الباب الأول

تيان روي

天 瑞
(الطبيعة)١

 [١]٢

أقام ليتزو بأرض دولة «تشنغ» مدة أربعين سنة، دون أن يكترث لأحواله أحد من الناس، وكان الملك وحاشيته يغفلون أمره ويعدونه مثل واحد من الدهماء، وحدث أن أجدبت الأرض فاجتاحت البلاد جائحة المجاعة والبلاء، فقام وتجهَّز للرحيل إلى أرض (دولة) «ويه»، وهنالك قدم إليه أحد تلاميذه، وتكلم معه، قائلًا: «هو ذا تسافر الآن، يا سيدي، ولا نعرف متى تعود ثانيةً، (فاسمح لي، أنا تلميذك المطيع، أن أتجاسر على أن أسألك مسألة …) فهلا ذكرت لي شيئًا من علمك، وعلمتني بمواعظك؟ أما أدركت شيئًا مما علمك أستاذك «هو شيو تسي»، فتعلمناه؟» فتبسم ليتزو، قائلًا: ومتى تكلم «هو شيو تسي» بشيء؟ كل ما أذكره أني كنت حاضرًا ذات مرة، وهو يتحدث إلى (زميلي) «بو هون ماورن»، وكنت إلى جواره أنصت باهتمام لما يقال، فإذا هو يحدثه بما أذكر لك الساعة طرفًا منه؛ إذ قال: «هناك ما يقال له الطاو، فاعلم أنه المبدع ولا بارئ له، يُبدِّل كل شيء، ولا مبدِّل له، تنزَّه عن أن يكون له خالق، بيد أنه صانع كل شيء، وعزَّ عن أن تلحقه لواحق التبديل، لكنه مبدل الأشياء كافة. فلئن كان هو الخالق، فالكل مخلوق به؛ ولما كان قد سبق منه أنه المُبدِّل، فقد صار من المحتم أن التغيير قضاء مقضي، فهو المبدع في كل آن، والمبدل كل شيء تبديلًا دائم الجريان [حرفيًّا: لا تنقضي لحظة إلا كان له خلق جديد، ولا ساعة إلا قدَّر فيها التبديل والتغيير]، (فالموجودات إبداعه الدائم، والتغيير قضاؤه في كل حين، وليتدبر المتدبر، فسيجد مصداق ذلك في العنصرين …) اﻟ «ين» واﻟ «يانغ»، والفصول الأربعة. أما الذي لم يبدعه مبدع فقد تفرَّد واستقل، وما استقل عن التعريج في مواطن التبديل، فقد دارت به دائرة أبدية الدوران، فلما استدارت دائرة بغير بدء ومنتهى، استتب به مدار الوقت في طول الزمان؛ ولما تفرد واستقل، عزَّ باطنه عن أن يتجلَّى للأفهام، ودقَّ معناه عن النظر والاستقصاء. قد جاء في كتاب «هواندي»، (ما مفاده): «في منبسط السهول وخلاء الوديان وشموخ التلال رسوخ أسرار لا يُبلغ قرارها؛ حتى قيل إنها أشبه شيء بغوامض بواطن أنثوية؛ ففي رحم أنثى، يستكن باطن دنيا بأسرها، فهنالك منبت النشأة وجذر جذور أصيلة الغرس بلا انفصام، وطاقة مديدة لا تنفد أبدًا».»

(فهكذا، أقول لك … بأن:) «مبدع الأشياء لم يبدعه شيء، ومُبدِّل الأشياء لا ينفعل لحادث التغيير؛ فهو قد أبدع كل شيء، وبدَّل وارتسم له ظاهر حال، واصطبغت ألوانه، وشهد له شاهد الحكمة، وانبسطت ليده مقابض القوة، وفرغ بددًا ثم نما وتجدَّد سرمدًا من تلقاء ذاته وطبيعة سريان وجوده، فإذا بدا لك القول بأن الإبداع والتبديل وتبيان الأحوال، وتجلي الألوان وإنفاذ الحكمة، واستلام مقود البطش بالقوة، والتبدد والتجدد؛ كل ذلك قد ثُني عِنانه لإرادة القصد المقصود، وعلى غير ما تسلك مسارات الطبائع، تكون قد أخطأت القول وملت عن السداد.»

[٢]

قال ليتزو: «كان القديسون، في الزمن القديم، قد تسلطوا على الموجودات [حرفيًّا: السماء والأرض]، بقهَّارية اﻟ «ين»، واﻟ «يانغ»؛ وذلك بزعمهم أن ما تشكل من صورة السماء والأرض إنما هو متولِّد عمَّا لم يظهر في هيئة مصوَّرة (اﻟ «ين»، واﻟ «يانغ»)، (فإن لم يكن الأمر على هذا النحو …) فعن أي شيء صدرت أعيان الموجودات؟ فلذلك قيل إن هناك «طاي» و«تايشو» (تشكِّل الصورة الأولى)، و«تا يسو» (تشكِّل المادة الأولى)؛ فالمقصود ﺑ «الطاي» هو حال البدء الأول، قبل أن تتحدد له صورة وجوده، أما اﻟ «تايشو»، فهي حال البدء الدخاني (العمائي)، وكان اﻟ «تايشي» هو مظهر البدء العياني الكلي؛ ثم جاء من بعده اﻟ «تايسو»، وهو ابتداء رسوخ مادة الوجود الأولى.

ولما كان الدخان والشكل والمادة الأولى، جميعًا، ذوات وجود كلي غير متعين، فقد أُطلق على جميعها اسم «هونلون»، أي: كتلة الوجود العمائي، وهو ذلك الكل الذي لا تبين للعين ملامحه، ولا تردد في الأذن صداه، ولا ينال الطالب له منالًا، ويعجز عن أن يطاله الطائل؛ حتى حق عليه الوصف بأنه اﻟ «طاي»، الذي لا يتبدى له شكل ولا يحيط به مدًى.

