الباب الخامس

تانغ أون

汤 问
(أسئلة الإمبراطور)١

[١]

كان الإمبراطور «تانغ» [حاكم دولة «يين»] قد وجَّه أسئلته إلى «شياكي»، قائلًا: «أكانت كل هذه الموجودات٢ قائمة في العصور القديمة؟» فأجابه الرجل، قائلًا: «فماذا تظن لو لم تكن الأشياء موجودة منذ الأزل، أكنت تجدها اليوم؟ وما ظنك بمن يأتي بعدنا، في المستقبل، أترضى لهم بأن يتساءلوا عن وجود الأشياء في زماننا بشيء من الشك؟» فعاد الإمبراطور يسأله: «فهل يمكننا، إذن، أن نحدد زمن نشأة كل تلك الموجودات؟» فأجابه شياكي، قائلًا: «لا نجد في الزمن القديم تحديدًا قاطعًا لزمن نشأة الموجودات، فكيف ندري إذا كان شيء ما، قد وجد أولًا، ثم تلاه وجود شيء آخر أو العكس؛ فتلك مسألة لا سبيل إلى كشف وجه اليقين فيها، كما أنه لا سبيل إلى استيضاح ما كان خارج الأشياء، وما كان قائمًا قبلها.» وسأله الإمبراطور، قائلًا: «فهل لأطراف الاتجاهات نهايات؟» فأجابه شياكي، قائلًا: «هذا شيء لا علم لي به.» فعاد الإمبراطور يسأله هذا السؤال نفسه متشددًا في طلب الإجابة، فما كان من محدثه إلى أن رد عليه بقوله: «ليس لأقطار الفضاء الكوني نهاية، وليس للأشياء الكائنة أية حدود قصوى، ثم إن هذه أمور بالغة التعقيد والإبهام، فأنى لي بمعرفتها؟ ومع ذلك، (فأنا أستطيع أن أقول لك إنه …) لن يكون خارج الفضاء اللانهائي حدود أخرى لا نهائية، ولا وسط الأزل آزال أخرى. فليس هناك حد لا نهائي يستبطن «حدودًا لا نهائية»، ولا حدود قصوى تشتمل على حدود أخرى مفتوحة بغير نهاية. وكل ما أعرفه هو أنه ليس هناك حد أقصى بغير نهاية، ذلك أني لم يصل إلى علمي بعد أن للكون حدًّا أقصى يمكن أن تكون له نهاية معلومة.» وسأله الإمبراطور تانغ قائلًا: «أهناك ثمة وجود لشيء وراء البحار الأربعة؟» فرد عليه شياكي، قائلًا: «يوجد مكان قريب الشبه بإقليم «تشي».» وسأله الإمبراطور، قال: «وكيف تثبت وجود هذا المكان؟» فأجابه: «أثبت ذلك بأن أمضي شرقًا حتى أبلغ «طايين» حيث أجد الناس قريبي الشبه بأهالي تشي، وبالسؤال عن الأحوال شرقي إقليم «يين»، يتضح أن الفارق بين الأحوال هناك وبين ما هو قائم في إقليم يين نفسه، قريب بعض الشيء؛ ثم إذا مضيت غربًا نحو إقليم «بينجو»، وجدت أهالي الإقليم قريبي الشبه بأهالي منطقة تشي، وبالسؤال عن الحال غربي هذا الموقع، أجد أن الأمور لا تختلف كثيرًا عما هو موجود في إقليم «بينجو».

وهكذا، أحيط علمًا بأمور البحار الأربعة [تعبير يكنَّى به عن الممالك الصينية، قديمًا] حيث الأحوال متقاربة، وليس ثمة اختلاف كبير، وعلى ذلك فالكون الأكبر والأصغر يتداخلان ويشتمل أحدهما على الآخر، دون حدود قصوى، أو لا نهايات مفتوحة. فهذا كون يضم الأرض والسماء بغير حدود، فكيف لي أن أعرف إذا ما كانت هناك أرض وسماء أخرى أكبر وأضخم خارج أقطار الأرض والسماء المنظورتين؟ وأجيب قائلًا بأن هذا أمر لا سبيل إلى معرفته أيضًا، بيد أن الأرض والسماء، كلتاهما تدخلان ضمن مسمى «الأشياء المادية»، وما دامتا كذلك؛ فلا بد أنهما تشتملان على أوجه نقص كثيرة، (ولذلك فقد صدق ما قيل في الأزمنة القديمة من أن …) الإلهة «نيوا» [إلهة الخلق] قد صنعت خمسة أحجار ملونة، فرتقت بها ثلمة في قبة السماء؛ ثم قطعت أطراف دابة البحر (اسمها: الآو)، وصنعت منها أعمدة أربعة لأركان الأرض، وحدث أن تصارع «قون كونغ» [إله الماء والبحاء] مع «جوانشيو» [إله النار] على كرسي العرش، فبينما هما يتعاركان، حمي غضب «قون كونغ» فأطاح بجبل «بوجو» [جبل أسطوري]، فانهدم أحد الأعمدة الأربعة التي تستند إليها عمد السماء، وتمزق أحد أهم الروابط بينها وبين الأرض، فمِن ثَم صارت قبة السماء تميل قليلًا، جهة الشمال الغربي، وتحددت للكواكب والنجوم والأوقات مواقع في تلك الجهة، ومادت الأرض في الجنوب الشرقي؛ فلذلك صارت البحار والأنهار والبحيرات والخلجان تجري إلى المصب في ذلك الاتجاه.»

[٢]

وواصل الإمبراطور تانغ أسئلته قائلًا: «هل ثمة فرق بين ما هو كبير وصغير من أحجام الأشياء؟ وهل هناك فرق بين الطويل والقصير، والمختلف والمتشابه، من الموجودات جميعًا؟» فأجابه شياكي، قائلًا: تقع إلى الشرق من بحر «بوهاي» منطقة هائلة المساحة [حرفيًّا: تمتد مسافة مئات الآلاف من الأميال] ومحيط لا مثيل له في الدنيا بأسرها، لضخامته. وقد كان، في أول أمره، وادٍ سحيق، لا يُدرك عمقه؛ حتى قيل له «وادي قويشو» (أي: مجمع مصارف الأنهار)، وهو مصب سيول تهطل مدرارًا من السماوات الثمانية والطبقات التسع [كذا] بالإضافة إلى أنهر من السماء تفيض بمياهها فوق تلك البقعة. ورغم هذا، فالمياه في ذلك الوادي العميق (قويشو) ليست غامرة ولا غائرة؛ وفوق المحيط الكبير خمسة جبال: الأول منها هو جبل «دايو»، والثاني جبل «يوان تشياو»، والثالث جبل «فانهو»، والرابع جبل «إينجو»، والخامس جبل «بنغلاي». وتشغل هذه الجبال الضخمة ثلاثين ألف لي من الأراضي، ويبلغ عرض قممها تسعة آلاف لي، وبين كل جبل وآخر فاصل من الأرض مقداره سبعين ألف لي، وتنتصب كلها إلى جوار بعضها بعضًا في شموخ، وعلى قممها مقاصير مزينة بالذهب، تحوم فوقها، وتسكن في أطرافها الطيور والوحش، وكلها بيضاء اللون، بياضها لا يخالطه شوب، وقد تسامقت في جنباتها الأشجار بألوانها كأنها جوهر كريم، وثقلت أغصانها بأطيب الثمر، فمن أكل منها، أو تنسم فوح عطرها، لبث في الخلد لا يموت ولا يدركه المشيب، وسكانها مقيمون فيها أبدًا، وهم بشر أقرب، في خلقتهم، إلى الملائكة؛ في كل ساعة من الليل والنهار، يدأبون على التواصل الودي بينهم، لا يقعد منهم أحد عن ذلك. وقد بلغوا من الكثرة حدًّا يفوقون به الحصر، ثم إن قاع الوادي، أسفل الجبال، لا يتصل بقاع البحر، بل يتحرك أسفل الجبل تبعًا لحركة الموج زيادةً ونقصانًا، يتأرجح بين مد وجزر، فلم يحدث قط أن استقر في حال من السكون؛ حتى ضجت الملائكة والحور والقديسون جميعًا، وبثوا شكواهم إلى السماء، فترفقت بهم، وقد كادت تتحول الجبال عن مواقعها إلى أقصى الغرب، وتتهدم صوامع القديسين ومنازل الملائكة الأبرار، ويصير الكل بلا مأوًى. فتنزل الأمر السماوي على «يوجيان» [أحد الآلهة الأسطورية، له رأس إنسان وجسم طائر، في أذنيه قرطان من ثعابين سود، ويدوس بقدميه ثعبانين أحمرين] بأن يقود خمس عشرة سلحفاة عظيمة، تسير معه في مسيرة برءوس منتصبة، فتحمل الجبال الخمسة على جباهه، فتقر الأطواد الخمسة في مكانها، وظلت السلاحف تتناوب العمل، فيما بينها ثلاث مرات، كل مرة مقدارها ستون ألف سنة؛ فهنالك رست الجبال في مراسيها لم تتقلقل ولم تتزحزح عن موضعها، بيد أنه كان رجل عملاق مهول الخلقة يقيم بأرض «لونبو» [هذه الأخيرة بلدة أسطورية، أما العملاق فهو كائن خرافي، طوله ثلاثون جانغ، أي ما يساوي نحو مائة متر أو يزيد، ويعمر زهاء ثمانية عشر ألف سنة] فما كاد يخطو عدة خطوات حتى بلغ قمة الجبال الخمس، ثم وضع الشص في خيط الصنارة وألقى بها من علٍ، فعلق الشص بالسلاحف الست، فسحبها واحدة وراء الأخرى، وحملها العملاق على كتفه عائدًا إلى قومه، ثم إنه أوقد نارًا فأحرق السلاحف وأخذ ظهورها الصخرية؛ ليصنع منها طاولة الكهانة والتنجيم، وحدث أن جبل «دايو» وتلال «يوان تشياو» تزحزحت من مكانها وانحدرت تجاه أقصى الشمال [الشمال القطبي] حتى غاصت في البحر، ولم يجد القديسون ساكني الجبال مأوًى لهم ولا الحور والملائكة، بقعة يقيمون فيها، فهاموا على وجوههم في البرية، وكانوا وقتئذٍ كثرة مهولة لا يحصيها عد، وكان أن حمي غضب الملك السماوي، فأنزل لعنته على لونبو العملاق، وقدر عليه أن يتناقص طوله رويدًا، فتضاءل حجمه للغاية، وصار أهل البلد الذين يقيمون معه، أضأل قامة وأقل ضخامة، فلما جاء زمن (الأباطرة الأسطوريين …) «فوش»، و«شن نونع»، كان الناس في بلدة لونبو قد صغرت أبدانهم، وإن كانت أطوالهم قد ظلت تتجاوز القصبات العشر [القصبة «جانغ»، تساوي نحو ثلاثة الأمتار ونصف المتر] وكان ثمة بلد آخر للأقزام، على بُعد أربعمائة ألف «لي» من الإقليم الأوسط، ويسمى أرض «جياو ياو» [بلد أسطوري] لم يزد طول الفرد فيه عن تشي وخمسة تسون [«تشي»، ذراع صيني، يساوي ثلث المتر؛ «تسون» ثلث ذراع، أي زهاء عُشر المتر] (وقد قيل إن …) في مكان بعيد جهة شمال الشرق، يوجد قزم، يقال له «جنغ» [قزم أسطوري] طوله يبلغ تسعة تسون. وقيل إن شجرة تُسمى «يان لينغ» تنبت جنوب منطقة «شينغ تشو»، تزهر طيلة خمسمائة عام، وتذبل خمسمائة أخرى، فذاك تقدير ربيعها وخريفها، وكانت تنبت في العصر القديم شجرة التوت الصيني [حرفيًّا: شجرة «داتشون»] ومقدار ما تعمره من ربيع يبلغ ثمانية آلاف عام، ومدة ما يحول عليها من خريف مثلها. (وذكر في الأعاجيب أن …) نوعًا من التسوس يوجد في التربة التي تفشى فيها العطن ولحاء الشجر الذي نخره السوس؛ فهو ينشط في الصباح الباكر، ويصير إلى الخمول في المساء، ويقال بأن حشرة طائرة اسمها «منغ نا» تظهر فيما بين الربيع والصيف، وخصوصًا وقت هطول المطر، فإذا طلعت الشمس اختفت تمامًا.

