الباب الثاني

هواندي١

皇 帝
(الإمبراطور)

[١]

اعتلى هواندي العرش خمسة عشر عامًا، وقد تهلل بالبشر؛ إذ حظي بتأييد أهل الممالك جميعًا، فلما صار صولجان الملك بيمينه، تنعم بألوان الترف، وجعل كل همه أن يتمتع بصحة جيدة، وأخذ من كل متعة بنصيب؛ فأصاب من المشاهد أبدعها لمرأى العين، وشنف آذانه بما تطرب له الأسماع، وتنسم أذكى العبير، وتذوق ألذ الطعام؛ غير أنه، وبرغم كل ذلك تلبسته الحيرة، وشحب وجهه وتحيرت أفكاره [حرفيًّا: اضطربت حواسه الخمس، وهي كلمة تفيد معنى الحواس، أو معنى «القدرات الخمس»، حسب الاصطلاح البوذي، وهي: السعادة، الغضب، الحزن، السرور، الضجر]، وطالت مدة حكمه خمسة عشر عامًا أخرى، دون أن يبلغ ما كان يرجو من إصلاح أحوال الممالك، رغم أنه شحذ كل طاقته [حرفيًّا: بذل السمع والبصر جميعًا] وبذل كل عبقريته وحكمته، إلا أن شيئًا من المأمول لم يتحقق، فبقي الوجه شاحبًا، والملامح ذابلة، والعقل ذاهلًا متحيرًا، حتى لم يتمالك إلا أن يحدث نفسه متحسرًا أسيان، وهو يقول: «لا بد أني اقترفت خطأً جسيمًا؛ لدرجة أني لم أفلح في الحفاظ على صحتي، أو حتى في تصريف شئون الممالك، بنجاح واقتدار، فبلغت الكوارث حدًّا مهولًا، سواء فيما يتعلق بي، شخصيًّا، أو في الشأن العام.» ثم إنه قرر أمرًا بينه وبين نفسه، وكان ألقى وراء ظهره بأعباء الحكم ومشاغله، وشئون البلاد وإدارتها، وغادر أروقة القصر والفُرش الوثيرة وصرف الخدم والحاشية ونزع الأجراس المعلقة، وشارات الأبهة الملكية، ورغب عن لذيذ الطعام، بل غادر القصر ونزل ليقيم في أبسط الغرف الملحقة بالأبنية غير الملكية، فهدأت نفسه وصفا ذهنه، واستقام له أمر جسده [كذا، حرفيًّا؛ باعتبار أنه اقتصد في المأكل، حتى انصاع الجسد لأمارات الصحة والعافية]، وأقام على ذلك ثلاثة أشهر، نأى فيها بنفسه عن شئون الحكم والممالك، حتى كان ذات نهار، تراءى له فيه أحد الأحلام، وإذا هو قد طاف به طائف الروح إلى مملكة «هواشيو» [بلد في الخيال]، وكانت تقع إلى الغرب من أرض «يان»، وإلى الشمال من بلد «تايجو» … ولا تسل عن المسافة التي تفصلها عن أرض الصين، فربما قد بعدت عنها المسافات الطوال وتناءى بها المدى؛ حتى لقد تقصد عن بلوغها السفائن والبحار، والمواكب السائرة في الدروب، والمرتحلة في الفلوات والقفار، فهي بلد تكاد لا تبلغها إلا الروح التي سبحت في خيالات المنام [حرفيًّا: «خون»، أي: الروح الأثيري الذي هو جزء من النفس التي باتت تغط في نوم عميق … حسب المعتقدات الصينية القديمة]، حيث لا يقوم على شئون الناس ملك ولا رجال حكم؛ إذ الحكم هنالك لطبائع الأشياء، والتدبير كله موكول إلى ما قد سبق به القضاء المقضي، فليس بيد أحد قضاء أي شيء، وليس للناس مطمع ولا تطلعات ولا أماني؛ والكل مُصغٍ لهوى الطبيعة، فأولئك قوم يعيشون الحياة، فلا هم يفرحون بما آتاهم في الحياة ولا يجزعون للموت، ثم إن شيوخهم لا تهرم، وبراعمهم لا تنقصف، وقد صفت نفوسهم، وتجردت من محبة الذات، وتناءت مشاربهم عن مجافاة الناس؛ فمن ثم خلت مشاعرهم من الحب والكراهية، هذا بيد أنهم حُجبوا عن أن يسايروا الناس مسايرة الذل والاستكانة، أو أن يصدوهم صد الصلف والمعاندة، فسلموا من موبقات الضر، ومغانم كل منفعة، قد خلت قلوبهم من الود والبغض، ونقت سرائرهم من الريبة والخوف؛ لا تغمرهم بحار، ولا تحرقهم النار، لا تتقطع جلودهم مهما انغرست شفرات المُدى ونصال السكين، ولا إذا ألهبتهم سياط ندت عنهم نأمة أنين، محجوبون بسطوة الأمن عن كل الآلام، في منعة من السلام عن هول الكرب وكل فزع داهم، لا تخدشهم أظفار، ولا تنشب في أجسادهم مخالب الافتراس، وهم عن هذا وذاك مستورون في حجب السكينة؛ يصعدون في الهواء، ويقتحمون قلب الريح، كأنهم يمشون في دروب الأرض ومسالكها، يتكئون على فرش مبسوطة في خلاء السماء، كأنهم يرقدون في مراقد وثيرة ممددة، لا تحجب أبصارهم كسف السحاب ولا غيوم الضباب، ولا يطن بأسماعهم دوي الرعود، أو جلجلة الصواعق، لا تزيغ قلوبهم بفتنة الجمال، ولا تضج نفوسهم من بشاعة القبح، يمضون على الدروب فلا تعوق خطواتهم شواهق الجبال، ولا تقوم دونهم التلال؛ ذلك أنهم يروحون ويجيئون، كما تعرج الأرواح في مسالكها … ثم استيقظ الإمبراطور من الحلم وهو منشرح الصدر، فاستدعى وزراءه الثلاثة: «تيان لاو»، و«ليمو»، و«تاي شانجي»، وقال لهم: «كنت قد تفرغت للراحة والاستجمام زمنًا، تهدئةً للنفس، وترويضًا للجسد … بالحرمان من ملاذ العيش لفترة طويلة، ورحت أفكر في طريقة سديدة لتصريف شئون الممالك، وتنمية طاقتي الذهنية والروحية، لكني لم أظفر بشيء مما ابتغيت، فلما بلغ مني الإرهاق مبلغه، غفوت قليلًا فرأيت في الحلم ما قد سلف، ثم إني قد وعيت الآن أن أفضل الطرق فيما تأملت، لا يمكن أن يكون هو التوسل بالحواس والإدراكات المباشرة؛ ذلك أن أنجح الوسائل جميعًا — حسبما تبدى لي — أمر آخر، ليس بإمكاني إخباركم به.» ثم انقضت ثمانية وعشرون عامًا، استقام بعدها أمر الممالك، وصارت أحوالها إلى حال شبيه بما كانت عليه الأمور في البلد المسمى ﺑ «هواشيو»، غير أن الإمبراطور كان قد صار إلى الروح الملائكي [كذا، حرفيًّا، بمعنى: وافاه الأجل المحتوم]، فحزن الناس عليه، وظلوا مائتي عام يتألمون حسرة على وفاته.

[٢]

في منتصف جزيرة «خايهي» ينتصب جبل «ليقوي»، ويقيم فوق قمة الجبل رجل (من أهل الخوارق والمعجزات) أنفاسه شذا الريح، وشرابه الطل والندى، لا يطعم شيئًا مما يأكل الناس [حرفيًّا: لا يقرب شيئًا من الحبوب الخمسة] قلبه كعين ماء صافية، وجهه كوجه عذراء في خدرها (لم يُدخل بها) قد احتجبت مشاعره عن الحب وعلائق الود؛ الملائكة والقديسون واقفون لديه يأتمرون بأمره [حرفيًّا: يقفون لديه موقف الخادم من سيده] لم يتسلط بالهيبة، ولا ندت عن ملامحه سيماء الغضب، بيد أنه في غنًى عن ذلك؛ لأن التابعين رهن إشارته من تلقاء أنفسهم؛ قد تنزه عن أن ينال مواهب الإحسان من أحد أو أن يتفضل بالعطاء أو المن على أحد؛ فلا هو يُعطي ولا يُعطى إليه؛ مأكله بيده لا بيد الناس؛ لم يجمع لديه ذخائر المال، ومع ذلك فلم تعوزه حاجة ولا شانه فقر.

قد طالما تآلف اﻟ «ين» واﻟ «يانغ»، ولطالما أشرق النور في الأوقات وتناغمت الفصول وجرت الريح والمطر بمقدار معلوم، والتأمت مواقيت الحرث والنسل، فما خالفت المحاصيل سنن الحصاد، ولا نزلت بالأرض جائحة وباء، ولا اختطفت يد الموت روحًا قبل الأوان. انسدل ستر وقاية فوق كل الموجودات، فلم تنزل بالأنحاء نازلة، ولم يتعبد لأشباح الشر عابد، ولا مد لها سماطًا أو قرَّب قربانًا.