وإذ دَرَجَتْ بالطاي مدارج التغيُّر، فقد صار إلى الدخان الأول، الذي هو «الواحد» ثم صار الواحد إلى «السبعة» (بدء ظهور اﻟ «يانغ»، وهو العنصر الذكوري، الذي يسبق «الرقم السادس»، وهو رمز العنصر الأنثوي، لكنه غير ملفوظ به هنا؛ لأن البدء يكون ﺑ «اليانغ» مطلقًا، أي الرقم السابع، ثم التاسع من بعده)، ثم ما لبث أن تبدل إلى «التسعة»، وما برح يتغير حتى صار إلى غاية الغاية، ثم إذا العدد يعود إلى مبتدأ الدائرة، إلى «الواحد» مجددًا؛ فثم كان تبدل الأشياء كافة، حيث انشق دخان، وشفَّ غيم، فارتفعت إلى مصافها السماء، وراق صفاء مرقاها في الأفق الأعلى، وكان أن ران كدر على سحب مدلهمَّة، فثقل موطئها، وتدنى حتى رسخ منها أديم الأرض، وتوسط بينهما هواء لطيف، فكان ثم مبتدأ ظهور الإنسان؛ فلذلك فاضت الأجواء ما بين السماء والأرض، بروح ونسمات، وتوالد الإنسي، وتكثرت كثرة الأحياء.»

[٣]

قال ليتزو: «لم تبلغ طاقات الأرض والسماء غاية الكمال، ولا بلغت مقدرة القديسين الغاية القصوى، ولا نفدت وسيلة الأشياء (الناس، والموجودات)، إلى تمام حدها؛ فمِن ثَم أحاطت غايات السماء بحيوات الأرض ونثرت فوقها من قباب الأفق الأعلى حدبًا وعنايةً، وحملت الأرض أثقال الأشياء التي لا يحصرها عدٌّ، وصار لكلٍّ مواهب قدرته وحدود قضائه التي ناسبت طبيعته، وكان من جراء ذلك أن بات للسماء ما تعيَّنت به أقطار قدرتها، وصار للأرض ما يمكن أن تتجاوزه، ولو انضاف إلى مديد عطائها المدد، وبدا أن للقديسين مواطن تقصير لا طاقة لهم بتجاوز عثراتها، وتشعبت (النقائص) حتى تشابكت بها بين الناس الدروب والطرقات والمسالك، فإذا سأل سائل عن السبب في كل ذلك، جاء الجواب بأن السماء التي انفردت قباب عطائها (فوق الكافة) ليست مكلفة بحمل أثقال الموجودات، ثم إن الأرض التي وُكلت بحمل أثقال أهلها، ليست موصوفة بواجب الوعظ والهداية، ولا كان القديسون، المنوط بهم الإرشاد والنصح، بقادرين على تجاوز الكائن من طبائع الأشياء، ولم يكن طبع الأشياء الراسخ في جوهرها، فاعل في اقتحام مواطن المواهب المخصوصة؛ فلذلك كان قانون السماء يتبع اﻟ «ين»، أو اﻟ «يانغ»، وكانت وصايا القديسين تنحو إلى «العدل»، أو «الرحمة». وكانت طبيعة كل الموجودات، إما حانية باللين، أو آخذة بالقسوة والنكال، فهي كلها تبع لما قام في جوهرها من خصائص مناسبة لطبيعتها.

فمن وقتئذٍ، قامت بين السماء والأرض الحياة، وظهرت مادة وطبيعة ما تتولد به الحياة، وكان بين السماء والأرض مظهر الأشياء، فتبدت طبيعة ما يتشكل به ظاهر صورها، ثم كان صوت كل صائت، حيث اضطلعت بإيجاده الطبيعة التي أبدعت النطق للناطق؛ وكان اللون الذي هيأته طبائع الألوان، والذوق الذي اشتملت عليه مواهب طبيعية أبدعت المذاق.

ثم إن مادة ما بدأت به الحياة صارت تضمحل وتموت موتًا، في حين بقيت طبيعة الحياة. وحدث أن انمحت الأشكال وبادت، بينما تسرمدت الطبيعة الحاملة خواص الأشكال، وكان أن تردد الصوت في كل مسمع، وتبددت مادة الأصوات، وتألقت الألوان حين زالت مادة الأصباغ، وبقي في كل فم مذاق، بعد أن بادت مادة المذاق، فذلك ممَّا قدرته مواهب الإرادة التي تنزهت عن التوسل بيد القصد ووسائط الأفعال [حرفيًّا: (فذلك كله من تقدير «اللافعل») أي: الطاقة الكامنة في الأشياء بالفطرة، دون أي محاولة للتوسل بوسيلة من صنع الإنسان].

فذلك هو الطريق [حرفيًّا: الطاو] الذي كان اﻟ «ين»، واﻟ «يانغ»، لطيف الرحمة، غليظ القسوة؛ مديد الارتفاع، خفيض الانبساط؛ تام استدارة الدائرة، متربع أضلاع التربيع؛ مكين الحياة والموت، صاحب الظل والهاجرة؛ طافيًا ومطمورًا، جهير الصوت مهموس الرنات؛ ظاهر خفي، تطويه الغمرات، وتتبدى به الباديات؛ ذو صفاء جلي، وقترة خفاء قاتم؛ علقم المر، شهي الحلوان؛ معطر النسمات، أبخر الأنفاس؛ تجرد عن علم وقدرة، بيد أنه عالم بكل شيء، ذو اقتدار.»

[٤]

لما كان ليتزو مرتحلًا إلى دولة «ويه»، فقد انتحى جانبًا، في بعض الطريق يلتمس الراحة من مشقة السفر، وما كاد يجلس قليلًا، حتى تبدَّى لناظرَيه بالقرب منه منظر بقايا هيكل عظمي لميت، هلك في الغابرين، فمد ليتزو يده ونزع بقايا ما انتثر فوق الرفات من أعشاب الطريق، وقال لتلاميذه: «ليس سواي، أنا وهذه العظام المهشمة، نعرف أنه لا دوام لحياة من عاش ولا ممات لمن أدركه الموت، (… لكني أتساءل:) هل الموتى تعساء؟ أم هل يجد الأحياء في الحياة مسرة؟ كم هي كثيرة مراتب تقلبها. إن ضفدعًا قد يتحول إلى طائر السمانى، وقد تنبت سيقان نبات اﻟ «جي» في المستنقعات، ثم تصبح حشائش كبيرة ملتفة على حواف الجداول والأنهار؛ وقد تنبت زهور الزينة «فويي» فوق قمم التلال، ثم إذا أُلقي بها وسط حقول مغمورة بالطمي، صارت عشبًا كثيفًا على أطراف البحيرات، فإذا اشتد عودها، تحولت جذورها إلى يرقات ديدان طينية، وتحورت سيقانها إلى فراشات لاهية، ثم إذا الفراشات تصير حشرات زاحفة تُسمى «تشيو طو»، ثم لا يكاد يمضي على هذه الحشرات ثلاث سنوات، وهي في هذا الطور من النمو، حتى تتحول إلى نوع من العصافير،٣ وهو طائر يقال له «تشيا نو كو»، لكنه لا يلبث أن يتحور إلى «سيمي»، الذي يتحول تدريجيًّا، إلى حشرة تعيش وسط الحشائش، تُعرف باسم «شيس هيلو»، ثم ينبت منها نوع مختلف من النباتات يغزر في مزارع اليقطين، اسمه «سيشي هوانكون»، وهو ذلك الجنس من الحشرات الذي يتوالد عنه نوع يعرف باسم «جيويو»، ثم يأتي من هذا النوع فصيل يُسمى «ماو روي»؛ وهو ما ينتقل طور التغير به تباعًا، إلى نوع آخر من الحشرات الزاحفة يُطلق عليه «فو تشيوان»؛ ويتحول نبات «يانكان» [حرفيًّا: كبد الضأن]، إلى زهور «طيقاو»؛ كما تتحول دماء الخيل إلى كبريت فسفوري؛ وتصير دماء الإنسان خيالات أشباح هائمة في البرية؛ ويتحور الباشق إلى فصيل من الصقور يُسمى بصقر «تشان»، وهو ما ينقلب، بتوالي مراحل التطور إلى طائر الوقواق، الذي تعود به مدارج التقلب إلى أن يتخذ هيئة الصقر في طور جديد.