(ومما يُذكر أيضًا، أنه …) فيما وراء البلاد الشمالية يوجد بحر حائل المياه، تبدو صفحته سوداء اللون، واسم الموضع «بحيرة السماء»، يعيش فيها نوع من الأسماك الضخمة التي يبلغ عرض أجسادها عدة آلاف من الأميال، بينما يبلغ طولها ما يتناسب مع امتداد عرضها، وتُسمى «سمكة كون»، ويعيش في المنطقة نفسها طائر يقال له «الرخ» يبلغ ما بين طرفي جناحَيه، إذا فردهما مقدار سحابة في السماء، وفي طول جسمه ضخامة تتناظر وعرض جناحيه؛ فكيف كان يمكن الاهتداء إلى معرفة هذه الخوارق وسط مجتمعات البشر؟ (وفي الإجابة نقول …) إن تلك الأشياء قد رآها دايو بعينيه، وقام «بويي» [أشهر الرعاة الأسطوريين] بتعيين أسمائها، بينما توفر «إيجيان» [شخصية أسطورية اشتهرت بغزارة العلوم والمعارف] على تدوين آثارها.

(ومن بين ما يُذكر من الخوارق أيضًا أن …) هناك حشرة تتكاثر بجوار النهر، تسمى «جياو مين»، وهي حشرة طائرة تحتشد في جماعات تطير أسرابًا، ثم تحط على أهداب الذباب، وتظل هكذا تطير أسرابًا مشتتة ثم تجتمع على أطراف عيون الذباب دون أن يشعر بوجودها، بل إن أشد الناس بصرًا [حرفيًّا: حتى أولئك الذين أوتوا حدة بصر تفوق ما لدى «ليجو» أو «تسيو»] فلن يلحظوا أي ملامح لوجودها ولو دققوا النظر تحت ضوء النهار، ثم إن أسمع الناس للهمس [حرفيًّا: من أوتي حدة سمع شديدة، مثل: «جيو»، و«شيكوان» [شخصيات أسطورية].] لن يسمعوا لها حسًّا وإن أصاخوا السمع وسط سكون الليل.

ليس سوى ابن السماء (الإمبراطور)، و«رونغ تشنزي» [لقب من ألقاب لاوتسي] هما وحدهما اللذان يملكان (… بقوة البصيرة القلبية، بعد أن صاما ثلاثة أشهر، وأقاما بكهوف الجبال حتى خمود شهوة النفس وذبول الجسم …) أن يشاهدا ما تضاءل من الهوام وكأنه تل من تلال جبل «سونشان»، وأن يسمعا بقوة إنصات متدارك رفة جناح الدويبة، كأنها هدير الطبول أو هزيم الرعد في عنان السماء. ويُحكى أنه يوجد في دولتي «أو»، و«تشو» نوع من الأشجار يطلق عليه «يو» (الليمون الهندي) وهو نوع من الفواكه دائمة الخضرة طوال فصول السنة [حرفيًّا: دائمة الخضرة شتاءً وصيفًا] ثمرته حمراء اللون وطعمه قابض، والثمرة بقشرتها الخارجية وعصارتها الداخلية تشفي من مرض «نيتشي» (التهاب القصبة الهوائية)، الأمر الذي حدا بالناس، في منطقة «تشيجو» أن يعظموا قدره وفائدته (في المجال الطبي)، هذا بالرغم من أن هذا النبات نفسه إذا زُرع في الضفة الشمالية لنهر «هواي» أنتج ثمرًا (… شبيهًا ﺑ) البرتقال الحامض.

(ومن أعجب العجائب أن …) الببغاء لا يمكنه الطيران إلى الجهة الأخرى من نهر «جي»، وإذا قُدِّر للغُرير [وهو حيوان ثديي أشبه بالفئران] أن يعبر نهر «وين»، فموتًا يموت. فتلك كلها جملة أحوال ناشئة عن تباين طبيعة الأرض والمناخ.

وبرغم تعدد وتباين الهيئات والأحوال التي توجد عليها الأشياء كافة، إلا أن الطباع تحتفظ بقدر دائم من الثبات والأصالة؛ فلا ينشأ بينها أي نوع من الاستبدال أو التبديل؛ فلكل شيء وجود متكامل، واستيفاء فطري لكل جوانب تفرده الطبيعي. فما الوسيلة لمعرفة الفرق بين ما هو أصغر وأكبر؟ وما السبيل إلى التعرف على أيها أطول أو أقصر؟ بل ما الطريقة المثلى التي تعيننا على تبيان جوانب الاتفاق ونقاط الاختلاف فيما بينها؟ (ذلك هو السؤال.)

[٣]

«طايهان» و«أوانغو» جبلان عظيمان، امتدا على بقعة من الأرض محيطها سبعمائة «لي»، وقد بلغ ارتفاعهما عشرة آلاف «رن» [مقياس قديم يساوي مترين وثلث المتر، تقريبًا] وموقعهما منحصر بين جنوب إقليم «جي» وشمال «هويانغ»، وفي المنطقة الشمالية من الجبلين، كان يقيم رجل من العامة، في التسعين من عمره، واسمه «يوكونغ» [الاسم يعني، حرفيًّا: الشيخ الأحمق] واتفق أن مسكنه كان يقع بمواجهة سفح المنطقة الجبلية مباشرة، وقد شق عليه المرور بالجبل عبر الدروب الشمالية، فاضطر إلى المسير من خلال الطرق المتشعبة والمتعرجة، (وإذ لاقى من أمره عسرًا، فقد …) نادى في قومه بأن يجتمعوا إليه، فلما جاءوه قال لهم: هلموا نضم جهودنا معًا؛ لنزيل عثرة الطريق، ونروِّض أعناق الجبال حتى تصير سهلًا منبسطًا وطريقًا ممهدًا؛ ييسر علينا الوصول مباشرة إلى جنوب «يوجو» [مقاطعة «هنان»، في الوقت الحالي] ونهر «خان» بضفتيه، فأشيروا عليَّ فيما ترون من أمركم. فتشاور القوم وطال بينهم الجدل حول هذه الفكرة [حرفيًّا: لبثوا يتحاجون بسبعة أفواه، وثمانية ألسن] وألقى كل منهم بدلوه، واتفقت كلمتهم في النهاية، حول هذا التدبير؛ غير أن زوجة يوكونغ أبدت شيئًا من التردد؛ إذ قالت: «لست أراكم على شيء من القوة المطلوبة لإزالة (تلال ضئيلة، مثل تلال …) «كويفو»، فكيف بكم وقد عزمتم على هدم طودين هائلين مثل «طايهان» و«أوانغو»؟ ثم ما بالكم تتغافلون عمَّا سيصادفنا من عراقيل بعد أن نجد أكوامًا من الرمال والحجارة قد تكدست حولنا، دون أن نقوم بتمهيدها، فأين نذهب بها، وإلى أين ننقلها؟» واشتبكت أفواه الجميع في جدل محموم، وقالوا: «لا بأس، فأكوام التراب والحجارة نلقي بها عند ضفتي نهر «بوهاي» ونكدسها شمال منطقة «إينتو».» وعلى ذلك، فقد أشرف يوكونغ، بنفسه، على ما قام به ولده وحفيده من حمل الأحجار والتراب على ظهورهم وأكتافهم، بما في ذلك أعمال التكسير والحفر، ثم كانوا ينقلون الهيل في الصناديق إلى شاطئ البحر. وكان ابن جارتهم (الأرملة) «جين تشن»، الذي لم يكن قد بلغ الحلم [حرفيًّا: لم ينبت في فمه ضرس العقل] عازمًا على المشاركة في العمل، وراح يتقافز هنا وهناك وهو يمد يد المساعدة للعمال، وعلى مدار العام، دارت الفصول وانقلب الصيف شتاءً والشتاء صيفًا، فكان الشغَّالون يدعون ما بأيديهم من عمل، بعض الوقت، فيما بين انتقال الفصول، يخلدون فيه إلى الراحة. وكان أن تطلع إليهم الكهل المقيم بجهة «خوان» ساخرًا ومشفقًا مما يتعبون فيه أنفسهم، وحاول أن يثني يوكونغ عن عزمه، قائلًا له: «يا للشقاء الذي كتب عليك، ويالك من أحمق، أما علمت أن كل ما عندك من وقت وجهد لن يكفي، حتى، لاقتلاع أشجار الجبل من جذورها! فما بالك بالأحجار الضخمة وأكوام الحصى والتراب المتناثرة في كل مكان؟» تنهَّد يوكونغ، وهو يرد عليه، قائلًا: «يا لعقلك المتحجر، وفطنتك الميتة [كذا] وقلبك الأصم. أنت حتى لم تكد تبلغ ما لدى ابن الأرملة من فهم وإرادة (فاعلم أني …) لو فرغ مني الجهد، وانقضى بي العمر، فسيأتي ولدي من بعدي؛ ليواصل الجهد. وسيكون لولدي حفيد من بعده، يكمل العمل؛ ومن بعد الحفيد ولد آخر، وبعد الولد حفيد؛ لتتواصل مسيرة الأجيال بغير نهاية، فيكثر أولادي وأحفادي كثرة هائلة، بينما الجبل لا يتكاثر، أفليس هناك أمل إذن في أن ينحطم الجبل تحت عزم السواعد وسطوة المثابرة والإرادة؟» ولم يحر الكهل جوابًا. ولما سمع الإله «تساوشن» [حرفيًّا: الإله القابض على رأس الأفعى، وصورته تمثل رأس نمر فوق جسم إنسان] بقصة يوكونغ الذي اعتزم هدم الجبل ونقل ركامه إلى شاطئ النهر، خاف أن يظل الجميع (الرجل وأولاده وأحفاده …) يعملون هكذا بلا نهاية، فأبلغ الأمر إلى ملك السماء الذي شاهد وعرف ما انطوت عليه جوانح يوكونغ من تصميم وإخلاص، فأسبغ عليه معونته، وأمده باثنين من أبناء الإله «كواي» [إله القوة والفتوة] هبطا إلى الأرض وحملا الجبلين على أكتافهما، فوضعا أحدهما جهة الشمال الشرقي؛ والآخر جنوب إقليم يونغ (وما أبعد ما بين الجهتين) فمنذ ذلك الحين، صار الطريق سهلًا وممهدًا دون عوائق، بين جنوبي «جيجو» والضفة الجنوبية لنهر «خان».