[٣]

كان ليتزو قد تعلم على يد أستاذه «لاو شانغ»، واتخذ من «بو كاو تزو» صديقًا، وأُتيح له أن ينهل على أيديهما العلم والمعرفة، فلما أتم تحصيل العلم لديهما، ركب أجنحة الريح عائدًا إلى مسقط رأسه، فلما سمع «هينش» [أحد تلاميذ ليتزو] بقدومه، لحق به وصار يتبعه أينما ذهب، ثم أقام معه حتى طالت الأيام، دون أن يعود إلى أهله، ثم عنَّ له أن يتلقى العلم على يد ليتزو، فتقدم إليه راجيًا أن يعلمه شيئًا من العلوم، وألحف في الطلب عشر مرات، دون أن يستجيب له، فوقعت الحسرة في نفسه، واستأذنه في الانصراف إلى أهله، فلم يكترث ليتزو بالرد عليه، (فقام وعاد إلى بلده) ولم يكد يستقر هينش بين أهله عدة أشهر، حتى حدثته نفسه بأن الأمر لا يمكن أن ينتهي عند هذا الحد، فسعى مرة أخرى إلى ليتزو، حيث قال له الشيخ: «فيمَ ترددك ذهابًا وإيابًا، هكذا؟» فأجابه قائلًا: «إذا سمحت لي، أود أن أقول لك بأني تلميذك وتابعك، هذا أنا «تشانغداي» [هو نفسه «هينش»، بلقب آخر] كم وددت أن تعلمني شيئًا، وذكرت لك ذلك فيما سلف، فلم تكترث لي، فأسفت أشد الأسف، وتغيرت مشاعري نحوك، لكني الآن قد تجاوزت ما قد مضى، وزال عن النفس كدرها، فجئتك ثانية.» فقال له ليتزو: «كنت قد ظننت بك الفهم الراجح والقلب الذكي، لكني اكتشفت، الآن، أنك ضحل الفهم سقيم الوعي، فاجلس حتى أقص عليك طرفًا ممَّا كان بيني وبين أستاذي، وكيف استفدت منه العلم والمعرفة؛ فقد بقيت إلى جواره ثلاث سنوات أقوم على شئونه وأقضي له حوائجه، حتى صرت منه في منزلة الأخ والصديق، ولم أكن قد تأملت في قرارة نفسي، أصول الفكر ومبادئه [حرفيًّا: لم يدُرْ بذهني، قط، التفكير في ماهية الخير والشر] ولا نطق فمي بشيء حول ما ينبغي وما لا ينبغي [حرفيًّا: لم أتكلم عن النفع والخسارة والكسب والاكتساب] وبقيت هكذا، حتى ظل أستاذي غير مكترث بي، لا يكاد ينظر نحوي حتى ترتد نظراته عني، وبعد خمس سنوات أخرى، كنت قد بدأت أتأمل بعقلي ماهية الخير والشر ولهج لساني بالكلام عمَّا هو نافع وضار؛ ثم إذا بأستاذي وقد انفرجت أساريره، ووثقت بي آماله، وكان أن انقضت سبع سنوات كاملة، صرت بعدها أطلق لتفكيرى العنان، دون أن أتوقف كثيرًا عند تلك المبادئ السائدة في قلوب الناس وأذهانهم — حول ما هو صحيح وفاسد — ثم نطق مني ناطق الفكر، فلم ألهج بالحديث عمَّا ينفع أو يضر، فهنالك صار المعلم يجلسني إلى جواره، فارتفع بذل مقامي، وصرت لديه مبجلًا عظيم القدر، وبعد تسع سنوات كنت أروح وأغدو في ساحات الفكر، كيفما شئت، وطفق لساني يجول في كل وادٍ، فما عدت أتكلم أو أفكر فيما هو نافع وضار أو صحيح وسقيم، وما عاد يخطر لي الاهتمام بذلك، بل ما عدت أكترث إذا ما كان لاو شانغ أستاذي ومعلمي، أو ما إذا كان «كاو تزو»، صديقي وصاحبي؛ فقد تساوى ما في داخل هيكل الجسد مع ما يقع خارجه، وصار الأنا والآخر صنوين، ثم أصبحت العين تفعل فعل الأذنين، وأمست الأذنان والأنف تسعى جميعًا مسعًى واحدًا، وباتت الحواس كلها [حرفيًّا: الأنف والفم]، تتكامل أدوارها.

إنه ما إن تتكاثف الخواطر حتى تذوب الأجساد ويصير نسيج كل لحم وعظم شيئًا واحدًا، حتى يفقد الجسم ثقله، ولا يعود للبدن متكأ يستند إليه، فتمشي القدمان حسب اتجاه نسائم الريح، إن شرقًا وإن غربًا، تندفع في هبوب النسيم كأوراق شجر ذابلة، فهل كنت [حين ركبت الرياح] قد حملتني أجواؤها أم أنا الذي امتطيت ظهرها؟ ثم ها أنت ذا، لم تمكث سوى وقت أقل من القليل، وقد أصابك الضجر، فلا أظن أن نسمة هواء يمكن أن ترتفع ببدنك، ولا أظن أن الأرض تحوط بالعناية أطرافك، فهل ترى يمكنك أن تشق دروب الفضاء بأقدامك أو أن تسعى في الهواء على أجنحة الرياح؟» وعندئذٍ، شعر هينش، بعد أن سمع كلام أستاذه ببالغ الخزي، فأطبق فمه ولم ينبس بشيء، من حينئذٍ.

[٤]

كان ليتزو قد سأل كوانين، قائلًا: «إن أكثر الناس خلقًا، لا يغرقون في الماء مهما غطسوا في الأعماق، ولا تحرقهم النار وإن مكثوا فيها أوقاتًا، ولا ترتعش أوصالهم وإن ساروا فوق ذرى الجبال الشاهقة، فكيف بلغوا هذه المنزلة الشريفة؟» فأجابه: «إنما يكمن السبب فيما تمتعوا به من روح الإخلاص، وليس لعبقرية خارقة أو إرادة قوية، فاجلس دونك، وأنصت لي جيدًا.

فمن المعلوم بداهة أن الأشياء ذات شكل وملامح، (لكن تأمل، معي، هل ترى برغم ما تتسم به الأشكال كافة من عنصري الشكل والملامح …) هل ثمة فرق كبير بين شيء وآخر؟ ما الذي يجعل الأشياء تبدو وكأنها تملك قدرًا من التمايز والاختلاف؟ وأقول لك إنها الملامح والسيماء لا أكثر. إن أصل الأشياء جميعًا، يبدأ حيث لا شكل ولا مظهر، ثم إن نهاية كل الأشياء هي تلك الحالة التي تتوقف فيها عن التغيير. إن من يفقهون هذه المسألة، وينعمون النظر فيها، يوهبون المقدرة التامة على التدبر والعمل، دون أن تقف في طريقهم أية عقبات أو موانع. إن من يحيط بتلك الأمور علمًا، سيقف عند الحد الأنسب، ثم تدور به دائرة اكتمال النمط الأبدي، النمط الذي يسير به النظام الدائب في كل شيء، فيتحرك حركة بدء الموجودات ومنتهاها، ثم تثبت له طبيعة واحدة، وتدوم له دوام الطبع المعهود، فإذا حفظ على نفسه قوته وحيويته الذاتية، والتزم بالأخلاق سلوكًا ومبادئ، رسخت لديه (تلك الطبيعة) وصارت له سندًا في اكتناه حقيقة كل شيء.

وعندما يبلغ المرء هذه الدرجة، ترتقي طبيعته مرتقًى لا مزيد عليه، وتترقى إرادته وقوة روحه في مدارج الشرف الأسمى، والبهاء الأكمل، فمن ذا يستطيع أن يستلب منه ما اختص به من شكل وملامح؟ إن سكيرًا تزل به قدماه، وهو مترجِّل من عربة، سيقع على الأرض ويرض جسده وتدمى أعضاؤه، لكنه لن يفقد روحه. وبرغم أن أطرافه وعظامه وكل أعضاء جسمه تتطابق في تكوينها مع العناصر التي تتكون منها أجساد الناس جميعًا، فإن إصابته تقتصر عليه وحده؛ فالأطراف دامية، والبدن مرضوض؛ لكن الروح تامة والطاقة وافية وصحيحة، والرجل غائب عن الوعي بكل ذلك، سواء وهو في العربة، يتمايل من الثمالة، أم وهو يترجل ليسقط على الطريق، قد فرغ قلبه من مشاعر الخوف والقلق، ومعنى الحياة والموت؛ وبالتالي، فقد تلاشى خوفه من حادث السقوط المفاجئ، فإذا كان هذا حال سكير ذاهل عن الوعي، ارتطم بالأرض ولم يفقد روحه، فما بالك بمن حاز كمال الطبع وتمام القوة الطاهرة النقية؟ قد ائتلف القديسون بالسماء، فتآلفت بهم واجتمعت بهم كيانًا واحدًا، فهل يمسسهم شيء بضر؟»

[٥]

أراد «ليو كو» أن يستعرض أمام صاحبه «بو هن ماورن» شيئًا من مهارته في فن الرماية، فجذب القوس على استطالته، وتعمد أن يضع كوبًا مليئًا بالماء على مرفقه، وهو يرمي بالسهام، واحدًا في إثر الآخر، دون انقطاع، وهنالك بدا الرامي «ليوكو» كأنه دمية تتحرك بطريقة آلية [لا حياة فيها]، فنظر إليه صاحبه، وقال له: «تبدو، وأنت ترمي عن قوسك، كأنك تستعمل يدك الآلية، دون روحك المبدعة، الخلاقة فماذا لو صعدنا معًا إلى قمة جبل، فوطئنا حافة الجرف، وتحتنا هاوية سحيقة، فهل تستطيع، حينئذٍ، أن تنظر إلى الأغوار من تحتك، وترمي عن القوس، كما تفعل الآن؟» ثم إن «بو هي ماورن» صعد إلى أعلى قمة فوق الجبل ومشى إلى حافة الجرف حتى أشرف على الغور السحيق الذي انغرست فيه رءوس الأحجار المدببة كرأس السكين، واستدار ثم عاد خطوتين حتى صار عند الحافة مباشرة، يكاد إذا مال إلى الخلف أن يسقط فيها، وطلب إلى ليوكو أن يتقدم، حتى يصير بمحاذاته، فإذا برفيقه الرامي ينبطح أرضًا، من الهلع، وقد غمر العرق جسده كله، فقال له بو هن ماورن: «إن أكرم الناس خلقًا، وأعظمهم مواهب وخصال، يملكون القدرة على استبصار آفاق السماء والتعمق في أسرار الأرض، وقد يذهبون إلى آخر المدى، لا يردهم خوف ولا تثنيهم المشاق، ولا تتبدل سيماهم ولا أفئدتهم، فما بالك وقد تملَّك الخوف منك، وتحجرت عيناك حتى برزتا عن مقلتيهما. إن بينك وبين فهم أسرار وفنون ومهارات الرماية شوطًا بعيدًا وبونًا شاسعًا جدًّا.»