كان طائر السنونو قد تحول إلى نوع من الأسماك الصدفية التي تعيش بالقرب من الشطآن؛ مثلما تحور فأر الغيطان إلى ما يقال له طائر السمانى؛ وقد انقلب القثاء إلى أسماك تسبح في الماء؛ وصار الكراث نبات يؤكل، منه ما هو معروف باسم «شيان»؛ وقد تحورت النعاج فأصبحت قردة؛ وصار بيض الأسماك فصائل من دود الأرض؛ وكان أحد الوحوش المشهورة في أحراش «تشا نيوان» (واسمه «لي») قد تكاثرت فصائله، بغير تناسل، (من دون انتزاء)؛ وظهرت أفراخ طائر اﻟ «جي» من لقاح أودعته ذكورها في رحم إناثها، عبر النظر في أحداقها، وهناك فصيل من السلاحف يتكاثر بغير ذكور، ويقال له «داياو»؛ وهناك أيضًا نوع من النحل لا إناث له من جنسه، وهو ذاك النوع المعروف باسم «جي فنغ»؛ وفي بعض بقاع الأرض ينجذب الذكور إلى أمثالهم، ويشتهون بعضهم بعضًا؛ وكذلك تميل الإناث إلى بنات جنسهن فتتواقعن وتحملن حملًا في أرحامهن، دون أن يمسهن الذكور.

وكان «هو جي» [أقدم أجداد أسرة «جو» الملكية (القرن الحادي عشر/٢٦٥ق.م.)] قد استقر جنينًا، في بطن أمه التي حملت به عندما داست بقدميها آثار أقدام الغابرين (وكانت قد مشت فوق أثر أقدام مجهولة، بقيت غائرة في الأرض على مر السنين)، مثلما قُضي أن يولد «آيين»، في جوف شجرة توت، بعدما رأت أمه في منامها صورة جني (وكانت تقيم على شاطئ نهر «آي»)، فلما حبلت جاءها، في الحلم، جني وقال لها: «غدًا تفيض الينابيع، فإذا عاينت دفق الماء فاهربي صوب الشرق البعيد، وحذارِ أن تنظري وراءك.» فما هو إلا أن جاء نهار اليوم التالي، وفاضت المياه، فذهبت المرأة، وقصت الرؤيا على جيرانها، فقاموا ومضوا جميعًا تجاه الشرق، غير أنهم ما كادوا يمشون بعض الطريق حتى التفتوا وراءهم، فغمرتهم المياه، وأغرقتهم عن آخرهم، لم تغادر منهم أحدًا، وجرى القضاء على أم «آيين» بأن تتحول إلى شجرة توت (باطنها خواء)؛ وحدث أن فتاة من آل «شين» كانت تقطف ثمرات التوت، فوجدت طفلًا بباطن الشجرة، فأخذته واتخذت له اسم «آيين»، وذهبت به إلى الملك، فدفعه إلى من سهروا على تنشئته، فلما بلغ سن الرشد، أظهر حكمة وفضلًا، وصار فيما بعد مقدمًا شريفًا، حتى إنه تولى منصب رئيس الوزراء وأصبح مستشارًا للملك «طان» آل شانغ (أحد ملوك أسرة شانغ).

[واستطرادًا في الكلام عن تحول الفصائل والأجناس الطبيعية …] ففي المناطق الرطبة تنمو حشرة «جو شاو»؛ وتتخلَّق ذبابة «ميمنغ» في كل ما اختمر من الخمر، وإذا ما تم تهجين شتلات البامبو من فصيلة «يانشي»، بأخرى من فصائل «البوصون»، تشابكت في أعقابهما العناصر واختلطت الخصائص.

ومن البامبو الذي شاخت أغصانه، تولد حشرات «تشي نين»، ومن هذه الضئيلة يُولد الفهد، ومن الفهود تطلع الأفراس، ومن الأفراس الإنسان؛ وكم مر على الإنسان زمان صار بعده إلى حال مكتنف بالغموض، لا يعرف فيه موت ولا حياة؛ فالكل آتٍ من هذا الحال الطلسمي، وإلى هذا الحال، في آخر الأمر، يئول المعاد.»

[٥]

جاء في كتاب «هواندي»، ما نصه: «إذا ما تحركت الأشكال، انعكست عنها الظلال؛ وإذا ما هاجت الأوتار، تردد الصدى (فالناتج هو الأصداء، لا الأصوات نفسها)، وإذا ما دارت دائرة العدم، ظهر الوجود، فليس يجيء من العدم مثال ذاته.»

كل الأشكال، لا محالة، إلى فناء، فهل تفنى السماء والأرض؟ (أجل)؛ فلها مثل ما لنا من انتهاء، لكن، هل لهذا الانتهاء زمن معلوم؟ كلا، فذلك مما لا تُعلم حقيقته.

للطاو نهاية، لكنها من دون بداية، وهو إلى محو وزوال رسم، من دون سابق وجود. لكل وجود حي عَوْد إلى حال ما قبل الحياة، ولكل ذي شكل رجوع إلى ما قبل التشكل. قد يكون ثمة مواتٍ أدركت أوائله الحياة، أو يكون محض فراغ وخيال بعد ملاء وانشغال.