[٤]

لم يكن «كوافو» [شخصية أسطورية] يعرف كيف يقدر طاقته وقوته على نحو مضبوط، وقد خطر له مرةً أن يحاول اللحاق بظلال الشمس، فبقي يتبعها أينما حلت، حتى آوت الشمس إلى كهفها [حرفيًّا: إلى مبيتها في أرض «يوكو»] وكان أن بلغ به العطش مداه، فهرع إلى النهر الأصفر ثم إلى نهر «وي»، وصار يعب من مياههما دون أن يرتوي، فأراد السفر إلى بحيرات الشمال؛ علها تروي غلته، غير أنه مات على الطريق، وباتت جيفته مطروحة في العراء وإلى جوارها عكازه الذي كان يمشي به، وحدث أن انسربت الدماء والشحم المتهرئ وما تحلل من الجثمان إلى جوف العكاز، فأحالته إلى غصن رطب، وصار الغصن شجرة دراق، وكانت الشجرة كثيفة الأوراق سابغة الظلال، حيث نثرت الظل فوق آلاف آلاف الأميال.

[٥]

قال دايو: «لم يسطع في الأنحاء كافة [حرفيًّا: في الاتجاهات الأربعة وفي كل مكان] إلا ضوء الشمس والقمر، ولم يتلألأ في صفحة السماء سوى النجوم، (ثم إن …) أجزاء الفصول انقسمت إلى ربيع وصيف وخريف وشتاء، ووُضعت مواقيت المشتري لحساب الأعمار والسنين، وقد أسبغت الآلهة فضلها فوق الجميع، بمختلف الخصائص والسمات والهيئات، ولكلٍّ نصيب من الفضل، (… ومن الناس من يموت في باكر العمر ومنهم من يعيش السنين الطوال) فهناك حكمة لا يعلمها إلا الفاهمون من القديسين.»

وقد قال شياكي: «ومع ذلك، فهناك ما يتبدى قبل بدء الآلهة، وما تختلقه يد التغيير والإبداع دون ما يبدعه اﻟ «ين» واﻟ «يانغ» [طاقات الإبداع] وما تتشقق عنه أكمام النور من دون شمس ولا قمر، وما يعاجله الموت بغير نكبة داهمة، وما يطول به البقاء بغير مدد من عنفوان العمر وبهجة الأيام، وما يشبع بغير طعام [حرفيًّا: بغير الحبوب الخمسة: الأرز، القمح، الذرة … إلخ] وما ينعم بالدفء بغير كساء، وما يرحل ويبحر بغير قارب ولا قافلة؛ فتلك كلها أنماط من الطبيعة، تغمض أحوالها عن فهم القديسين الحكماء.»

[٦]

كان «يو» (الملك) حريصًا على إصلاح الترع والمصارف ومراقبة أحوال الأراضي (فبينما هو مستغرق في عمله هذا …) شرد عن الطريق، فضل السبيل، فوطئ أرض بلد أخرى غير بلاده، وسار بحذاء بحر «بيهاي» من ناحيته الشمالية دون أن يعرف مقدار المسافة إلى منطقة «تشيجو» (وكانت الدولة التي دخل أرضها …) تُسمى دولة «تشونبي»، لكنه لم يكن يعرف إلى أين تمتد أطرافها، ولا آخر مدى حدودها، بيد أنها كانت أرض جفاف لا يسقط فيها مطر ولا يتكاثف في أجوائها الندى، فكأنها بلقع خالٍ لا تعشش فيه الطيور ولا تأوي إليه دواب البرية ولا ينبت فيه عشب أو شجر ولا تسبح في مياهه الأسماك. ليس سوى السهوب الواسعة تحيط بأطرافه الأربعة، ووراءها سلاسل جبال وتلال متصلة كعقد نظيم، وفي وسطها يقع جبل كبير يُسمى جبل «هولين»، يبدو من بعيد، على هيئة إناء فخاري طويل العنق، ضئيل الفوهة وفي قمة الطود كهف يشبه حلقة مستديرة، يقال له «كهف تسي شوي»، وبداخله تنبع عين ماء فوارة، هي عين «شن فن» [بئر الآلهة] فماؤها لطيف الرواء، ذكي الرائحة، له عَرْف أعطر من الزهر السحلبي والديش الفواح، وقد ساغ للشراب، فهو أصفى من خمر مذاب، والعين تسيل في أربعة جداول تنحدر من أعلى السفح فتصب ماءها في جوف الوادي، ثم تجري في تعاريج الأخاديد فوق أرض ذلك البلد، فتملأ كل بقعة ويصل مداها إلى كل الأركان. والبلد طيب الأرض معتدل المناخ، لا يجتاحه وباء ولا تنزل بأرضه الآفات، والناس في رباط من الود والتسامح، لا تفرقهم إحن ولا مشاحنات، انطوت أسرارهم على المصافاة، وانطبعت نفوسهم على كريم السجايا؛ فهم وادعون بغير حمق ولا ضغائن أو تحاسد، كبيرهم وصغيرهم في فناء واحد لا تعرف عامتهم من خاصتهم، يجوبون ساحات الفرح واللهو يدًا بيد، لا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى، ولا حاجة بهم إلى وسيط زواج ولا حفل عرس، وبيوتهم على شطآن الماء تتبع مسيل الخلجان أينما سالت، وهم لا يزرعون أرضًا ولا يحصدون زرعًا، وقد اعتدل المناخ، وصلحت الأراضي والأتلام (لكنهم، رغم ذلك …) لا يحتاجون إلى شيء منها؛ فهم لا يغزلون ولا ينسجون ولا يرتدون ثيابًا، وتمتد بهم سنو الحياة حتى المائة، فلم يحدث أن توفي أحدهم من شيخوخة آفلة أو مرض عضال، وقد تناسلوا فعظمت كثرتهم، وصار منهم العدد الوافر فوق الحصر، فشملتهم السعادة وطاف بهم طائف السرور، والحياة رغد وعيش هانئ؛ فليس بينهم شيخ فانٍ ولا بائس مكروب. والقوم محبون للموسيقى والغناء، يتناوبون الغناء والعزف جماعات مترادفة، لا يسأمون طول الطرب وكثرة المعازف والغناء. فإذا أصابهم الجوع أو التعب، قصدوا إلى البئر الإلهي فشربوا حتى ارتووا، ثم صفت روحهم صفاء البدء الأول، ولربما انكبوا على الشراب فنهلوا منهل ظامئ لا يرتوي، فظلوا هنالك حتى ثملوا من عذوبة النبع الجاري، فبقوا في الثمالة لا يفيقون إلا بعد خمسة عشر يومًا، ومنهم من يغتسل بماء العين الربانية، فيعود البدن منه رطبًا رائق الجلد لامع البشرة، وأحاط به أريج فائح العطر، لا يزول عنه إلا بعد عشرة أيام. وطاف الملك بدولة «تشونبي» من ناحيتها الشمالية، مدة ثلاث سنوات، دون أن يفكر في العودة إلى بلاده، لكنه حتى بعد أن رجع إلى الوطن، راح يفكر في ذلك البلد الذي شاهده في ترحاله، وقد ملك عليه إحساسه بالعجب والدهشة والانبهار؛ لدرجة أنه انشغل بهذا التفكير طوال الوقت، متغافلًا عن الطعام والشراب، بل حتى عن الاستمتاع بلذة أوقاته مع محظيات القصر، واحتاج الأمر عدة أشهر حتى عاد إلى حالته الأولى (التي كان عليها قبل ذهابه في ترحاله البعيد) وكان «كوانشون» [أحد أهم الخبراء السياسيين في مطلع زمن الدول المتحاربة] قد نصح للملك «خوان»، حاكم دولة تشي، بالتنزه في منطقة «لياوكو»، وسنحت له الفرصة أن يذهب برفقة مولاه إلى دولة تشونبي في الشمال، على سبيل النزهة والترفيه، فما كادت تأذن لهما ساعة السفر حتى ابتدرهما «شيمنغ» بالاعتراض على تلك الرحلة السياحية قائلًا (لجلالة الملك): «أيريد الملك أن يرحل عن دولة تشي، بما رحبت به من عز وبهاء ووفرة في السكان والمشاهد الطبيعية الساحرة لجبالها وأنهارها، وما تزخر به من خيرات هائلة، وما أقيم في سرادقاتها الملكية من مراسم ملكية جليلة، وما تطرزت به منسوجاتها وأثوابها من لمسات الجمال والإبداع، وما امتلأت به ردهات قصورها من فتيات ومحظيات حسان، هذا بالاضافة إلى ما عمرت به قلوب المخلصين لجلالتك من عرفان وتبجيل. ألا يكفيك، يا سيدي، أن ترفع صوتك بالأمر الملكي فتصدع آلاف مؤلفة من جنودك خاضعة مخلصة في الطاعة، وبإشارة (بسيطة) من يدك تأتيك صفوف النبلاء والأمراء راضخة لأوامرك. فما الذي تراه داعيًا للانبهار بذلك البلد البعيد الذي تترك لأجله، أرض بلادك وآلهتها، لا لشيء إلا لتحث الخطى وتقود الخطو إلى أرض الحمقى وموطن البلادة والجهل والتخلف؟ ولا أرى سوى إنها فكرة سقيمة صدرت عن كوانشون، فلماذا تراها جلالتك جديرة بالإصغاء والتأمل؟» فلما تفكر الملك هوان في الرأي الذي طرحه عليه شيمينغ، اقتنع به وتخلى عن فكرة الرحلة إلى خارج الوطن، وكان أن أبلغ مقالة شيمينغ إلى كوانشون، فما كاد هذا الأخير يعرف بها، حتى رد قائلًا: «لا أظن أن ذهن شيمينغ يمكن أن يتفتق عن مثل هذا الرأي (هذا أولًا، وثانيًا …) فربما كنت غير ملم بأحوال ذلك البلد البعيد، ولست أستطيع الزعم بأني على دراية تامة بأحواله، لكن بشيء قليل من المقارنة، نجد أنفسنا أمام سؤال مهم جدًّا وهو … ما الذي يدعونا، حقًّا، للتشبث ببلد كثير السكان، ما الذي يشدنا بالحنين إلى بلد مزدحم بالموارد؟ انظر يا مولاي وتأمل، هل ترى فيما قاله شيمينغ شيئًا جديرًا بالاهتمام؟»