[٦]

كان النبيل الماجد «فان» [أحد النبلاء بدولة جين، إحدى الممالك القديمة] من مشاهير الأعيان، في الزمن القديم، وكان له ولد يُدعى «تسيهوا»، وقد مال بكل مشاعره إلى الفروسية والنبالة، بكل معانيهما؛ حيث الإسراع إلى نجدة الضعفاء وحفظ عهود الصداقة٢ فعرف الجميع له هذا الفضل، وأقروا له بالسيادة والشرف، وشمله جلالة الملك، حاكم دولة جين، بحبه وتقديره؛ حتى حظي بمكانة لا تدانيها سلطة كبار رجال الدولة [حرفيًّا: سلطة أعظم مما تقع تحت يد رجال القصر والممالك الثلاث: جاو، خان، وي] حتى إن الملك كان يسلم له بسلطة التقدير الصائب، فأنعم على من كان يراهم جديرين بالتكريم، وقرَّبهم إليه، واستبعد غير الأكْفاء، بل صار الناس يفدون إلى النبيل تسيهوا، وكأنهم ذاهبون إلى القصر الملكي، وكان يطلب إلى رفاقه من الفرسان النبلاء أن يتبارزوا في ساحات التنافس وأن يتناحروا في مباريات الذكاء والفروسية، حتى لو أدى ذلك إلى شنيع السباب والتشاتم بين الفائزين والمهزومين، ورغم حدة التنافس، وما كان ينجم؛ أحيانًا، من كدمات أو رضوض، فلم يكن أحد منهم يحمل أي ضغائن للآخر، في نهاية الشوط، وشيئًا فشيئًا، تحولت تلك المباريات إلى (مهرجانات) ومناسبات للهو والتسلية، وكادت تصبح عادة مألوفة، في طول البلاد وعرضها.

وكان في بعض الأيام أن اثنين من أنجب تلاميذ النبيل، وهما «ها شن»، و«تسيبو»، وقد خرجا من عنده بعد ضيافة كريمة، قصدا إلى التنزه في أطراف الإقليم، ومرا بكوخ مزارع يُدعى «شان تشيو كان»، فأقاما ليلتهما، وفي آخر ساعة من الليل راحا يتحدثان عن عبقرية أستاذهما تسيهوا، ومبلغ شهرته الذائعة وقدراته السحرية الخارقة، وكيف أنه يستطيع أن يميت الحي، ويحيي الميت [كذا] ويفقر الغني ويغني الفقير (… إلى آخر تلك الخوارق) ولما كان المزارع «شان تشيو كاي»، ساكن الكوخ، لا يجد إلى النوم سبيلًا؛ بسبب الجوع والبرد، فقد راح يسترق السمع من وراء النافذة المفتوحة (وسمع كل ما دار بشأن معجزات النبيل)، وفيما بعد، فقد حمل شيئًا من الحبوب والسلال، وذهب إلى منزل النبيل تسيهوا، وكان تلاميذ الرجل وأتباعه ينتسبون إلى أسر وعائلات ذات جاهٍ وشرف، يركبون عربات مطهمة، وهم يرفلون في ثياب من حرير، وإذا مشوا فسيرهم الهوينى، في تؤدة وثقة يشمخون بأنوفهم، في عزة وسؤدد، فلما التفتوا ورأوا شان تشيو كاي، بوجهه الكالح وهيئته المزرية؛ وقد تهدلت ثيابه واتسخت أقدامه، استصغروا شأنه ورموه بالنكات اللاذعة، بل جعلوا يدفعونه بأيديهم؛ إمعانًا في إهانته والنيل منه، لكن شان تشيو كاي احتمل الأذى ولم يغضب مما صنعوه به، وكانوا قد ذهبوا في التنكيل به كل مذهب، حتى أعيتهم الحيل وضاقوا ذرعًا من العبث به، ثم إنهم سمحوا له بأن يصعد معهم إلى حافة الجرف العالي، فما إن بلغوا تلك البقعة الشاهقة حتى تفتقت أذهانهم عن حيلة ماكرة؛ إذ تحلقوا حول بعضهم بعضًا واتفقوا على أن من واتته الشجاعة على إلقاء نفسه من فوق الجرف، فسوف يستحق مكافأة مقدارها مائة مثقال من الذهب، وصاروا يتظاهرون بالتكالب على تجربة هذه المحاولة في القفز المميت، ووقع في ظن شان تشيو كاي أنهم جادون فيما ذهبوا إليه من أمر هذه المسابقة، فإذا به يسبقهم جميعًا ويلقي بنفسه من فوق هذا الارتفاع الشاهق، فطار في الهواء كعصفور محلق بجناحين، وحمله الهواء رفيقًا به، وحط فوق الأرض كما يحط الطائر بخفة ورشاقة، فلم ينحطم عنقه ولا تهشمت عظامه؛ وظن أتباع النبيل أن الأمر مجرد مصادفة طيبة، أو لعلها إحدى الخوارق والأعاجيب، فقالوا لبعضهم بعضًا، وهم بشاطئ النهر الكبير: «في باطن البحر كنز ثمين، من غطس إلى القاع صارت الغنيمة له.» ولم يلبث شان تشيو كاي أن قفز إلى الماء، وبعد هنيهة طفا على وجه النهر وبيده الكنز، فألجمت الدهشة أفواه الجميع، وعندئذٍ، فقد سارع تيسهوا بدعوته للانضمام إلى جمع الأتباع والتلاميذ، وأنعم عليه بأحسن الطعام وفاخر الثياب، وبعد أيام، شبت النيران في خزائن النبيل الماجد، فذهب إلى شان تشيو كاي، قائلًا له: «انظر، هل تجد في نفسك الاستعداد على اقتحام النيران كي تأتي لنا بما يمكن الفوز به سليمًا من الأثواب والحرير، على أن تحوز لنفسك كل ما استنقذته يداك.» فلم يتردد الرجل لحظة واحدة، بل جرى وسط اللهب وعاد سليمًا، صحيح البدن، مكتمل البهاء؛ فلا النار آذت جلده ولا التهمت عظامه، واقتنع أصحاب الماجد النبيل بأن الرجل ذو قدرات خارقة وأنه يعرف أسرار الطاو، فاعتذروا إليه جميعًا، قائلين: «قد سخرنا بك، ولم نكن نعرف أنك راسخ في الطاوية، وحططنا من قدرك، برغم أنك قديس طاهر، كم كنا سفهاء حقًّا، ولك أن تعدَّنا من الصم والبكم الذين لا يفقهون قولًا ولا يرشدون، أو من العميان الذين غُشي على أبصارهم، لكن ائذن لنا أن نسألك عن سر خوارقك الطاوية، أين تعملتها وكيف؟» أجابهم شان تشيو كاي، قال: «لا أعرف شيئًا من أسرار الطاو، ولا من القدرات السحرية، بل إني ما كنت أعرف، فيما بيني وبين نفسي أني كنت أقدر أساسًا، على إتيان تلك الأعاجيب التي رأيتموها، ورغم هذا، فلا بد أن أصارحكم بأمر مهم للغاية، فقد حدث أن نزل عليَّ في داري ضيفان من أصحابكم، وسمعتهما يتحاوران؛ إذ ورد في كلامهم شيء عن أنه يميت الأحياء ويحيي الأموات، ويفقر الأثرياء ويثري الفقراء، فصدقت هذا القول بكل كياني، لم يساورني فيه أدنى شك مما قد يتبادر إلى الذهن في هذه الأمور، ولم أتوانَ عن المجيء، خصوصًا أن المسافة ليست بعيدة، فلما حللت بأرضكم وقابلت النجباء من قومكم، آمنت بصدق أقوالهم وأخذت كلامهم على محمل الجد، وقلت في نفسي، إنه إذا داخلني الريب في كل ما يقال فسيحبط مسعاي، ولن أقدر على أن أنال شيئًا من العلم، بالتالي، فلم أشغل نفسي بالتفكير فيما يمكن أن يحل بجسمي أينما حل، ولا بالضر كيف يصيبني، أو بالنفع أنى يرد عليَّ، لم أعبأ بكسب أو خسارة، فتحققت نفسي بصدق النوايا وتمحضت بالإخلاص، فكان أن نفذ سلطان الطاعة في مادة الأشياء، فما من شيء إلا قد أذعن لنفس صادقة الطوية، بريئة من شوب التماري، فكان ما قد رأيتم وعلمتم. أما الآن، وقد أدركت أن القوم كانوا يسخرون مني ويهزءُون بي، فقد داخلني شيء من الظنون واعتمل في صدري الهاجس، وانقبض هيكل الحواس من الوجل، وانفتحت طاقات من الحذر والترقب، ترهف السمع، ارتيابًا، وتطيل النظر، من الوجل؛ حتى إذا تفكرت في الكيفية التي نجوت بها من الغرق والحريق، أصابني الرعب وارتج زلزالي، وطرقتني النوازل، فكيف لي بعد اليوم أن أقرب حفنة من ماء بحر أو قبسًا من نار تلظى؟»

وصار التابعون من تلاميذ الماجد النبيل، من بعدئذٍ، إذا مروا في طريقهم بشحاذ أو مسكين، أو حتى، لو كان مخلوقًا على هيئة الوحوش في البرية، سلكوا معه مسلك التبجيل والاحترام، من دون تكبر أو تحقير شأن، فكانوا يترجلون ويؤدون له التحية.

وإذ سمع «تسا يهي» [أحد تلاميذ كونفوشيوس] بهذا الأمر، فقد أسرع إلى كونفوشيوس، يقص عليه ما جرى، فقال له الشيخ: «وهل تخفى عليك حقيقة الأمر في هذا؟ (ألا فاعلم …) أن أصدق الناس إخلاصًا يستطيعون أن يمنحوا الأشياء الجامدة طاقة من الإحساس بالحياة، ويستطيعون كذلك، أن يفرضوا سطوتهم على السماء والأرض [حرفيًّا: يحركونها بأيديهم]، وأن يأمروا الأشباح أن تهرع إلى أقصى موضع في السماء أو الأرض، فتذعن لهم [حرفيًّا: تأمرهم بالذهاب سريعًا، إلى الجهات الستة، شمال، جنوب، شرق، غرب، أعلى، أسفل؛ فلا يسعها إلا الانصياع لهم] فليس القفز من ارتفاع شاهق ولا الغوص في الماء أو البقاء سليمًا وسط النار سوى بضعة نماذج لما يستطيع صاحبنا أن يفعله، وإذا كان شان تشيو كاي قد استطاع أن يمتلك كل تلك الخوارق، لمجرد أنه مال بأذن مخلصة وقلب صدوق لترهات من أكاذيب النجباء التابعين، فما ظنك لو أن كليهما اتخذ مع صاحبه المسلك الصادق، وتصرف بقلب سليم.»