قد جرى القضاء بأحكام طبيعة الأشياء، أن تفنى كل حياة، فلا مفر لما كُتب عليه المحو أن يئول إلى الفناء، مثلما جرى الحتم أن يولد ميلاد حياة، فإذا نشأ الظن أن تخلد حياة أبد الآباد، فهو دليل على الجهل بسنن الطبيعة.

إن الروح من أمر السماء، أما الهيئة والشكل المتجسد فمن أمر الأرض، ثم إن الروح التي من شأن السماء معدنها أنقى وأطهر، فهي ذات طبع أثيري، لكن الشكل المتجسد متكاثف العنصر، مشوب بالكدر، فالروح والجسد متمايزان؛ وإذ يفترقان يعود كل منهما إلى أصيل طبعه، [حرفيًّا: إلى فراغ الكهف الكوني]، فمِن ثَم، أُطلق عليه اسم «كويي»، الذي يعني في الأصل، الرجوع إلى حدود الفراغ الكوني، واسع المدى، وقد قال «هواندي»: «إذ تعود الروح من الباب العمائي الذي جاءت منه، وترجع العظام إلى منبتها، فما يبقى للذات وقد تبددت الروح وانسحقت العظام والأجساد!»

[٦]

أربع مراحلَ يمر بها الإنسان، من لحظةِ ميلاده إلى ساعة وفاته: الطفولة، والشباب، والشيخوخة، والممات؛ ففي الطفولة تتبدَّى طاقة الإنسان بكل تركيز وكثافة، ويصير الجسد، روحًا وعقلًا كيانًا متآلفًا متناغمًا كالطبيعة، مطوَّقًا بالأمن والأمان ضد كل خطر، ويبلغ النقاء مبلغًا لا تضارعه كل مستويات الخلق الرفيع؛ وفي سِني الشباب يفيض القلب حماسةً وفتوة، ويصير الباطن مفعمًا بكل غريزة واشتهاء، وتجتاح الإنسان — عبر حواسه — كلُّ النوازع والرغبات، فمِن ثَم تتراجع عنده الفضيلة والأخلاق، وفي مرحلة الشيخوخة تذوي النوازع ويضعف الجسد وتعجز الغواية أن تؤتي ثمارها، ورغم استحالة العودة إلى تمام براءة سني الحياة الأولى، إلا أن ما تبلغه الكهولة من النضج والاتزان يفوق مبلغ احترام المرء في زمن الشباب؛ وإذ يرد وارد الموت، تثوي الأجساد في سكينة، ثم الرجوع إلى غاية المنتهى، التي لا مفر عن بلوغ حدها.

[٧]

التقى كونفوشيوس أثناء تجواله بجبل «طاي»، عند تخوم منطقة «شنغدي»، بأحد الزهاد ممن يجوبون القفار، ويُدعى «سون شيتشي»، وكانت عليه ثياب خشنة وقميص من جلد الأيائل، وقد تمنطق بحبل غليظ حول وسطه وراح يضرب بالمعزف، وهو يغني، فباغته كونفوشيوس، وسأله قائلًا: «فيمَ غناؤك ومرحك وأنت على هذه الحال؟» فأجابه الرجل، قائلًا: «عندي من الأسباب ما لا يعد ولا يحصى، فانظر — مثلًا — إلى السماء وقد أوجدت هذا الوجود الكبير، وأهدت للإنسان مكانة عظمى، فمن دواعي سعادتي أني أحد بني الإنسان الذي نال تكريمًا لا مزيد عليه، وبالإضافة إلى ذلك، فقد وجدت أن البشر أبناء ذكر وأنثى، وأن الذكر يفضل الأنثى، فرضيت أني ممن أُعطوا درجة فضلى، فاغتبطت لذلك؛ ثم إني قد عشت ورأيت من الأجنة ما تلفظه الأرحام قبل أن يتنسم نسمة حياة، ومن المواليد من يلفظ أنفاسه وهو بعد في الرضاعة، فكنت أسعد حظًّا؛ إذ عشت ما يربو على التسعين عامًا، فهذا ثالث أسباب سعادتي، ثم إني تأملت الناس فوجدت أغلب أهل العلم فقراء، وأن مآل الجميع إلى الموت، إن آجلًا أو عاجلًا، فوطنت نفسي على الرضا بفقر العلماء، ورضيت بالبقاء أملًا في ملاقاة الموت الذي لا محيد عنه، فكيف ينزل بي السخط، ولماذا يشتط بي الحزن والقلق؟» فهنالك قال كونفوشيوس: «لا بأس إذن، فهذا رجل يعرف كيف يواسي نفسه!»

[٨]

