الماء اللازوردي، والأمواج الصافية، فنشطت جسور التبادل والانتقال … لكن غياب البحر مقابل البر، في حالة الصين، أمكن تعويضه بثنائية الأرض والسماء، ومن هنا كانت بداية لها خطرها.

فمن التقاء الأرض والسماء تشكلت الحضارة والفكر والتاريخ والفن وعصور الأباطرة، وزمان عريض في عمر الصين، وفي حين تحددت العلاقة بين الأرض والسماء في اليونان القديمة على طرفي نقيض، حصرا الوجود الإنساني بين دفتَي الصراع في مواجهات بائسة بين الآلهة والبشر، نجد الصين قد صالحت بينهما، لكنها بفعل الانسجام الكبير، أعطت الأرض للإنسان واعتبرته أعظم ثمار الكون، ثم صالحت بينه وبين السماء — على طريقتها — وأدمجته في طاقات السماء ومنحته صفات إلهية، حتى صار الوجود كله محض إنسان، بل قد شاعت في الصين، إبان القرن السادس عشر مقولة فلسفية، ترى أن مجرد التفكير أو تصور هذا الانسجام الكبير بين الإنسان والسماء يفترض، بداهة، نوعًا من الثنائية، في حين أن الطرفين ليسا سوى شيء واحد في الأصل؛ واستدل قائلهم على ذلك، بما ورد في كتب التراث القديم حيث جاء في كتاب «شانهاي» ما مفاده: … إن السماء في لغة القدماء، لم تكن تشير إلى تلك القبة العريضة في الأفق، وإنما إلى ذلك الرأس القائم فوق كتفي بني البشر، حتى لقد كان الملوك، وهم يصدرون أحكام الإعدام يقولون بإطاحة السماء (الرأس) عن الكتف؛ ففي رأس كل إنسان سماؤه التي تسيِّر خطاه وأقداره، وتسمع وترى.

التآلف بين الأرض والسماء جعل من النزعة الإنسانية في الوجدان الصيني، فكرة جوهرية تقوم على أساس العلاقة الجدلية؛ ففي ناحية منها، يقوم الجدل بين طرفي السماء والأرض (والرمز الواضح هنا اليين واليانغ)، وفي ناحية أخرى تقوم العلاقة على صيغة مركبة من خمسة عناصر تشكل مفردات الحياة على الأرض: الماء، النار، التراب، الخشب، المعادن. أقول: إن النزعة الإنسانية كانت تشكل جوهر الفلسفة الصينية التي وجدت صداها في الكتلة الثقافية والاجتماعية، بالحجم الكبير، للحضارة الصينية، لكنها لم تنشغل كثيرًا بالوجود الفردي (الذري) للإنسان/الفرد، الذي يقف وحده في صراع مع الكون؛ إذ إنها صبَّت جل اهتمامها على الإنسان، في علاقة مركبة مع عناصر الحياة.

إن كثرة ما يتردد في تاريخ الفكر الصيني من حديث عن «وحدة الأضداد» و«العناصر الخمسة» «والمبادئ الخلقية الثلاثة»، وما إلى ذلك من مبادئ عامة تحت مسميات أو عناوين كبرى، قد يومئ إلى أن هناك اهتمامًا أو تقديرًا محددًا لقيمة ما، ذات مضمون يجري قياسه بالكم أو الأرقام، لكن الواقع أن مثل هذه التقديرات الرقمية جاءت متأخرة جدًّا (مع البوذية الوافدة من الهند)، ويبقى أن هذه الصياغة الموشاة بالتقدير الكمي ليست سوى تفنيد لعناصر تراتبية تعمل ضمن إطار لتنظيم العلاقات أو عناصر الأفكار أكثر مما تحمل من دلالة الأعداد في الحساب الرياضي. وربما كان الإطار التقليدي الذي انتظم داخله أول نمط لعلاقات إنسانية متفاعلة، هو إطار العشائر الصينية القديمة التي صاحبها شكل من أشكال الاقتصاد الطبيعي في مجتمع زراعي، حيث العلاقات بين الناس صريحة وواضحة ومباشرة، والإخلاص هو القاعدة الأولى للمعاملات؛ فكانت تلك نقطة البدء في أول مفهوم أخلاقي توارثته جماعات العشائر الصينية (… وورثته الدولة فيما بعد، دون المرور بجماعات الملكية الخاصة؛ لأسباب ليس هنا مجال الاستطراد في تتبعها)، وعلى العكس تمامًا من المجتمعات ذات النمط الاقتصادي القائم على التجارة، حيث لا مجال لأي حسابات بسيطة أو مباشرة … فلا الواحد، هنالك واحد بسيط؛ ولا الاثنان اثنان، بل المجال مفتوح لتحليل أكثر غنًى، بقدر ما هناك من حسابات متنوعة بالأرقام، ومِن ثَم تنشأ تقديرات للأفكار بصياغات تجريدية … ويتسع الأفق لمنطق رقمي (صوري) ويسود اعتزاز بحكمة تتخذ صورة المثل من قيمة تتجاوز حدود المتداول الأرضي (… وينتشر نمط من حب الحكمة، كما في اليونان، قديمًا).

لم تعرف الصين، في سالف الزمان، فلسفة من ذلك النوع القائم على «حب الحكمة» أو الافتتان بالمعرفة؛ ذلك أنها صرفت كل اهتمامها للفضائل والأخلاقيات، لأعلى النحو الذي يمكن للفلاسفة أن يتصورها به في عالم للمثل، وإنما بالطريقة اللائقة بسلوك الناس في معاملاتهم اليومية وشئون حياتهم، كما يعيشونها في دنيا الواقع (… ذلك جانب يستحق التأمل للصين البراغماتية). كانت الصين تطلق أحيانًا على فلاسفتها القدماء لقب «القديسين»، لا بالمعنى الكهنوتي، ولكن بمعنى: دعاة الخلق القويم، وأحيانًا أخرى — لا سيما في الطاوية — بمعنى «الزهاد والمتنسكين في الكهوف» … التماسًا لفضائل أسمى، أكثر إخلاصًا وإذعانًا للوجود الطبيعي. فكثيرًا ما جنحت الصين إلى مجتمع البر الزراعي أكثر منها إلى موانئ البحر التجاري، وبالتالي فلم تكن لتمنح قيمة كبرى للذكاء والعبقرية التي تجيز مساءلة المعاني البسيطة المعطاة لمواهب البشر في حدود معاملاتهم المباشرة وعلاقاتهم الدائمة داخل تجمعات العشائر التقليدية، وهي المعاني التي اتخذت من قواعد الأخلاق قدس أقداس تحصَّنت به وعاشت به حياتها الطويلة تحت السماء لكنها؛ أبدًا لم تكن تأبه للذكاء المفرط أو التأمل في سديم الميتافيزيقا، أو التوسل لفهم الحياة بنظريات في المعرفة (… لاحظ أن تأخر الصين لسنوات في الثقافة والعلوم، كانت له أسبابه الكامنة في فلسفتها)، كانت أعراف الصين ومبادئ معاملاتها ومواريثها القديمة هي كل ما تملك من قواعد لبناء حصون من الأفكار، جاهدت الكونفوشية كثيرًا لتدعيمه والحفاظ عليه (الكونفوشية لم تبدع جديدًا فقط حصَّنت الإرث ضد الاندثار)؛ ثم جاءت الطاوية لتثور على سذاجة تلك الحصون، لتلفت الانتباه إلى الحصن الأعظم — إذا جاز التعبير — … ذلك هو الوجود الطبيعي (قل المجتمع الطبيعي) الذي يسيء إليه الناس باتخاذهم مبادئ ومناهج تحيد بهم عن الطريق الذي رسمته يد الطبيعة، ثم ظهر المذهب القانوني — ثالث الاتجاهات الفلسفية الكبرى في الحضارة الصينية — لينتزع الفضائل من يد المواريث، ويصوغ تشريعات واجبة الإلزام، تضع الأمور في نصابها، حيث الدولة، لا الحكماء، هي المنوطة بتقنين المبادئ وتلقينها، وكانت تلك أكبر نقلة انقلابية (كان كونفوشيوس نفسه يستنكرها!) ابتدعت ضروبًا من البدع لم يعرفها الكونفوشيون الأولون … وجاء حين من الدهر ذهب فيه أحد رؤساء الوزراء إلى الإمبراطور تشين شيهوانغ — أول إمبراطور للصين الموحدة — ليقول له: … إن السبب في انتشار الفوضى والفساد، على مر العصور، واستعصاء تنفيذ مشروع الوحدة الصينية الكبرى والقضاء على التنابز والفرقة بين الدويلات الصينية المتنازعة يرجع إلى أن الناس كانوا يخرجون على الملوك بنظريات هدامة تحبط كل مسعًى لإنشاء قواعد الوحدة، وقد آن الأوان، بعد أن تحققت وحدة تشين، ووُضِعت الأمور في نصابها، أن يتم القضاء على تلك النظريات التي تعمل أثرها في الخفاء، وأن تُشطَب أفكارها من سجلات التاريخ (عدا سجلات دولة تشين) وكل أفكار المدارس المائة (عدا المنجزات العلمية؛ فقد كانت دولة تشين، والحق يُقال، تحترم الإبداع العلمي!) … وليس أفضل من حرق كل تلك البؤر الفاسدة؛ لتنضبط الأمور ويعم الاستقرار … (وفعلًا، تحقق الهدوء والاستقرار، لكنه أقرب لهدوء الموتى واستقرار الأجداث، لمدة ثلاثة عشر عامًا فقط) … ووسط الأنقاض والخرائب التي خلفتها دولة تشين (الكبرى!) ظهر ملوك دولة هان، وحاولوا إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وقد اقتنعوا بعدم جدوى فرض القوانين الأخلاقية بالقوة الغاشمة، أو حتى بأي نوع من القوة. وفي تلك الأجواء بدا للجميع أن الحل يكمن في التوسل بالطريق الطاوي حسبما عرفه الناس في الممالك القديمة، وعلى الأسس التي صاغها «هوانلاو» (وهو اسم مركب تركيبًا مزجيًّا من كلمتي «هواندي» أي الإمبراطور، وهو رمز إلى السلطة الطيبة في قديم الزمان؛ وكلمة «لاوتسي» إشارة إلى شيخ الطاوية الكبير — وإن لم يكن المؤسس الأول لها — والمعنى يشير إلى المذهب الذي جمع بين القوة والفكر الطاويين)، وكان هذا الزمان الذي توسل بالطاوية في زمن الفوضى، هو زمان دولة هان الغربية [٢٠٦ق.م.–٢٤ ميلادية]، وتم استدعاء المذهب الطاوي، لكنه جاء، في ثوب جديد ليمارس أدوارًا متباينة، تحت أضواء عصر له خصائصه المختلفة، وقد أُعيد النظر في تلك الأيام، فيما خلفته الطاوية من كتب وما حَوَته من سير عن قدامى الشيوخ الكبار في العصر القديم (الذهبي)، من أمثال: يانغ شو، لاوتسي، كوان يين، جانهي، تسيهوازي، ويمو، سونشين، آينون، تشوانغ تسي، بن منغ، شنداو، هوانيوان؛ وأخيرًا ليتزو، صاحب كتابنا هذا، الذي يحمل اسمه «كتاب ليتزو».