[٧]

كان للملك شيوان، حاكم دولة تشو الغربية، عامل يُدعى «ليان يانغ»، وكان مكلفًا بتربية الوحش والطير، في حدائق مسورة؛ وبرغم ما تميزت به أصنافها من الشراسة، كالنمور والذئاب والنسور والجوارح [حرفيًّا: «الشماط»، من آكلة الأسماك]، إلا أنها بدت وديعة لطيفة مذعنة في هدوء وانسجام، (لنظام حياتها، تحت إشراف هذا العامل الماهر) … وقد نزا الذكر على الأنثى، وتكاثرت جموعها واختلطت ببعضها بعضًا، فلم يقع بينها عراك، ولم يخمش أجسادها مخلب الشجار، ولا كشرت لأصحابها عن أنياب الافتراس، وتفكر الملك في أن الفضل في هذا الحال يرجع إلى مهارة عامله، وأن المهارة الفنية قد تموت بموت صاحبها، فطلب إلى «ماو تشيو يوان» أن يتعلم من الأستاذ، ويرث منه ميراث فنه، فتكلم ليان يانغ، قائلًا: «لستُ إلا عاملًا بسيطًا، فكيف ألقنك أسرار العلم، وأنا أقل من أن أحوز مكانة بين الناس؟ ولولا أن يظن جلالة الملك بي الظنون، وشاع عني أني أكتم المعرفة لأغلقت فمي، لكني؛ على كل حال، سأقص عليك طرفًا من بند إطعام النمور: والقاعدة العامة في هذا، أنك إذا سايرت طباعها وأمزجتها انبسطت أساريرها، أما إذا خالفتها فقد أحنقتها عليك، وذلك طبع جارٍ في كل وحشي مفترس، حاد المزاج، ثم إن الرضا والغضب يُستجلبان بدوافع وتستحثهما أسباب ولا ينشآن من عدم، والمعاندة أساس كل عنف وغضب، فحذارِ إذا أقدمت على إطعام النمر، أن تأتي له بفريسة حية؛ لأنك لا تأمن غضبه بعد أن يهاجمها ويفتك بها، ولا تقدم له ذبيحة مكتملة الجسد؛ لأنك لا تضمن أن يثور هائجًا، بعد أن ينقض عليها ويمزق أوصالها. وهكذا، فلا بد من أن تراقب أحواله، سواء شبع أو جاع، وأن تدرك كنه غضبه وثورته.

يختلف النمر عن الإنسان، ومع ذلك، فليس يختلف الأمر كثيرًا (في أحوال مخصوصة)؛ فالتودد إلى الجائع وغوايته يجلبان رضاه، سواء كان من النمور أم البشر، بينما إن إرغام الآكل على التهام وليمة، لا يفضي — عادة — إلا إلى السخط والتذمر، أليس كذلك؟ على أن التودد والتلطف والغواية، ليست أساليب مضمونة لاستجلاب الرضا (في كل الأحوال)؛ لأن لذة الرضا، إذا طغت، أشبهت الغضب؛ والتذمر إذا ثارت ثائرته، رتع في مراتع البهجة والسرور (فرح بما واتته الثورة من الطاقة)؛ وكلاهما يقعان في غير موضعهما الطبيعي واللائق بهما. أما وقد تنقت النفس من كوامن الإذعان والمعاندة، فقد وجَدَتْ في الوحوش والجوارح ما كانت تجده في رفاقها، فأذعنت لي وانقادت، كيفما سرت بها سارت، فهكذا ائتلف الوحشي وراء أسوار حدائقي، في هدوء ودعة كالأليف الداجن؛ فلا هو قد هرب إلى الغاب، ولا فزع إلى البرية، بينما جثت الكواسر فوق الغصون، لم تفر إلى الوديان ولا هاج بها الحنين إلى رءوس التلال، فقد بدا لك ما رأيت من الأحوال؛ بفضل ما ساد من الانسياق إلى حكم الطبائع.»

[٨]

ذهب يان هوي [تلميذ كونفوشيوس] إلى الأستاذ الأكبر، وسأله في مسألة، راح يعرضها عليه، قائلًا: «كنت أعبر نهرًا عميق الغور [حرفيًّا: هاوية مثل قعر كأس طويلة]، والقارب يمرق وصاحب القارب يجدف ببراعة، فسألته، قلت: «هل يمكن لمثلي أن يتعلم التجديف؟» فأجابني: «طبعًا، بكل سهولة؛ فمن يتقن السباحة، يسهل عليه التجديف، فالسباح يستطيعه وكذلك الغواص الذي ربما لم يسبق أن شاهد في حياته قاربًا بمجداف.» فلما سألته عن السبب في ذلك، لم يكترث للإجابة، فهل لك يا سيدي، أن تجيبني عن هذا السؤال؟ فقال له كونفوشيوس: «أبَعْد كل هذه المناقشات بيني وبينك، ودروس العلم الكثيرة والقضايا، التي تكلمنا فيها معًا، تظل عاجزًا عن بلوغ مرتبة التحقق من الأمور بالبرهان الدامغ والحجة البليغة؟ على أية حال، فلا يسعني الآن، إلا أن أقول لك (… وبشكل عام)، إنه من السهل على من يجيد السباحة أن يمهر في التجديف؛ لأنه اعتاد الطفو وإذا كان السباحون يستطيعون التجديف بصورة أساسية، فإنما يرجع ذلك إلى أنهم اعتادوا التحرك فوق سطح الماء، فصارت الحركة الطافية عادة سائغة لهم، ونسوا أمر القاع العميق؛ فأما الغواص الذي لم يرَ في حياته قاربًا، ثم إذا به يجيد التجديف بكل سهولة؛ فلأنه اعتاد النظر إلى قاع النهر السحيق، كأنه طريق وسط تلال، وما قد يبدو للناس من خطر انقلاب القارب، سيبدو للغواص كأنه خطوة إلى الخلف في طريق جبلي صاعد، فكل مخاطر الركوب في قارب لن تثير لديه أدنى اهتمام، ومن هنا يمضي في طريقه رابط الجأش، هل ثمة ما يمنعه عن هذا؟ إن اللاعبين بقطع الطوب والحجارة يبلغون حد المهارة الفائقة [لعبة صينية قديمة يحرز فيها اللاعبون ما في يد رفاقهم من عدد القطع]، أما اللاعبون بقطع من الفضة، فينالهم قدر من القلق والإرهاق. أما من يلعبون بقطع من الذهب، فيكاد يُغشى عليهم بين تارة وأخرى، فقواعد اللعب لا تتغير، واهتمام المتنافسين لا يتبدل، في كل الأحوال، لكن الاختلاف يكمن في درجة الاهتمام بالأدوات والوسائل، فكل من صرف انتباهه لوسيلة خارجية، عند حافة حدود الجسد، سيفقد بالضرورة طاقات موهبته الداخلية ويُصاب حتمًا بالغباء والتبلد».»

[٩]

كان كونفوشيوس يتنزه عند أحد السدود النهرية [حرفيًّا: منطقة «ليو ليانغ»]، وكان الماء يهدر من ارتفاع ثلاثين «رن» [الرن: ثمانية أذرع صينية، بالمقياس القديم]، وطفا الزَّبَد على وجه النهر مسافة ثلاثين «لي»، حتى تعذَّر على التماسيح الكبيرة والسلاحف ذات الدروع والسلاحف العظيمة أن تقرب مصب الشلال الهادر، في هذه المنطقة، ثم إذا به يشاهد شابًّا يسبح في الماء، فظن كونفوشيوس أنه ضائق بحياته باحث عن حتفه، فطلب إلى تلاميذه الإسراع إلى إنقاذه، ثم إذا بالشاب يشق عباب النهر ويمرق كالسهم مائة خطوة أو يزيد، ويخرج عند حافة الماء وقد تهدل شعره ومشى يغني طربًا، وهو مأخوذ بروعة المناظر البديعة من حوله، فلحق به كونفوشيوس، وسأله: «هذا شلال ليو ليانغ، يهدر من ارتفاع ثلاثين «رن»، وقد أثار الزبد على سطح الماء ممتدًّا لمسافة ثلاثين «لي»، حتى فزعت أفراس النهر والتماسيح والسلاحف من شدة هدير الماء، ففرت مبتعدة، إلا أنك نزلت وسبحت، غير هيَّاب، فحسبت أنك مهلك نفسك، وقد ضقت ذرعًا بحياتك، فأرسلت تلاميذي لإنقاذك، لكنك خرجت من النهر تتنزه وقد نثرت شعرك فوق كتفك، لاهيًا جذلًا، فظننت أنك عفريت من الجن، ثم لما دققت النظر، فإذا بك إنسي من البشر، فاسمح لي بالاستفسار إن كنت ذا مقدرة خارقة في السباحة أو في إجادة ضرب من فنون السحر [حرفيًّا: فنون الطاو]؟» فأجابه الفتى قائلًا: «كلا، فلست على شيء مما تظن من المقدرات الخارقة، بل قد وجدت في نفسي القابلية والاستعداد والموهبة للسباحة منذ بدء حياتي، وتطورت مقدرتي بالدأب والمثابرة، وأتمت المقادير صنعها، حتى صرت أدور في الماء مع الدوامات السابحة وأطفو مع فقاعات الهواء، وأعوم كأني قطرة من ماء جارٍ، دون أن أظن بنفسي أية قدرة سحرية، فتلك — إن أردت — هي أسرار فنون الطاو التي لديَّ، لا أكثر من هذا ولا أقل!» وعندئذٍ التفت كونفوشيوس إلى تلاميذه وقال لهم: «أتدرون معنى ما يقال من …» «البدء بتقدير الأسباب»، و«المثابرة منشأ الاعتياد»، و«الاكتمال بيد القدر؟» فأجابه «نانزي»، قائلًا: «(معناها إني إذا) نشأت بمنطقة جبلية، فستكون الجبال والتلال جزءًا مما تألف طبيعتي، أما إذا وُلدت عند شاطئ البحار والأنهار، فسوف ينشأ عندي الاعتياد والخصائص التي تنطبع بكل ما يتصل بالمياه والسباحة، وبالتالي أصير سبَّاحًا ماهرًا، دون حتى أن أتعمد شيئًا من مهارة السباحة والغطس، وتصبح الأمور وكأنها قد بلغت حد الاكتمال على يد الأقدار.»