[٧]

يحلق الجنوبيون شعورهم ويعرون أجسادهم؛ في حين يرتدي الشماليون أغطية للرأس ومعاطف من الفراء، أما سكان مناطق السهول الوسطى فيلبسون القبعات والتنورات. وتتوافر الموارد في بلاد الأقاليم التسعة [حرفيًّا: «جيو جو» (الأقاليم التسعة) … الصين الكبرى، يعني] ويعمل الناس في شتى الحرف؛ فمنهم من يزرع الأرض، ومنهم من يعمل بالتجارة، أو يستصلح الأراضي، وهناك من يحترف الصيد. تلك أمور قد تشكلت بمرور الوقت، وبحكم تأثير الطبيعة (الكامن) في كل شيء، وترسخت كجزء فطري وطبيعي في حياة الناس على نحو ما يشاهد من ارتداء الفراء والجلود في الشتاء والملابس القطنية في الصيف، أو في عبور البحر بالقارب، واجتياز دروب البر في عربة ذات عجلات.

إلى الشرق من دولة يوي تقع دويلة «جامو»، حيث يقوم الناس هناك بالتهام البكور من مواليدهم، ذكورًا كانوا أم إناثًا؛ وذلك لاعتقادهم أن مثل هذا التصرف يفيد في إنجاب مواليد جدد أكثر صحة وقوة؛ وإذا مات لديهم الجد (للأب) حملوا الجدة وطرحوها في خلاء القفار البعيدة قائلين: «لا ينبغي أن يقيم بين الأحياء زوجات الشياطين [أشباح الموتى … الذين ماتوا]» وإلى الجنوب من دولة تشو يقع إقليم «يان رن» حيث (يتبع الناس عادة غريبة، وهي أنه …) إذا مات الوالدان أو أحدهما، قطعوا أوصاله ونزعوا اللحم عن العظام، ثم دفنوا الهيكل العظمي، باعتبار أن مثل هذا الصنيع دليل على البر والرحمة بالآباء والأمهات، وإلى الغرب من دولة تشين تقع دويلة «إيتشو»، حيث يقوم الأهالي هناك بحرق جثمان آبائهم المتوفين تحت كومة من الحطب، فإذا اندلعت ألسنة النيران وارتفعت في الأجواء، زعموا أن أرواح ذويهم قد انتقلت، على أطراف ألسنة اللهب إلى السماء؛ ليسكنوا هناك ملائكة أبرارًا، وسلوكهم هذا يؤكد البر بالوالدين (في زعمهم) فكل هذه النماذج المذكورة (من المواقف الغريبة) من التقاليد الاجتماعية (الرسمية) والعادات الشعبية، لا تثير (لدى معتنقيها) أي قدر من الدهشة أو الاستغراب.

[٨]

كان كونفوشيوس مسافرًا جهة الشرق، فبينا هو على الطريق إذ رأى صبيين يتجادلان، فسألهما عما يتنازعان فيه، فقال أحدهما: «كنت أقول لصاحبي إن الشمس ساعة الشروق أقرب مسافة إلى رءوس الناس مما هي عليه ساعة الظهيرة.» في حين زعم الصبي الآخر ﻟ «كونفوشيوس» أنه يرى أن الشمس لدى الشروق أبعد مما هي عليه عندما تكون في كبد السماء منتصف النهار، وهنالك قال الصبي الأول: «لكن الشمس ساعة الشروق تبدو هائلة كقبة كبيرة أو كغطاء عربة؛ فإذا جاء وقت الظهيرة تضاءلت حتى صارت كطبق مستدير، أفلا يعني ذلك أنها عندما تبعد تبدو أصغر؟» فرد عليه الصبي الثاني قائلًا: «لكنها عند طلوعها يكون الجو معتدلًا، رطب النسمات، أما في منتصف النهار فتكون حارقة حتى لكأن المرء غارق في أفران النار [حرفيًّا: لكأن المرء غارق في قدر حساء فائر من شدة الغليان] وإذن، أليس هذا دليل على أن حرارة الشمس تشتد وهي قريبة من رءوسنا، بينما إذا بعدت المسافة صارت حرارتها أقل حدة فانتعش النسيم وطابت الأجواء أول النهار؟» ولم يكن لدى كونفوشيوس ما يقطع به في هذه المسألة، فما كان من الولدين إلا أن تطلَّعا إليه ضاحكين، وهما يقولان له: «(لئن كنت أنت نفسك متحيرًا هكذا …) فكيف زعموا أنك واسع العلم غزير المعرفة؟»

[٩]

التوازن هو أسمى حقيقة في الدنيا كلها، فكل الموجودات، بأشكالها المختلفة، تخضع لهذه الحقيقة. بل إن شعرة رفيعة يمكنها أن تصمد لأثقال مدلاة، إذا ما توازنت قدرتها مع الشيء المعلق، وباختلال التوازن تنقطع الشعرة؛ ذلك لأن قوتها لم تعد تتكافأ مع مجهود الثقل المحمول؛ وإذ يتحقق الاتزان، ينعدم الانقطاع الذي كان محتملًا. ومن الناس من لا يصدقون هذا القول، وإن كان البعض — وهذا طبيعي جدًّا — يفهمون ما تنطوي عليه هذه الحقيقة (على أساس) من منطق معقول، وقد قيل إن «جانهي» [أحد أشهر الصيادين في التاريخ القديم] لم يستخدم في صنع صنارة صيد سوى خيط حريري (طبيعي، استخرجه من شرنقة) وشص صيد عبارة عن إبرة معوجة، وعصا رفيعة من خشب الإرثد، ثم وضع في الشص حبة أرز طعمًا للسمك، وقد تمكن من اصطياد كمية هائلة منه [حرفيًّا: حمولة عربة كبيرة] وسط تيار نهر دافق، وعلى عمق سحيق، دون أن ينقطع الخيط أو أن يلتوي الشص، أو تنثني القصبة، فلما بلغ الأمر مسامع ملك دولة تشو، انتابته الدهشة، وأمر باستدعاء جانهي ليستعلم منه أصل الحكاية وتفسيرها، فلما مثل الرجل بين يدي جلالته، كلمه قائلًا: «كنت قد سمعت أبي (المتوفى) وهو يقول: «إن الصياد المشهور «بوتشي تسي» كان يستخدم قوسًا هزيلًا جدًّا في اصطياد الطيور، (وكان يربط السهم في القوس …) بخيط حريري ناعم ودقيق، ثم يطلق السهم في اتجاه الريح، فيصطاد اثنين (من طير الصفارية) وهما يطيران في الأعالي، بسهم واحد؛ والسبب في تمكنه من الصيد (بهذه المهارة) هو أنه كان يجيد الانتباه إلى ضرورة السيطرة على يده حسب قوى الاتزان، فتعلمت من هذا المثال، مجتهدًا في تطبيق التجربة على صيد الأسماك، فلم تنقضِ خمس سنوات حتى صرت حاذقًا (لقاعدة التوازن) فكلما ذهبت إلى شاطئ النهر، وألقيت قصبتي للصيد، أفرغت ذهني من كل شيء، إلا من هدف واحد أعملت فيه فكري، وقصرت عليه غايتي، وكنت أدع الشص يغوص إلى أعماق النهر، بينما جعلت قوة القبضة على القصبة ثابتة، فلا هي تشتد حينًا ولا تتراخى حينًا آخر، ولم يكن لأي شيء في الوجود أن يزيغ انتباهي، حتى كانت أسماك النهر تنظر في الطعم العالق في الشص فتراه جزءًا من كائنات الوجود الطبيعي الماثل في الأعماق، من حولها، أو كأنه فقاعة مجتمعة في بقعة من البقاع وسط الماء، فتقبل عليه وتلتهمه دون أدنى تردد، ولئن كنت أكسب القوى بوسيلة ناعمة، وأوقع بالثقيل الضخم بواسطة وسائل خفيفة وهزيلة؛ فلأني كنت أتبع المنهاج الذي ذكرته آنفًا. وقد يرى مولاي الملك فيما اتخذه «بوتشي تسي» من فنون الصيد، مثالًا لإصلاح شئون الممالك، أو قد تكون طريقتي في صيد البحر نموذجًا صالحًا للتأمل، ومِن ثَم تمتثل الدويلات والممالك جميعًا لسطوتك، وتخضع كل الأشياء لإرادتك.» وعندئذٍ أجابه الملك قائلًا: «هذا هو القول السديد حقًّا».»

