الباب الرابع

جونغ ني

仲 尼
(رأس الحكمة)١

[١]

لزم كونفوشيوس الإقامة في بيته، فترة من الزمن، فمر به تلميذه «تسيكون»؛ ليعينه على قضاء حاجاته، لكن المعلم الأكبر بدا كاسف البال متجهم الوجه. فلما رآه تسيكون على هذه الحال، تردد في أن يحادثه، وخرج سريعًا وأخبر زميله «يان هوي» بما رأى، فأسرع هذا إلى قيثارته، فتناولها وبدأ العزف، فلما تناهى الصوت إلى كونفوشيوس نادى على يان هوي، فخف إليه فسأله، قائلًا: «ما لي أراك مبتهجًا، وحدك دون الجميع؟» فرد يان هوي على سؤال أستاذه، بأن سأله بدوره: «ولماذا أراك، يا سيدي، منفردًا دون الجميع، بكل ملامح الحزن البادية على ملامحك؟» فأجابه كونفوشيوس، بقوله: «أجبني أنت أولًا، بما عندك.» فقال له: «كنت قد وعيت ما علمتني إياه، فيما مضى؛ إذ قلت لي: «لن يحزن قلب رضي بقدر السماء وفرح بما آتاه.» فلذلك اجتهدت في أن أجرب مشاعر السعادة.» وهنالك زاد تجهم وجه كونفوشيوس، وران عليه الصمت، ثم قال: «أقلت أنا مثل هذا الكلام؟ أراك قد أخطأت فهم قولي الذي، ربما، صدر عني فيما سلف من الزمان، وإن كان لي أن أتحدث بشيء أزيل به سوء الفهم، هذه اللحظة، فإني أقول لك إنك فهمت المعنى على اعتبار ما يتوجب على المرء من تجنب الوقوع في دائرة الحزن «رضاء بما قسمت له السماء.» لكنك نسيت أن «الفرح بما قسمت لك الأقدار، والرضا بأمر السماء» ينطوي على أحزان تنوء بها الصدور، ذلك ما أود أن تلتفت إليه. وإذ تأخذ نفسك بالتهذيب وعقلك بالحزم والتدبر، ويتساوى لديك رغد الحياة مع شظف العيش، وتفهم معنى البقاء والفناء، وترى المقادير والتحولات تسلك طريقها بغير إرادة منك، ويتنقى قلبك من كدر التقلبات؛ يتبدى لك المعنى الذي أشرت إليه من «التنائي عن الأحزان؛ لما سبق من الرضا بأحكام القدر.»

قد كنت، فيما مضى أرتب الأبواب والفصول من نصوص «كتاب الشعر القديم»، وكم حققت ونقَّحت وهذبت من نصوص «كتاب التاريخ»، وراجعت وضبطت قواعد الأعراف وقواعد الموسيقى؛ بهدف اتخاذها، جميعًا، معايير ﻟ «ضبط أحوال الممالك» فتبقى ميراثًا متجددًا للأجيال، دون الاقتصار على ما أستفيده منها في تهذيب النفس، وتنمية كمالات الخلق، أو حتى، الاكتفاء بما يصلح شأن دولة لو [مسقط رأس كونفوشيوس]، ومع ذلك، فها هي ذي بلادي قد تسرب إليها الفساد، وانهدمت أركان الأخلاق بين ملوكها ووزرائها، وتلاشت ثوابت الرحمة والعدل، وتضاءلت مساحة الود والإنسانية بين أهلها. إن تصورات المجتمع المثالي يتعذر تحقيقها في بلد واحد، وفي زمان أعيش فيه ومعي تلاميذي الكثيرون، فكيف إذن نتوجه بها إلى الدنيا بأسرها وإلى أجيال قادمة وزمان لم يأتِ بعد؟ بل كيف نتوقع الأخذ بها ووضعها موضع التطبيق؟ أتأمل وأفهم لماذا لم تستطع كل الكتب التي حققتها: «كتاب الشعر القديم»، «كتاب التاريخ»، «النظم الاجتماعية»، «قواعد الفن والموسيقى»، أن تضبط شئون العالم وتفرض النظام؛ لكني أجد نفسي عاجزًا في الوقت نفسه عن فهم الكيفية التي يمكن بها القيام بإصلاح جذري؛ فذلك هو ما قصدت إليه عندما تحدثت عن الهموم والأحزان التي تنطوي عليها عبارة «الرضا بأقدار السماء» [حرفيًّا: الفرح بما سيرته الأقدار] وبرغم هذا كله، فما زلت أحفظ الجوهر الأعمق، ما زلت أتشبث بالوعي الأصيل للحقائق؛ لذلك أقول بأن ما نفهمه الآن من معنى «الرضا بأقدار السماء» يختلف عما كان يقصد إليه القدماء من تلك المقولة.

إن التنائي عن الفرح والمعرفة هو عين الفرح وقلب المعرفة، وعلى ذلك، فلا مجال للفرح أو الرضا أو المعرفة أو الحزن، بالدرجة التي ينتفي معها الفعل ويزول كل عمل. فهل ثمة موجب لإغفال ذكر الكتب والمبادئ الكبرى «كتاب الشعر القديم»، و«كتاب التاريخ»، والنظم الأخلاقية، وقواعد الموسيقى؟ وما الداعي إلى تعديلها؟ وهل لذلك فائدة؟»

لما سمع يان هوي هذه المناقشة المطولة، توجه إلى أستاذه قائلًا بكل احترام: «وأنا الآن قد وعيت، أيضًا، مغزى مقولة «الفرح بأقدار السماء».» وخرج من عند أستاذه ليقص ما حدث على مسامع تسيكون الذي لم يفقه شيئًا مما دار، فلما رجع إلى بيته جلس يتأمل بعمق، تلك الأفكار وراح يُعمل النظر والتدبر؛ حتى تجافى عنه النوم وزهدت نفسه الطعام وأصابه الهزال. وفيما بعد، فقد حضر إليه يان هوي؛ ليشرح له ما غمض عليه من المعنى، وعاد يان هوي إلى حلقة الدرس عند كونفوشيوس، وصار يعزف على الأوتار ويلقي الأشعار ويشدو بمقاطع من كتاب الشعر القديم وكتاب التاريخ، وبقي على ذلك، حتى بلغ من العمر أرذله.