كان «لين لي» [أحد أشهر الزهاد، في العصر القديم]، قد بلغ المائة من عمره، ورغم ذلك؛ فقد قام ذات صباح، إلى الحقول وهو يرتدي قميصًا خشنًا من الجلد، وراح يلتقط ما تبقى من حصاد القمح بين المزارع، وصار يجدُّ في سيره وهو يشدو بالغناء، وتصادف، في تلك الأثناء، أن كان كونفوشيوس مارًّا وسط الحقول، في طريق سفره إلى دولة «ويه»، في ذلك الزمان، فلما رأى «لين لي» على هذه الحال، استدار إلى تلاميذه، قائلًا لهم: «انظروا إلى ذلك الشيخ الذي يجمع الحطب وفضلات السنابل، من منكم على استعداد لأن يذهب إليه ويحادثه؟» فانبرى «تسيكون» من بين الجميع يريد أن يبادر إلى الحيث معه، ثم إنه دنا منه، وقال له: «فيمَ يمضي شيخ مثلك على هذا النحو وهو يشدو بالغناء ويلتقط السنابل، تُرى أأنت نادم على شيء فعلته؟ [كذا]»، ولم يكترث له لين لي، بل مضى في طريقه وهو يواصل الغناء، فألح عليه تسيكون، وما زال به حتى التفت إليه، قائلًا: «ولماذا يجب أن يكون هناك ما أندم عليه؟» فقال له تسيكون: «ربما تكون قد أضعت أيام شبابك بغير جد ودأب، أو أمضيت سني فتوتك بغير طموح، فأدركتك الشيخوخة، وليس لك زوجة ولا ولد، والأغرب أنك برغم ما كاد أن ينتهي من عمرك، فما زلت تمرح وتغني، بل إنك تمضي وسط المزارع تلتقط فضالة الحصاد.» فضحك الشيخ، وهو يجيبه قائلًا: «وما الذي يدعو إلى الدهشة من شعوري بالمرح، هذا أمر يستطيع أي واحد من الناس أن يجربه مثلي، ومع ذلك فما أكثر الاستغراب من أحوالي، وعمومًا، فإذا كنت قد أضعت أيام شبابي متكاسلًا بغير كد، وأفنيت فتوتي بغير طموح، فقد كان ذلك تحديدًا، هو السبب في أني عشت عمرًا طويلًا. ولئن كنت لم أتخذ زوجة وليس لي ولد، فقد حان وقت ذهابي وفناء عمري، وليس ورائي ما يثير جزعي؛ فلذلك طابت أيامي بغير كدر.» فقال له تسيكون: «الناس جميعًا يأملون في العمر الطويل مثلما يبغضون الموت العاجل، فما الذي يجعلك مستبشرًا بلقاء الموت هكذا؟» فأجابه لين لي قائلًا: «إنما الموت والحياة كمثل شيء يطالعك بوجهه، ثم يدير لك ظهره، ويعود من حيث جاء، في عاجل الحال، فإذا كنت قد عرفت أن ثمة موتًا، فلم يغب عني إحساسي بالحياة؛ ولما كنت قد أدركت أن الحياة والموت مختلفان، فكيف لي الوثوق بأن تشبث المرء بالبقاء حيًّا، أطول فترة ممكنة، يحول دون شعوره بالحيرة والقلق؟ وأنى لي أن أعرف إذا كان موتي العاجل أفضل من ميلادي في سالف الأيام؟» وتأمل تسيكون كلام الشيخ، لكنه لم يفهم معناه، فعاد إلى كونفوشيوس (وأخبره بما سمعه من الرجل، فرد عليه الشيخ الأكبر قائلًا: …) «قد عرفت أن لدى الرجل ما يجدر بك أن تسمعه، لكن يبدو أنه يفتقد إلى المنطق الواضح والحجة القوية.»

[٩]

فترت همة تسيكون عن تحصيل العلوم، وعافت نفسه الدراسة، فحكى لأستاذه (كونفوشيوس) ما حل به قائلًا: «يبدو أني في حاجة إلى الاستجمام والراحة.» فأجابه، قائلًا: «ليس للإنسان سبيل إلى الراحة.» فقال تسيكون: «أيقضي طالب العلم حياته، دون أن يعرف مكانًا لراحته؟» فأجابه كونفوشيوس، قائلًا: «ثمة أماكن كثيرة — إذا أردت — للراحة، فانظر إلى القبور مثلًا، وتأمل الجبَّانات الكبيرة المتكومة والمدافن المستديرة البارزة فوق الأرض، إنها أشبه شيء بأوعية القرابين وأواني الطقوس الكبيرة، التي تراها متناثرة ومقلوبة فوق الأرض، فتلك هي الأماكن التي يمكن أن تجد لك من بينها موطئًا للراحة.» فقال له تسيكون: «إنما الموت هو المشار إليه، حيث يجد النبيل الراحة بعد عناء، ويجد الذليل مضطجعًا للرقاد.» فرد عليه كونفوشيوس، قال: «قد وعيت المعنى، إذن، فالناس جميعًا يدركون ما للحياة من بهجة، ويتناسون ما تمتلئ به من بؤس وشقاء، وكلهم يدركون ما في الشيخوخة من ضعف، دون أن يتأملوا ما فيها من الهدوء والسلام؛ وما من فرد إلا يعرف ما يثيره معنى الموت من نفور، دون الالتفات إلى ما ينطوي عليه من معاني الراحة والسكينة؛ ومما يؤثر عن الفاضل الحكيم يانزي [أحد رجال الحكم في الممالك القديمة]، ما قاله ذات مرة، مما نصه: «الموت حقيقة أزلية، وليس بعد الموت سوى امرئ فاضل يرقد في سلام، أو وضيع دنيء يضطجع وسط التراب.» فالموت مآل لا محيد عنه للناس كافة، وقد كان يقال للموتى، فيما مضى من الزمان الغابر، «العائدون»؛ ولما كان الموتى هم العائدون، فلا بد أن يكون الموتى هم السائرون، أما المتسكعون في الطرقات، والتائهون الذين لا يعرفون طريق الرجوع، فأولئك هم المشردون الذين انتبذوا الأهل والديار، ومثل كل المشردين الغافلين عن بيوتهم وأهلهم، فهم موضع لوم وانتقاد الناس في كل مكان؛ لكن ما ظنك بالمجتمع كله، بل الدنيا بأسرها، إذا كان الجميع قد نبذ بيته وتنكر لأهله مفضلًا أن يهيم على وجهه في الأزقة والحارات، دون أن يدرك أي فرد منهم أنه مخطئ!

إن من الناس من يرحل عن وطنه ويودع أهله وينبذ ما كان يحترفه من أعمال ليتجول متسكعًا في البراري على غير هدًى، فأي صنف من الناس هذا؟ لعلهم من جرى عليهم الوصف بين الجميع، بأنهم الشاردون، وهناك نفر آخر يبذلون كل جهد ممكن بما أوتوا من مهارة أو فن أو علم من العلوم؛ لكي يرتفعوا بأنفسهم ومجتمعاتهم إلى مصاف التطور، وهؤلاء لا يدعون فرصة إلا كشفوا فيها عن مواهبهم مختالين بما حققوا من مجد، فأي صنف من الناس هم؟ لا بد أنهم الحكماء وذوو المهارة والاقتدار. وأقول لك إن كلا الصنفين باطل، برغم ما قد يشيع بين الناس أن أولئك المجتهدين العباقرة هم الصلحاء وأن الآخرين المتسكعين هم الفاسدون؛ وأرى أن الحكماء والقديسين هم وحدهم الذين يملكون تقدير أي الصنفين أجدر بالتمجيد والثناء، وأيهم أحق بالتنديد والاستخذاء.»