[١٠]

كان كل من «قونهو» [من أهالي دولة «لو»] و«تشينغ» [من أهالي دولة «جاو»] قد أصابهما مرض عضال، فذهبا إلى الطبيب «بيان تشيو» [المشهور جدًّا في زمن الدول المتحاربة] فأعطاهما العلاج الشافي، فأبلَّا من المرض، في آن واحد. وكان الطبيب قد قال لهما: «إنما نزل بكما المرض لأسباب خارجية أحدثت تأثيرها الضار (بالناحية الباطنية) وعمومًا، فقد كان يكفي استخدام العقاقير والأعشاب والأدوات الجراحية العادية للشفاء التام من المرض، لكنكما ما زلتما مريضين بعلل مزمنة (مصاحبة لكما منذ الميلاد، منذ أن كنتم أجنة في الأرحام) فهل تريدان أن أعالجكما منها؟» فأجابا كلاهما في وقت واحد: «بل اشرح لنا، أولًا، الحالة المرضية لتبصرنا بها.» فتوجه الطبيب «بيان تشيو» بكلامه إلى قونهو قائلًا: «إن قدراتك الذهنية قوية جدًّا، لكنك ضعيف الإرادة، فمن هنا، يميل مزاجك إلى التفكير العميق دون حسم؛ لكنك يا تشينغ، ضعيف الطاقة الذهنية مع صلابة في الإرادة؛ فلذلك لا تصبر على التفكير وإنما تستبد برأيك كثيرًا، فإذا تبادلتما قلبيكما كان في ذلك تمام الصحة والعافية.» ثم إنه سقاهما شرابًا مخدرًا، فناما ثلاثة أيام كاملة، فشق عن صدريهما وأخرج قلب كل واحد منهما من جوفه، واستبدله بقلب صاحبه، وعالج الجرح بأدوية معقمة، (… وانتهى من العملية الجراحية) فلما أفاقا كان أثر الجراحة قد زال تمامًا، فودعا الطبيب وخرجا من عنده قاصدَين ذويهما، إلا أن قونهو ذهب إلى منزل تشينغ، في حين أسرع هذا إلى منزل الآخر، وكل منهما يظن أنه قد عاد إلى امرأته وأولاده، بيد أن الزوجة والأولاد أنكروا قونهو، مثلما أنكر البيت الآخر مجيء تشينغ إليه، ودب النزاع بين الأسرتين وارتبكت أحوالهما، ولم يكن مفر من استدعاء الطبيب «بيان تشيو» لتوضيح الموضوع برمته، ولم يتوانَ الرجل عن ذلك، فذهب إليهم وقام بتوضيح المسألة بكل ملابساتها؛ وساعتئذٍ، انتهت الجلبة وانفض النزاع.

[١١]

كان «خوبا» إذا عزف على القيثارة [وهو الموسيقي العظيم في الأساطير الصينية] تحلقت الطيور ورقصت في أجواز الفضاء، وطرب السمك في أعماق الماء، فلما نما هذا الأمر إلى علم «شي وين» الموسيقي المشهور في دولة «جنغ» قرر أن يتفرغ لدراسة الموسيقى (في مستوى متقدم) على يد الموسيقار الأعظم «شيرانغ» [وهو الذي علم كونفوشيوس أصول العزف على الآلات] وقرر، في سبيل ذلك، أن يهجر بيته وأولاده، وكان يقتفي خطو أستاذه ويحذو حذوه، ولم يكن يلمس وترًا في القيثارة إلا على نمط الموسيقار الأكبر، وبقي هكذا ثلاث سنوات، لكنه بعد هذه المدة لم يفلح في أن يعزف قطعة موسيقية كاملة، وعندئذٍ تكلم معه «شي وين» قائلًا له: «أرى أن ترجع إلى بيتك.» فما كان منه إلى أنه وضع القيثارة، وتنهد قائلًا: «لست عاجزًا عن العزف، ولا عن إتمام معزوفة موسيقية كاملة؛ فلست أستطيع أن أقصر أفكاري على الآلة والأوتار، ولا أملك أن أستصفي كل انتباهي وطاقتي النفسية والذهنية للأداء الموسيقي؛ فلذلك خشيت أن أمد أصابعي، بشكل متسرع إلى الأوتار، فأطرقت أتأمل برهة من الوقت، لعلي أهتدي إلى ما أنا صائر إليه من أحوال.» وبعد أيام التقى شي وين بأستاذه شيرانغ الذي سأله قائلًا: «كيف أخبارك مع تمارين العزف الآن؟» فأجابه قائلًا: «لا بأس بما تدربت عليه، فهلا سمحت بأن أجرب شيئًا ألقيه على مسامعك الساعة؟» ولما كان الوقت آنذاك ربيعًا، فقد تناول شي وين القيثارة وعزف له من السلم الموسيقي الثاني [حرفيًّا: من الوتر «شانغ»] قطعة موسيقية من مقام «نان لو» [المقام العاشر، أحد المقامات الاثني عشر المشهورة في الموسيقى الصينية القديمة] فكانت الريح تهب والنسائم تدور في الفضاء مع رنة الأوتار، وفي كل آن تميل أوراق الشجر متراقصة على الأفنان، فما جاء أوان الخريف صار العازف يعزف من الوتر «جياو» قطعة من مقام «جياجون» [المقام الرابع] فتتلطف الأجواء ويرق العبير وتنبت الأغصان؛ ثم لما كان فصل الصيف، جعل يدق الوتر الرابع «يو» وهو يعزف من المقام العاشر، فبلغت الأنغام من الروعة حدًّا أنزلت به الجليد والثلج، أوان القيظ والهجير، وتجمدت المياه في الأنهار والبحيرات، فلما جاء الشتاء، جعل يضرب على الوتر «تشي» (الوتر الثالث) ويعزف الموسيقى من مقام «روي يين» (المقام السادس) فكانت أصداء العزف تؤجج وهج النهار وتذيب الجليد المتراكم فوق قمم الجبال، وفي نهاية العزف راح يضرب وترًا من مقام «قونشيان»؛ ليجمع فيه روعة خصائص الفصول الأربعة كلها، فكانت تهب نسائم أرق من المخمل، وتطوف سحابات كالبشائر الطيبة وينزل من السماء ندًى كالشهد المصفى، وتنفجر في الأرض عيون ماء عذب كالنبيذ، أو كأفواه القرب على أرض عطشى، ومِن ثَم، فقد تهلل الشيخ شيرانغ، وكاد أن يطير من السعادة، وصار يقول: «ما أروع عزفك أيها الموسيقار المبدع، لم يعد يجاريك الآن أحد في براعتك [حرفيًّا: أين منك الآن، «شيكوانغ» و«تشويان»] ولا أظن أن أحدًا، حتى لو كان من أشهر الفنانين، يمكن أن يفوقك فيما وصلت إليه، بل إن أمهر العازفين لن يسعه إلا أن يحمل قيثارته أو نايه أو صفارته أو صندوق أوتاره ويمشي وراءك يترسَّم خطاك.»

[١٢]

كان «شيوتان» قد درس الغناء على يد «تشين تشينغ» [أشهر المغنين في دولة تشين]، وقبل أن ينهل الكثير من علومه، ظن بنفسه اكتمال الموهبة والتدريب، وقام مودعًا، وقد أخذ أهبة العودة إلى بلده. ولم يحاول أستاذه أن يحثه على البقاء عنده (فترة أطول لاستكمال الدراسة) فأقام له حفل توديع كريم، وعزف له على الآلات الإيقاعية وغنى أعذب الألحان، وكانت الأغاني حزينة مثيرة للشجن، حتى اهتزت من شجوها غابات من الشجر، وأمسكت الريح السائرة والسحب المسافرة عن الرحيل، وتأثر شيوتان للغاية، حتى إنه تراجع عن فكرة العودة إلى الوطن، وقرر أن يبقى ليواصل دراسته، وأنبأ أستاذه بذلك، وهو ما كان يعني أنه لن يجسر بعدها أن يفاتحه في مسألة العودة إلى أهله وبلاده بأي حال. والتفت «تشين تشينغ» نحو صديق له، وقال: «كانت الفنانة القديرة «خانو» [مطربة مشهورة في العصر القديم] بعد أن سافرت شرقًا إلى دولة تشي، قد عانت الجوع والحرمان، فمكثت حينًا لدى بوابة العاصمة تتسول الغذاء بالأغاني، والغريب في الأمر هو أنها، بالرغم من مغادرتها لدولة خان — مسقط رأسها — لفترة طويلة، فقد ظل صوتها الشادي يتردد في جنبات منزلها، بين الجدران والأعمدة والأسقف، طوال ثلاثة أيام بلياليها، من دون توقف؛ حتى ظن الجيران أنها ما زالت مقيمة بالمنزل، وحدث — ذات مرة — أنها كانت مارة بباب خان المسافرين، فانهال عليها أحد المارة سبًّا مقذعًا، فتألمت للغاية، وانتابها الحزن والاكتئاب، حتى بكت بكاءً مرًّا، فأصيب أهل البلدة عن آخرهم، من شدة تأثير صوتها الباكي، بالأسى والمرارة، وظلت عيونهم تذرف الدموع ثلاثة أيام، لم يقربوا فيها طعامًا أو شرابًا، ولم يسعهم إلا أن يتبعوها أينما مشت، حتى إذا عادت أدراجها إلى حيث تقيم، رفعت صوتها بغناء (صافٍ مشرق، مفعم بالحياة) فما بقي أحد من الناس، صغير أو كبير، إلا تقافز مرحًا، وصفق متهللًا، وهو يصاحبها بالغناء، حتى تبدد ما كانوا فيه، منذ برهة، من غم وألم وأحزان، وطفقوا يبذلون لها أثمن ما لديهم من هدايا، ووقفوا لتوديعها وهي في أول طريق العودة؛ فلذلك بقيت عادة حب الطرب والغناء تقليدًا متبعًا في المناطق المحيطة بباب العاصمة (حتى يومنا هذا …) وما زال الناس في تلك المناطق يألمون للغناء الحزين، أيضًا؛ وذلك لما بقي فيهم من أثر غناء خانو، في تلك الأيام البعيدة.»