[٢]

سافر أحد كبار رجال دولة تشن إلى مملكة جين، والتقى هناك، بصفته الشخصية غير الرسمية، مع السيد «شو سون» [وهو أحد أهالي دولة لو] فابتدره هذا قائلًا: «من حسن حظنا أن يقيم في بلدنا رجل من القديسين.» فقال القادم من دولة تشن: «لا بد أنه كونفوشيوس، أليس كذلك؟» فقال له السيد شو سون: «وكيف عرفت أنه قديس؟» فأجابه، قائلًا: «كنت أسمع تلميذه يان هوي، وهو يقول: يستطيع أستاذنا كونفوشيوس أن يعتمد في الإدراك على حواسه الجسمية دون إعمال طاقته الذهنية، ونحن عندنا في بلادنا رجل من القديسين كذلك.» فلما سأله محدثه عمن يكون أجابه الزائر قائلًا: «إنه تلميذ لاوتان [لاوتسي] الذي يُدعى «كنغ سانزي»، وقد أحاط علمًا بأسرار الطاوية على يد لاوتسي، حتى صار قادرًا على أن يرى بأذنيه ويسمع بعينيه.» فاندهش رجل دولة لو، وأرسل أحد ثقاته يدعوه إلى ضيافة كريمة، فقبل الرجل الدعوة، وحضر في الموعد، واستقبله مضيفه بكل حفاوة وتواضع، وسأله أن يعلمه مما عنده، فقال له: «لا تصدقنَّ ما يشاع عني من الأقاويل المبالغ فيها، ولئن كنت أستطيع أن أرى بعيني وأسمع بأذني؛ فهذا لا يعني أني بدلت وظيفتيهما.» فقال له محدثه: «لكن ما تقوله يثير مزيدًا من الدهشة، فكيف صارت لك تلك المقدرة الخارقة؟ [حرفيًّا: الفن الطاوي] ليتك تجيبني عن كل ما سألتك، فأنا مصغٍ إليك.» فقال كنغ سانزي: «قد اتفقت حواسي كلها مع عقلي، واستجاب عقلي لداعي العنفوان وقوة الروح، ودأبت روحي على التلاقي مع ذلك الملاء الكوني المهول، وهي درجة لا يبلغها امرؤ إلا إذا تدافعت إليه كل همسة، ولو ضئيلة في فراغ الكون الكبير، من أقرب المسافات إلى أقصاها، حتى إذا لامست هدب الإحساس، اتصلت بمجال الوعي بكل أطرافه، فلا أدري حينئذٍ إن كانت واردات أشياء العالم الخارجي تفيض على طاقات الذهن، أو مدركات الحس هي التي تطل على الدنيا باستقصاء حال الوجود. فكل ما يعتريني، وقتئذٍ هو ما أجده من شعور طبيعي بالأشياء يواتيني على غير إرادة مني.» كان مسئول دول لو ينصت إليه بكل شغف، وكان أن نقل ما دار بينه وبين كنغ سانزي، وما رآه بعينيه إلى كونفوشيوس، فما كان من المعلم الأكبر إلا أن ضحك طويلًا، دون أن يعلق بشيء.

[٣]

التقى «تاي تساي» [أحد كبار المسئولين بدولة سونغ، في العصر القديم] بكونفوشيوس، فسأله قائلًا: «قل لي يا كونفوشيوس، أأنت فيلسوف قديس حقًّا؟» فأجابه كونفوشيوس قائلًا: «لا يجسر لساني أن يقول بأني قديس، لكني أقول لك بأن كونفوشيوس على قدر لا بأس به من المعرفة.» وراح الرجل يسأله ثانية: «وهل الملوك الثلاثة قديسون أيضًا؟» فأجابه: «قد برع ثلاثتهم في انتخاب أقدر الناس وأكفأهم وأوسعهم حيلة وشجاعة (للقيام بمهام السلطة) لكني لا أعرف إن كانوا (بموجب هذا التصرف) قديسين أم لا؟» ثم سأله مرة أخرى قائلًا: «وهل الملوك الخمسة قديسون؟» فأجابه الحكيم قائلًا: «قد اشتهروا بانتخاب أعظم الرجال خلقًا واقتدارًا، لكني لا أعرف إن كانوا قديسين أم لا؟» وسأله السائل قائلًا: «وهل الأباطرة الثلاثة قديسون؟» فقال له المعلم العظيم: «قد اشتهر ثلاثتهم باختيار أنسب الناس وأكثرهم إخلاصًا، لكني لا أعرف إن كانوا قديسين أم لا.» ودهش تاي تساي للغاية، وقال ﻟ «كونفوشيوس»: «فمن القديس إذن؟» فتغير وجه الحكيم الأكبر وصمت قليلًا، ثم قال لمحدثه: «في الجهات الغربية قديس ينصلح به شأن البلاد (فلا تضطرب الأحوال حتى من دون محاولة لفرض النظام) ولديه القدرة على أن يشيع الثقة في قلوب الناس، دون أن ينطق بكلمة، وقد سار الناس على نهج الفضيلة والاستقامة، دون أن يعظهم بشيء من ذلك، فتلك درجة عظيمة من الحكمة والجلال، لا يملك الناس إزاءها حدًّا مكينًا للتعبير عن امتداحهم ورضاهم عن ذلك الحاكم الذي لا أبالغ إذا قلت إنه هو القديس بحد ذاته وأكمل صفاته؛ لكني لا أعرف في قرارة نفسي إن كان ذلك هو القديس حقًّا أم لا!» واستغرق الرجل القادم من دولة سونغ في نوبة من التأمل والصمت، ولعله كان يقول في قرارة نفسه: «لا أظن إلا أنك تمكر بي يا كونفوشيوس!»