[١٠]

ذهب إلى ليتزو، من قال له: «ما لي أراك تصرف كل اهتمامك للعدم (الخواء)؟» فأجابه قائلًا: «في البدء كان العدم، ولم يكن هناك ما يستحق أي اهتمام.» ثم أضاف قائلًا: «(اعلم أنه …) قد يستطيع المرء أن ينفي الأسماء وينكر الوجود، لكن لا شيء أعظم من الوثوق في «العدم»، وصرف الاهتمام كله إلى [اللاشيء]؛ لأنهما يحوزان المكانة الصحيحة دائمًا؛ واعلم أن الأخذ أو العطاء، أو الحصول على الأشياء أو إعطائها للآخرين، لا يقومان على قاعدة سليمة وملائمة، (فانظر، مثلًا، إذا …) انهدم شيء أو أصابه التلف، فإنك تجهد نفسك في محاولة تفسير هذا الهدم أو الفساد، وتعليل أسبابه ودواعيه؛ لكن يظل ماثلًا أمام كل عين استحالة رجوع الأشياء إلى مبتدأ حالها (قبل أن تنصدع).»

[١١]

قال يوشيون [أحد معلمي الملوك، في زمن أسرة تشو ٧٧٠–٢٢١ق.م.]: «الكون في حركة دائبة وصيرورة من التغير لا تتوقف أبدًا؛ فالأرض والسماء تتحركان في دوران غير ملحوظ، فمثل هذه الحركة الدائبة تحدث، وليس من شاهد عيان (فمن هنا، كان ثمة تكامل بين الأشياء …) ذلك أن ما فُقد في ناحية، قد تم الفوز به في ناحية أخرى؛ وما صنعته يد الصانع هنا، استهلكته نوازع التبديد هناك؛ فالفقد والفوز؛ والتوفير والتبديد، كلها تنشأ وتفنى في كل وقت، وفي أي زمان. إن التقدم والتقهقر مرتبطان، وليس من يقف على اللحظة الفاصلة بين حركتهما المتعاقبتين ودورانهما المتصل بغير انقطاع. هل هناك من يمكنه الزعم بغير ذلك؟ إن أي طاقة حيوية، عرضة للتغير، لكن بغير طفرة مفاجئة، ولا كان أي شكل متجسد يتعرض للاستهلاك على نحو طارئ، فثمة تبدُّل يلحق بأي طاقة حيوية وأي كيان ملموس، لكن من دون عوارض أو ظواهر طارئة، ثم إن الإنسان نفسه، جزء من هذه القاعدة، فهو منذ ساعة ميلاده إلى أوان ضعفه وشيخوخته، تلحقه في كل لحظة عوارض التغيير؛ في ملامح وجهه، ولون الجلد، والطاقة الذهنية، وهيئته العامة؛ فأنت تجد مثلًا، أن أظافره وشعر رأسه وجلد أطرافه، تنمو وتسقط، من وقت إلى آخر، دون أن تثبت على الحال الذي ولد به الإنسان في طفولته الباكرة، غير أن مراحل القبول والتغير المتعاقبة أدق من أن يلحظها أحد أثناء سيرورتها الدائبة، بل هي تتبدى، آخر المطاف، كخلاصة إجمالية، يمكن ملاحظتها، بشكل ملموس، في المحصلة الأخيرة. بيد أن هذه القيمة تنكشف بوضوح، في لحظة مفاجئة، في حين أنها كانت، طوال الوقت، في تبدُّل مستمر، لا يتوقف أبدًا.»

[١٢]

كان في دولة «تشيه» [إحدى الدويلات القديمة] رجل يتصور أشياء مفزعة، (من ذلك أنه …) صار يخشى أن تسقط فوقه السماء، أو أن تميد به الأرض، واستولى عليه ذلك الشعور، حتى صار من الصعب عليه أن يستقر في مكان، أو أن تنام له عين أو يهنأ بطعام أو شراب، واحتار الناس في شأنه، ولم يدرِ أحد ماذا يصنع له؛ ليريحه من هذا العناء، وذهب إليه مَن تكلم معه، قائلًا: «ليست السماء سوى هواء متكاثف، فالكون كله عبارة عن بخار، ولا يكاد يخلو موضع منه، أنت نفسك إذا قمت أو جلست أو تنفَّست شهيقًا وزفيرًا، أو قمت بأي مجهود، فستجد أن الهواء حولك في كل مكان؛ أي إنك تعيش وسط هذا الكون الكبير الذي تكاثف فيه البخار، فما الذي يمكن أن يسقط فوقك، إذن (سوى الهواء)؟» فقال له المريض: «قد تكون السماء (كما تقول) مجرد بخار متكاثف، لكن أليست هناك مجرات ونجوم وأقمار يمكن أن تسقط فوق رءوسنا؟» فهدَّأ زائره من روعه قائلًا له: «ليست الأقمار والمجرات سوى بخار متجمد أيضًا، الفرق الوحيد هو أن البخار، في هذه الحال، يشع ضوءًا، (لا أكثر ولا أقل)، ولا أظن أن النور إذا وقع من علٍ، يمكن أن يمس أحدًا بسوء.» فقال له الرجل المضطرب: «فماذا إذا مادت بي الأرض؟» فأجابه الزائر، قال: «الأرض عبارة عن كتل من صخر ورمال يلتصق بعضها ببعض، وهي ممتدة في كل اتجاه، وكل ناحية على هيئة واحدة، فما من موضع إلا كان ممتلئًا بالصخور والرمال، وها هي الناس تخطو وتمشي وتقفز وترقص طوال اليوم على الأرض، دون أدنى خطر، فكيف تخشى أن تميد بك الأرض؟» فانفرج كرب الرجل، وتهلل فرحًا، وانزاحت أثقال رزحت على قلب الزائر المستنير، الذي اغتبط أيضًا، بما وصل إليه الحال. وبلغت هذه الحكاية مسامع الشيخ «لو تزي» [أحد أتباع الفلسفة الطاوية] فضحك، قائلًا: «لكن السماء، أيضًا، تشكلت من قوس قزح وسحاب وضباب وأمطار ورياح وفصول أربعة؛ وكلها عبارة عن بخار متكاثف، مثلما تكوَّنت الأرض من جماد كالجبال والتلال والبحار والمعادن والأخشاب، فإذا كان الأمر على هذا النحو، فكيف يمكن الزعم بأن الأرض والسماء ليستا مفزعتين؟ إن الأرض والسماء، كلتيهما، عبارة عن مواد دقيقة بلا حصر، تملأ الفراغ الكوني الكبير، بل هي الكون الكبير، نفسه، ولطالما عجز الإنسان عن أن يسبر أغوار الكون بأرضه وسمائه، وأن يقف على كنهه، أو أن يستدل منه على شيء أو حتى أن يجيد فهمه ومعرفة دقيق أحواله، فإذا انتابنا الخوف من أن ينهدم الكون فوق رءوسنا، فهو هاجس متجاوز حدود المعقول، وإذا قدرنا أنه لن ينهدم، فهذا تقدير خاطئ كذلك؛ فليس هناك ما يمنع الأرض والسماء من أن تثير جزعنا، فإذا أدركنا ذلك، كان من الطبيعي أن ينتابنا شيء من القلق.» وبلغ هذا القول مسامع الحكيم ليتزو، فابتسم، قائلًا: «إن القول بأن الكون على خير ما يرام، يدل على تهافت الرأي؛ كما أن القول بأن الأرض والسماء جديرتان بإثارة الفزع، يُعد ضربًا من السذاجة المفرطة والرأي الفطير؛ فلسنا نجد وسيلة لمعرفة ما إذا كانتا على هذا النحو أو ذاك، (وهكذا)، فسواء صدقنا أنهما طيبتان أم مفزعتان، فالأمر على السواء في الحالين، وعلى ذلك؛ فالأحياء يجهلون أمر الموتى، ولا بد أن من فاضت أرواحهم لم يعودوا يدركون شيئًا عن الأحياء، كما أن الشاهد لن يدرك حال الغائب، مثلما أن الغائب لن يعرف شيئًا من أمر الشاهد، [حرفيًّا: الوقت الحالي لن يدرك الزمان الآتي، والزمن القادم سيكون مقطوع الصلة بالوقت الراهن] فما الذي يدعونا، دائمًا إلى الاكتراث لقسمة الأشياء بين ما هو طيب أو خبيث؛ بين ما هو مثير للفزع أو للأمن والطمأنينة؟»