ثم إن لهذا الكتاب وصاحبه حكاية من أغرب الحكايات في تاريخ الفكر الصيني، تلك مسألة سأتناولها بالتفصيل في سياق موضوعنا، لكن قد يكون من المفيد أن نقترب، ولو بلمحة سريعة، إلى موضوع «الطاوية»، تلك الفلسفة التي يُلاحظ أنها تحوز اهتمام القارئ العربي دون سواها من مذاهب الفكر الصيني. ولنبدأ من نقطة البداية الأولى التي كثيرًا ما يُغفل شأنها الكثيرون ممن تناولوا الحديث أو الكتابة عن ذلك المذهب الفلسفي الصيني …

  • (١)

    ففيما بين سقوط العبودية وظهور المرحلة الإقطاعية، وعلى مدى قرنين ونصف من الزمان؛ من منتصف عصر «الربيع والخريف» (٧٧٠–٤٧٦ق.م.) حتى منتصف زمن «الدول المتحاربة» (٤٧٥–٢٢١ق.م.) تقريبًا، كانت قد نشأت أعداد هائلة من ملَّاك الأرض الصغار، أو «الفلاحين ملَّاك الأراضي» (في ترجمة حرفية للمصطلح كما هو وارد في عدد غير قليل من المصادر المتعلقة بتاريخ الحضارة الصينية)، وتكوَّنت منهم قوة اجتماعية مؤثرة — وذلك بعد إقرار الضرائب على الأراضي لأول مرة في تاريخ الصين كله، حيث جرى الاعتراف بالملكية الفردية، تحديدًا في ٥٩٤ق.م. — ثم بادرت هذه الشريحة الاجتماعية إلى المطالبة بسقف من الحماية السياسية الاجتماعية لأملاكهم وحقوقهم، وكان شيخ الطاوية الأول «يانغ شو» رائد المدرسة الطاوية وتلاميذه هم الممثلين لملَّاك الأرض الصغار هؤلاء، وأصبح لزامًا على المدرسة وشيخها أن يجاهدوا لانتزاع حقوق متساوية لهؤلاء الملَّاك تحت ظلال باقية من القهر والكبت المتخلف عن زمن العبودية المتهدم، ووجد يانغ شو نفسه وسط ظروف مناسبة لبلورة الأفكار التي تردد صداها بقوة في كل الأرجاء؛ حيث تعالت الدعوة إلى صياغة مجتمع جديد، يصير فيه «لكل فرد شأنه الذاتي» … و«يمتنع فيه الجميع عن التعدي على أو سلب أملاك بعضهم بعضًا» … بحيث «تكون الأولوية المطلقة لمصالح الأفراد الذاتية» … و«يمتنع الأفراد عن عبادة الملوك»؛ ذلك أن «لكل إنسان الحق في أن يرضي رغباته الذاتية أولًا، طامحًا إلى تحقيق منجزاته»، باعتبار أن «تحقيق الرغبات الفردية أهم كثيرًا من خدمة الدولة» … إلخ.

    وكثيرًا ما يقال بأن يانغ شو هو شيخ الطاوية الأول، والحق أنه قد تتماثل أفكاره مع رؤى الطاويين في عدة نقاط، أهمها: الحفاظ على ما هو طبيعى وأصيل في الحياة، لكنه؛ مع ذلك لا ينبغي أن يوضع مع الطاويين في كهف واحد … قد كان شعارهم: الأولوية المطلقة للحفاظ على الجسد الإنساني (باعتباره أثمن ما جادت به الطبيعة على الإنسان)؛ وكان هو يقول: … «لا شيء يعلو على النفس الإنسانية»؛ وفي حين كانوا هم ينصحون ﺑ «اللاعمل، والقعود عن تغيير مسار الطبائع الفطرية»، كان هو يؤيد النشاط الإيجابي في الحياة؛ وإذ قالوا بأنه لكي يعيش الإنسان عمرًا أطول، فليس له أن يقف في وجه كل ما هو فطري وطبيعي، لكنه كان يؤكد بأن ضبط جماح الرغبات هو الشرط الأساس لحياة طويلة هانئة. وعلى أية حال، فقد أفل نجم يانغ شو مع الآفلين، بعد أن انقسم صغار الملاك الزراعيين في عهده إلى شقين: الأول، صعد إلى رتبة ملاك الأرض الكبار؛ والثاني، تراجع ليعود إلى صفوف الفقراء، فمِن ثَم انهار الأساس الاجتماعي لمدرسة يانغ شو، ثم ما لبث أن رحل هو في إثرها، وانهالت على رأسه كل اللعنات؛ فقد اتهمه «منشيوس» بأنه هو الذي سقى الناس من بئر الأنانية، وأنه … «لو كان قد ظن أنه يفيد الإنسان بخصلة شعر ينزعها من رأسه، لما فعل» … ثم قيل إنه داعية للشهوانية والمتع الحسية والنهل من مشارب اللذة، دون قيد، (وتلك تهمة لا يردها الطاويون أنفسهم، بل يتباهون بها ويرون أن الإثم الحقيقي هو الوقوف في وجه الرغبات الفطرية) … لكن الرجل لم يقل بشيء من هذا مطلقًا، وبرغم ذلك فقد استعاذ الكونفوشيون والقانونيون، معًا — على ما بينهما من خلاف — من شر شيطانه الأثيم، واتهمه «ليتزو»، صاحب كتابنا، بأنه … «رغم ذكائه، فلم يكن يفقه أحكام القدر.»

    ومضى الرجل دون أن يترك لنا كتابًا، أو حتى عدة سطور تشهد بما دعا إليه من أفكار، فكان أول فيلسوف يترك للناس سيرة ذاتية بغير مدونات تحمل أفكاره (فهو، في هذا، يقف على النقيض من «ليتزو» الذي ترك لنا هذا الكتاب الذي بين أيدينا الآن، دون أن يخلف لنا سيرة ذاتية موثقة … فما أكثر أعاجيب الطاويين).

    لم يبقَ ﻟ «يانغ شو»، بعد أن تراجعت شرائح ملاك الأراضي إلى حضيض الفقر، إلا أن ينصح لهم بالاعتكاف عن الناس والنأي بأنفسهم عن الانغماس في شئون العالم، والاعتصام بالكهوف في الجبال يتخذونها مأوًى لهم، بعيدًا عن شرور العالم؛ لكن طريقة الاعتكاف هذه لم تكن مجدية في معظم الأحيان؛ لأن بعض الشرور لم يكن ثمة مفر منها، فيما يبدو …

  • (٢)

    ثم جاء «لاوتسي» لينهج نهجًا آخر، أو مسعًى مختلفًا؛ فقد اهتم بالكشف عن القوانين التي تحكم عملية التغير في الكون، والتبدل في أحوال الدنيا؛ فالأشياء تتغير … نعم هذا صحيح، لكن القوانين التي ينتظم، تبعًا لها، دوام هذا التغير تتميز بالثبات والدوام، ومن يقف على أسرار تلك القوانين، يقدر على تحريك ودفع أسباب التغير لمصلحته … تلك كانت المرحلة الثانية في الطاوية، إبان عصرها الذهبي.

  • (٣)

    وفي المرحلة الثالثة، فقد اتضح أنه، وبرغم ثبات قوانين التغير، فهناك عناصر في العالم الطبيعي والحياة والمجتمع والدنيا والأشياء كلها تأبى إلا أن تأتي بمفاجآت صادمة، تجري على غير المعهود، ومِن ثَم تنشأ مخاطر — رغم أنف الحذر — فإذا ما تم تغيير موقع النظر إلى العالم بالتطلع من زاوية مختلفة، أمكن الاهتداء إلى درجة تضمن تجاوزًا للواقع، يحد من شأن الخطر ويقصي كل أسبابه، فتلك هي درجة العزلة، لكنها ليست عزلة الكهوف والجبال، بل هجرة وانتقال إلى عوالم أخرى غير هذا العالم.