[٤]

ذهب «زيشيا» إلى أستاذه كونفوشيوس، وسأله قائلًا: «ما رأيك في تلميذك يان هوي؟» فأجابه بقوله: «أراه أشد حبًّا للفضائل (بدرجة تفوقني كثيرًا)!» فسأله زيشيا ثانية: «فما رأيك في تسيكون؟» فأجابه قائلًا: «أرى أن فصاحة دوانموسي [لقب تسيكون] أبرع مما لديَّ، أنا نفسي، من أسرارها.» ثم سأله السائل: «فما رأيك في زيلو، إذن؟» فأجابه قائلًا: «إن جونيو [لقب زيلو] قد بلغ من الشجاعة مبلغًا لم أصل إليه بعد.» فانطلق محدثه يواصل أسئلته، قائلًا: «فما رأيك في زيجانغ؟» فأجابه الحكيم بقوله: «إن مرتبة جوان سونشي [لقب زيجانغ] من الوقار والمهابة أعظم مما استطعت أن أبلغه.» وهنالك قام زيشيا واقفًا يريد الانصراف، وقال ﻟ «كونفوشيوس» في أدب جم: «فما دام هؤلاء قد حازوا الصفات الشريفة، فلماذا يقومون على خدمتك ويأتمرون بأمرك، ويعدونك أستاذهم الجليل؟» أجابه المعلم الحكيم قائلًا: «فهلا جلست أشرح لك الأمر بكل وضوح؛ (ألا فاعلم أنه …) إذا كان يان هوي محبًّا للفضائل، فهو قليل الصبر؛ وإذا كان دوانموسي فصيحًا، إلا أنه قليل الهدوء كثير الضجر؛ وصحيح أن جونيو على قدر من الشجاعة لكنه المقدام الذي لا يجيد المداراة والتراجع والإيثار؛ ولا شك أن جوان سونشي رجل جليل القدر، متزن، رشيد الرأي، لكنه قليل الود والبشاشة. وإذا اجتمع الأربعة ووضعوا مزاياهم جميعًا على صعيد واحد، وأرادوا أن يستبدلوها بما عندي لرغبت عن ذلك؛ فإنما يأتي القوم إليَّ، عن طيب خاطر؛ تبجيلًا واحترامًا، ويستمعون إليَّ ويتخذونني أستاذًا ومعلمًا، بكل حب وإخلاص.»

[٥]

لما أنهى ليتزو دراسته على يد «هو شيو تسي لين»، تعرَّف إلى «بوهن ماورن» واتخذه صاحبًا، ثم إنه اختار مسكنه بأحد المناطق الواقعة جنوب ضاحية المدينة، ومع الأيام كثر مريدوه وتلاميذه، وصار عددهم يتزايد بلا حصر، ورغم الأعداد المهولة من الدارسين، إلا أن ليتزو لم يبخل عليهم بشيء من علوم وأسرار فنون الطاو، بل كان يحثهم على المناقشة والجدل ساعة بعد أخرى، حتى ذاع صيته (… في القريب والبعيد).

وقد ظل ليتزو و«نانكو» متجاورين في المسكن (لصق الجدار) مدة عشرين عامًا، دون أن يتبادلا الزيارة، وكلما التقيا على الطريق، تجاهل كل منهما الآخر، حتى ظن التلاميذ أن بينهما عداوة وبغضاء.

وتقدم إلى ليتزو أحد التلاميذ (من أهالي دولة تشو) ليقول له: «قل لي يا سيدي، ما سر العداوة القديمة بينك وبين جارك نانكو؟» فأجاب ليتزو، قائلًا: «إني أراه رجلًا قوي البنية؛ لكنه سقيم الذهن، شديد الغباوة، قد سُدت أذناه عن السمع، وأغلقت عيناه عن النظر، وفمه عن حلو المنطق، وقلبه عن التأمل، وملامحه عن الانفعال. فما الذي يدعوني إلى مصافاته، ومع ذلك، فسوف أحاول. وسأصحبك معي في زيارتي إليه.» وانتخب ليتزو أربعين فردًا من تلاميذه؛ ليكونوا في صحبته وهو في زيارة جاره نانكو، فلما ذهبوا إليه، وجدوا أنفسهم أمام رجل كتمثال من صلصال، لا سبيل إلى التقرب إليه ومصادقته، ثم إنه التفت وتطلع إلى ليتزو، وبدا كما لو كان عقله وروحه في وادٍ، وجسده في وادٍ آخر. ولم تمضِ سوى لحظة، حتى كان نانكو يشير ناحية أحد تلاميذ ليتزو ممن يجلسون في آخر الصفوف، وراح يتحدث إليه وقد انبسطت أطرافه وتدفقت كلماته ونشطت حركته، وزاد تألقه؛ كأنه متسابق في إحدى المساجلات الفاصلة، فاندهش التلاميذ، وعقدت الدهشة ألسنتهم، لكنهم عادوا إلى المسكن، وملامحهم مغلفة بألوان من الهواجس وعلامات من التعجب، فقال لهم ليتزو: «إن من تحقق بجوهر الباطن وأدرك حقائق النفس، يستغني عن حديث الفم. إن من تمكن من أبطن بواطن الفهم لن يحتاج إلى قول، وعندما يصبح انتفاء اللغة لسانًا ناطقًا مبينًا؛ فذلك أيضًا نوع من اللغة، وعندما يصير التعامي عن المعرفة، هو نفسه معرفة بكل ما في عالم الظواهر، فذلك أيضًا ضرب من المعرفة، إن الصمت انتفاء كلام، وخلاء المعرفة انتفاء معرفة؛ غير أن (مثل هذا الصمت والتعامي عن المعرفة هما؛ بحد ذاتهما) … جوهر الكلام وقلب المعرفة.

وإذن فعندما لا يكون هناك ما لا يقال، ولا يكون هناك ما لا يعرف، تصبح اللغة هي ما لا يقال، وتصبح المعرفة هي ما لا يعرف. ذلك هو ما يجعل الأمور معقولة على نحو منطقي؛ ففيمَ دهشتكم واستغرابكم؟»

[٦]

ذهب ليتزو ليتلقى العلم على يد السيد «لاوشان» فبقي يدرس عنده ثلاث سنوات، وفي ختامها بقي حريصًا على ألَّا يحفظ، في قلبه، شيئًا من النماذج الجامدة لما هو صحيح وباطل، وحجب لسانه عن الخوض فيما هو ضار أو نافع؛ بينما كان أستاذه لاوشان يجلس قريبًا منه، ويرمقه بنظرات فاحصة، فلما انقضت خمس سنوات، كان الدارس قد نقَّى باطنه عن التفكير فيما هو صواب وخطأ، وظل لسانه معتصمًا عن الحديث فيما هو ضار ونافع [في قواعد الآداب الكونفوشية … يعني] وهنالك تهلل وجه المعلم لاوشان فرحًا؛ ولما مرت سبع سنوات، كان يطلق العنان لأفكاره، فلا يزغ قلبه، ويخوض في كل قول، فلا يفرط لسانه، مما حدا بالأستاذ أن يتكرم عليه بالجلوس إلى جواره، فلما كان العام التاسع، بلغ إلى حال كانت فيها شطحات الخاطر وهفوات اللسان (حتى في أقصى حدودها المتطرفة …) تنبو عن ذكر ما لم يكن ينبغي له أن يتطرق إليه. وصار جسمه وعقله جزءًا تامًّا من الكون (من الطبيعة الكبرى، التي لا مجال فيها للخطأ والصواب أو النفع والضر) فصارت عينه كالأذن تصيخ السمع، وباتت أذناه، كالأنف والأنف كالفم. وأصبحت كلها كحاسة واحدة، لا فرق بين واحدة منها، وقد ائتلف قلبه وعقله، وامتزجت أعضاؤه وتناغمت عظام بدنه؛ حتى لم يعد للجسد وطأة أو ثقل، ولا للقدمين موطئ، ولا للقلب تقلب أفكار، ولا للغة خفاء معنى وإشارات ضمنية. فكان مقامه بتلك الحال، حتى أحاط بكل شيء فهمًا وعلمًا.