[١٣]

كان الملك الحكيم «شون» قد سأل وزيره، قائلًا: «هل يمكن للمرء حقًّا، أن يحوز اﻟ «طاو» حيازته لسائر الأشياء الثمينة؟» فأجابه، قائلًا: «إذا كنت لا تكاد تملك جسدك، الذي تحيا به، فكيف تستطيع أن تفرض سطوتك على الطاو وتضيفه إلى حيازتك؟» فسأله الملك الحكيم: «إذا كنت لا أملك جسدي، فمن يملكه إذن؟» فأجابه: «إن السماء هي التي منحت جسدك هذه الهيئة التي تبدو عليها، ولم يكن ميلادك شيئًا تحوزه يداك، بل كان منحة تفضلت عليك بها السماء عن طيب خاطر، ولا كانت حياتك مما تختزنه في خزائن ملكك، بل كانت هدية سعيدة أهدتك السماء إياها، ثم إن أولادك وأحفادك ليسوا ملك يمينك، بل هم أجيال الأرض، منحتك السماء إياهم ليتجدد وجودك؛ فلذلك كان المرء يمشي دون أن يعرف الغاية، ويسكن الديار دون أن يعرف متى ينتهي به المقام، وتتوق نفسه إلى لذة الطعام والشراب، ولا يدري متى وكيف يجد طعامه، فالسماء والأرض تتعاقبان الدوران، دائمًا أبدًا، فذلك هو طبع الأثير، ولا أدري كيف يمكن للمرء أن يملك الطاو؟»

[١٤]