فهذه المراحل الثلاث من عهود الطاوية الأولى، كان همها منحصرًا في الذات الفردية، واستقصاء أبواب خلاصها؛ أما طاوية ما بعد ذلك العصر، والتي تُسمى في كتب تاريخ الفكر الصيني اصطلاحًا ﺑ «طاوية ما بعد دولة تشين»، فقد طرحت عنها هذا الاهتمام بالذات الفردية ماضية إلى غاية أخرى.

في الزمن الطاوي الأول ظهر «ليتزو» مؤلف هذا الكتاب الذي بين يديك، سيدي القارئ (هذا إذا جاز لنا أن نقر بأنه المؤلف الحقيقي … فتلك قضية لم تُحسم بعد)، يقال بأنه عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، وتُقدر بعض المصادر مولده في سنة ٣٥٠ق.م. على وجه التقريب؛ لكن التشكيك في وجود هذا الفيلسوف/المؤلف بلغ درجة كادت تنسف كل محاولات التيقن من وجوده في الأساس، واحتدمت هنالك آراء شتى:

  • قيل مثلًا إن ليتزو ليس إلا شخصية وهمية من اختلاق الدارسين، وبالتالي فربما كان هذا الكتاب الذي يحمل اسمه من وضع تلاميذ «تشوانغ تسي»، في زمن دولة تشين، و«هان الغربية» (٢٠٦ق.م./٢٤ ميلادية).

  • وقيل إن وجود صاحب الاسم (ليتزو) لم يكن محل ثقة أهم مؤرخ صيني للعصر القديم، وهو «صِما تشيان» [تُنطق بكسر الصاد وسكون التاء في أول المقطع الثاني]، فلم يورد ترجمة له في كتابه المشهور بعنوان «شي جي» (سجلات تاريخية). ولما كان معروفًا عن صما تشيان هذا دقته وحرصه على توثيق التسجيل للشخصيات التاريخية بأسانيد ثابتة؛ فالواضح أنه لم يهتدِ إلى مصادر يمكن الاطمئنان إلى صحتها فيما يتعلق بترجمة شخصية ليتزو.

  • كان أحد أهم أبواب الكتاب المعروف باسم «تشوانغ تسي» (ثاني أهم وأشهر الكتب الطاوية القديمة)، وهو الباب الذي بعنوان «تيان شان»، يذكر إشارات مختلفة إلى أهم شيوخ الطاوية، ثم إنه لم يُشِر من قريب أو بعيد إلى ليتزو، فكيف ظنك بكتاب كهذا، ينكر وجود مثل هذه الشخصية … أيمكن حقًّا بعد هذا، أن تكون قد ظهرت على مسرح التاريخ فيما مضى؟

  • ثم إن أحد أهم كُتَّاب السير في عصر دولة هان الغربية، وهو «ليو شيانغ»، كان برغم ما قدمه له من سيرة موجزة، إلا أنها احتوت على نقاط تثير المزيد من الشك؛ لتضارب تفاصيلها مع وقائع سير أخرى لشخصيات جاءت بعده بزمان طويل؛ مما يخصم من يقين التعويل على هذه الترجمة الموجزة كسند يُستدل به على وجود هذا الفيلسوف الطاوي القديم.

هذا، ولم يقتصر التشكيك على وجود المؤلف، بل امتد ليشمل الكتاب نفسه:

  • فهناك من يقولون بأنه من تأليف تلاميذ تشوانغ تسي، في زمن دولتي: تشين، وهان الغربية.

  • وهناك من يرددون أنه من تأليف الدارسين في العصور الثلاثة: هان، ووي، وجين؛ سوى أن الدارسين اختلقوا الاسم ووضعوه على الغلاف (لينسبوا له قيمة ما، أملًا في الاعتداد به كمصدر تراثي ذي شأن).

  • وتستند دعاوى التشكيك في الكتاب أيضًا إلى ما كتبه «ليو شيانغ» المحقق المشهور، في عصر دولة هان الغربية، فيما كان قد ذكره في أحد مراجعاته عن الكتب الطاوية؛ حيث كشف عن نقاط تستوجب الشك في نصوص «كتاب ليتزو».

  • كما أن بعض محققي عصر «طانغ» (٦١٨–٩٠٧م) أيَّدوا مثار هذا الشك.

  • أشاع بعض محققي عصر «تشينغ» (القرن السابع عشر الميلادي) أن الكتاب مجرد عرض عام لأفكار بوذية؛ بالإضافة إلى بعض القَصص الخرافي.

  • ويقول أحد خبراء الدراسات الفلسفية المعاصرين (هو شي) في كتابه: «أصول الفلسفة الصينية القديمة» أن ما ورد في «كتاب ليتزو» بشأن مقابلة يانغ شو لملك دولة ﻟ «يانغ»، يثبت أن المحتوى كله زائف؛ وذلك للفارق الزمني الهائل بين الزمن الذي عاش فيه يانغ شو، والفترة التي تولى فيها الملك المشار إليه، عرش البلاد.

  • يؤكد عالم معاصر في الصينيات، وهو «يانغ بو جون»، أن الكتاب مختلق، وأن النسخة الموجودة منه لا أساس لها من الأسانيد التاريخية، وأنها ربما تكون قد وُضعت في زمن دولتي «جين» (٢٦٥–٤٢٠م)، و«وي» (٣٨٦–٥٥٠م).

  • يذكر الباحث «رن جيو» في كتابه «تاريخ تطور الفلسفة الصينية» … في المبحث الخاص ﺑ «كتاب ليتزو» … أن النص قد وُضع إبان عصر جين الغربية (٢٦٥–٣١٦م)، داعمًا رأيه بشواهد تدل على صحة استنتاجه.

  • ثم إن الكتاب اشتمل على باب بعنوان «يانغ شو»، وهو الفيلسوف الطاوي الأول، في عصر «ما قبل دولة تشين»، غير أن أفكاره الواردة في المتن تختلف عما تذكره عنه المصادر القديمة للطاوية الأولى، فمِن ثَم تثور كل ألوان الشك والاعتراض على قبول النص من الأساس، سواء بوصفه كتابًا ينتمي إلى الطاوية أو بنسبة المتن إلى زمن تأليف محدد وكاتب بعينه.

وبرغم هذا كله، فإن كثيرًا من نقاط الشك في وجود الفيلسوف «ليتزو» [ربما كان جائزًا أن يُنطق على نحو آخر: «ليتسو»، «لي تسو»، «لي تسي»، «لي تزو». فكله تعريب صوتي قريب بدرجات من النطق الأصلي]، أقول إن الشك في وجود هذا المؤلف وفي صحة انتساب نص الكتاب إليه، وفي تكذيب كثير من الدارسين لنسبة الكتاب — بفرض الاعتراف بأصالة النص — إلى هذا الشيخ الطاوي المزعوم، كل ذلك لن يصمد طويلًا أمام مراجعة جادة وتفنيد سليم، فتعالَ نناقش ما قالوا.

  • (١)

    ليس من المستبعد، بادئ ذي بدء، أن يكون هذا الفيلسوف قد ظهر، حقًّا، على مسرح التاريخ؛ ومارس دوره كواحد من شيوخ الطاوية في زمن بدئها الأول؛ وبرغم إغفال ذكره في موسوعة «سجلات تاريخية»، وتجاهل الطاوي المشهور «تشوانغ تسي» له ولسيرة حياته فيما وضع من كتب، وسقوط ترجمته فيما جمع المحقق «ليو شيانغ» من وثائق وأسانيد معتبرة، إلا أن كتابًا تراثيًّا ذا شأن عظيم، مثل «سجلات ليو شي» كان قد ذكر ترجمة وافية له، وهذا التوثيق وحده، يكفي لأن يزيل كل شك في وجود هذا الطاوي القديم، وذلك لما هو معروف عن هذا السجل بين جمهرة المتخصصين من دقة الأسانيد وصدق الرواية وصحة النقل … هذه واحدة.

  • (٢)

    ثم إنه قد ورد ذكره في كتاب «سياسات الدول المتحاربة» (باب سجلات دولة هان) [راجع النسخة العربية الصادرة عن المركز القومي للترجمة، القاهرة. ص٣٩٧، وقد رُسم الاسم هكذا «ليتس إيقو»؛ فالأول ينبغي تعديله إلى «ليتزو»؛ فلطالما كانت «السين» مثقلة بالدلالات الشيطانية، مما لا يليق بشيخ طاوي حكيم؛ أما «إيقو» فهو أحد ألقابه المشهورة].

  • (٣)

    ولئن لم تكن هناك إشارة صريحة إليه في باب «تيان شان» من كتاب «تشوانغ تسي»، فإن عددًا من أبواب الكتاب تناولت سردًا مطولًا لأفكاره وجولاته، بل منها ما ذكر بعضًا من الحكايات التي أوردها ليتزو في كتابه حرفًا بحرف.

  • (٤)

    هذا بالإضافة إلى أن كثيرًا من شيوخ الكونفوشية، في عصر «طانغ» (… منهم «يانشي» مثلًا) ذكروا ترجمات تفصيلية له، وهؤلاء من ثقات أهل السير والتراجم.

  • (٥)

    وفيما يتعلق بإغفال «صما تشيان» لترجمة سيرة ليتزو في سجلاته؛ فربما لأنه لم يجد مستندات أو مصادر تامة تمكِّنه من الترجمة لحياة ليتزو، أو لعله كان قد استوفى في كتابه ذكر كبار الطاويين — تحديدًا لاوتسي وتشوانغ تسي — فاكتفى من سيرتهم بما يلقي الضوء على المذهب الطاوي وخصائصه وأهم ثماره الفكرية، ولم يجد للحديث عن الشيخ ليتزو أي طائل. ثم إن الشغل الشاغل ﻟ «صما تشيان» كان ينحصر بشكل أساسي في الترجمة والتأريخ لفترة هان، ووي، وهي مراحل تاريخية كانت وقفًا على الكتابات الكونفوشية؛ حيث تضاءل الاهتمام بتتبع آثار الطاوية في عصر دولة هان الغربية، أي في العصر الذهبي الثاني للمد الطاوي.