[٧]

كان ليتزو، في وقت مبكر من حياته، يحب التجوال والتنزه، فسأله هو شيو تسي، قائلًا: «أراك تحب الترحال يا يوكو [لقب ليتزو] فقل لي ما الذي يعجبك في هذه الهواية؟» فأجابه بقوله:

«أجمل شيء في الرحلة والسفر هو أن المرء يتمتع بمشاهدة أشياء جديدة باستمرار. ربما كان الآخرون لا يفوزون بهذه المتعة مثلي، فهناك من يذهبون للترحال، ويكادون لا يهتمون بملاحظة الأشياء من حولهم، أما بالنسبة لي، فأنا شديد الحرص على الملاحظة والوقوف على تطورات الأشياء وتغيراتها عبر أحوال مختلفة، تلك هي الرحلة الممتعة، في نظري، ولا أظن أن هناك من يستطيع ملاحظة الفرق بين صنفين من الرحلات.» وعندئذٍ قال له هو شيو تسي: «اسمع يا يوكو، إن ما تقوله عن الرحلات يتفق مع تجارب الآخرين وآرائهم، فلماذا تزعم أنك مختلف عنهم؟ وأرى أن كل الأشياء يمكن أن تستبين، وأن تبدي مظاهر تغيراتها وتطوراتها المتعاقبة. إن الاكتفاء بمشاهدة الجديد يعوقك عن ملاحظة مسعاك الذاتي نحو التبديل والتجديد المتواصل؛ فأنت تسعى جاهدًا في رحلة مشاهدة خارجية، دون أن تكلف نفسك عناء القيام برحلة إلى أعماق نفسك. إن الاقتصار على رحلة المتعة بالملاحظة الخارجية سيقصر غرضها على السعي إلى رؤية اكتمال صفات الأشياء، أما رحلة الأعماق الذاتية، فستتيح للإنسان أن يرى الذات عالمًا مكتملًا بنفسه. وإذ تبدو الذات عالمًا مكتملًا، فستكون الرحلة في هذا العالم الذاتي واصلة إلى الحدود المثلى، وهو ما لن تجده في رحلتك الخارجية التي تسعى فيها لرؤية عين الصفات التامة وحدود مشاهد الروعة الكاملة.»

ومن حينئذٍ، قعد ليتزو عن التجوال، متنزهًا في سياحات خارجية؛ متصورًا أنه لا يدرك أدنى قدر من المعرفة المطلوبة للقيام بالرحلة الخلوية، وهنالك قال له هو شيو تسي: «إن الاحتجاب عن الترحال الخارجي (والاقتصار على الرحلة الذاتية الداخلية …) يعد سعيًا محمومًا للتجوال في عوالم الباطن المثالية، ولن يشقى أولئك الغارقون في حدود عالمهم المثالي بالبحث عن أهداف للتجوال ولن يتساءلوا إلى أين يشدون رحالهم، ولن يتفكروا فيما يودون مشاهدته؛ لأنهم — ساعتئذٍ — سيكونون قد طافوا بكل الأرجاء، ورأوا في أعماقهم كل المشاهد؛ فذلك هو ما أقصده تمامًا بلفظة «الرحلة»، ذلك هو ما أعنيه من تلك الكلمة؛ فلهذا أقول بأن تلك هي الرحلة التي تبلغ أروع الآفاق.»

[٨]

تكلم لونشو [أحد مواطني دولة سونغ، في الزمن القديم] إلى أونشي [أحد أمهر الأطباء، قديمًا] فقال له: «أعرف أنك على درجة رفيعة من فنون الطب والعلاج، فهلا عالجتني؟» فقال له أونشي: «(على الرحب والسعة، فأنا تحت أمرك)، لكن عليك أن توضح لي أعراض المرض.» فقال لونشو: «أشعر بأني إذا مدحني قومي (أهل بلدتي) لم أجد في نفسي أي شعور بالفخر والسعادة، وإذا ذمني الناس، لم أطأطئ رأسي خجلًا وأسفًا؛ كما أني لا أفرح إذا أصبت غنيمة، ولا أحزن إذا منيت بالخسران. وأنظر إلى الحياة نظرتي إلى الموت، وأرى الغنى مساويًا للفقر، وأتطلع إلى كثرة الناس وازدحامهم في الطرقات كأني أتطلع إلى قطيع من خنازير، وأعامل نفسي بما أعامل به الآخرين [حرفيًّا: أنظر إلى نفسي كما لو كنت أنظر إلى الناس (كذا)] أقيم في بيتي كأني أنزل بخان، وتبدو لي بلدي، التي هي مسقط رأسي، كبلد همجي في أقصى الأرض، استأثر به المغفلون من دون الناس جميعًا.