[١٠]

كان كونفوشيوس مسافرًا، في طريقه إلى دولة «تشو»، وأشرف من بين أشجار الغابة الكثيفة على الدروب الواسعة، فإذا به أمام كهل قد احدودب ظهره، وهو في أرذل العمر، ومع ذلك، فكان يصطاد الفراشات وهي طائرة في الهواء، بكل براعة، كأنه يلتقط بأصابعه قطوفًا دانية، فاقترب الحكيم من الرجل، وقال له: «يا لمهارتك! تُرى ما السر في قدرتك البارعة على اصطياد تلك الفراشات بأجنحتها الدقيقة؟» فأجابه قائلًا: «السر في ذلك أني ظللت طوال ستة أشهر أضع كرتين من طين على رأس عمود الخيزران، وأدرب نفسي على الاحتفاظ بهما ثابتتين في مكانهما حذر السقوط، لعلي أثبت في حال اصطياد الفراشات، فلا تبدر من يدي أقل هفوة، ثم أضفت كرة ثالثة إلى رأس الخيزران وجعلت أحفظ توازنها بالتدريب المتواصل، فزادت مرات النجاح في الإمساك بالفراشات وتضاءلت مِن ثَم مرات السقوط، ثم جعلت الكرات الطينية خمسًا وأحكمت السيطرة عليها حتى بلغت القدرة على اصطياد الفراشة على بُعد المسافة، وكأنني ألتقطها بأصابعي. قد تحكمت في حركات جسدي حتى صرت كجذع شجرة ثابت ضارب بفرعه في الهواء، ثم كنت أمد ذراعي عاليًا بقوة وثبات، كأنه غصن جاف، مديد الاستقامة شديد ضارب في المدى، وبرغم سعة الفضاء واتساع ما بين الأرض والسماء وكثرة الأشياء في كل مكان، فلم يكن يعنيني في الدنيا بأسرها، سوى القبض على جناح فراشة، لا يشغلني عن ذلك شيء آخر، ولا يشد اهتمامي أي أمر سوى هذا؛ فلم يكن لأي شيء في الدنيا أن يثنيني عن التحفز لاصطياد الفراشات، فهل تظن بعد كل هذا التركيز والإصرار أن أفشل في مهمتي؟» والتفت كونفوشيوس نحو تلاميذه وقال لهم: «إن العزم والإرادة بالإضافة إلى التركيز والتصميم يحشدون الطاقة تجاه المعجزة، ذلك هو ما يود هذا الكهل المحدودب الظهر أن يقوله.» وعندئذٍ، قال له الكهل: «يبدو على سيماك أنك من الدارسين الذين يرتدون ملابس فضفاضة ذات أكمام واسعة، فما شأنك إذن بكيفية اصطياد الفراشات، فأصلح من شأن أفكارك وعلومك، أولًا، ثم ارجع إليَّ كي أعلمك وأقص عليك ما يتوجب تدوينه في الأوراق.»

[١١]

كان أحد المعجبين بطيور النورس يقيم بالقرب من شاطئ البحر، ولم يكن يغفل في كل صباح أن يقوم، مبكرًا، ثم يذهب إلى الشاطئ فيدخل في زمرة النوارس ويمرح معها، وهي تطير فوقه وحوله ومن ورائه وأمامه، بالعشرات والمئات، ولا تكف عن الدوران حوله، كأنها تطير به ومعه، وكان أن قال له أبوه، ذات يوم: «بلغني أن الطيور تميل إليك وتداعبك وتمرح معك، وهذا شيء عُجاب، ألا يمكنك، إذن، أن تصطاد لي فرخًا منها؛ كي أداعبه وأفرح كفرحك بها؟» فلما قصد في اليوم التالي إلى الشاطئ، فوجئ بالنوارس تحلق في الأجواء العالية، مبتعدة عنه قدر الإمكان، وظلت طوال اليوم حريصة ألا تقترب منه؛ فلذلك قيل: (في الحكمة القديمة …) إن أبرع اللغات لا تحتاج إلى ألفاظ وكلمات، وأنبل الأفعال لا تحتاج إلى دفع الأجساد وتحريك الأوصال، إن المرء لا يحتاج لكي يكون سطحيًّا سقيم الذهن، سوى أن يسد طريق بصيرته بيديه.

[١٢]

ذهب «جاو شيا نزي» [أحد نبلاء دولة «جين» في العصور القديمة] على رأس ألوف الألوف من الصيادين إلى جبال «جونشان» في رحلة صيد برية، وسارت الجموع الغفيرة تطأ الحشائش بأقدامها في جلبة وهرج، وحدث أن أفلتت شرارة من اللهب، فأضرمت الحريق في الغابة وامتد اللهب في أرجاء شاسعة، ثم إذا بالجميع أمام رجل قد خرج فجأة، من بين شقوق الجدار ثم ارتفع في الهواء على رءوس اللهب ونزل مع الرماد، كأنه عفريت من الجن، فلما خمدت النار، مشى خارجًا في تؤدة كأنه لم يمرق عبر جدار أو يمشي على حواف النار؛ فذهل جاو شيا نزي وأمسك به وراح يتفحصه مليًّا، فإذا الوجه والشكل واللون والفم والأنف والحواس، كلها تشير إلى أنه إنسي ككل الناس، وكان ينفث الهواء من منخاريه ويحرك لسانه بالكلام ككل الناس، فسأله عن سر إقامته بين شقوق الجدار، وعن الطريقة السحرية التي تمكن بها من أن يمشي وسط النار دون أن يحترق. فقال له الرجل: «لا أدري ماذا تقصد بالجدار، ولا معنى كلمة النار!» فأجابه جاو شيا نزي، قائلًا: «الجدار هو ذلك الموضوع الذي خرجت منه منذ قليل، أما النار، فهي تلك التي كنت تمرق خلالها منذ برهة. «فقال الرجل لست أفهم شيئًا البتة.» وترامت الأخبار إلى مسامع الأمير «أونهو» [أحد مؤسسي دول «وي» في العصر القديم، تسلط بالقهر وانتزع لنفسه لقب ومكانة أمراء الدول ومكانتهم]، فذهب إلى «زيشيا» [أحد تلاميذ كونفوشيوس] وسأله عن هذا الخبر، قائلًا: «ما حكاية ذلك الرجل وما حقيقة أمره؟» فأجابه قائلًا: «كنت قد سمعت الشيخ الأكبر وهو يقول: «إن من تحقق باللين والسماحة ومطاوعة الأحوال، صارت له القدرة على الاتحاد بالأشياء الخارجية (خارج الجسد)، فليس للضر إليه سبيل، ووُهبت له المقدرة على المشي فوق الماء واختراق الجدران والولوج في جوف النار، بغير أذى».» فقال له «أونهو»: «سيدي المحترم، هلا صار لك نصيب في شيء من تلك الخوارق؟» فأجابه، قائلًا: «لا طاقة لي بالتنائي عما يشغل ذهني طوال الوقت (لا أطيق تصفية كدر النفس من الانشغال بالأفكار)، ولا أنا بمستطيع التخلي عن منطق تعقل الأمور، والتأمل العقلي الدائب في كل الأشياء، ولا أجد في جعبة أفكاري سوى ذلك المخزون الوافر من النشاط الذهني.» فما لبث أونهو أن قال له: «فهل يملك الشيخ كونفوشيوس شيئًا من تلك المقدرة السحرية؟» ورد عليه زيشيا، قائلًا: «نعم، بالطبع، فإن شيخنا يملك أن يأتي بالخوارق، إذا إراد، لكنه؛ برغم ذلك، لن يكترث بإتيان شيء منها أبدًا.» ولم يفرح أونهو في حياته بشيء قدر فرحه بهذا الرد.

[١٣]

انتقل أحد السحرة من دولة «تشي»؛ ليقيم في دويلة «جنغ»، وكان يُدعى «جيشيان»، واشتهر بين الناس بقدرته على التكهن بالنبوءات الصادقة، (خصوصًا، فيما يتعلق ﺑ) الحياة والموت، والبقاء والفناء، والسعود والنحوس، ومديد العمر وعاجل المنية. وبلغت دقة تكهناته أنه كان يحسب المواقيت باليوم والدقيقة، بل اللحظة والثانية، وبمرور الأيام صار الناس في دولة جنغ ينفرون منه، وينأون بأنفسهم عنه، ليس سوى ليتزو هو وحده الذي توثقت عرى المحبة بينه وبين الساحر، وكان أن تكلم عنه كثيرًا عند صديق له يُدعى «هو شيو تسي»، وكان مما قاله له: «كنت قد ظننت بادئ الأمر أن لديك من المعجزات والخوارق ما لا سبيل إلى مقارنته في الدنيا بأسرها، لكني وجدت في الساحر ما يفوقك ويتجاوزك بكثير جدًّا.» فقال له صاحبه: «كنا قد درسنا معًا، أسرار الطاوية سوى إننا حُجبنا عن تطبيق ما تعلمناه، ولا أدري إن كنت ما تزال تتقن مبادئ ذلك العلم الذي صار كفرج أنثى (… لا يخصب إلا بإضافة من خارجه)؛ حتى عجز عن أن يأتي بالمواليد! إن العامة والدهماء ينبهرون بما ترى من أفعال الحواة الذين يتيهون فخرًا ببعض ما يجيدون، ولما كان الناس لا يفقهون شيئًا، فهم يعظمون من شأن أولئك المدعين، فانظر إذا كان صاحبك يجيد قراءة الطالع، وأحضره معك إلى هنا؛ ليرى طالعي أيضًا.» وجاء ليتزو، في اليوم التالي، بالساحر جيشيان ضيفًا على صاحبه هو شيو تسي، (وبعد أن قرأ له الطالع، خرج إلى ليتزو وقال له: …) «يا للأسف، سيموت صاحبك، فلم يعد له في العمر بقية، لن يمضي أكثر من عشرة أيام حتى تطلع روحه، قد رأيت نذير ذلك الموت، فالعظام البالية لا يكسوها اللحم مرة ثانية، قد رأيت ذلك رأي العين.» وذهب ليتزو إلى صاحبه بعيون دامعة وقلب حزين [حرفيًّا: بعين دامعة وأنف يسيل]، فأخبره بما أنبأه به جيشيان، فقال له: «لم يرَ الساحر سوى أثر الأرض في سحنة الجلد ذلك أن القلق قد فصل ما بين روحي وجسدي، فأحضره، ثانية؛ لنرى حظنا معه.» وجاء جيشيان في اليوم التالي إلى هو شيو تسي، فلما خرج من عنده قال ﻟ «ليتزو»: «بل هو رجل سعيد الحظ للغاية، وأرى أنه قد شفي من أمراضه على يدي، وكُتبت له حياة جديدة، وها قد التأم ما بين روحه وجسده بصحة وعافية، وعادت إليه حيويته من جديد.» فدخل ليتزو إلى صاحبه وأخبره بما سمع، فقال له: «لكني لم أبين له الساعة، سوى جانب واحد من طبيعتي الوادعة الهادئة، لكن شيئًا من الجوهر لا يتفق مع المظهر، فكيف يمكن للحيوية والطاقة الطبيعية أن ينطلقا من عقالهما، ما زالت الطاقة حبيسة، معزولة عن مجالها، لكن الرجل ظن بي خيرًا؛ إذ رأى الجانب الطيب مني، فاطلب إليه المجيء مرة أخرى.» فجاء جيشيان بصحبة ليتزو في اليوم التالي، وبعد برهة (وبعد استقصاء الطالع) خرج وقال ﻟ «ليتزو»: «أرى صاحبك متوعكًا، لا سيما، وهو قاعد على فراشه، فلا طاقة بي لقراءة طالعه، ليتك تبذل جهدك لتقنعه بأن يلزم الهدوء والسكينة قدر المستطاع، ثم انظر أنت بنفسك في طالع حظه.» وعاد ليتزو يقص على صاحبه ما أُخبر به، فقال له: «قد أبديت له منذ قليل، مظهرًا فارغ المعنى، لا يمكِّنه من قراءة أي طالع! وذلك لأنه اعتاد الاهتمام بمدى حيوية المزاج العام، واتزان الحالة النفسية، (فاعلم) أن بواطن الأشياء تُخفي ما لا مظهر له (فمثلًا:) حيثما تدور الحيتان في قاع البحر يكمن باطن المياه بعمق سحيق، وحيثما تسكن دوامات الموج، يغور قاع الماء غورًا بعيدًا، وحيثما تجري الأمواج بقوة، يميد القاع بعيدًا، وحيثما تفور فائرة الفيضان الهادر، يسكن باطن البحر، وإذ تتقلب تيارات الماء على سطح النهر، يستكن القاع بغير اضطراب، وحيثما تدور الدوامات على شاطئ الماء، يستقر القاع في هدوء، وإذ يهدر هدير الشلال، أو يعود إلى المصب فرع من جدول شرد عن مجراه، ينطوي في الماء أخفى كل باطن، وإذ تنبثق نافورة من قلب البحر، تتوارى في هدوء قيعان الماء، وعندما تلتئم في المجرى تيارات مياه شتى، تنحدر إلى القاع البواطن؛ فتلك تسع مكامن عميقة في هوة سحيقة بباطن الماء، لكل منها حال مختلف وشأن متفرد. فابحث عن الرجل وائتني به، مرة أخرى، ولنجرب!» والتقى جيشيان، في اليوم التالي، مع هو شيو تسي، فما كاد الساحر ينظر إلى صاحبنا هذا، حتى أخذته رعدة هائلة، واربد وجهه، وطفق يرتعش مضطربًا، ثم استدار وفر هاربًا، وجعل هو شيو تسي يصيح وراءه: «أعيدوه … الحقوا به لئلا يفلت من أيدينا!» وجرى ليتزو في إثر الهارب، لكنه عاد بعد لحظات، وقال ﻟ «هو شيو تسي»: «ما وجدت له أثرًا، طار كأنه على جناح الريح، فكيف أمسك بالريح!» فقال له الرجل: «أبديت له، توًّا، ما لم يكد يبلغ بي إلى صحيح أحوالي وحقيق الجوهر، حاولت أن أقابل قوته بشيء يسير مما عندي … بشيء جاهدت قدر الطاقة أن يكون أهون ما أستطيع ملاقاته به، ففوجئ بما كان خبيء أعماقي من باطن الأحوال، ولم يكن يدري به قبلًا، فظن أن مثلي كمثل أوراق الورد الناعم، أطوف مع الهواء في تطوافه، ثم ارتبك لما وجدني دفقة موج قرَّ قرارها، وليس من يصمد لثقلها، فلم يلبث أن هرب.»