لكن، تُرى في أي عصر عاش ليتزو؟

وربما تعذَّر الجزم بذكر سنة محددة، بيد أن الثابت أنه تلقى العلم على يد «كوان يين»، ومِن ثَم فيمكن الاستنتاج بأنه عاش في الفترة ما بين نهاية زمن الربيع والخريف (٤٧٦ق.م.) وعهد الدول المتحاربة (٤٧٥–٢٢١ق.م.) فلماذا إذن، جرى ذكره أكثر من مرة في ثنايا كتاب «تشوانغ تسي»، بينما أُغفل شأنه في باب «تيان شان» من الكتاب نفسه؟!

ويُقال في الرد على هذا التساؤل إن الباب المشار إليه كان مخصصًا في الأصل، لذكر كبار شيوخ الطاوية، على سبيل الإشارة الموجزة، اكتفاء بالترجمة لسيرة تشوانغ تسي، ولاوتسي، وكوان يين، دون التطرق إلى طاويين آخرين، من بينهم ليتزو. ثم إن إغفال الإشارة إلى سيرة حياة أحد الشخصيات لم تكن تعني إنكار وجوده، وهناك أمثلة على ذلك؛ منها أن كتابًا تراثيًّا ذا شأن، مثل كتاب «شو نزي» كان قد تغاضى عن ذكر كونفوشيوس، دون أن يفسر هذا على أنه إهمال أو إنكار لوجود الحكيم الأكبر أو اعتباره شخصية وهمية مختلقة.

أما عن الكتاب، وبالنسبة لما أثير من جدل حول صحة إسناد النص إلى أصول التراث الطاوي؛ فالثابت أنه:

  • لم يرد أي ذكر لهذا النص في مؤلفات عصر ما قبل تشين، وإنما كان أول توثيق له على يد «بانكو» (أحد محققي التراث) في دولة هان الشرقية (٣٢–٩٢م).

  • وكان «ليو شيانغ»، أشهر محققي التراث في العصر القديم، قد أشار إلى وجود توثيق تام للكتاب تحت عنوان «فهرس عام لكتاب ليتزو»، محتواه يشتمل على ثمانية أبواب، وظهرت نسخته الكاملة في عهد الملك «هان شنغ وي» (١٤ق.م.)، وربما عُد هذا أقدم توثيق للنص. ومع ذلك، فهناك دارسون يشككون في صحة هذا التوثيق ويعتبرونه مجرد كلام يسوقه ليو شيانغ على عواهنه.

  • وفي عصر دولة جين (٢٦٥–٤٢٠م) أصدر المحقق «جانغ شان»، أحد محققي التراث القديم، نسخة بعنوان «شروح على كتاب ليتزو»، وتعد هذه النسخة الأصل المعتمد في إصدار المتن المعروف للكتاب بأبوابه الثمانية ومحتواه الذي نطالعه وصيغته المعهودة لنا في الوقت الحالي؛ لكن هناك من الدارسين المتخصصين من يعدونها نسخة منتحلة، مختلفة عن تلك التي أشار إليها المحققون القدامى أمثال: ليو شيانغ، وبانكو. وهذا هو الرأي الذي استقر عليه معظم المتخصصين. وبِناءً على ذلك، نخلص إلى نتيجة حاسمة، مفادها: إن كتاب ليتزو، بصورته ومحتواه الحالي ليس من وضع الفيلسوف ليتزو، حسبما كانت تتردد الإشارة إليه في ترجمته إبان عصر ما قبل تشين (… وإن كانت النتيجة الحاسمة مرهونة بما يمكن الاطمئنان إليه من استدلالات، في هذا الشأن).

وبرغم ذلك، فيبقى أن جمهرة من الدارسين ما زالت تحجم عن الوثوق بالنتيجة الحاسمة القائلة بانتحال الكتاب؛ ذلك أن التقدير السليم، في ظنها، يقوم على فكرة أن النص — وإن لم تصح نسبته كله إلى ليتزو — فهو يشتمل على جزء كبير مما يعبر عن أفكاره وعن الاتجاهات العامة في تصورات وأفكار وآراء يانغ شو، في العصر الطاوي الأول.

ثم يبقى السؤال الذي يفرض نفسه الآن ببداهة هو: من صاحب النص الحالي إذن، إن لم يكن هو ليتزو؟ ويجيب البعض بأنه «جانغ شان»، أول من حقق النسخة الكاملة من الكتاب … هكذا يقولون!

لكن مثل هذا الزعم مردود عليه بأن المحقق المذكور كان قد أشار، في غير موضع من الهامش إلى ثغرات وأخطاء ووقائع مغلوطة وعبارات مستغلقة الفهم وصيغ متكررة، وما إلى ذلك من المثالب التي تعيب كتابًا تراثيًّا، والتي ما كان يمكن بالطبع أن يشير إليها لو كان الكتاب من وضعه، ولا يطعن هذا فيما تؤكده مصادر كثيرة من أن «جانغ شان» هذا، هو الذي حفظ لنا الكتاب بنصوصه وشروحه على الوجه الذي نطالعه به اليوم [الغريب والطريف معًا، أن جانغ شان كان مجرد محقق هاوٍ، مهنته الأساسية الجراحة، وتخصصه طب العيون، وكان قد تعرف إلى الفلسفة الطاوية — التي تحولت إلى مذهب ديني في زمانه، بعد أن كانت في العصر القديم مجرد فلسفة طبيعية — ومهر في دراسة الغيبيات — ذلك الفرع من العلوم القديمة الذي مهَّدت له وشجَّعت عليه الدراسات الطاوية، وبخلاف هذا فلا يعرف الكثير من تفاصيل حياته، سوى أنه من مواليد دولة جين الشرقية (٣١٧–٤٢٠م)] وتثني المصادر المختلفة: من دراسات وشروح على متون قديمة ومراجع ذات صلة، على الجهد الذي قام به جانغ شان في تبويب ومراجعة وعرض أفكار الكتاب، ولئن كان متهمًا بانتحاله، أو في أحسن التقديرات، يعزى إليه إبداع النص الأصلي؛ فلأنه قد أضاف الكثير إلى الشروح، مما بدا جزءًا من قناعاته وسبك صياغاته المملاة على الاتجاه الفكري في الكتاب، ولا شك أن ما قام به من جهد في التحقيق أضفى قيمة لا يستهان بها؛ لا سيما أن براعته وتضلعه في علوم الغيبيات قد أضفى مسحة من جلال المعاني الباطنية على المتن؛ حتى بدا — في عصر شهد توافد الأفكار البوذية وانتشارها بين الصينيين — معبرًا سوَّغ انتقال الطلاسم البوذية إلى البر الصيني.

وإذا كان الطاويون القدامى قد وضعوا نصوصهم داخل كهوف العزلة، فإن عملية تحقيق متونهم لم تكن تجري في أجواء مغلقة، وإنما في مجتمع يموج بأحداث وتيارات فكرية شتى، ولما كنت قد حاولت توضيح جانب من الخلفية التي صاحبت ظهور الفيلسوف/المؤلف، وبكل ما أثير عنه من جدل وما تلاه من تفنيد ومناقشة، فقد يكون مطلوبًا بالتوازي، أن أعرض للظروف التي واكبت جهود تحقيق النص، وما سار في ركابها من أفكار وتعليقات.

فمتى بدأت عملية تحقيق المتن؟ ولماذا؟ وما العوامل المشجعة على تناول هذا الكتاب بالمراجعة؟ وفي أي ظروف بدأت التناولات النقدية للنص؟ وعلى أي تقديرات استند زعم النقاد في نسبتهم الكتاب إلى المحقق وليس إلى مؤلفه الأصلي؟ ولماذا؟ وتحت أي ظروف تم كل هذا؟

وقبل الشروع في أي محاولة للمناقشة، فقد يكون من المهم أن نتذكر شيئًا مهمًّا جدًّا، وهو أن درجة الثبات والاتزان التي تبدو عليها نصوص الفلسفات الصينية القديمة داخل كتبها العتيقة، ووراء أسوار معابدها المهيبة، لم تحظَ بها عملية تطورها التاريخي، داخل بلادها على الأقل (لأن تأثيرات من الطاوية والكونفوشية طالت بلادًا أخرى في الشرق الأقصى: اليابان، كوريا، فيتنام … إلخ)، فالطاوية تبدو لنا في الكتب مادة واحدة متماسكة ذات صوت واحد لكنها؛ خارج النصوص تبدلت كثيرًا عبر التاريخ؛ حتى أمكن القول بأن التاريخ الصيني شهد أكثر من طاوية واحدة (… نفس الشيء حدث مع الكونفوشية)، والثابت، حتى الآن، أن هناك نسختين من الطاوية، على مدار التاريخ في الصين: الأولى تُنسب إلى الجيل الأول ويُشار إليها ﺑ «طاوية ما قبل تشين»، ويغلب عليها الطابع الفلسفي؛ والثانية تُسمى «طاوية ما بعد تشين»، وتتسم بخصائص المذهب الديني. ثم إني كنت قد تكلمت بشيء من الإيجاز عن الطاوية الأولى فيما سلف، فماذا عن الطاوية الأخرى ذات الطابع الديني؟ كيف تشكَّلت؟ وماذا عن ظروف نشأتها؟ ولماذا وكيف ظهرت طاوية «أخرى» جديدة بعد طاوية العصر الأول؟