وبرغم كل تلك الأمراض التي ابتليت بها، فلا المكافأة المعتبرة تثير شهيتي، ولا العقاب الصارم يخيفني؛ ولا ازدهار الحال أو كسادها يبدل أحوالي، ولا الحزن أو الفرح يزلزل مشاعري؛ ولذلك فلست أستطيع خدمة سيدي (جلالة الملك) على الوجه الأكمل، ولا أنا بقادر على أن أصادق الناس، كما أني ما عدت سيد بيتي [حرفيًّا: لا سيطرة لي على امرأتي ولا أولادي] ولا سطوة لي فوق أتباعي [حرفيًّا: عبيدي] فأي مرض هذا الذي أصبت به؟ وبأي دواء أشفى منه؟» فطلب أونشي من محدثه أن يقوم واقفًا بمواجهته، على أن يولي ظهره للضوء. وراح الطبيب يتأمل صدره وبعد هنيهة، قال له: «قد انكشفت لي منطقة الصدر بكل وضوح، ورأيت قلبك هادئًا، كأنه قلب قديس، وقد تبين لي وجود ستة مواطن متصلة الجريان، إلا مكانًا واحدًا؛ لأنك تعد تلك المزايا المقدسة أعراض مرض عضال، فقد سُد هذا الموضع، وحده دون الجميع، على أية حال، فمثل هذه الأعراض تتحدى قدراتي الطبية المتواضعة، ولست أجد لك فيما أعلم علاجًا لهذا الداء.»

[٩]

إن ما يبقى سرمدًا، دون عائذ يعوذ به، فذلك هو القانون الطبيعي [حرفيًّا: السماوي]، وما يبقى بقاء حياة، في ظروف محددة، ولا يزول بزوال الحياة، فتلك هي طبائع البشر؛ أما ما تخطه يد المقادير، حسب ظروف محددة، ثم تأتي أحوال أخرى تزول فيها آثار ما وضعته يد الأقدار، فذلك هو سوء الحظ. أما ما أقام بكنف الفناء وكتب عليه ألا يوجد على ظهر الحياة أبدًا، فذلك هو قانون الطبيعة في أزل المقدرة (الوجود والفناء بيد الوجود الطبيعي)، أما ما كتب عليه الموت حسب أحوال معلومة، فيزول زوالًا، حتى قبل أن تزول الحياة نفسها؛ فذلك، أيضًا، هو العرف الجاري والشرائع السارية بين الناس. إن ما تخطه يد الوجود، برغم ما قد جرى عليه من سابق العدم والفناء، فذلك هو الحظ والمصادفة السعيدة؛ فمِن ثَم كان الحادث العرضي — الذي جاء بغير سند، ليصبح (برغم ذلك …) موكولًا بحفظ الأسانيد — هو القانون الطبيعي. وكان العدم (الموت) الذي مرجعه إلى قانون الطبيعة هو الطبع المعهود بين الناس؛ ثم إن الموت الذي قدرته الظروف المحددة والمعلومة، هو أيضًا، طبع جارٍ في دنيا البشر، وكان الموت الذي نزل به حكم الطبائع شريعة دائمة ومعهودة بين الناس، في كل زمان.

[١٠]

كان كل ما فعله «يانغ شو»، عندما علم بوفاة «جيليانغ» (وبرغم ما كان يربطه به من علاقات ودية) فقد وقف بباب بيته ورفع صوته بالغناء؛ في حين أنه لما تناهى إليه خبر وفاة «سويهو» أسرع إلى الجنازة وحمل جثمانه على كتفه، والدموع تطفر من عينيه. إن موت واحد من عامة الناس، أو حتى حياته، لن يثير لدى الآخرين سوى الغناء أو البكاء، بغير سبب مفهوم، في غالب الأحيان.

[١١]

من أوشك على فقدان بصره، احتدت لديه طاقته البصرية (في أول أعراض الإصابة بالضعف)، حتى تبدت له أدق الأشياء بوضوح شديد؛ ومن أوشك أن تُصم أذناه، رهف سمعه حتى كاد أن يسمع رفة جناح البعوض؛ ومن قرُب أن يفقد حاسة التذوق، ازدادت حساسيته، بادئ الأمر، لما يتناوله من طعام وشراب، حتى كاد أن يجيد التمييز بين طعم الماء من نهرين تفرَّعا من مجرًى واحد [حرفيًّا: كاد أن يميز بين طعم الماء الذي من نهر «تسيشوي»، ونهر «شنغ شوي»]؛ ومن أوشك أن يفقد حاسة الشم، اشتدت حساسية أنفه، أول الأمر، للروائح الكريهة؛ ومن أوشك جسده أن يصاب بالشلل، عظمت لديه، بادئ ذي بدء، مرونة الجسم ولياقة البدن؛ ومن كاد أن يفقد اتزانه النفسي والعقلي، لمعت عبقريته، في مستهل أعراض الفقد، حتى كاد أن يكون خبيرًا بالمنطق السديد والحكم الصائب؛ لذلك فلا تنقلب الأمور إلى ضدها إلا إذا بلغت حدًّا معلومًا [كذا].

[١٢]

كان من حظ مدينة «بو تسي» [بمملكة تشنغ، إحدى الدويلات القديمة] أن تكون مجمع الفضلاء، بينما اختصت مدينة «تونلي» بأكبر حشد من النجباء والعباقرة، من أصحاب الحرف والمهارات المختلفة. وكان من بين جماعة مدينة بوتسي رجل يدعى «بوفنزي»، وتصادف؛ أثناء مروره بمدينة «تونلي» أن التقى ﺑ «دنشي» [أحد المتصوفة]، فالتفت هذا إلى أتباعه ضاحكًا، وقال لهم: «هلا رأيتم عندما أتخذ من هذا القادم موضوعًا للسخرية!» فقال له الحاضرون: «لا بأس، لكن قل لنا، ماذا ستفعل به؟ وكيف تسخر منه؟»

