الباب الثامن

شو هفو

说 符
(البراهين)١

[١]

كان ليتزو يتلقى العلم على يد «هو شيو تسي لين»، وذات مرة قال له أستاذه: «أراك قد فهمت معنى التواضع، وهكذا فيمكنني أن أنتقل الآن إلى شرح مسألة تبدو في غاية البساطة والوضوح، فلا تعجب إذ أكلمك عن كيفية الحفاظ على الاستقامة، دون ميل.» فقال له ليتزو: «لكني أتمنى أن أستمع إلى مزيد من الشرح حول مسألة التواضع.» فأجابه هو شيو تسي قائلًا: «(نستطيع أن نرجئ هذا الموضوع قليلًا …) لكن دعني الآن أبين لك مسألة استقامة البدن ليتك تلتفت إلى الوراء، وتتطلع إلى ظلك على الأرض، وستفهم ما أقصده.» فالتفت ليتزو خلفه ناظرًا إلى ظله، ولما كان جسده يميل في انحناءة خفيفة، فقد بدا الظل مائلًا، فلما اعتدل الجسد، استقام الظل؛ فأيًّا ما كان الوقوف، فقد كانت الظلال، في كل الأحوال، تتبع هيئة الجسم، استقامةً وميلًا (فالاستقامة والميل هنالك، لم يكونا حالة راسخة في هيئة الظلال، وإنما مجرد انعكاس لوضع الجسم) وهكذا؛ فسواء تعلق الأمر بالأحوال العامة أو بالمعاملات والسلوك من حيث الميل والاستقامة، فالتأثير الحاسم يقع على عاتق الأشياء نفسها أو الظروف الخارجية المحيطة بالأحداث، وليس في الطريقة التي يفكر بها الإنسان، بمعنى أن التحلي بمسلك يتسم بالتواضع [«رانغ» في المصطلح الطاوي، بمعنى: التراجع، الإيثار، التنائي عن الظهور] يمكن تمامًا أن يتحول إلى موقف يدعو صاحبه إلى التهالك على أول الصفوف والتكالب على موقع الصدارة.»

[٢]

تكلَّم «كوان يين» مع ليتزو، فقال له: «إن الكلمات الطيبة ذات الوقع الحسن يقع صداها موقعًا طيبًا مستساغًا، والكلمات الجافة (النابية) يتردد لها صدًى من جنسها. (واعلم أن …) للجسد الفارع الطول، ظلال طويلة ممتدة. أما القامة القصيرة فظلها ضئيل كذلك. إن مَثَل الشهرة كمثل الصدى، وسلوك المرء أشبه شيء بالظلال؛ فلذلك قيل إن من يتكلم بالحصافة والفطنة يكون لكلامه صدًى لدى أناس على شاكلته؛ ومن يسلك بالنجابة والذكاء يكون له أتباع يسيرون على منواله؛ فمِن ثَم لا يكاد القديس يسمع صوتًا، حتى ينتبه إلى مدى ما يتردد بعده من صدًى، وإذا اطلع على أحوال ما جرى في سابق الزمان بادر إلى النبوءة بما سيأتي في آجل العصور والأيام؛ فذلك هو السبب وراء مواهب الحكماء، في رصد مخبوء الأيام وتقدير مكنون صفحة الغيب.

بيد كل امرئ معيار تقدير أحوال الناس؛ أما الكشف عن حقائق تصرفاتهم وأقوالهم، فهو مرهون بما يستدل عليه من الآخرين، ولا بد أني (ككل الناس) سأحب من يحبني وأبغض من يبغضني.

كان الملكان «طان» و«أو» [تُنطق كما في: «أوليمبي»] يحبان الناس؛ فلذلك تسيدا العروش وتبوءا مقاعد الملك؛ أما (الطاغيتان) «جيه» و«تشو» فقد احتشد قلباهما بكراهية رعاياهما، فتمزق ملكهما وتبدد عرشاهما، وتلك حقائق ثبتت بالبراهين.

إن الفهم التام لمعايير السلوك وما ثبت من خلاصة البراهين، دون التطرق إلى التصريح عنها (قولًا) والاسترشاد بها (فعلًا) أشبه شيء بمن يريد أن يخرج من بيته إلى الدنيا الواسعة، من دون أن يمر بالباب؛ أو من يقصد إلى السير على الدروب دون أن يهتدي بالطرقات، فهل يمكن لمثل هذا المسلك أن يؤدي إلى أي نفع؟

قد تأملت سيرة (الملوك والآلهة … مثل:) «شن نونغ» و«ياندي»، وتفحصت مليًّا سجلات ووثائق (الأسر والإمبراطوريات الحاكمة في العصر القديم، مثل:) «يو» و«شيا» و«شانغ» و«تشو»؛ واكتشفت أن عوامل ازدهار تلك الأيام وانهيارها وقيام العروش وفنائها، تنبع كلها من المبدأ الذي أشرت إليه آنفًا.»