ولنعد إلى صفحات التاريخ …

كانت الصين بعد سنوات طويلة من الصراعات والحروب والانقسامات بين الدويلات والممالك قد توصلت إلى مشروع الوحدة على يد الإمبراطور «تشين شيهوانغ»، لكنها إذ أفلحت في بناء قاعدة الوحدة، فقد تعثرت في طريق البناء الفكري، ووقعت في الخطأ الجسيم عندما شرعت في هدم أروع الإنجازات الباقية من عصر الربيع الخريف (عصر الازدهار الثقافي)، ذلك الذي عبَّر عن نفسه في الجدل الدائر عبر ساحة الفكر، فيما سُمي ﺑ «المدارس المائة»، ثم إذا بدولة الوحدة الصينية الأولى — في التاريخ الصيني كله — تشن حربًا شعواء على التراث القديم وتحرق ما تبقى في خزائن التاريخ من ذلك الزمن العبقري، وكان تقليد «حرق الكتب» هو الذي وضع نهاية ملموسة لزمن الازدهار الفكري، ولم تكد تمر سنوات قليلة حتى سقطت «دولة تشين الكبرى»، وعلى أنقاضها قامت «دولة هان الغربية» (٢٠٦ق.م./٢٤ ميلادية)، وبالكاد بدأ العهد الجديد يتلمس طريقه للصعود، وسط خرائب وأنقاض وفوضى عارمة: اقتصاد متهدِّم، وحاجة ماسة إلى قوى عاملة في الريف، وتناقص سكاني حاد في المناطق الحضرية، وعجز مالي يتهدد الدولة الوليدة … (ورد في أخبار ما سلف أن الإمبراطور لم يجد أربعة خيول ذات لون واحد لموكبه الرسمي، كما قد جرت العادة بذلك … ولم يستطع رئيس الوزراء توفير اعتماد مالي لاقتناء خيول مطهمة لمركبته الحكومية، فركب عربة تجرها الثيران … تمشي متثاقلة ولها خوار … كذا جاء في التاريخ!)

كانت المهمة ذات الأولوية المطلقة للنظم الحاكمة هي تأمين استقرار الوضع السياسي الجديد، وتأسيس قواعد لنظام اجتماعي يصمد للظروف؛ لضمان استنهاض عناصر القوة الاقتصادية، فتتمكن العروش من تمويل الإدارة الحكومية والجيش، فمِن ثَم اضطرت الإجراءات الحكومية إلى انتهاج أساليب قاسية وعقوبات صارمة وقوانين من حديد … لكن ذلك كان يذكر الناس بالقانونيين البائدين، ويضفي على الكونفوشية مسحة كئيبة؛ فتوافرت ظروف تسمح بانتهاج أيديولوجية طاوية جديدة، شعارها «الصفاء النفسي … الانخزال … اللاعمل». كانت الطاوية البازغة بتشديدها على مبدأ «اللاعمل، اللاانشغال بتنظيم شئون الحياة» تتصرف بطريقة رد الفعل المضاد لاتجاه الظروف التاريخية السابقة؛ فبقدر ما كان الطغيان الملكي السابق وقبضة رجال القانون ضاربة ومستبدة (أيام دولة تشين)، جاءت الطاوية الجديدة منغمسة — قهريًّا — في ضروب من الاغتراب والهروب من كل ما له علاقة بتنظيم شئون الدنيا والتدخل في أحوال الناس ومعاشهم بأي شكل من الأشكال … بقدر ما طالب النظام البائد بالانصياع لدولة القانون، اشتطت الطاوية القادمة في المطالبة بالخضوع «لأحكام الطبيعة … وقانون الفطرة الإنسانية الأولى»؛ فالطبيعة هي التي تعمل كل شيء، وليس للإنسان أن يقف في وجه تيارها العارم، إلا إذا أراد التهلكة.

استعار الناس، من العهد الطاوي الأول، مبدأ «هوانلاو»، وهو — كما ذكرت في موضع سابق — مصطلح مركب يشير إلى مذهب في الفكر يمزج بين رمز القوة المسالمة والعزلة المتوسلة بقوة الطبع الفطري. كان الجميع، حكَّامًا ومحكومين في حاجة إلى توفير أسباب للاستقرار، فنشط التفكير بتصورات مختلفة عن تلك الأفكار الغليظة التي أطبقت عليهم إبان حكم تشين؛ فمن هنا لاقت الطاوية العائدة صدًى طيبًا … وعندما تقدم أول إمبراطور لدول هان الغربية (اسمه: ليو بانغ)، داخلًا من بوابة العاصمة «شيان يانغ»، حاضرة دولة تشين المنهارة، وأعلن «الاتفاق حول اللوائح الثلاث»، تلبية لرغبة الشعب في تطبيق «التعاليم الطاوية»؛ وذلك لرفع آثار الممارسات السيئة لدولة تشين الاستبدادية، قوبل بكل الحماس والترحيب.

كانت السنوات الأولى لعصر دولة هان الغربية تشهد هدوءًا واستقرارًا نسبيًّا بعد سنوات من الفوضى والقلاقل، وتذكر سجلات التاريخ عن تلك الفترة أنها … (شهدت الخلاص من نير وقسوة حكم تشين، ثم جاء رئيس الوزراء «ساو تسن» بدولة هان؛ لينشر في ربوع البلاد الهدوء والاستقرار واللاعمل [مصطلح طاوي، لا يعني التبطل عن العمل، بل التخلي عن التدخل فيما هو طبيعي وفطري، أي: العمل بموجب ما تقتضيه الطبيعة]، فلهج الناس في أرجاء البلاد بالثناء عليه، وتحكي أخبار الأيام الأولى في سير الوقائع المذكورة عن هذا المسئول الحكومي نفسه أنه كان قد استدعى أحد شيوخ القبائل، ممن يفقهون بعض تعاليم الطاوية، وسأله عن رأيه في سياسات الحكم الرشيد، كيف تكون؟ وما مثالها؟ فأنبأه الشيخ بأن الأمر كله يتلخص في عبارة واحدة فقط، يقولها لمن يعنيهم الأمر … «اهدءُوا تمامًا، وستهدأ الأحوال، ويعم الاستقرار!» وهي الفكرة التي أصبحت عنوانًا على توجهات، بخطوط عريضة، في حياة الناس والمجتمع فيما بعد … (لكن التاريخ يشهد، أيضًا، أنها الفكرة التي كانت وبالًا على الجميع، بصورة مفزعة) … سارت الأمور هادئة، نسبيًّا، طوال عهد دولة هان، أقول «نسبيًّا» لأن الظروف لم تكن تخلو من أسباب للقلق، فمن ذلك، مثلًا، أنه في عهد أحد العروش الحاكمة (عهد الملك وو) التي اتسمت بالطموح الزائد، جاء من أراد أن يضع ثقته في الكونفوشيين، وأتاح لهم مكانًا في القصر الحاكم، مما تسبَّب في تصدعات وخلافات خطيرة … وصل صداها وأصاب تأثيرها بعض أفراد العائلة المالكة أنفسهم).

المهم، أن النقاط الأساسية في السياسات الطاوية التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة، أوائل عهد دولة هان الغربية، قامت على أساس عدم تحميل الأهالي المزيد من الأعباء؛ حرصًا على استقرار الأوضاع الاجتماعية، أملًا في تحقيق مستوى من الازدهار يلمسه الناس بأنفسهم؛ وبالفعل فقد تطورت مستويات الأداء الاقتصادي، وتدعَّمت سلطة «آل هان»، هذا مع العلم بأن ملوك هذا البيت الحاكم لم يكونوا في حقيقة الأمر يطبقون مبادئ الطاوية عن اقتناع وإخلاص ونوازع طيبة، أو حتى بتأثير انفعال أو هوًى صادف النفوس، وإنما يرجع اختيارهم للنمط الطاوي في الأساس إلى محاولة تلافي المخاطر الناجمة عن سنوات الحرب الأهلية الطويلة وما أفضت إليه من أحوال مزرية عانى ويلاتها الجميع، لكن ذلك لم يمنع حكَّام دولة هان الغربية من إعلان تمسكهم بأفكار المدارس المائة … (بما تشتمل عليه من نوازع كونفوشية)، ومثلًا، فقد كان يمكن أن يظهر في أيام حكمهم، وفي الفترة التي سادت فيها التعاليم الطاوية، مفكرون كبار على الطراز الكونفوشي.

وفي كل الأحوال، فقد استطاعت دولة هان، وعلى مدى ستين عامًا من بداية حكمها، أن تحقق شروط استقرار في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، حتى لقد تضاعف عدد السكان أكثر من مرة … (تلك علامة طيبة، دليل على الحكم الرشيد … في الصين بخاصة!) ونشط الإنتاج الفكري، لا سيما في مجال التدوين التاريخي، وازدهرت الطاوية، بعد أن عادت إلى مسرح الفكر من جديد، لكنها — هذه المرة — اتخذت طابعًا دينيًّا، وتحقق للبلاد نمط من أنماط الوحدة الفكرية التي لم تنعم بها، حتى في زمن تشين — رمز الوحدة الأول — فلما جاء زمن ما يُسمى ﺑ «دولة هان الشرقية» (٢٥–٢٢٠ق.م.) كانت الطاوية قد جددت شبابها بالكامل، بينما شاخت الكونفوشية، وترهلت وتصلبت شرايينها. ثم إن الطاوية الجديدة تميزت من النسخة القديمة (التي لم يتزعمها سوى شيخ واحد، هو لاوتسي) بأنها ارتدت مسوح قداسة فأقيمت لها المعابد وساحات القرابين، وصار لها شيوخ وكهنة في طول البلاد وعرضها. فما كاد يبزغ فجر القرن الثالث (ثم الرابع) الميلادي، مع ظهور دولتي وي، وجين، حتى كانت الطاوية قد صارت كيانًا كهنوتيًّا ذا أسرار وتقاليد ومسوح وصلوات، وهو ما أصبح ذائعًا ومشهورًا باسم «شيوانشيو» (الغيبيات)، حيث نشطت الدعوة إلى العودة إلى الطبيعة، وحرية الاعتقاد الباطني، وتحرير الفكر من آثار التوجهات والآراء الفلسفية؛ وبات كل عالم أو مفكر بارز في هذه المرحلة التاريخية منتسبًا، بشكل أو بآخر، إلى الطاوية.