وكان أن تقدم دنشي من بوفنزي، وابتدره قائلًا: «أتعرف مغزى أن يقوم المرء بتهذيب نفسه، وأن يتعلم مبادئ الفضائل على يد معلم؟ إن من يتلقون أصول الفضائل على يد المدرسين؛ لعدم استطاعتهم تهذيب أنفسهم يشبهون الخنازير والكلاب؛ والمعلوم أن تربية الأشياء النافعة جزء من قدرة الإنسان. ألا ترى أن الفضل في توفير الطعام لأناس من أمثالكم، بالإضافة إلى المسكن والملبس والراحة، يرجع إلى مجهود جبار يقوم به بضعة ممَّن يتولون مقاليد الحكم في البلاد … أريد منك أن تقول، بصراحة، ما الفرق بين أناس مثلكم، بصغيركم وكبيركم، تتكدسون في غرف ضيقة كمحابس الخنازير، وتقتاتون بقايا ما ينثر على موائدكم، مما تصنعه المطابخ، أسأل: ما الفرق بينكم وبين الخنازير؟» تغاضى بوفنزي عن تلك الأقوال الساخرة المستفزة، ولم يعر قائلها أدنى اهتمام، غير أن أتباعه تقدموا، على غير ترتيب أو نظام للرد على دنشي قائلين: «حضرة السيد المحترم، ألم تسمع، من قبل، أن أكثر أهالي «تشيلو» [اسم مركب لبلدين، هما: «تشيدي»، و«لودي»] قد حازوا درجة عالية من الذكاء والعبقرية وتوقد الذهن؟ إن منهم من قد مهر في هندسة التشييد والبناء، ومنهم من برع في التعدين والصناعات الجلدية، ومنهم الفنانون والموسيقيون والخطاطون والرسامون والرياضيون والعسكريون وقادة الجيوش والمعارك، ومنهم من قد تفقَّه في طقوس العبادات وشئون المعابد؛ فلكل مجال خبراؤه والمتخصصون فيه، وقد توافر منهم العدد الهائل، لكن المشكلة هي أنه لا يوجد من الإداريين الكبار من يقف على قدم المساواة مع هؤلاء، ومن هنا يغيب التنسيق والضبط والتنظيم بين كل أولئك العباقرة، هذا في الوقت الذي ينقص كبار المسئولين الحاليين الدراية وأساليب التنسيق والتنظيم بين الخبراء وذوي المواهب، وهكذا ينشأ موقف غريب يجد فيه الأكْفاء والموهوبون أنفسهم قد امتلكوا المعرفة والدراية؛ لكنهم حرموا عناصر القوة. ثم إذا بهم قد وقعوا تحت سيطرة ونفوذ أصحاب تلك القوة، وعلى أية حال، فإن من تقول عنهم إنهم «يتولون مقاليد الحكم في البلاد» ليسوا إلا بضعة من الأكْفاء الذين يستلهمون منا الآراء ويعملون وفق توجيهاتنا، فهم طوع أيدينا، وبأمرنا يأتمرون؛ ففيمَ افتخارك، وبمَ تباهي إذن؟» ولم يجد دنشي ما يرد به على محدثه، والتفت ينظر إلى أتباع بوفنزي، وقد احتبس الكلام في حلقه، فاستدار ومشى بعيدًا لا يلوي على شيء.

[١٣]

كان «كونيبو» [أحد الشيوخ الحكماء، في العصر القديم] مشهورًا بالجلد والقوة بين الدويلات، وهو الأمر الذي دعا «تانشي كون» [أحد المشهود لهم بالحكمة إبان حكم أسرة تشو الغربية] إلى أن يحكي طرفًا من سيرة هذا الشيخ للملك شيوان — حاكم دولة تشي — فأرسل إليه الملك بالدعوة للمثول بين يديه، وأعد له الهدايا. فلما أقبل عليه، رآه ضعيف البنية هزيل الجسد، واستغرب الملك وراح يسأله في دهشة: «فكيف ما يقال، إذن، عن قدراتك الخارقة؟» فأجابه، قال: «نعم، عندي من القوة ما يمكنني من تمزيق ساقي حشرة الجندب، ومن تقطيع جناح الزيز الطائر [الذي يُضرب به المثل في الهشاشة والضعف، كأنه بعض من نسيج العنكبوت].» فغضب الملك، وتلون وجهه، وقال: «إذا كنت أنا، شخصيًّا، أملك من القوة ما أستطيع به تقطيع أوصال الكركدن، بجلده السميك [حرفيًّا: سلخ جلد أنثى الكركدن] بالإضافة إلى جر تسع ثيران من ذيولها، ومع ذلك، فلا أظن بنفسي تمام القوة، ففيمَ الزعم بأنك موفور الطاقة خارق المقدرة عظيم القوة، في طول البلاد وعرضها، بينما كل ما تستطيعه هو قطع سيقان الحشرات الضئيلة، واختراق أجنحة البعوض وما أشبه؟» فتنهَّد الشيخ وتنحَّى عن المجلس، قائلًا: «اسمح لي، يا مولاي، ما دمت قد تطرقت بنا إلى هذا الحديث، أن أتكلم مع جلالتك وأقص عليك حكايتي بكل صراحة ووضوح؛ فقد كان أستاذي الشيخ «شانشيو» ذا قوة جبارة لا مثيل لها، حقًّا، على وجه الأرض، وهو ما لم يكن يعرفه عنه أهله وأقرباؤه؛ وذلك لأنه لم يحدث قط أن استعرض أمامهم قوته الخارقة، فلما أبديت رغبة في أن أكون تلميذه المطيع وتابعه الأمين، التفت نحوي، وقال لي: «على من أراد الإخلاص والالتزام بآداب الطريق (المنهج الفكري)، أن يبصر ما لا يراه الآخرون، ويلاحظ ما لا يكترث له الناس، وإذا كان له أن ينال ما لم يحصل عليه الجميع، فليكن الدأب مسعاه فيما لا يسعى فيه الناس، (واعلم) أن من أراد أن تشتد لديه حدة البصر، فسوف يلزمه أن يدرب نفسه على ملاحظة أعواد القش فوق العربات، ومن أراد أن يدرب حاسة السمع، فسوف يتوجب عليه أن ينصت كثيرًا لدقات الأجراس، وعندما تتولد في نفسه الثقة بأنه أجاد شيئًا، فسيسهل عليه، في الواقع، أن يجد المهارة طوع يديه؛ وإذ يتمرس في الإجادة (… إذ يتفوق ويتقدم، في طريق الاتقان، حتى يملك اقتدارًا قريبًا من طبائع الأشياء، فلا تلزمه الحاجة إلى إبراز ملكاته وطاقاته الجبارة) تنحصر إجادته في حدود ما يصنع، فتحتجب مهارته عن أعين الناس وراء ستار من الغموض، ولا ينتشر صيته في الآفاق، بل يبقى الحديث عنه محدودًا وسط أهله وأقربائه.» ولئن قد ذاعت شهرتي بين البلاد، فلأني خالفت ما عاهدت عليه معلمي، حتى تبدت للناس ملامح مما برزت فيه مهارتي. وعمومًا، فلم تأتني الشهرة بموجب القوة الغاشمة، بل بما أبديت من استخدام متوازن ومعتدل لطاقاتي، وهو ما يختلف كثيرًا عن الحصول على الشهرة بسبب مظاهر القوة المفرطة، فشتان ما بين الأمرين.»