كان في دولة «تشي» رجل يدعى «كو»، وكان قد بلغ من الغنى واليسار مبلغًا لا مزيد عليه، في حين كان رجل آخر من مواطني دولة «سونغ»، يُدعى «شيان» يعيش في فقر مدقع، وحدث أنه قام وارتحل إلى دولة تشي، والتقى بالآخر الغني، وسأله عن الطريقة التي يسَّرت له الحصول على كل هذه الثروة الطائلة، فأجابه بقوله: «أقول لك الحق، إنه ما كان يتيسر لي شيء من هذا إلا لأني لص بارع اللصوصية، وكنت في أول أمري قد قنعت بما حصلت عليه بعد عام واحد، ورضيت بما صار عندي، ثم إذا بي، بعد سنتين أكتشف أن ثروتي قد تضاعفت، ولم تكد تمضي ثلاث سنوات حتى كنت قد بلغت حد الترف، فصرت أتبرع بالعطايا لجيراني وأهالي الحي.» واستغرب «شيان» مما سمعه، لكنه انتشى بالفرحة العارمة، ويبدو أنه فهم معنى كلمة «اللصوصية» على نحو ما، وبطريقة أوحت إليه أن يتصرف كما يحلو له؛ فإذا به وقد انغمس في أنشطة إجرامية بالغة الخطورة، بعد أن راح يقفز فوق الجدران ويثقب الحيطان، ويدخل البيوت من غير أبوابها، طوال الوقت، ثم لم يلبث أن صار يسرق كل ما وقع تحت يديه، بل كل ما وقع تحت ناظريه، ولم ينقضِ زمن طويل حتى اكتشف أمره ووقع تحت طائلة القانون ونال جزاءه، وبالطبع فقد تمت مصادرة كل ما اجتهد في تخزينه من مسروقات، وراح يتأمل الأمر، وظن أن صاحبه «كو»، ذلك الثري المقيم بدولة «تشي» قد خدعه بما حكاه له، فلما أُتيحت له فرصة اللقاء به، فيما بعد، ابتدره باللوم على ما أوهمه به، إلا أن السيد «كو» أنحى عليه باللائمة، قائلًا: «كيف تسطو على ممتلكات الناس؟ ومن قال لك أن تسلك هذا الطريق الإجرامي؟» فحكى له شيان كل ما وقع منه بالتفصيل، وبكل صراحة، فما كان من «كو» إلا أن قال له: «يا للأسف، يبدو أنك فهمت السرقة بمعنى شديد الخطورة حتى وصل بك الحد إلى اقتراف أبشع الجرائم، والآن، اسمح لي أن أحكي لك الموضوع، من وجهة نظري، وكما تصرفت أنا شخصيًّا، في سلوكي العام، طوال حياتي؛ إذ إني كنت قد سمعت أن الفصول الأربعة والأرض الخصبة مليئة بالخيرات، فتصورت أن الموارد التي تأتي بها الطبيعة شيئا مشاعًا، ومن هنا، نشأت فكرة السرقة عندي بهذا المعنى، وقررت أن أستولي على الخيرات التي تمنحها الفصول الأربعة لكل الناس، فالمطر يسقط ومعه الخير، وكذلك تموج البحيرات في باطنها بكل ما لذ وطاب، فقررت أن آخذ لنفسي من مائها لأرض أزرعها، فلما نما الزرع كان الحصاد وفيرًا، ثم إني بنيت الأسوار حول الأرض وشيدت الجدران، وأنشأت لنفسي البيوت والقصور، ثم وجدت الطير والوحوش سائمة في البرية، فاستوليت عليها بالقنص، وفرضت سطوتي، حتى على السلاحف والأسماك التي في جوف الماء، اعتبرتها ملكًا لي، فاستوليت عليها وتصرفت فيها بملء إرادتي، لم أدع شيئًا من خيرات الأرض إلا وضعت يدي عليه: المزارع، الأخشاب، الأسماك؛ وهي كلها من عطاء الطبيعة، فكيف لي أن أدعي ملكيتها الشخصية؟ وعلى أية حال، فإن استيلائي على هذه الثمرات التي من ناتج الطبيعة، لم يوقعني في أي مأزق، لكن كان يجب عليك أن تدرك جيدًا أن المجوهرات والذهب والأحجار الكريمة والحرير، وغير ذلك من الممتلكات الثمينة هي أشياء تخص الآخرين وجزء من أملاكهم، وليست هبة أو منحة من الطبيعة! وبالطبع، فإن استيلاءك على تلك الأشياء هو السبب في اعتبارك مجرمًا، ومِن ثَم لحقت بك العقوبة، أليس كذلك؟» أنصت «شيان» لكل هذا الكلام، ودارت رأسه ولم يفهم شيئًا، بل ترسخ لديه الظن بأن «كو» هذا، محتال داهية، لا يعدم وسيلة للضحك عليه والسخرية منه، فقام وتوجه إلى السيد الحكيم «تونقو»، عساه يستفيد شيئًا من نصائحه، وكان أن قال له الفيلسوف الحكيم: «أستطيع أن أقول لك إن كل ذرة في كيانك هي ناتج الاستيلاء والسرقة … تأمل معي … ألم يكن ميلادك نتيجة نوع ما من الاستلاب مما يقع بين الذكر والأنثى، ألم يتشكل جسدك كله وملامحك من جراء عملية سطو بالغة السرية والخفاء بين رجل وامرأة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما بالك بكل الأشياء التي تقع خارج جسمك … وأظنك تقول إنها كلها نواتج سرقة كبيرة! ولا بد أنك تتفق معي في أن الأرض والسماء وكل ما بينهما مترابط، على نحو ما، فإذا بدا لك أن كل الموجودات الطبيعية يمكن أن يتم الاستحواذ عليها بصفتها ملكية شخصية، فهذا كلام غريب، وهذيان سخيف لا معنى له؛ فالمنطق الذي يقود ذلك المدعو «كو» يقوم على قاعدة بديهية مفهومة لدى الجميع؛ لذلك فلم يتعرض للتأثيم ولم يجر عليه اتهام بالسرقة، لكن ما قمت به أنت كان فيه اعتداء على ممتلكات شخصية، ومِن ثَم استوجبت التجريم، وعمومًا فإن أي منطق يحض على السرقة، سواء أكانت لأشياء طبيعية أم لممتلكات شخصية لا يحول دون اعتبارها جميعًا عملًا من أعمال اللصوصية، مهما كانت الحجة وسواء كان المسلوب عامًّا أو خاصًّا، فكل ذلك جزء من معنى السطو والسرقة (وأعود فأقول لك …) إن كل الأشياء، بما فيها الخاص والعام، ملك للسماء والأرض، وليس للإنسان في الأمر كله أي شيء، وما دام الأمر كذلك، وما دامت الأشياء كلها ملك للكون، ففيمَ الجدل حول ما إذا كانت تلك سرقة أو أن ذاك الرجل لص؟»

١  يشتمل الكتاب على ثمانية أبواب، لكل واحد منها عنوان رئيسي، وقد حرصت على تقديم العناوين، أولًا، بطريقة التعريب، أي كتابة الصوت بحروف عربية، ثم وضعت ترجمة المعنى بين قوسين هلاليين. يتناول الباب الأول، وهو بعنوان «تيان روي» في الصوت الصيني، عدة نقاط مختلفة منها: «الأصل الأول للطبيعة» أو ما يطلق عليه في الاصطلاح الطاوي: «جذر الأرض والسماء»، وهو المبحث الذي يشغل الطاويين في الكثير من تأملاتهم؛ حيث إن «الكون» أو «العماء الكوني» أو «الظلمة الكونية» هو ما يتضمن الإشارة إلى الغموض الذي يكتنف النشأة الكونية أو «ما قبل النشأة الأولى»؛ ويطرح الباب عددًا من التصورات، حول هذه المسألة، في أربع نقاط رئيسية، يعرض لها هذا الجزء من الكتاب.
٢  وردت الفصول تحت كل باب في سرد متتالٍ، من دون عناوين محددة لكل فصل منها، فرأيت أن أضيف من عندي، ليس فقط بحكم ما هو متاح من حدود أمام الاجتهاد التفسيري في الترجمة، ولكن أيضًا بدافع الحماس والواجب في أن أعرض النص عبر أوضح سياق ممكن للقارئ — رأيت أن أضيف — أرقامًا مسلسلة، بين قوسين مربعين في بداية كل فصل؛ علمًا بأني، كقاعدة عامة، أضع بين قوسين مربعين كل ما هو اجتهاد بالترجمة مما قد يفيد في توضيح المتن، بإضافة من خارج محتواه؛ سواء من الشروح المصاحبة للنص الأصلي في النسخ المترجم عنها، أو من المصادر ذات الصلة في الفلسفة الطاوية، سوى ما كان متضمنًا، في المتن، من عبارات أصلية أو تراكيب استوجبت ترجمة متحررة من أسر الصياغة الجامدة في لغة المصدر، وكان عدد غير قليل من دارسي اللغة الصينية، من الباحثين العرب، قد ألح على ضرورة إيراد تلك النماذج التعبيرية، ولو على هامش المتن، علها تضيء جنبات من المحتوى اللغوي-الثقافي، الذي ينطوي عليه النص؛ وسيطالع القارئ الكثير من تلك الإشارات، بين القوسين المربعين، مسبوقة بكلمة «حرفيًّا».
٣  أسماء النباتات والحشرات، هنا، لا مقابل لها في المعجم العربي؛ فآثرت تعريبها، وذلك بكتابة ألفاظها بحروف عربية؛ وليس ذلك بغريب، فقد دخلت العربية، من قبل، ألفاظ مثل: الياقوت، الدرهم، النرجس، الطاغوت؛ من مصادر مختلفة، ولظروف مماثلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