[١٣]

كان «بويا» عازفًا قديرًا على القيثارة [أحد أمهر العازفين في العصر القديم] في حين كان «جونزتشي» متذوقًا للألحان، شغوفًا بالاستماع، عالمًا بأسرار النغم. وحدث أن كان بويا يعزف لحنًا يعبر عن فكرة ارتقاء الجبال وصعود القمم العالية، فإذا ﺑ «جونزي تشي» يقول: «آه … ما أروع هذا النغم … ما أبدع التصوير وبراعته، حتى لقد بدا لي كأني أرى جبال «تاي» بقممها الشامخة أمام عيني.» وبعد لحظة كان العازف البارع يعزف قطعة يشير مضمونها إلى جريان ماء النهر في الجداول، فما كان من جونزي تشي إلا أن هتف قائلًا: «أرى في الموسيقى صفحة نهر عريض الضفتين، وها هي ذي مياهه تنساب أمامي!» وهكذا، فما من خاطرة أو فكرة اشتملت عليها الموسيقى إلا تراءت لإحساس جونزي تشي وذائقته المرهفة، وكان بويا، ذات يوم، في زيارة إلى منطقة السفح الشمالي لجبل «تاي»، حيث أمطرت السماء فجأة وأرعدت، فاضطر (مع الآخرين) إلى الاختباء في جانب من جرف الجبل، مما أصابه بقلق بالغ (وللتغلب على شعوره بالخوف، وعملًا بمنطق مواجهة المخاوف بمعايشة أجوائها، بوسائل جمالية …) تناول قيثارته وجعل يعزف، فكان أول النغم يحمل معنى زخات المطر المتتابع، ثم كان اللحن الثاني يشير إلى زلزلة الأرض وانفلاق السماء؛ وهو ما استطاع جونزي تشي أن يفهمه في الحال، ثم إن بويا وضع القيثارة جانبًا، وتنهد وهو يقول: «أراك قد فهمت … لا بأس … فأنت إذن أحسن من يفهمني (أنت الأذن الفاهمة والقلب الصديق …) لك خيال ومشاعر يكادان أن يتطابقا مع خيالي ومشاعري، فلن تخفى عليك رنة أوتاري [حرفيًّا: فإلى أين المفر من صوت قيثارتي، وما وراءها من مشاعر وأفكار؟]»

[١٤]

كان الملك «مو» [تُنطق كما في: «موسى»] — الحاكم في أسرة تشو الملكية — في رحلة تفقدية إلى المناطق الغربية، عبر فيها جبال «كونلون» حتى وصل إلى مرتفعات «يان»، ثم عاد أدراجه، وقبل أن يصل إلى حدود الإقليم الأوسط صادف في الطريق أحد العمال المهرة، ويدعى «يانشي»، فلما مثل الرجل بين يدي جلالته، ابتدره قائلًا: «أرني شيئًا من مهارتك وفنون صناعتك.» فأجابه الرجل، قال: «لك السمع والطاعة في كل ما تأمر به، فلن أتوانى عن أن أستعرض من مهارتي ما تعينه لي وتأمرني به، يا مولاي، غير أن هناك شيئًا كنت قد اخترعته وبذلت فيه غاية الجهد، وأريد أن أمتع نظركم بمشاهدته.» فقال له الملك مو: «فأحضره معك في الغد، عسانا أن نجد فيه ما يسر أنظارنا.» وأقبل يانشي في اليوم التالي، وطلب الإذن بمقابلة الملك، فأذن له، فسأله جلالته: «من هذا القادم معك؟» فأجابه: «هذا إنسان قد صنعته بيدي هاتين، وهو يستطيع أن يستعرض العديد من المهارات الفائقة التي تسر الناس وتبهج المشاهدين.» واستغرب الملك وراح يمعن النظر في ذلك الإنسان المصنوع وهو يتحرك وينتقل هنا وهناك، جيئةً وذهابًا، وينحني ثم يعتدل. وفي كل ذلك لا يبدو أي فرق بينه وبين الإنسان الحقيقي، بل الأعجب من هذا كله، ولعله الأكثر تبيانًا للبراعة الفنية أيضًا، هو أنه كان يستطيع أن يلتفت برأسه ويميل بها وهو يغني بصوت متوافق مع إيقاع الموسيقى ومقام الغناء، بينما كان أثناء الغناء يحرك ذراعيه وقدميه، وهو يتنقل في أنحاء المكان، ويرقص بين الحين والآخر رقصًا إيقاعيًّا سليمًا ومتوافقًا مع الدقات المتوالية، لا يختلف في الأداء عما يقوم به البشر، حتى بدا في لفتاته وسكناته وكل أفعاله ملتزمًا الأسلوب الصحيح على النمط المألوف في سلوك الناس العاديين، لدرجة أن الملك تشكك في أنه يمكن أن يكون بشرًا، فجمع محظياته وزوجاته ووصيفات القصر ودعاهن لمشاهدة هذا المنظر الغريب، ولما أوشك العرض على الانتهاء، أخذ ذلك الرجل المصنوع يغمز بعينيه للحسناوات من وصيفات القصر ومحظياته اللاتي كن يجلسن بجانب الملك مو؛ مما أثار استياء وغضب جلالته، حتى إنه أراد أن يفتك ﺑ «يانشي»، غير أن هذا الأخير خاف من عواقب الغضب، فأسرع يفكك ذلك الإنسان/الآلة، ويخلع أجزاءه أمام الملك فإذا هو خليط من جلود وحشائش ونشارة أخشاب وصمغ ومواد لاصقة وقطع ملونة من مختلف الأصباغ، واهتم الملك بفحص محتوياته الباطنية؛ فإذا هو مكتمل الأعضاء البشرية الباطنية: الكبد، القلب، الحويصلة الصفراوية، الطحال، المعدة؛ مثلما كانت هيئته وأعضاء جسمه الخارجية متسقة مع التشريح الطبيعي: فتلك هي العظام والعضلات والأعصاب، وهذه هي الأطراف والمفاصل، وهذا هو الجلد والشعر والأسنان؛ لكنها جميعًا، وبرغم تماثلها مع نظائرها من أعضاء الجسم الإنساني، فقد كانت (صناعية) غير طبيعية.

(وبعد لحظات) كان يانشي يجمع أجزاء ذلك الإنسان العجيب ويضم أعضاءه ويسوي أطرافه حتى عاد إلى صورته التي كان عليها وقت ظهوره الأول أمام المشاهدين، وحاول الملك، بنفسه، أن ينزع قلبه، فإذا بالفم ينطبق ويعجز عن الكلام؛ ثم لما نزع الكبد من جوفه، زاغت عيناه، وعميت عن النظر، وعندما أزاح الطحال من موضعه، توقفت القدم عن الحركة؛ وعندئذٍ تهلل وجه الملك فرحًا، وتنهد قائلًا: «يبدو أن عجائب وبدائع المهارات الفنية الإنسانية، لا تقل شيئًا عن إبداع الخلق الطبيعي!» ثم إنه أصدر أمرًا بنقل هذه الآلة الشبيهة بالإنسان في عربة خاصة لإيداعه القصر الملكي.

(ولقد كان هناك على مر التاريخ مخترعون ومبدعون كثيرون …) فهذا «بانشو» صاحب السلم السماوي [«بانشو» — أو، كما يُسمى أحيانًا، «لوبان» — من أشهر النجارين في التاريخ القديم، صنع سلمًا ضخمًا؛ ساعد على اقتحام المدن الحصينة وراء جدران عالية] وذاك «مودي» مخترع الطائرة الورقية الخرافية [النسر الطائر … التي كانت تحلق في الأجواء طيلة أيام وأسابيع] وكلاهما كان قد اختال على الناس فخرًا بما صنعت يداه، لا سيما وقد حازا من المهارة والموهبة ما تفوقا به على كثير من الموهوبين، إلا أن حكاية الإنسان الصناعي راحت تنتشر بين الأهالي، ووصلت إلى مسامع «دونغ منكو» [تلميذ بانشو، النجار] و«تشين قولي» [تلميذ مودي] وبالطبع فقد أبلغا أستاذيهما بنبأ تلك الحادثة الغريبة؛ مما أذهل هذين المخترعين الكبيرين (وسحب بساط المجد من تحت أقدامهما) فبقيا، منذ ذلك اليوم، عاكفين على صناعتهما في صمت ودأب.

[١٥]

قيل إن «كانين» أحد أشهر الرماة في العصور القديمة، كان قد مهر جدًّا في القوس والوتر، حتى إن جذبة قوس ورمية سهم، ما كانت أبدًا لتفلت وحش الفلاة، فما هي إلا ضربة واحدة مصمية، حتى يتردَّى السبع ميتًا في الحال، وكذلك الطير، إذا صارت هدفًا لسهامه، وهي في أجواز الفضاء، سقطت تتهاوى إلى الأرض؛ وكان للرامي المشهور أخ أصغر منه، يُدعى «فيو»، وقد تعلم منه فن الرماية حتى حذقه، بل تفوق عليه وأقبل على هذا الأخ الأصغر طالب آخر اسمه «جيشانغ»، يريد أن يتلقى دروس الرماية على يديه، وهنالك نصح له «فيو» قائلًا: «عليك، أولًا، أن تتدرب على النظر إلى الأشياء دون أن ترمش بعينك؛ هذا هو الأساس، قبل البدء في الحديث عن أي شيء في الرماية.» وعاد جيشانغ إلى أهله، وجعل يتطلع إلى دواسة النسيج التي تعمل عليها زوجته، ويركز نظره عليها أثناء عملية النسج، ويحدق ببصره طويلًا، دون أن يرمش للحظة واحدة، (ودأب على هذا التمرين …) فما مر عليه عامان حتى كان قد تمرس على قوة التركيز البصري لدرجة أنه ما كان يحرك رموشه، حتى لو انغرس في بؤبؤ العين مخرز أو رأس دبوس رفيع؛ وإذ بلغ هذه الدرجة المتقدمة من المهارة، فقد عاد إلى أستاذه فيو؛ ليخبره بما آل إليه أمره، فقال له: «ما زال أمامك الكثير لتفعله، فليس يكفي ما قد أجدت، والمسألة تتطلب المزيد من التدرب، حتى تصل إلى المستوى المطلوب لإجادة الرماية، ولن يتم لك ذلك قبل أن ترى الأشياء المتناهية الصغر فتبدو لك واضحة تمامًا، مثلها في ذلك مثلما ترى الأشياء الكبيرة الحجم وترى الجسيمات الدقيقة بالوضوح الذي تشاهد به الأشياء الضخمة، بكل تفاصيلها. وساعتئذٍ، عُد إليَّ مرة أخرى؛ لتقص عليَّ ما توصلت إليه.» وأسرع جيشانغ إلى حظائر الثيران فالتقط دويبة من الطفيليات الضئيلة المنتشرة في أجساد الثيران، فربطها في خيط رفيع، وعلق الخيط في النافذة، وجعل يحدق فيها بين الحين والآخر، وبعد عشرة أيام، وبتكرار التحديق في الدويبة المعلقة، صارت تبدو أكبر حجمًا، فلما انقضت ثلاث سنوات، كانت الدويبة تبدو لعينيه كأنها إحدى عجلات العربات الكبيرة، فطفق يمارس التدريب نفسه، في التطلع إلى باقي الأشياء، فكانت تبدو إليه كأنها كتل من تلال جبلية هائلة الجرم، فأتى بقرن أحد الوعول من الوحوش السائمة في دولة يان، واتخذه قوس رماية، وجاء من غابة دولة تشو بفرع أجرد من الشجرة ذات الغصون الصلبة، فصنع منه سهمًا للقوس، وجعل يرمي به على الدويبة المعلقة، فأصاب به الهدف في المنتصف، دون أن ينقطع الخيط الرفيع الذي يحمل الحشرة الضئيلة، وعندما وصل إلى هذه الدرجة من المهارة، أسرع إلى أستاذه فيو؛ لينهي إليه الخبر، فتهلل المعلم فرحًا، وصار يضرب بيده على صدره، قائلًا: «قد بلغت درجة عظيمة من التفوق.» فلما تم ﻟ «جيشانغ» ما أراد من إجادة فنون الرماية، على يد أستاذه فيو، وبرع في كل وجه من وجوه القوس والسهم، بدا له أنه لم يعد أحد في الدنيا كلها يمكن أن يضارعه في مبلغ درايته وكفاءته، سوى المعلم نفسه، ذلك اﻟ «فيو»، ولا أحد غيره! فحقد عليه وأضمر له الغدر؛ ليخلو له وجه الامتياز، بغير منازع. وتصادف أن التقى التلميذ وأستاذه، وجهًا لوجه على مشارف المدينة، ورفع كل منهما قوسه، وصوَّبه تجاه الآخر، فلما رميا عن قوسيهما، اصطدم السهمان، رأسًا برأس ووقعا في المسافة الفاصلة بينهما، دون أن تثور حبة من الرمال، (وظلا هكذا يتراميان، وتصطدم السهام، في المنتصف …) حتى فرغت الأسهم في جعبة فيو، وبقي سهم واحد عند جيشانغ، فرفعه وصوب تجاه أستاذه، وأطلقه، فتلقاه فيو بالدرقة الواقية (المصنوعة من خشب الأثل) فنشب السهم في الدرع الخشبية، وهنالك ثارت مشاعر المتصارعين، وجاشت نفساهما، فترقرت الدموع في الأحداق، فوضعا قوسيهما وانحنى كلاهما لصاحبه، تحيةً وإجلالًا، وأبديا شوقًا إلى صداقة أبدية بينهما، على غرار ما يكون بين الوالد وولده (بالتبني) فصارا كذلك، حيث طبعا على المعصم شارة بهذا المعنى، وأقسما بالأيمان المغلظة ألا يفشيا سرًّا من أسرار الرماية لأي واحد من الناس، كائنًا من كان.