[١٤]

كان «جونشان قون تسيمو» أحد نبلاء دولة «وي» قد صرف كل همه إلى التعرف إلى ذوي الحكمة والنجابة، ولم يشغله ذلك عن متابعة شئون عمله (الرسمي)، وقد عرف عنه احترامه وتقديره البالغ (للفيلسوف الأكبر) «كونسون لونغ» [أحد أشهر الفلاسفة، في زمن الدول المتحاربة] وهو الأمر الذي أثار سخرية واستهزاء «لوجن تسيو» وتلاميذه، فما كان من النبيل إلا أن قال له: «لماذا تسخرون من إعجابي وتقديري للفيلسوف الحكيم «كونسون لونغ»؟» فأجابه الرجل، قائلًا: «لم يكن ﻟ «كونسون لونغ» معلم يرشد سلوكه، ويطبع شخصيته بطابع أصيل، ولم يكن له صديق دراسة يتعاهده بالنصح، ولا كانت آراؤه (ذات الكلمات الرنانة) أو مجادلاته تنم عن منطق أو تتمخض عن برهان، ولم يحدث أن قام بتأسيس مدرسة أو اتجاه فكري على قواعد معلومة، فليس عنده سوى ترديد للخرافات والنوادر الغريبة، يحاول بها أن يضلل الناس بمقارعات كلامية قوية اللسان ضعيفة البرهان، ولا يجد له نصيرًا في ذلك سوى «هانتان»، الذي انضم إلى زمرته، ونشط في مشايعته.» وهنالك تغير وجه قون تسيمو، وهو يقول لمحدثه: «ما لك قد تحاملت عليه هكذا؟ فماذا لو أنصفت الرجل بشيء!» فقال له تسيمو: «كم ضحكت منه وهو يخدع «كونشون» [حفيد كونفوشيوس] بمثل هذه العبارات، من قبيل: «أمهر الرماة من إذا تعاقب لديه الرمي، سدد أواخر السهام في أعقاب سابقاتها، في كل رمية سهم، وفي عقب كل سهم رمية أخرى؛ حتى تلتحم السهام خطًّا واحدًا مسدَّدًا في قلب الهدف، فكل سهم لا يصيب القلب، لكنه لا يحيد عن الهدف، حتى يأتي السهم الأخير، فيلتحم بما سبقه من خط السهام المتصل، وهو بعد، بين القوس والوتر، كأنه صف مستقيم على طول استقامته.» وهو الكلام الذي ما كاد يسمعه كونشوان، حتى أُخذ بروعته وافتُتن بكناياته، وقد قال كونسون لونغ (وهو يواصل كلمته التي ذكرتها آنفًا): «ليس ذلك أعظم ما يُبرز براعة الرامي، فهذه حكاية (قناص) آخر يدعى «هونشاو» وهو تلميذ الرامي الأشهر «فنغ منغ» كان قد سخط على امرأته، لأمر ما، فحمي غضبه عليها، فأراد أن يوقع في خلدها الخشية منه، فجذب قوسه الملكي (مجرد نسبة للكناية على جودة السهم) ووضع السهم [حرفيًّا: السهم المصنوع في بلدة «تشيوي»، حيث ذاعت الشهرة بجودة السهام] وصوب تجاه عينيها ورمى (فمر السهم أمام بؤبؤ العين، قبل أن ترمش، ثم …) سقط على الأرض دون أن يثير ذرة غبار واحدة.» فتأمل هذا الكلام؛ أذلك مما يمكن أن يقوله رجل أصاب قدرًا من الحكمة والرشاد؟» فقال له قون تسيمو: «(أما قد علمت أن …) كلام الحكماء ثقيل على فهم الأغبياء؛ إن غاية القول من أن السهم قد سقط قبل أن يهتز رمش العين، هو أن سرعة السهم قد وصلت تمام النهاية قبيل بؤبؤ العين، فما لبث أن وقع على الأرض، وهذا أمر معقول، فهل لديك اعتراض على ذلك التفسير؟» فأجابه لوجن تسيو، قائلًا: «أما كان يجدر بك، وأنت من زمرة كونسون لونغ أن تداري أخطاءه ونقائصه؟ وعمومًا، فسأسوق لك المزيد من الأمثلة التي تدل على شطحاته وخبالاته؛ فقد حدث أنه خدع ملك دولة وي، قائلًا لجلالته: «إن ناتج الفكر ليس تعبيرًا عما ينطوي عليه ذهن الإنسان؛ فالاسم شيء والموضوع المادي الذي يشير إليه الاسم شيء آخر تمامًا [… من مقولات المدرسة الاسمية، وهي إحدى الاتجاهات الفلسفية القديمة، غير الكونفوشية، والطاوية، والقانونية … إلخ] الأشياء تقبل القسمة إلى ما لا نهاية … ظلال الأشياء المتحركة لا تتحرك … إن شعرة من رأس الإنسان يمكن أن تجر ما مثقاله ألف «جيون» [جيون: وحدة موازين قديمة، تساوي خمسة عشر كيلوغرامًا] … (ينبغي رؤية الفرق في العلاقة بين الجزئي والتام، بين شكل الشيء ولونه، وعلى هذا، ﻓ…) الحصان الأبيض ليس حصانًا (… ليس هو المفهوم التام للحصان) … العجل الذي لا تُعرف له أم، لم يولد لأم. وغير هذا كثير من تلك المقولات، التي تتبع هذا النمط في نفي التسميات الشائعة.» وعندئذٍ رد عليه قون تسيمو، قائلًا: «أرى أنك يعسر عليك فهم تلك المقولات المنطقية، وتظن أنها مزاعم خاطئة، لكن الخطأ يكمن في طريقة فهمك؛ و(مثلًا) فعندما لا يكون هناك أي تفكير تأملي، يقتنع المرء بما يرتسم في تصوراته؛ وإذ تنتفي الإشارة من الأشياء تبرز في كيانها المادي واضحة ملموسة٢ وعندما ينقسم الشيء إلى آخر جزيء، تظل هناك احتمالات أخرى قائمة للتجزئة. ولما كان الظل في صيرورة التغير، فقد امتنع عليه التحرك والانتقال، وما كان يمكن لشعرة الرأس أن تجر المثاقيل إلا بتوزيع الجهد بقدر من التوازن؛ أما بالنسبة للحصان الأبيض الذي ليس بحصان؛ فالأمر، هنا، متعلق بالفرق بين التسمية والهيئة. أما مقولة أن العجل الذي لم تُعرف له أم، لم يولد لأم؛ (فصياغتها تقوم على فكرة أن …) العجل لم تكن له أم معروفة، وإلا بطلت التسمية بهذه الطريقة.» وعندئذٍ، علق لوجن تسيو، على كلامه، قائلًا: «هو ذا أنت تعد تلك التخاريف التي ينطق بها كونسون لونغ أفكارًا منطقية ومعقولة، وأظن أنه حتى لو أخرج هذا الكلام من استه، فسوف تحتفي به وتعتبره موضوعًا ذا شأن.» وصمت قون تسيمو بعض الوقت، ثم قام مستأذنًا في الانصراف، وهو يقول له: «موعدنا في قادم الأيام؛ لنواصل البحث والمناظرة.»