ومن حينئذٍ، صار ليتزو يشعر بأنه لم يفد شيئًا مما تعلمه من أسرار الطاو، فعاد إلى بيته وأغلق عليه بابه، وجعل يصنع، بنفسه، الطعام لامرأته، ويطعم الداجن ويربي القطعان، ويقوم على خدمتها كأنها من بني الإنسان، ولم يقرب عملًا [أحد مبادئ الطاوية، اللاعمل … فالطبيعة تفعل كل شيء، يمكن، فقط، للإنسان أن يعمل على منوالها]، ومع أنه بقي مع الوقت، كأنه حجر كريم مغمور، لم تصقله الأيدي ولا هذبته لمسات الفن الجميل، إلا أنه ظل نقي المنبت، طاهر الجوهر والمظهر، بيد أنه استطاع أن يحتفظ بتفرد خصاله، منجمعًا عن الاختلاط، مثل غصن استقام عوده وانفرد مغرسه، لم ينغمس في شتات، ولا انطمر وسط ركام الكثرة العمائية، بل انفصل وحده، وتمايز عقده، وامتد امتداد خطه الفاصل؛ منفرد الشأن، فريد الجوهر، لم تمسسه طوارق الحدثان، ولا نالت منه الأيام وتقلبات السنين.

[١٤]

قام ليتزو وقصد طريق السفر إلى دولة «تشي»، لكنه ما كاد يبلغ منتصف الطريق حتى عاد أدراجه، فلقيه «بوهن ماورن»، وقال له: «ما الذي عاد بك من سفرتك، ولما تمضي سوى بعض المراحل؟» فأجابه: «عدت لأني أحسست فجأة، بشيء من الوجل.» فسأله بوهن ماورن، قائلًا: «وفيمَ الوجل؟» فأجابه: «كنت قد مضيت إلى الخان لأشتري عشر زجاجات من الخمر، فأعطوني خمسًا منها، بالمجان، دون أن أدفع شيئًا من النقود.» فدهش بوهن ماورن، وسأله متحيرًا: «أمعقول هذا؟ وحتى لو لم يكن هذا معقولًا، ففيمَ الخوف؟ ليس في الأمر، على أية حال، ما يدعو للوجل.» أجابه ليتزو، قال: «إني امرؤ يعرف نفسه جيدًا، فلست في أعماقي متسامحًا كريمًا، كما قد تظن، لكني أحافظ على مظهر جاد ومتزن، فصارت ملامحي تنطق بالمهابة، فأردت أن يكون لي بالهيبة سلطان على النفوس، استجلابًا للطاعة والاحترام، لكن الأمر جلب عليَّ المتاعب والويلات، فانظر؛ مثلًا، إلى بائع الخمر، الذي يهدف من بضاعته للكسب، كيف أنه؛ وبرغم ضآلة ما يحصل عليه من ربح، رضي بأن يتنازل عن ذلك في كرم بالغ، لأجل خاطري. فماذا إذا قوبلت بالحفاوة والاحترام عند سيد البلاد [الإمبراطور]، كيف إذا طلب إليَّ التفاني لأجل الوطن، وبذل كل طاقة من الفكر لمصلحة البلاد، وقد يجول في خاطر أي واحد من المسئولين أن يسند إليَّ مهمة إنجاز عمل ما، في أي موقع، مطالبًا إياي بتحصيل أعظم النتائج؛ فلما ساورتني هذه الأفكار والوساوس، أصابني الخوف الذي حدثتك به.» وقال له بوهن: «قد بالغت في التحوط، وتفكرت فأطلت التفكير، فعد إلى بيتك، فستجد من يرعاك ويشد أزرك.» ثم لم يمضِ وقت طويل حتى كان بوهن ماورن قاصدًا بيت ليتزو؛ للزيارة والسؤال عنه، فما كاد يصل إلى هناك، حتى وجد الأحذية الكثيرة تملأ مدخل البيت، ثم إنه دلف إلى الداخل، ووقف برهة وهو متكئ على عصاه، مستند بذقنه على يده، وبعد فترة من التأمل توجه نحو الباب، ثم مضى إلى خارج البيت، فذهب بعض الضيوف وأبلغوا ليتزو بما حدث، فقام مسرعًا، وجرى خارجًا دون أن ينتعل حذاءه. وعند الباب، نادى على الشيخ، قائلًا: «ما دمت قد جئت لزيارتي، أفلا كنت أحضرت لي بعض الدواء؟» فأجابه بوهن قائلًا: «دعك من هذا، ألم أقل لك آنفًا، إنك ستجد من يعودونك ويشدون من أزرك، وها قد حضر من رأيت، ليس لأنك تملك أن تفرض عليهم الالتزام بزيارتك؛ لعظيم مهابة أو شدة سطوة، بل على العكس تمامًا؛ لأنك لا تستطيع أن تمنعهم من التودد إليك ورعايتك، فالأمر هنا، لا علاقة له بقوة الإيحاء في النفوس، ذلك أمر يتنافى مع الطبع والسجية التي خُلق الناس بها (وأنت كذلك).

إن الذين يصادقونك لأجل مهابتك، لن يتكلموا معك بالحجة والمنطق والدليل، بل سيقولون كلامًا منمقًا قد يؤذيك ويجلب عليك الضرر ويفسد ما بينك وبين الجميع.»

[١٥]

كان يانغ شو متجهًا صوب الجنوب، في طريقه إلى منطقة «بايدي»، في حين كان لاوتسي مسافرًا (على مبعدة منه)، تجاه الغرب قاصدًا السفر إلى دولة تشين. وكانا كلاهما منطلقين (من موقعين مختلفين) من مناطق بعيدة عن العمران، وحدث أن التقيا بالقرب من مدينة «ليانغ» [عاصمة إحدى الدويلات القديمة]، فما كان من لاوتسي إلا أن تنهد عميقًا، بحسرة، وهو يقول: «كنت أعقد عليك الآمال، وتصورت أنك يمكن أن تستفيد شيئًا من العلوم، لكني أراك غير منتفع بشيء مما درسته لك.» فغمغم يانغ شو، بصوت خفيض، ثم سكت، فلما بلغا الخان، أسرع يانغ شو بإحضار الماء إلى لاوتسي، ووضع له الكوب حتى تغرغر ثم وضع الطست فغسل له وجهه ومشط شعره، وخلع له حذاءه ووضعه خارج الباب، ثم ركع عند أستاذه، واقترب منه ليقول له: «كنت يا سيدي، قد تنهدت آسفًا، وقلت بلهجة ساخرة: «ألقيت عليك العلوم فلم تستفد شيئًا، ولا أراك يصلح لك من العلم شيء.» ويريد تلميذك أن يسألك عما تقصده بهذا القول، ولم أكن لأسألك ونحن على الطريق؛ فقد كنت في عجلة من الأمر، ولم يكن الوقت يسمح بالحديث، فترددت أن أتكلم معك حينئذٍ، فها قد وصلنا، ولك الآن، في الخطاب متسع من الوقت، فهلا أنبأتني بالمغزى وراء مقالتك، وبينت لي ما وقعت فيه من التقصير، لعلي أبلغ من أمري رشدًا؟» فقال له لاوتسي: «أراك قد أوغلت في العبث والإهمال وسلكت في غير الطريق الصحيح، وبدأ يسطع في عينيك بريق المباهاة والتعالي، حتى كادت الناس تعتزلك تمامًا، (أما قد علمت أن …) القديس الطاهر يتصرف وكأنه ملطخ بالأوحال [كذا]، وأن صاحب الخلق الأسمى يتواضع حتى يدرأ عن نفسه التفاخر بأي قيمة.» واضطرب يانغ شو للغاية، وأجاب قائلًا: «سأنصت جيدًا لقولك، وأعمل بما تنصحني به يا سيدي.» وقام فقصد إلى «بايدي» فلما انفتح باب الخان، ووجد صاحبه واقفًا يرحب به، بادر إلى تحيته، فانحنى أمامه وظل واقفًا حتى جلس الجميع، ثم جاءت زوجة صاحب الخان تصب له الشاي والماء الساخن وتعطيه المنشفة والمشط، بينما قام نزلاء الفندق احترامًا له، واجتهد صاحب فرن الشواء أن يدع باب الفرن مفتوحًا بعض الوقت، لعله يشيع في الأجواء شيئًا من الدفء، على سبيل التكرم على النزلاء؛ وإذ عاد يانغ شو من رحلته القصيرة إلى «بايدي»، فقد أدرك نزلاء الخان أنه ندم على ما بدر منه آنفًا، وعرف مواطن الخطأ وأصلح من شأنه فيها، فجلسوا معه، وأظهروا له البشر والترحاب، وزال ما بينهم وبينه من حجب العزلة وسوء الفهم.»