لم يكن ممكنًا للطاوية الدينية، في هذا الزمان الجديد، أن تتخذ هذا الرداء الكهنوتي، إلا بما سبقها من مراحل ممهدة؛ وتحديدًا فقد تطورت الطاوية في زمن هان، عبر مراحل ثلاث: الأولى، مرحلة مذهب «هوانلاو»؛ الثانية، مرحلة «وانشون» … (وهو أحد المفكرين الطاويين، وكان قد وضع كتابًا أسماه «التوازن»، قُدِّر له أن يفسح الطريق أمام تجديد الطاوية، بما أرساه من أسس نظرية شجَّعت على الاتجاه الطبيعي في الفكر) … الثالثة، مرحلة التصورات الغيبية.

كان في خلفية أجواء المسرح الذي تألقت فوقه الطاوية العائدة عناصر ساهمت في روعة المشهد؛ ذلك أن جزءًا من أسباب القوة والحيوية كان راجعًا لعوامل حضارية ومادية، خصوصًا أن الفكر الطاوي ساهم في إيجاد ظاهرة اقتصادية جديدة هي وحدة الإنتاج القروي، التي اتخذت طابعًا مستقلًّا عن باقي وحدات الإنتاج، وصنعت لنفسها اكتفاءً ذاتيًّا، فمِن ثَم أمكن للأذهان أن تحلق في فضاءات التأمل وقد تنسمت ذرى معارج الأنوار فوق هياكل الغيب الأقدس، فظهرت أجيال من دارسي الغيبيات، ووسمت مظاهر الإبداع في ذلك الزمان بميسمها. كان شيوخ الفكر الطاوي، هم أنفسهم رواد الطاوية القدماء، أبرزهم: الشيخان «لاوتسي»، و«تشوانغ تسي»؛ غير أن الطاوية الثانية كانت مختلفة عن تلك التي تزعمها الرهبان والنُّسَّاك أيام العزلة في الكهوف، فقد صار شيوخ الزمان الجديد هم كبار مشاهير المحافل الاجتماعية والسياسية وأقوى رجال الدولة … (ورغم ذلك، فقد جاء زمان آخر، مع نهاية دولة هان (٢٢٠م) تقوَّضت فيه أركان النظام الحاكم والطاوية معًا، بسبب تلك النغمة الطاوية المميزة، التي طالما دعت إلى تجنب المخاطر وإيثار السلامة والعكوف على الذات، ومناهضة النظم الاجتماعية والسياسية «الكونفوشية» المتجهة بكل طاقتها لما يتعلق بشئون البشر والعلاقات الإنسانية في المجتمع الذي يتصوره الإنسان بنفسه ولنفسه) … لكن تلك مسألة أخرى!

في الفترة الممتدة من عهد أسرة هان الشرقية، حتى زمن دولتي: وي، وجين (٢٥–٤٢٠م) كانت الأفكار الطاوية هي الأكثر انتشارًا، لكنها كانت ذات إطار من المفاهيم الغيبية التي أتاحت للفكر أن ينعتق من أسر التقاليد الكونفوشية ليهيم في كل وادٍ، ووراءه جماعات من الشباب، تنزع معه في أودية الأفكار الجديدة، وجاء زمان تقلَّصت فيه تقاليد تحقيق الكتب ومراجعتها، وحتى المراجعون كانوا ينأون بأنفسهم عن التراث الكونفوشي، وعن التقاليد المعهودة في مراجعة التراث بشكل عام.

ووسط هذه الأجواء، ظهر المحقق جانغ شان، تحديدًا في زمن دولة جين الشرقية (٣١٧–٤٢٠م) وهي فترة ذات أهمية خاصة في تاريخ الصين القديم؛ لأنه في ذلك الزمان كانت البوذية تطل بأعناقها فوق الأسوار الصينية قادمة من الهند … (وهي واحدة من خمس غزوات، ذات شأن، اقتحمت أسوار العزلة الصينية، ثلاث منها ذات طابع عسكري، مصحوب بقوات من وراء حدود؛ وهي: المانشو، اليابان، الاستعمار الغربي؛ واثنتان منها عبارة عن غزوات فكرية وثقافية، غيَّرت مجرى الثقافة التقليدية، أولاهما هي البوذية (في القرن الأول للميلاد)، وثانيتهما الماركسية، في مطلع العصر الحديث).

كانت ساحة المشاعر القومية الصينية مستثارة، بل مشتعلة، وهي ترى البوذية الوافدة من الخارج قد احتلت مواقع قداسة في قلب الحضارة الصينية (وكان بعض الأهالي يعدون البوذية ديانة البرابرة المقيمين وراء الحدود)، ولعل الاتجاه العام لحركة الفكر كان يرى أن الطاوية (الوطنية) قد تحوَّلت واستجابت لظروف المجتمع وتشكلت بطابعه وخرجت من عزلة الفردية الجامحة، واكتملت لها عناصر الاستحقاق كديانة محلية؛ ومِن ثَم راحت الطاوية تناوئ البوذية كديانة ذات كهنوت ومعابد وطقوس، وإن صادقتها وتطامنت إلى تيارها الوافد بوصفها نظريات فلسفية. يعني، وباختصار شديد، فهي قد صالحتها كفلسفة، لكنها نفرت منها كعقيدة.

وربما بدا للمحقق جانغ شان أن يتصالح هو الآخر مع تقاليد تحقيق التراث الطاوي الأول، وأن يبحث في المتون عن ذخائر الفكر، حتى لو كانت مجرد مختارات منتقاة من عيون الأخبار، فتسقط منها شيئًا بعد شيء، وجمعها بين دفتي كتاب … هذا وارد أيضًا، خصوصًا أن أحدًا لا يستطيع القطع؛ حتى يومنا هذا، بأن ليتزو هو مؤلف الكتاب.

وعمومًا، فليس بمستغرب لمن يتأمل أحوال التراث الصيني القديم أن يصادف تلك الأحوال التي يثور فيها الشك حول نسبة كتاب إلى مؤلفه، حتى لأكاد أجزم بأن ما يمكن التثبُّت من نسبته إلى مؤلف محدد في التراث الصيني لا يتجاوز العدد الضئيل من الكتب.

ويبقى بعد هذا أن الكتاب نفسه، سواء نُسب إلى مؤلف معروف أو حتى بغير مؤلف على الإطلاق، هو أحد أبرز كتب التراث الطاوي الكبرى، وكثيرًا ما يرد ذكره في المرتبة الثالثة بعد لاوتسي وتشوانغ تسي. ثم إن بعضًا من النقاد يرون أنه سابق على تشوانغ تسي، من حيث تاريخ زمن التأليف، ويعزون ذلك إلى ما ورد في كتاب تشوانغ تسي من عبارات يثني فيها على الشيخ ليتزو ويصفه بأنه «القديس الذي يمتطي الريح».

الكتاب يقدم تصورًا للوجود مستمد، بطبيعة الحال، من وجهة النظر الطاوية، فهو يتصور أن الطاو ذا وجود مادي (برغم أنه يتناوله، في الأساس بوصفه موضوعًا للغيبيات)، فهو التجسيد المادي ﻠ «التشي»، أي: الطاقة؛ فكل الموجودات في الأرض والسماء إن هي إلا تجسيد لركام هائل من الطاقة، حيث يتفق في هذا الرأي مع ما يعرض له تشوانغ تسي، تحت مقولة اﻟ «طاوتشي» — طاو الطاقة — ومِن ثَم يتجلى انتماؤه للفكر الطاوي التقليدي.

وقد تأثر النص في هذا الكتاب بالكثير من آراء كتاب «التغيرات»، لكنه استقل بتصوراته وأفكاره التي استمد عناصرها من رؤى الطاوية حول فكرة التشكيل المادي للعالم (وهي التصورات التي ستساهم، بعد مئات السنين، في خلق تمهيد فكري مناسب لاستقبال المادية الجدلية والتاريخية والاشتراكية العلمية، في إطار الفكر الماركسي الذي قامت الصين باستيعابه وتوطينه، في العصر الحديث … فمن المفارقات، أن تكون الرؤى الدينية التي كانت أنوار هداية أو سياج عزلة، في وقت ما، هي بعينها الدروب التي مهَّدت، بشكل غير واعٍ، لمسارات الغزو الفكري التي اقتحمتها، في غفلة من الزمان!)

لم يقف الكتاب عند حدود الاتفاق المبدئي مع الأفكار التي يعبر عنها تشوانغ تسي، لكنه تجاوز ذلك إلى استيعاب مجمل النظريات التي عبرت عنها المدارس المختلفة في عصري وي، وجين، وقد تميزت هاتين الحقبتين بالإقبال على الأفكار الطاوية والبوذية المترفعة عن الانغماس في المطالب الدنيوية، وهو الاتجاه الذي لاقى هجومًا من قبل السلطات الحاكمة، فاقتصر النشاط الفكري على مراجعة الأعمال التراثية للطاوية، وفي تلك الأجواء المفعمة بنشاط محموم في مجال الكتابات الغيبية، وُلد الاهتمام بكتاب ليتزو الذي دخل دائرة الضوء، فهتفت له جوقة التهليل الطاوية هتافًا شديد الحماسة.