[١٥]

لما أتم الملك «ياو» [أحد الملوك القديسين] خمسين عامًا من الإصلاحات أثناء حكمه، تساءل عما إذا كانت سياساته قد أثمرت النتائج المرجوة أم لا، ولم يكن يدري إذا كان أهل الممالك مؤيدين ومساندين له في حكمه أم أن لهم رأيًا آخر، وراح يسأل الوزراء ورجال القصر من حوله، فلم يعطوه جوابًا شافيًا، ثم عرج على رجال الإدارة الحكومية (ممن هم خارج القصر) فكانوا كإخوانهم داخله، ولم يزيدوه إلا حيرة؛ فقصد جلالته إلى النبلاء وذوي الحكمة من بين الناس، فلم يقنع منهم برأي صريح، فما كان من الملك «ياو»، إلا أن تنكر في زي العوام، ونزل ومشى في الطرقات، فتناهت إلى أذنيه أغنية كان الناس يهدهدون بها أطفالهم، تقول كلماتها:

«زرعت الحقول، وأطعمت الناس،
وكنت أوثق عهدًا وأكرم خلقًا،
دعك من جدل ومن حكمة،
واسلك سبيل صاحب الجلالة.»

وامتلأ قلب الملك بهجة، وراح يسأل الأطفال: «ممن تعلمتم هذه الأغنية؟» فأجابوه، قائلين: «هو أستاذنا الفاضل الذي علمناها.» فأسرع الملك للقاء الأستاذ المشار إليه، وسأله ما الخبر؟ فقال لجلالته: «هذه أغنية نهدهد بها الأطفال، كلماتها من التراث القديم.» وعاد الملك إلى القصر، واستدعى إليه «شون»، وتنازل له عن العرش؛ ليواصل السياسات الإصلاحية، ولم يعتذر شون عن قبول مقعد الحكم، فتقلد العرش، وجلس مجلس الملك.»

[١٦]

قال «قوان يين»: «إذا تنقَّى المرء عن التصلُّب والعناد والميل، تكشفت له حقائق الأشياء [حرفيًّا: الأشياء في حالتها الموضوعية] من يسلك، في عمله مسلك مسيل الماء، انسابت له الراحة وتوطد لديه السكون كصفحة مرآة، رقيقة المعدن، صافية المشهد، تنقت من كدر الأثقال [حرفيًّا: تعكس المشاهد دون أن تمتلئ بمحتواها] فهي تحجب أشياء العالم، موصدة دون الصوت والصدى؛ لذلك فقد قيل إن الطاو يتبع نهج الأشياء كافة، بينما الأشياء تعانده وتضاده، لكنه أبدًا، يسير وفق هواها. إن من تحقق بالطاو فقد استغنى عن أذن تسمع وعين ترى وقوة بطش وحكمة قلب.

بيد أنه إذا ما بدا للسالك طريق الطاو، أن يتوسل بالسمع والنظر والشكل والهيئة والحكمة، فسيكون قد جانب الصواب؛ فالطاو لائح للرائي، تارة من أمامه؛ ثم إذا هو، تارة أخرى، مدبر على غير ما يتوقع الخاطر. وهو إذ يطلق عنان طاقاته يفيض على الكون أرضًا وسما؛ وإذ يتوارى عن الظهور، يحتجب وراء كثيف أستار الغموض. (ورغم هذا …) فلا القاصد قصد الطاو بمستطيع أن ينأى (بقدر معلوم)، ولا المتكاسل دونه بقادر على أن يقترب اقتراب بلوغ الغاية، فلا يناله إلا مالك زمام نفسه وهو مقيم مقام السكون، ولا يفوز به إلا من وطد العزم على بلوغ أشرف الغايات.

قد حاز كمالات القدرة والمعرفة، من أبصر الحجة فتنقى عن ضلال الغواية، واستغنى بتمام الاستطاعة عن الولوج إلى مجال الفعل الظاهر.

اصرف عنك الحكمة، ولن يرد عليك وارد التمني والغواية؛ انزع عنك مقدرتك، ولن تكون بحاجة إلى التوسُّل بالعمل والأسباب.

إن أكوامًا من حجارة، وتلالًا من رمال، لن تتوسل بدروب العمل والجهد، ولن تصطنع الصنائع؛ لكنها، برغم ذلك؛ ستحتفظ بوجودها وبقائها (المنطقي والمعقول).»

١  يكاد يتشابه محتوى هذا الباب مع النص الوارد في باب «هواندي» (الإمبراطور الأصفر)، فالفكرة العامة في كليهما تدور حول نقطة أساسية، هي «معرفة الطاو»؛ وإذا كان مضمون باب هواندي يتناول الشروط والوسائل التي يمكن بموجبها الوصول إلى الدرجة التي تعين على فهم دقائق الطاو، من خلال التأمل النفسي والذهني العميق، فإن الباب الرابع يركز على الكيفية التي يتم بها التمكن من الإحاطة بالمزيد من جوانبه المعرفية. على أن أي محاولة لاستقصاء جوانب الطاو، تستلزم التخلي عن الوسائل الشعورية والحسية التي تعوق الوصول إلى «معرفة غير محدودة» تستقصي روح الطاو وتستجلي دفين معانيه.
ويشتمل هذا الباب على ثلاث عشرة حكاية خرافية، كما يرد المتن، أساسًا، تحت عنوان «جوني»، (وهو لقب كونفوشيوس) أو عنوان «ذروة الحكمة»، وهذا الأخير هو العنوان الذي اخترته للنسخة العربية من الكتاب.
٢  الفكرة، هنا، تذكرنا بقول محيي الدين بن عربي: «إذا زالت الأسماء برز المسمى.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