[١٦]

كان يانغ شو مارًّا في طريق سفره، بدولة سونغ، فنزل في أحد الفنادق، فوجد عند صاحب الفندق امرأتين شابتين، إحداهما جميلة؛ والأخرى دميمة، غير أن هذه الأخيرة كانت ذات مكانة رفيعة، أما المليحة، حسنة الوجه، فكانت بسيطة المنشأ، متواضعة المكانة. فلما تساءل يانغ شو عن أمر المرأتين، وتلك الفروق بينهما، أجابه الصبي العامل في الفندق، قائلًا: «كل ما أعرفه هو أن تلك الجميلة تعرف في قرارة نفسها أنها مليحة الوجه حلوة القسمات، وتتصرف على هذا الأساس، ولست أرى مبررًا لذلك؛ وكذلك الأخرى الدميمة، تقر في أعماقها بأنها ليست كالمرأة الأخرى بأنها أدنى منها كثيرًا، ولا أدري ما الذي يجعلها تفكر على هذا النحو أيضًا.» وعندئذٍ، التفت يانغ شو إلى تلاميذه قائلًا لهم: «انظروا وافهموا جيدًا، أليس من الأفضل والأجمل أن يتصرف المرء بنزاهة ونبل وشرف، ثم يمضي في طريقه بغير زهو وخيلاء، أليس هذا أكثر مدعاة لسريان الاعتراف بجميل خصاله بين الناس كافة، في كل مكان؟»

[١٧]

هناك طرق كثيرة للظفر والانتصار، وهناك طرق أكثر للهزيمة والانكسار. لكن طرق الانتصار لينة منكسرة (في ضعف وذل)، بينما أن وسائل الهزيمة فولاذية جبارة، وكلا الاتجاهين يمكن فهمه بسهولة، لكن الناس لا يحاولون ذلك أبدًا. ومن هنا، اشتهرت إحدى المقولات القديمة التي صارت حكمة متواترة، مفادها أن: الأقوياء الجبابرة يرون الأشياء من حولهم وكأنها أضعف من أن تنال منهم؛ أما الضعفاء فيشفقون على أنفسهم خشية بطش كل من يحيطون بهم. فإذا قُدر للأشياء التي ينظر إليها الأقوياء بوصفها أعجز عن النيل منهم، ثم إذا بها تصبح فجأة، في مستوى التحدي، تولدت حينئذٍ نُذر الخطر. (هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى) إذا كانت كل الظروف والإمكانات تفوق قدرة الضعفاء على المواجهة، ثم اتضح أن مثل هذه المواجهة، لو حدثت، فلن تمثل تهديدًا خطيرًا، بأية حال، بل كانت تلك هي الوسيلة المؤكدة للظفر، والأسلوب الأمثل لقهر كل أوجه الضعف، لصار ذلك هو منهج الضعفاء لتحقيق النصر، رغم أنفهم، وأصبحوا يملكون جرأة المواجهة، وإن لم يطلبوها، وقد قال «يو تسي»: «من أراد الصلابة، فلا بد أن يحميها بالنعومة. ومن توخى القوة، فعليه أن يحفظها بالضعف. إن تراكم الوهن هو الذي يصنع الصلابة، وحشد أسباب الضعف يدفع باتجاه القوة؛ فالمطلوب مراقبة ما يحشده الناس ويراكمونه في خزائنهم، ومن هنا يسهل التعرف على اتجاه سيرهم نحو آفاق النجاح أو الفشل. إن الاعتماد على القوة لمواجهة الأدنى قوة معناه أن الخسارة آتية بكل تأكيد، حالما تتكافأ القوى أو تكاد؛ أما التوسل بأسباب اللين والمرونة؛ لمواجهة الأقوى، فهذا طريق حافل بأعظم الوعود.» وقال لاودان [اللقب الرسمي للفيلسوف لاوتسي]: «الجيش الصلب منكسر، لا محالة؛ ذلك أن لوحًا من خشب يسهل تحطيمه كلما تصلب عوده. ليس سوى الأشياء اللينة الناعمة، هي التي يكتب لها البقاء طويلًا، أما كل ما هو صلب وقاسٍ، فلا دوام له.»

[١٨]

(اعلم أنه …) قد تتعدد وتتباين الأشكال، ويأتلف الفهم؛ أو يتعدد الفهم، وتتحد الأشكال. إن القديسين يفضلون الائتلاف في الفهم عنه في الأشكال، بينما يفضل الدهماء الاتفاق في المظهر عنه في الحكمة والعقل. نحن نحب كل ما يتفق مع شكلنا، ونميل إليه؛ في حين نبغض وننبذ من كان مختلفًا.

إن مخلوقًا يبلغ طوله سبعة تشي [أقدام، تقريبًا]، وتختلف أقدامه عن يديه، وينبت في رأسه شعر، وفي فمه الأسنان ويستطيع الاتكاء والمشي، هو ذلك الذي يقال له الإنسان. وقد لا يخلو الإنسان من نفس حيوانية، لكنه رغم ذلك سيميل إلى من يتشابهون مع شكله من البشر.

وقد تنبت للأشياء أجنحة وتنمو في رءوسها القرون، ويصير لها في الفم أسنان، وفي اليد مخالب، فترفع رأسها تطير أو تنبطح زاحفة على أربع ويقال لها الوحشي والطير، وليس بالضرورة أن يخلو جوف الوحشي من روح الإنسان، لكنه مع ذلك؛ سينأى بنفسه عن البشر؛ ما داموا على غير شاكلته.

وقد كان «باو شي» [شخصية أسطورية، يقال بأنه أنشأ عائلات الإنسان على الأرض]، و«نيو يا» [شخصية أسطورية (امرأة) خلقت البشر من طين، وسدت ثقوب السماء، وأقامت السدود، وأبادت الوحوش؛ ليعيش الناس في أمان]، و«شن نون» [شخصية أسطورية، علمت الناس الزراعة والنسيج وصنع الفخار]، و«شيا هو» [منشئ أول قبيلة قديمة، قيل إن جد الملك «يو»، مؤسس أول أسرة ملكية صينية، وهي أسرة «شيا» ٢١٠٠–١٦٠٠ق.م.] من ذوي الرءوس البشرية وأجساد الأفاعي، وقد رُكِّب عليها قرون الثيران وأنوف النمور؛ فأجسادهم على غير الشكل الآدمي، لكن نفوسهم أعظم خلقًا وإخلاصًا. وكان الملك «جيه» [آخر حكام أسرة «شيا»، كان غشومًا طاغية]، والملك «تشو» [آخر حكام أسرة «شانغ»، اشتهر بالظلم وسفك الدماء]، والملك «هوان» [حاكم دولة «لو» في العصر القديم] والملك «مو» [حاكم دولة تشو، في الزمن القديم، ومغتصب الحكم من والده بعد أن اغتاله]؛ من ذوي الشكل الآدمي الخالص؛ من سيماء وآذان وأنوف وحواس؛ بيد أن باطنهم انطوى على نفس حيواني.

إن إصرار الناس على بلوغ أسمى دلائل الحكمة، باسم ملامح مشتركة بين بني الإنسان، مجرد عبث لا طائل تحته، وطريق بغير مستقبل.

لما اشتعل أوار الحرب بين «هواندي» (الملك الأصفر)، والإمبراطور «يان دي» [هو نفسه، «شن نون» إله الزراعة والنسيج] في ضاحية «بانشيوان»، كان هواندي قد اختار بعناية طليعته من الدببة والذئاب والفهود، والببر والنمور، مستخدمًا بيارق الألوية والكتائب على هيئة النسور والعقبان والصقور والحدآن، حيث أقحم الحيوان على ساحة حرب بشرية.

ومما يؤثر عن الملك ياو [أحد الأباطرة القديسين] أنه جعل «كوي» [قائد الموسيقى] مسئولًا عن الموسيقى الملكية، فلما جُذبت الأوتار ودُقت الطبول، رددت الأجواء إيقاع النغم فرقصت السباع مع الطير، ولما صدحت المعازف بألحان «شاو» التسعة، هبطت العنقاء من عليائها واهتزت نشوةً وطربًا؛ وهنالك سحرت الموسيقى وحوش البرية في أوكارها، وقد يتساءل المرء عن السبب في اختلاف روح الحيوان عن الإنسان!

للوحش والطير أشكال وأصوات مختلفة؛ فلم يجد البشر وسيلة للاقتراب من عالمهم، لكن القديسين، وقد أحاطوا فهمًا بالعلوم، ونفذوا إلى البواطن، فقد سعت إليهم الطيور والوحوش من مكانها مذعنة لأوامرهم، فساقوها أنَّى شاءوا.