يتضح من الكتاب أنه قد ورث الأفكار الفلسفية للمذهب الطاوي، وأفكار لاوتسي، وكان لفترة من الزمان محل تقدير خاص بوصفه أحد الكتب (الميتافيزيقية) الأربعة، إلى جانب «كتاب لاوتسي»، «كتاب تشوانغ تسي»، «كتاب أونزو»؛ ثم جرى تصنيف آخر للكتب الطاوية الأربعة، استوعب كتاب ليتزو في إطارها، بالإضافة إلى «كتاب الأسرار»، «كتاب الطاو»، «كتاب تشوانغ تسي».

وفوق ما تعبر عنه نصوص الكتاب من محتويات وثيقة الصلة بالفكر الطاوي (الأصولي)، فإن موضوعها العام يرمي إلى تأكيد فكرة جوهرية مفادها أن الحركة الطبيعية للكون قادرة على إنتاج دورة حياتها بنفسها؛ فكل الأشياء تُولد وتتحول وتمرض وتفنى، لتتوالد من جديد وفق آلية طبيعية تجدد شرايين بقائها على نحو مستمر؛ فدورة الحياة والموت تخلق الحياة والموت دائمًا أبدًا، فما إن تبدأ حتى تنتهي، ثم تبدأ من جديد، وهكذا دواليك.

في الطاوية، يقوم مبدأ اللاعمل (أو «الانخزال»، حسبما أجتهد في ترجمته)، على التنائي عن بذل أي جهد لتغيير الطبائع، فكيف يمكن تطبيق هذا المبدأ في الشأن الاجتماعي؟ يجيب متن الكتاب على ذلك قائلًا: إن السلطة الوحيدة القادرة على تحقيق مبدأ الانخزال في الشأن الاجتماعي العام هي سلطة الملوك والحكماء. وعند تناوله لفلسفة الحياة يستعرض الكتاب تقاليد الكونفوشية (المراسم، الآداب، قواعد السلوك الأخلاقي) بكثير من التهكم والسخرية، ويرفضها بكل حسم. وبرغم ما قد يبدو أنه يشوب بعض نصوص الكتاب من نزوع إلى إعلاء قيمة الانغماس في الملاذ والمتع الحسية الشهوانية، إلا أن الفكرة الموجِبة لمثل هذا الطرح تقوم على أساس إطلاق الحافز الطبيعي بغير قيد؛ وقد نتج عن هذا الاتجاه تنامي الاهتمام بالجسد (آلة اللذة والمتعة الحسية) والاعتناء بشروط الحياة الصحيحة، والاغتذاء على ما يجلب دوام العافية وطاقات البقاء، ثم تطور هذا المسعى إلى الاجتهاد في طلب شروط العافية الذهنية. فمِن ثَم كانت فلسفة الحياة، في الطاوية، تقود إلى حال من يقظة الوعي وتنبه طاقات الإدراك الذهني. وعلى أية حال، فلم يكن إطلاق حرية التمتع بالملذات متجاوزًا كل الحدود، بل كان الغرض منه انفتاح الوعي على آفاق الطبيعة واستلهام طاقات الخلق والإبداع المحتشدة في كوامن الوجود الفطري والطبيعي، ومع ذلك، فلم يسلم النص من الاتهام بأنه دعوة للإباحية والانغماس في الملذات (بصورة مبطنة، غير مباشرة، كما قد يُلاحظ). لم يقتصر الأمر على ذلك، بل قيل في مثالب المتن الكثير؛ من ذلك مثلًا:
  • أن محتوى الكتاب لا يزيد عن كونه مجرد خلط سخيف لآراء شتى.

  • أنه مشحون بصور من الغرائبية الفجة.

  • أنه مليء بالحكايات الخرافية، وهو أمر غريب يثير الاستفهام حول جدية محتوى يتعلق بموضوعات ذات صلة بالتراث الفكري القديم.

ثم تأتي الردود، سريعًا، في معرض المجادلة، لتجيب وتوضح:
  • أن موضوع الكتاب يشمل عرضًا وافيًا وأصيلًا لأفكار المدرسة الطاوية، ما في ذلك شك.

  • أنه يمكن للبحث الوافي أن يستقصي، في غير موضع من المتن، أسبابًا تكشف عن أصالة انحياز المحتوى للصف المناوئ لسلبيات الغرائبية، فليس ثمة أفكار هدامة أو ظلامية.

  • ولئن كان يحتشد بالحكايات الخرافية، فهو في هذا صنو لكتاب آخر يحوز التقدير والاحترام، وهو كتاب «تشوانغ تسي».

  • قد حظي النص بامتداح تشوانغ تسي، كما عبر عن ذلك بنفسه في ثنايا كتابه، وهو ثاني اثنين في وضع أسس الفلسفة الطاوية وأصولها كلها، منذ أول عهدها.

  • أن المتن لم يكن داعيًا، بأي حال، للانغماس في الملذات، بل كان يقرر وجهة نظر صحيحة، في معرض الآراء الطاوية، مفادها أن الجنس والموسيقى والجمال والثراء أهداف مناسبة لتطلعات الناس في الحياة، وقد قال ذلك في إطار تصوراته الأساسية التي تقوم على فكرة جوهرية مؤداها: إن الطاو هو أكبر حقيقة في الدنيا.

ثم إن حكاية الخرافة في المتون الطاوية ليست موضع استغراب؛ فبطبيعة مطالب وتصورات الطاوية، كان لا بد أن تصنع لمثلها العليا حكايا خرافية، حيث يستطيع الناس جميعًا، من الإمبراطور حتى أدنى فرد في المجتمع أن يمتطي بساط الأحلام وخيالات التأمل إلى فضاء مليء بذخائر من كنوز تخفى عن العيون، فيتخلص الناس من أغلال القلق، ويتجاوزون بأفعالهم البسيطة حدود واقعهم، وينجزون مطالبهم مهما كانت التوهمات؛ فلكل واحد حلمه الخيالي، ولكل خيال فضاء عريض، فمِن ثَم جاءت الأساطير بإلحاح الرغبة الإنسانية (را. كارل يونغ)، فالأسطورة هي الحلم الجماعي، بمثل ما إن حلم كل واحد من الناس هو أسطورته الهائمة فيما وراء الوعي.

اشتمل الكتاب على مائة واثنتين حكاية خرافية، وإذا كان بعضها قد تعثر في عتبات الخطابة الوعظية المباشرة، إلا أنها انسجمت في معظمها، مع ملامح الرمزية الصينية (قل الطاوية) المعهودة وأثمرت قيمة فنية وفكرية، منحت الكتاب مكانة معتبرة في مبحث التدوين الكلاسيكي للخرافة.

ويبدو لي، كمترجم للنص ومطالع لمصادره وأصوله الفكرية، أن الخرافة في حكايات الكتاب تعكس، في وعي كاتبها وزمانها أزمة الواقع، وأنه لم يكن يمكن عمومًا، لأي حكاية أسطورية أن تحلق عاليًا في فضاء التهويل والمبالغة، إلا بقدر ما تفرش على الأرض من ظلال تنبسط كأقنعة على وجه المسكوت عنه، أو المخبوء في تفاصيل الواقع المعيش، عبر تجربة الحياة.

وأخيرًا، فهذه ترجمة كتاب آخر من كتب التراث الطاوي، أنقلها عن اللغة الأصلية (الصينية) مباشرة، علها تضيف إلى ما هو موجود من ترجمات عن الطاوية في المكتبة العربية، ولطالما حظيت الطاوية بترجمات متعددة إلى العربية، فهناك الترجمة الرائعة لكتاب الطاو، التي قام بها أستاذنا الدكتور عبد الغفار مكاوي؛ وفي تقديري فهي ترجمة ذات قيمة كبيرة، خصوصًا أن مبدعها أستاذ في الفلسفة، له اطلاع واسع على الثقافة الصينية، بالإضافة إلى موهبته وتفرده ككاتب وقاصٍّ ومبدع؛ فمِن ثَم كانت لترجمته قيمة لا تضاهى، حتى بما فيها الترجمات التي نقلت النص مباشرة من لغته الأصلية. إن ترجمة على يد أستاذ قدير في الفلسفة تساوي أكثر مما يمكن تقديره بمعطيات النقد الترجمي، في حقل الدراسات المتخصصة.

تأتي هذه الترجمة (أتمنى) لتضيف إلى رصيد ما هو قائم في مكتباتنا العربية عن الطاوية، ولعلها الترجمة الأولى عن اللغة الصينية مباشرة لهذا الكتاب، لكنها ليست الأولى، على الإطلاق، فقد سبق أن طالعت على صفحات «أخبار الأدب» (دار أخبار اليوم)، بتاريخ ٢٩ / ٨ / ٢٠١٠م، ترجمة لمختارات من هذا الكتاب تحت عنوان «نصوص من الطاو»، ترجمة: محمد الخالدي (تونس)، وهي ترجمة عن لغة وسيطة، كما أني لم أجد في اللغة الإنكليزية سوى ترجمة واحدة، منشورة على «الإنترنت»، بياناتها كالتالي:

{Lie tze, An overview by Laurentiu Teoorescu, English version By Corina Berbecar.}

وهي ترجمة متاحة للاطلاع على الشبكة العالمية، لكن يعيبها أنها غير كاملة؛ إذ تنقصها فصول كثيرة من الكتاب، بل يغيب عنها باب بتمامه من أبوابه الثمانية.