[١٦]

كان «تساوفو» قد تلقى العلم على يد «تايدوشي» [أحد أشهر الحوذيين وسائقي العربات ذات الخيول، في العصر القديم] وفي الفترة الأولى التي قضاها طالبًا، بين يدي أستاذه، يدرس فن قيادة العربات، كان شديد الاحترام وقد بدت عليه مظاهر الأدب الجم والتواضع والتبجيل لأستاذه، ثم لم تنقضِ ثلاث سنوات، حتى أقلع المعلم عن الشرح والتدريس (وبرغم ذلك) فلم يتغير موقف تساوفو من أستاذه، بل زاد في إجلاله والتواضع له، وهنالك قال له تايدوشي: «أما سمعت ذلك المقطع من الشعر القديم، الذي ورد فيه هذا المعنى حيث يقول الشاعر:

«لا بد للمرء،
إذا كان أبوه صانع أقواس،
من أن يتمرن
على اقتلاع أعواد البامبو؛
كي يصنع منها
آلات الجرف؛
ولا بد للمرء،
إذا كان أبوه خبيرًا
بأفران الصناعة،
من أن يتهيأ لأمور كثيرة،
(من بينها …) التدرب على
صناعة المعاطف الجلدية …»

فليس عليك، الآن، سوى أن تأخذ عني العلم، بأن تلاحظ طريقتي في القيادة، حتى إذا استطعت أن تقود الأفراس وهي تجر العربات، بنفس الطريقة التي أتبعها وبنفس سرعة السير، كان لك الحق في أن تقود عربة بستة أفراس، فتمسك بيديك عنان ستة، وتنطلق في طريقك.» وعندئذٍ قال له تساوفو: «لك السمع والطاعة في كل ما تنصح لي به!» وراح المعلم تايدوشي يقيم أوتادًا على طريق (مخصص لسير الخيول) وقد غرست الأوتاد على نحو يسمح للخيل بأن تعدو داخلها، خطوة بخطوة؛ بحيث يمكن حساب عدد الخطوات دون أن تعوق هذه الأوتاد حركة الراجل من البشر في السير داخل الممرات، سواء للأمام أو للخلف، وكان تساوفو ينظر إلى ما يفعله الأستاذ بانتباه شديد، ويقلده في كل حركاته وسكناته، حتى أتقن مختلف جوانب المهارات الأساسية، فيما لم يزد عن ثلاثة أيام، مما أثار إعجاب تايدو، فامتدحه قائلًا: «إن ما تبديه من تفوق في التعلم وبراعة وسرعة في التمكن والإجادة لجدير بأن يحذو مثاله كل طالب لهذا الباب من فنون قيادة العربات ذات الخيل، فقد كانت خطواتك، وأنت ماشٍ بحذاء طريق الخيول، تكاد تتجاوب مع نبضات قلبك، وأرى أنك تستطيع الآن، إذا نقلت خبرتك في التدريب إلى التطبيق العملي في قيادة الخيول، أن تتحكم ببراعة في المراوحة بين السيطرة على اللجام وجذب عنان الأفراس، وسواء كنت متمهلًا في قيادتك أو مسرعًا أو تقود خببًا، فالأمر يعتمد على ملاحظة إيقاع التنفس والنداء على الخيول، (واعلم) أن حدود السرعة أو البطء تعتمد كلها على تقديرك الباطني، وفي كل الأحوال، فيجب أن تحتفظ بالسيطرة على إيقاع السير من خلال قيادتك لأعنة الأفراس وهي تجر المركبة، مع ملاحظة أن تقديرك الباطني للأشياء، مسألة تتبع رؤيتك من الداخل، أما حساباتك الخارجية للحركة، فيجب أن تتبع أحوال الخيل، وعلى هذا النحو (… تستطيع أن تزاوج بين هذين الاتجاهين في تقديرك) فيسلس لك قياد الأحصنة والعربة، للأمام وللخلف، وكأنك تتبع خطوطًا تم تقديرها بدقة بالغة على خارطة معدة مسبقًا للسير على طريق. وسواء كنت تدور مطوقًا أحد المنحنيات أو تسير في خط متعرج، فسوف تتصرف كأنك تلتزم بقاعدة محققة ومنهاجًا معلومًا للسير على جنبات الدروب، فإذا ما كان طريق السير بعيدًا، ثم وجدت أنك قادر على اجتيازه واكتشفت (آخر المطاف) أنك ما زلت محتفظًا بقدر كافٍ من الطاقة والقوة أبعد مما استنفدت، فستكون — عندئذٍ — قد امتلكت ناصية القيادة حقًّا، ودانت لك معاقدها؛ وإذ يرتفع بك الإتقان درجات، يصير لك مطلق السيطرة على مقود الخيل (لجامها) حيث تنسجم قبضتك على اللجم والأعنة في مزاوجة متبادلة بينهما، فإذا أحكمت قبضتك فوق الأعنة، وجب عليك الانتباه إلى ضرورة المواءمة بين السيطرة على الأعنة والتحكم في حركة يديك، وعندما يتحقق لك التحكم السليم في حركة اليدين، سيلزم أن تتواءم حركتك مع أفكارك وإحساسك (الباطني) وساعة أن تبلغ هذه الدرجة، فلن تكون في حاجة إلى أن تبصر بعينيك ما أنت فاعل في قيادة الخيول والعربات [بمعنى أن ينعقد لك تمام القدرة على القيادة، حتى لو استغنيت عن النظر إلى الطريق والانتباه إلى شروط السير!] بل تستغني، بالكلية، عن المقود والسوط الذي تحث به الخيل على الانطلاق عَدْوًا، وينتظم بك كل شيء في إيقاع مترادف: الحركة والسكون، الثبات والانتباه في جلستك أمام المقود وبيدك ستة أعنة انتظمت معاقدها في حيز اقتدارك، وقد خضعت لقيادتك أربعة وعشرين حافرًا تركض بك ركض أفراس، بيد سائق خبير، فكل حركات خيلك، سواء كانت بالالتفاف أو التقدم أو الرجوع أو الدوران، ستتبع نمطًا معلومًا وقاعدة مكينة. فإذا استطعت أن تبلغ هذه الدرجة من المهارة والاقتدار، تمكنت من قيادة العربات والخيول؛ حتى في أضيق الطرق وأوعر الدروب، حيث يصعب أن يتسع الممر لعجلات عربة أخرى تسير بجوارك، أو أن ينفسح الدرب لمزيد من الحوافر المتقافزة إلى جانب أفراسك. ويومئذٍ، فلن تخيفك مسارب الوديان أو وعورة الطرق فوق القمم العالية، فسيتمهد لك الطريق، مثلما تثبت في عينيك وفي قلبك شارة الطريق، وتجري بك الدروب ولا يعوقك وعر أو تسرع بك استقامة، فهذا مبلغ ما عندي من فنون القيادة فاحفظها في قلبك!»