إن للدواب فهمًا غريزيًّا مثل بني البشر؛ لأنهم يسعون أيضًا، للبقاء (الغريزي)؛ وبهذا المعنى فمطالبهم ليست أدنى من مطالب بني الإنسان؛ فالذكر والأنثى يتزاوجان، تحتضن الأم صغارها، ثم إنهم ينبذون السهول ويأوون إلى الجبال، ينفرون من البرد وينجذبون إلى الدفء، يعيشون في جماعات ويمشون حسب نظام معلوم، الصغار في الأعشاش والكبار في البراري، يتنادون للمأكل والمشرب معًا، ويسبلون ستر حماية للطاعم منهم، والشارب. وقد كان الإنسي والوحشي، في الزمان البعيد، يعيشون معًا، ويدفعون الخطر عن بعضهم بعضًا، ويرتحلون في صفوف واحدة؛ فلما كان زمان حكم الأباطرة، فزع الوحشي إلى الأماكن البعيدة، حتى إذا لبث الملوك في عروشهم، اختفت الوحوش ودأبت على الفرار؛ تجنبًا لما قد يقع عليها من وجوه الأذى والاعتداء. وقد قيل إن هناك عائلة تقيم بإحدى دول الشرق، يجيد أفرادها لغة ستة من الحيوانات الداجنة [الخيل، الأبقار، النعاج، الدجاج، الكلاب، الخنازير]، ولا بد أنهم اهتموا بهذا الجانب من المعرفة، حتى حازوا فيها مقدرة فريدة.

لم يغادر القديسون أمرًا من أمور الموجودات بأسرها، إلا أحاطوا بها علمًا، ومِن ثَم عرفوا لغات كثير من المخلوقات؛ حتى كانوا ينادون على الوحوش والسباع والطير، فتأتيهم سعيًا، حتى إذا مثلت بين أيديهم دربوها وعلموها من دروب العلم الشيء الكثير، فكان القديسون يعاملونها كأنها من بني البشر. ولهذا فقد كانوا، في البدء، يطوفون بعالم الخفاء (الأشباح)، ثم ينتقلون من ذلك المجال، إلى استقصاء أحوال البشر، وأخيرًا، فقد كانوا ينادون على الوحش والطير والهوام، فلا يسعها إلا أن تصدع بأمرهم، حتى زعم القديسون أن كل كائن جرت في عروقه الدماء وتنفس بمنخاريه الهواء، فهو مخلوق يحوز روحًا وعقلًا، غير متباين المزايا والصفات، إلا قليلًا. وإذ عرفوا ذلك، فقد ذهبوا في تعليم الوحش شوطًا بعيدًا، ثم لم يبخلوا عليها بشيء من أسرارهم.

[١٩]

قيل إن أحد معلمي القرود من أهالي دولة سونغ كان يحب تربية القردة، فاشترى عددًا هائلًا منها، وتعهَّدها بالتربية، لا سيما أنه كان يعرف أحوالها ويدرك مبتغاها، مثلما كانت هي قد بدأت تفهم من إشاراته كثيرًا، وكان الرجل مقتصدًا في الإنفاق والمأكل والمشرب، بحيث يقدر على توفير متطلبات تدريب القردة، ثم ما لبثت الأحوال أن تفاقمت سوءًا، وضاقت سبل العيش، فأراد الرجل أن يقتر على القردة قليلًا، لكنها غضبت وازورَّت عنه، فتحايل عليها بالخديعة، قائلًا: «سأطعمكم من ثمار الفاكهة ثلاثًا في الإفطار، وأربع ثمرات في العشاء، فما رأيكم؟» فضجت القردة وماجت واحتد غضبها، ثم لبث الرجل ساكتًا لحظة، وقال: «على رسلكم، لا تغضبوا، سأعطيكم أربع ثمرات في الإفطار وثلاثًا في العشاء، لأجل خاطركم، فما قولكم؟» فهدأت وطأطأت رأسها القردة راضية وبدا عليها السرور، والفرق ليس كبيرًا بين الإنسان والقردة، عندما يتعلق الأمر بتوظيف القدرات الذهنية في خدمة أغراض الخداع والغواية، فالحكماء، مثلًا، يعرفون كيف يمارسون التأثير على جمهرة من الدهماء، بنفس النمط الذي استخدمه مدرب القردة؛ إذ يستطيع المرء أن يكشف القناع عن مشاعر الناس وقلوبهم وعقولهم بكل ما فيها من خير وشر وفرح وحزن، دون أن يخسر أي شيء، سواء بالاسم أو بالفعل.

[٢٠]

كان «جي شينزي» قد تولى مهمة تدريب الديكة لمباريات المصارعة التابعة للقصر الملكي، وذلك بأمر شخصي من الملك شيوان، حاكم دولة تشو الغربية، وحدث أن الملك سأل، بنفسه، عن مدى التقدم في تدريب الديكة، وعمَّا إذا كانت جاهزة للدخول في المباريات، فأجاب جي شينزي، قائلًا: «كلا، بل ما زالت الديكة تتصايح وتبدي من العنف ما لا يفيد في شيء.» وبعد عشرة أيام سأله الملك عمَّا إذا كانت الأحوال ملائمة، فجاء الرد: «كلا، بل أرى أنها ما زالت تنفعل وتبادر برد الفعل لكل استثارة من خصمها.» وبعد عشرة أيام أخرى، جاء الملك متسائلًا عن سير أحوال التدريب، فأجابه شينزي، قال: «لا أظن أنها جاهزة الآن لمعترك المصارعة؛ فهي مشحونة بالتحفز على مداه، وهذا غير مطلوب.» وكملت عشرة أيام، وكان الملك يستفسر عن الجديد، فأجابه المدرب، قائلًا: «هي الآن تكاد تكون جاهزة، فقد جئت بالديوك المنافسة، وهي تصيح موفورة النشاط والإقدام، لكنها بدت ثابتة الجأش كأنها قدت من صخر؛ لم تعد في حاجة إلى مزيد إعداد وتدريب بعد أن توفر لديها الاستعداد الممتاز، بالدرجة التي تحول دون الغلبة عليها من قبل الديكة المنافسة التي لن تملك أمام كل هذه الثقة إلا أن تفر هاربة.» [النصر بغير قتال … مطلب الطاوية دائمًا!]

[٢١]

ذهب الفيلسوف «هويان» للقاء الملك «كانغ» [حاكم دولة سونغ، زمن الدول المتحاربة ٤٧٥–٢٢١ق.م.] فلما مثل بين يديه، دق الملك الأرض بقدميه وصاح في وجهه بصوت جهوري، قائلًا: «لست أميل لشيء سوى «القوة»، و«الإقدام»؛ ولا أبغض شيئًا إلا (ما يقال له …) «العدل»، و«الإنسانية»؛ فماذا أعددت (في جعبتك) من نصائح وأفكار؟» فقال له الفيلسوف: «ماذا لو قلت لجلالتك إني أعرف طريقة تجعل القوة عقيمة بغير نفع، والاندفاع عاجزًا عن أن يؤتي ثماره، فهل تود أن تعرف ما هي تلك الطريقة، أم تغضي النظر عنها؟» فأجابه الملك قائلًا: «بل قل ما عندك، وإني لمتشوق لسماعك.» فقال له محدثه: «أن تجعل قوة خصمك عقيمة وضرباته بلا أثر، فقد جلبت عليه العار والإهانة (… وهو ما لا داعي له)، بيد أن هناك طريقة أخرى أفضل كثيرًا، وتتمثل في أن تضطر خصمك إلى أن يهاب مجابهتك، برغم قوته، ويقعد عن ضربك وإن كان مقدامًا؛ لكن مثل هذا المسلك من جانبه، لا يعني انتفاء فكرة البطش والعدوان في ذهنه؛ ولهذا فقد أعددت خطة ناجعة لمثل هذا الموقف، وهي خطة كفيلة بأن تنزع فكرة التبجح والبطش من قلبه، غير أن القضاء على بواطن البطش والعدوان، لا يعني إيقاظ مشاعر الحب والإيثار في أعماقه؛ ثم إني أعددت لهذا الأمر عدته، وتأملت طريقة (سحرية) يتواصى بها الناس بعضهم بعضًا بالحب ويتعاهدون على إيثارك والولاء لمجلسك، وتلك درجة أرفع من امتلاك القوة والجرأة وأسمى من كل ما سبق [كذا] فما رأي جلالتكم في هذه الوسيلة؟» وهنا قال الملك: «ذلك هو عين المطلوب.» وواصل «هويان» كلامه، قائلًا: كان كونفوشيوس، و«مو تسي»، على هذا النمط الجليل؛ ورغم أنهما لم يملكا الأراضي والثروات، لكنهما حازا مرتبة السمو والتقديس [حرفيًّا: الإمارة] وبلغا أرفع درجات الإجلال من غير ألقاب أو مناصب ملكية رفيعة. (واعلم، يا مولاي، أنه …) ليس على الأرض رجل أو امرأة إلا قد مد عنقه وشب على أطراف قدميه، متطلعًا إلى هؤلاء الحكماء العظام، مقتديًا بتعاليمهم، متوسلًا بذلك إلى ما قد يعود عليه بالخير ووجوه النفع، فإذا صار لجلالتك مثل حظ أولئك الحكام القديسين (وأنت، الآن، تفوز بصولجان الملك) فسوف يتطلع إليك الناس في أقطار الأرض، ويبتغون لديك صلاح أمرهم، وقضاء حوائجهم، وحينئذٍ تصير إلى مرتبة لم يتبوأها أعظم الحكام [حرفيًّا: كونفوشيوس، و«مو تسي»]. «وهنالك أطرق ملك دولة سونغ ولم يعلق بشيء، بينما أسرع الحكيم هويان خارجًا من القصر، فالتفت الملك إلى رجاله قائلًا لهم: تكلم الرجل فأجاد وصوب فسدد؛ [حرفيًّا: تكلم الضيف كلمة، كانت قوة الحجة سديدة البرهان]، اشهدوا أني اقتنعت بما قال.»

١  يتناول هذا الفصل، تحت عنوان «هواندي»، الشروط الأساسية التي تتحكم في تحصيل «المعرفة التامة» و«الإلمام الشامل» بالحقائق، حيث يتحد باطن المرء وظاهره معًا، في محاولة لتلقي ما يرد من عالم الوقائع على الإنسان من تجليات معرفية؛ وتحتوي نصوص هذا الباب على تسع عشرة حكاية خرافية.
٢  في نسخة مترجمة إلى الإنكليزية (إعداد: Corina Berbecar) وردت هذه العبارة، بما يفيد معنى «إن الولد تسيهوا، كان يعشق الشعوذة والألعاب السحرية الغامضة» … وليس في النص الصيني الأصلي ما يشير إلى هذا المعنى، ولا ظلاله، ولا أشباهه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