وقد اعتمدت في ترجمتي لهذا الكتاب على نسختين أصليتين مودعتين بمكتبة كلية الألسن، بالقاهرة، وأود أن أشير، هنا، أنه لولا هذه المكتبة المتخصصة، وحصيلتها من المصادر والمطبوعات التي أُهديت للمكتبة عبر قنوات التبادل المشترك بين المؤسسات التعليمية في كل من مصر والصين؛ ما استطعت إنجاز هذه الترجمة عبر نص أصلي، وقد كانت الأرفف جاهزة بعدد من المصادر عن الطاوية، أمدتني بحصيلة وافرة من المعلومات، كانت بمثابة المعجم الثقافي والفلسفي الذي رافق عملية الترجمة بأكثر مما اعتمدت فيها على القاموس اللغوي، ولعله مما قد يفيد مترجمي التراث الصيني أن يتوفروا على مواد علمية أو مصادر بحثية، ذات صلة؛ فكثيرًا ما تضيء جنبات، وتكشف عن رؤى، وترشد إلى حقائق كامنة في صحراء التيه الفلسفي الصيني … حيث احتجبت حقائق التراث هناك على يد النُّسَّاخ غير المدققين، الذين سمحوا لأنفسهم بالتصرف كثيرًا في المتون، وانتزعوا عبارات من سياقاتها وأضافوا وبسطوا يد الانتقاء هنا وهناك … (يقال بأن الكثير من النصوص الكونفوشية والطاوية ليست في حقيقتها سوى أقوال مقتطفة ومنتقاة من سياقات شتى؛ ذلك أن طريقة التدوين القديمة كانت تقوم على تجميع المواد على نحو اعتباطي … وكثيرًا ما رُصَّت عبارات في سطور متوالية، بجوار بعضها بعضًا، دون أي رابطة منطقية بينها) … وكان من الممكن لمثل هذه الطريقة أن تلقى قبولًا في موطنها — وزمانها — بين الدارسين، أو حتى بين عامة القراء، في بيئتها الثقافية الأصلية، فلطالما كانت اللغة الصينية في صيغتها الكلاسيكية تحبذ طرق الكتابة التي توحي بمعانٍ متنوعة للعبارات، حتى عد ذلك هو النمط الأصوب في طرق التعبير وجماليات الكتابة … (ألا تكون الكتابة واضحة، بأي حال)؛ فالرموز القديمة، بطريقتها المعقدة والفريدة، تحتشد بإمكانية توليد معانٍ شتى حسب النمط الذي تصاغ به الجمل والعبارات … (لم تكن هناك «جملة تامة» في الصينية القديمة، بل عدة عبارات قصيرة، متصلة … بصورة ما).

وإذا كان القارئ الأصلي في لغته الصينية يستعذب هذا الغموض ويستملح جماليات المتاهة الخلاقة بين دروب المعاني، فلست أظن أن المترجم يمكن أن يستمتع بهذه الدياجير الحالكة، لا سيما إذا كان من غير الباحثين في التراث الصيني، من أمثالي … (فلست من الدارسين للفلسفة الصينية، بمؤهلات التخصص، لكن بالشغف والاطلاع؛ فمجال أبحاثي: اللغويات الصينية، ومؤهلاتي أبعد ما تكون عن تاريخ الأفكار) … [تخصصي الدقيق: «دراسة تطور الأشكال التركيبية للرموز الصينية»]، ومع ذلك، فقد كان من حسن الحظ أحيانًا أن تكون الخلفية البحثية خير معين على رصد معاني المصطلحات التي تزخر بها النصوص التراثية، فكم من مرة كان المعجم اللغوي، لا الثقافي، هو الذي يكشف عن خبايا دلالات الألفاظ.

بيد أن طائفة لا يستهان بها من مصطلحات الطاوية بقيت عصية على عبور جسور النقل الترجمي … إليك، مثلًا: كلمة «الطاو» نفسها، ما معناها بالضبط؟ قد يقال في الاجتهاد بإجابة سريعة إنها إشارة إلى معنى «الطريق»، أو «المنهج»؛ وربما بترجمة أقرب من الصواب «المعنى الأعلى»، لكن أحدًا لا يستطيع الجزم بأي من هذه التفسيرات؛ لذلك فليس أفضل من «تعريب» الكلمة؛ أي كتابتها بحروف صوتية منقولة من لغتها الأصلية، هكذا: الطاو.

ثم قيل في تفسير معنى الطاو إنه اسم اللااسم، أو المعنى بغير اسم، وبلغ من فوضى التفسيرات وسوء الترجمة أن عقلًا عبقريًّا، بمستوى إدراك ونبوغ واحد مثل المفكر الألماني العظيم هيغل، لم يستطع أن يفهم معنى الطاو، وجاءت كتابته عنه تحمل قدرًا كبيرًا من الالتباس هذا؛ رغم اطلاعه الواسع ودرايته غير المحدودة بالفلسفة والفكر الصيني القديم؛ (حتى إنه لم يقع في خطأ النظرة الأحادية التي تكتفي بكونفوشيوس دون غيره، في تأمل تاريخ الفكر الصيني، ثم إنه كان قارئًا جيدًا للفكر الطاوي، لا سيما أعمال تشوانغ تسي …)

لعل «جوزيف نيدهام» كان هو الوحيد من علماء الصينيات في العالم كله، الذي أدرك أهمية الفكر الطاوي، حتى إنه ذكر في ثنايا مؤلفه الكبير عن تاريخ الحضارة والعلم في الصين، ما مفاده: إنه لو لم تقم للطاوية في الفلسفة الصينية قائمة، لصارت كشجرة بغير جذور. بل أكثر من ذلك يقول — في لمحة عبقرية — إنه لا يصح أن تكون الكونفوشية هي ضمير الإشارة إلى الثقافة الصينية؛ وللغرابة، فهو يتفق في هذا الرأي مع الأديب الصيني الكبير «لوشون»، حيث يقتنع كلاهما بأن «الطاوية» هي الرمز الأصدق تمثيلًا لروح الصين.

وهنا، فإني أقدم هذه الترجمة لكل قارئ في اللغة العربية، وقد قصدت بها أن أتيح، للجمهور والمتخصصين، مطالعة أحد أهم كتب التراث الطاوي، من مصادره وبلغته الأصلية. إن النصوص الكبرى في الفكر الصيني القديم كثيرة جدًّا، ففي الكونفوشية وحدها، ما لا يقل عن خمسة عشر كتابًا، لم يُترجم منها، حتى في الإنجليزية، سوى عدد ضئيل للغاية؛ فليست كل الفلسفة الصينية هي «الكتب الأربعة»، ولا «كتاب الطاو»، أو «كتاب الشعر» أو «التغيرات» … تلك كلها مجرد كلمات افتتاحية في دفاتر الذخائر الباقية من تراث الحضارة الإنسانية في الشرق الأقصى … (الصين، اليابان، كوريا، فيتنام … كلها تأثرت بالكونفوشية والطاوية).

على أن اهتمامي بالتراث الصيني لم يكن مدفوعًا باعتبارات ترى أية قداسة ضمنية لسوابق في التجربة الإنسانية، سواء في المجال الفلسفي أو الفكري، بما في ذلك المواريث التي تحمل سمة القداسة، فلست بأي حال من دعاة العودة للقديم، أو استلهام مقولاته أو التأسي بحكمته (بافتراض حكمة ما للقدماء)، بل على العكس، فقد كان «التقدم»، و«التطلع للأمام»، «الحاضر هو سيد الماضي» … إلخ، كلمات ومعانٍ عشتها واقعًا، وتشرَّبت فحواها، منذ أن كنت صبيًّا أتعلم على يد جيل من الأساتذة الصينيين عركوا تجارب مجتمع يتطلع بالأمل والجهد إلى آفاق التقدم … وأظن أن قدرًا مما حفظته عن التاريخ واللغة والأدب الصيني — ولو بالتلقين — قد صار بالتجربة والتعلم، جزءًا من الوعي والإيمان … ولئن كنت قد رأيت في صفحات الصين القديمة مادة ذات قيمة للترجمة، فقد رأيت في الصين الحديثة والمعاصرة أروع مشاهد العبقرية والجلال، ماثلة في دلالات المعاني الحاضرة، وشواهد المثل الحي على عظمة الإنسان … في صين الحاضر ما هو أكثر إبداعًا … في رواد النهضة … في أجيال من المثقفين والمبدعين الذين أرسوا دعائم الانطلاق في مسيرة التقدم … في الذين طالبوا بالعلم والتمدن واستنكروا كهنوت الماضي ورفضوا مواريث التخلف … في المسيرة الكبرى لأجل بناء وطن … في نضال أجيال من الثوار والحالمين بمستقبل أفضل للإنسان … في كل هؤلاء وكل صناع الغد، يكمن ما هو أبقى وأخلد من الماضي كله، وأعظم من كل المواريث.

فقط أدفع إلى القارئ بهذه الترجمة، وكل ترجمة للتراث، في محاولة لكي نتصفح معًا، فصولًا من تجربة الفكر في مراحل مبكرة من مسيرة الإنسانية، لعلنا نتوفر على أسس أمتن وتقديرات أكثر ثقة وصوابًا في رصد وتحليل تاريخ العقل الإنساني، كي نلحظ طريقته الفريدة في صياغة مسيرة تقدمه، أملًا في الاهتداء إلى المعنى، فتنكشف عن الرموز أقنعتها، وينفتح الطريق … طريق الوعي إلى آفاق المدى.

محسن فرجاني
القاهرة، الأول من أكتوبر ٢٠١٠

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