[١٧]

كان الرجل الملقب ﺑ «هيلوان»، الذي من دولة «وي»، يمتلئ عداوة وبغضًا ﻟ «تشيو بن جانغ» فحمل عليه وقتله، فأراد ولد المقتول (… المدعو «ليدان») أن يثأر لأبيه، ويغسل عاره [كذا، حرفيًّا] وقد جاشت نفسه طلبًا للثأر، غير أن طاقته لم تطاوعه [حرفيًّا: قدرته البدنية لم تواتِه] (… مما أصابه بالحزن وفتَّ في عضده) فهزل جسمه، وقل غذاؤه؛ حتى لم يقوَ على المشي في الطرقات إلا بدفع الريح (… لم يكن يستطيع المشي إلا إذا هاجت الريح وساقته إلى الأمام) وبرغم ما انطوت عليه نفسه من مرارة ورغبة جامحة في الثأر، إلا أنه لم يجد المقدرة على إتيان مراده بقبضة جريئة وسلاح ماضٍ، ففكر في أن يطلب يد العون على القتل، ثم تراجع خشية الاتهام بالجبن، وأقسم أن يثأر لنفسه بسيفه البتار، مسلطًا إياه بقبضة واثقة على هيلوان، لكن غريمه كان على درجة من الشجاعة والجرأة لا يدانيها أحد من الناس؛ فقد كان كفؤًا أن يصارع، بمفرده، العصبة المقاتلة من الرجال، ولم يكن ثمة من يملك مثل يديه وعظامه وعضلاته وجرمه الجبار! ولطالما مد عنقه ليتلقى طعنات المدى، وفتح صدره للسهام المصوبة نحوه، فإذا بالشفرات تنثلم، والسهام تنثني، وإذا بجسمه كله وقد عاد صحيحًا لا أثر فيه لطعنة أو ضربة أو حتى مجرد خدش ضئيل من أثر الضربات. وفي مقابل كل تلك الصفات، فلم يكن ليدان، بالنسبة إليه، سوى مجرد فرخ ضئيل مهيض الجناح. وذهب ليدان إلى صديق يطلب إليه المشورة، فنصح له قائلًا: «برغم كل ما احتشد في صدرك من البغض لغريمك، فهو لا يأبه لك قيد شعرة، فكيف ترى مسألة الانتقام والثأر، وماذا أنت فاعل به؟» فأجابه ليدان، باكيًا: «قل لي أنت ما العمل، ألديك خطة ناجعة (للثأر)؟» فأجابه بقوله: «سمعت أن بدولة «ويه» رجلًا يدعى «كونجو»، وقيل إنه ورث عن أجداده سيفًا كان مخبوءًا بكنز الملوك من زمن «يين»، لو تقلده صبي أخرق أو طفل غض الإهاب، لفرت منه الجنود، وولت أمامه جحافل الجيوش، فهلا ذهبت إليه واستنصرته؟» فقام ليدان وقصد إلى أرض ويه، وقابل كونجو، وقدم إليه الهدايا وحياه أحسن تحية، وترك لديه زوجته وأولاده (على سبيل الرهان) ثم فاتحه فيما قصد إليه وصرح له بطلبه، فما كان من الرجل إلا أن رد عليه قائلًا: «ليس عندي سوى ثلاثة سيوف، تخير لك منها ما شئت؛ فكلها لا تصلح للضرب أو الطعان، واصبر عليَّ حتى أطلعك على حقيقة أمرها؛ فالسيف الأول منها، اسمه «هانكانغ» (أي: ذو الأنوار … أبو النور) ولن يطالعك منه، عند النظر إليه، أي شكل محدد؛ لكنك إذا تناولته وجدت له ثقلًا في يدك، وهو ذو نصل طويل، بعيد المدى، يطول أي شيء تقصده، وهو يثخن في الناس، دون أن يشعروا بآلام الضرب أو الطعن؛ أما السيف الثاني، فاسمه «تشنغ يين» (موئل الظلال) ولا يمكنك أن ترى قبضته بوضوح، إلا إذا اتجهت بنظرك صوب الشمال، وقت الغروب أو الشروق ودققت النظر مليًّا، ومع ذلك، فلن يستبين لك نصله الحاد؛ لأنه لا يصير سيفًا ضاربًا إلا حين تتناوله بقبضتك، حيث يصفر لك بصوت خافت؛ وإذ تضرب به فلن يشعر أندادك بألم الطعن؛ وثالث السيوف اسمه «شياو ليان» (معدن الليل، سبك المساء) وهو الذي لا يستبين لك منه شيء، حتى في وضوح النهار، سوى ظلاله، ولا تبدو لك لوامع أنواره إلا تحت ظلمة المساء، (فإنها تخفى عنك، في عموم الأحوال، قبضته ونصله) فإذا ضربت به، انفلق من الجسم المضروب شعاع، فتبدد في سنا لامع يبهر العين قيد لحظة عابرة، في كل ضربة لمعة بارق، يتطوح منها شارد النور، ويضج منها موضع الطعن لشدة تباريح الألم، ثم لن تجد على شفرة النصل أية آثار لنزيف الدماء. فتلك الثلاثة هي ما بقي لي من ميراث ثلاثة عشر جيلًا من الأجداد، ولم يسبق أن استعملتها لأي سبب من الأسباب، فأبقيت ثلاثتها حبيسة صندوق قديم ما زال مغلقًا، كعهدي به منذ أن تسلمته، حتى الساعة.» فقال ليدان: «برغم كل ذلك السحر والبراعة والغموض الذي تتحلى به السيوف الثلاثة، إلا أني أختار من بينها ثالثها، فأرجو أن تتفضل بالموافقة على أن تعيرني إياه!» وكان أن أعاد كونجو إليه امرأته وأولاده (مع الإقرار له باستعارة السيف) ثم صاما كلاهما سبعة أيام، وبعد أن آذنت الشمس بالمغيب وبات الوقت غائمًا بين بقية ضوء النهار، وأول ظلمة المساء، تقدم كونجو إلى ضيفه، فركع أمامه وسلمه السيف، وانحنى له ليدان مرتين، وتسلم منه طلبته، وعاد في الساعة إلى داره، وصار من وقتئذٍ يتقلد السيف ويلاحق غريمه «هيلوان» أينما مشى، فلما رآه قد استلقى في العراء، تحت نافذة بيته، وهو يغط في نومه، بعد أن شرب وثمل، وثقل جفناه من الثمالة، جرد السيف وضربه ثلاث ضربات قاطعة، فيما بين الرقبة والخصر (… دون أن يشعر هيلوان بأي أثر للطعنات) واستدار عائدًا ليدان؛ إذ وقع في ظنه أن خصمه قد لقي حتفه، ثم ما لبث أن صادف ولد هيلوان في طريقه لدى بوابة البيت، فرفع السيف وانهال عليه ضربًا بثلاث طعنات متوالية، وبدا الولد كأن شيئًا لم يمسسه بسوء، بل إنه ضحك عاليًا وهو يوجه كلامه إلى ليدان، قائلًا: «ما لك أيها الغبي الأحمق؟ (هل وصل بك الغباء أن تأتي بقدميك إلى باب بيتي، هكذا؟!) أما تجد ما تفعله إلا أن ترفع يدك لي بالتحية ثلاث مرات؟» وهنالك انتبه ليدان أن السيف غير قاتل أحدًا من الناس، فتنهد آسفًا وعاد أدراجه. فلما أفاق هيلوان مما غشيه من النوم والخمر، انتهر زوجته بعنف، قائلًا لها: «لمَ تركتني أنام في العراء، وقد سكرت بالأمس ولم أعِ شيئًا، حتى آلمتني بطني وأوجعني حلقي؟» وأسرع ولده يقول له: «قد رأيت الساعة ليدان مارًّا، من هنا، فما إن رآني حتى رفع يده لي بالتحية ثلاث مرات، شعرت بعدها بآلام في جسدي، وقد تيبست أطرافي، فما أظنه إلا متدبرًا مكيدة أو مخترعًا حيلة، يعود علينا وبالها ويصيبنا منها أذى.»

[١٨]

لما انتهى الملك مو (آل تشو) من حملته العسكرية الكثيفة ضد أراضي «شيرونغ» (شمال غرب الصين) فقد حدث أن أهدته هذه المنطقة سيفًا (… مصنوعًا بأرض كونو، التي اشتهرت بصناعة أجود السيوف) وقطعة من الملابس النارية (… التي يمكن غسلها وتنظيفها وسط أفران اللهب) أما السيف فكان طوله ذراعًا (… صينيًّا قديمًا، يساوي ثلث المتر، تقريبًا) وثمانية أعشار الذراع، ذا شفرة حادة ونصل قاطع خالص الجودة، نقي المعدن، صقيل السبك والصناعة، بلغ من رهافة الحد مبلغًا يقطع به الحجر الكريم [حرفيًّا: اليشب] كما يمضي النصل الحاد في الرمل الناعم [حرفيًّا: في قطعة من الطين] هذا، وكان الثوب الذي حصل عليه جلالته، من النوع الذي يسهل تنظيفه وغسله بألسنة اللهب، حيث توضع القطعة منه في أفران النار، فتتخلل أنسجتها النار، فتنقشع الأقذار التي علقت بالثوب، فإذا أخرج من الموقد، جرى تنفيضه ليزول عنه ما علق به من الشوائب، فيعود بهي المنظر، نقي النيسج، ناصع البياض كسطح من جليد؛ بيد أن سمو الأمير، ولي العهد، لم يكن ليصدق وجود تلك الأعجوبة، بزعم أنها من تهاويل وأكاذيب الرواة والحكائين، فهنالك علق «شياوشو» على ذلك، قائلًا: «ما أعجب أمر سمو ولي العهد، يبالغ في تصديق نفسه، ويكذب الوقائع الحقيقية.»

١  يتميز هذا الباب بوفرة محتواه من الحكايات الخرافية، وتزيد في جملتها عن عشرين حكاية قديمة، وهي تتصف بعدد من السمات، أبرزها ما يلي: (أ) إن بعضًا من هذه الحكايات تم تدوينه بأسلوب توثيقي؛ لأنه جزء أصيل وتراث هائل في الأساطير والحكايات الخرافية. (ب) البعض الآخر من هذه الحكايات، من وضع المؤلف، لكنها تبدو، في صياغاتها وأهدافها، نسيجًا واحدًا مع الحكايات الأصلية، دون تكلف. (ﺟ) الأهم من هذا كله، أن هناك هدفًا عامًّا ينتظم مسرد هذه الحكايات جميعًا، وهو تبيان معنى الطاو، بكل ما ينطوي عليه من غموض.
٢  «الموجودات» مصطلح طاوي، اجتهدت في ترجمته، بهذه الطريقة، بدلًا من عبارة: «العشرة آلاف شيء» تلك التي تكررت في كثير من الترجمات العربية، أو حتى في عدد من الترجمات الفرنسية والإنكليزية، وهي نقل حرفي جامد للكلمة الصينية التي تعني: «كل ما هو قائم في الوجود الطبيعي» أو «العالم» أو «الدنيا» أو «الأشياء كلها»؛ ولما كانت الصينية القديمة غير معنية بإعطاء معانٍ واضحة ومحددة، فقد تركت تلك العبارة «العشرة آلاف شيء» تفعل فعلها مع ذهنية مولعة بالغموض، ولا أظن أن الترجمة الحرفية، هنا، يمكن أن تزيد الأمر إلا حيرة وارتباكًا، وعلى أية حال، فنحن لا نترجم كلمة الشعب ﺑ «المائة لقب»؛ ولا ننقل لفظ «الماهر» ﺑ «المتقن مائة عمل»، مع أنها تنحو المنحى نفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