[٣]

قال «يان هوي» [شخصية بغير ترجمة معلومة]: «يتوسل الناس ﺑ «الطاو» ليزدادوا ثراءً وعزة وبهجة حياة، فماذا لو قُدر لي اليوم، أن أعثر على جوهرة ثمينة فأصيب حظًّا من الغنى ووفرة من المال، فهل يكون ثمة داعٍ للطاو؟» فأجابه ليتزو قائلًا: «لم يكن الملوك الطغاة (من أمثال «جيه» و«تشو») يقصدون طريقًا إلا التماسًا لما فيه منفعتهم الذاتية، ولم يروا في «الطاو» أي وجه للنفع فاستهانوا به، فهلكوا وبادت عروشهم (… فأبشر خيرًا؛ إذ لن تجد عندي قولًا يحذرك مغبة ما قد يصيبك من تهلكة مماثلة!)

(فاعلم) أن الناس إذا ضاع بينهم الحق والعدل، وتكالبوا على ما يملئُون به أفواههم وبطونهم، صاروا مجرد حيوانات داجنة [حرفيًّا: مجرد دجاجات وكلاب] وإذا تصارعوا واقتتلوا طلبًا للقوت، وأصبحت يد البطش هي الأعلى، صاروا كوحش الفلاة وحيوانات البرية؛ فكيف لمن تدنى إلى نهمة الداجن وهمجية الوحشي أن يحظى بالاحترام والكرامة؛ وإذا ذهبت الكرامة والاحترام، حلت المهانة والخطر والصغَار مكانها.»

[٤]

كان ليتزو يدرس الرماية، وتصادف أنه رمى بالسهم (عبثًا) فأصاب قلب الهدف، فطلب إلى «كوان يين» أن يبين له سبب إصابة الهدف (بهذه الطريقة الارتجالية، دون تسديد مدروس) فقال له: «هلا ذكرت لي أنت السبب في دقة تسديدك للضربة على هذا النمط؟» فأجابه ليتزو قائلًا: «لكني لا أعرف السبب.» فقال له كوان يين: «كلا، بل يجب أن تعرف السبب جيدًا؛ لأنه لا يكفي أن تجيء الرمية صحيحة في قلب الهدف تمامًا … لا … هذا لا يكفي!» ومضى ليتزو في طريقه وراح يدرس ويستقصي الأسباب ويجتهد في طلب المهارة والعلم بكل وجه ممكن، وجاء بعد ثلاث سنوات ليبلغ كوان يين بما انتهى إليه في باب الرماية، فقال له أستاذه: «هل عرفت السبب في تسديدك الضربة التي رميت بها، يوم ذاك؟» فأجابه قال: «نعم، قد وعيت السبب حقًّا.» فقال له كوان يين: «الآن قد وعيت الأمر وأدركت مقصدي، فاحفظ عليك مهارتك واعقل ما تعلمت واختزنه في خزائن علمك؛ لئلا يذهب به النسيان (واستفد من ذلك أن …) الأمر لا يقتصر على الرماية وحدها، بل يمتد إلى كل ما له علاقة بشئون الممالك، وتهذيب النفس وطلب كمالات السلوك الرشيد، فكلها تجري هذا المجرى؛ فمن هنا، نأى القديسون بأنفسهم عن النظر في موضوعات العالم والأشياء الموضوعية وجودًا وعدمًا (تجاوزوا حدود التساؤل عما إذا كانت ظواهر العالم الطبيعي قائمة أم معدومة) إلى البحث في علل وأسباب وجود الأشياء وفنائها.»

[٥]

قال ليتزو: «الغضب مدعاة للطغيان، والجبروت سبيل يؤدي إلى الغرور، فما أبعد أن يكون الطاو موضوع مناقشة مع غاضب أو متجبر! ولا بد أنه من الخطأ الفاحش أن يتحدث المرء (حول موضوع الطاو) مع من لم يشتعل رأسهم شيبًا، ويتجلل قدرهم بالوقار (فإذا كان من الصعب أن تحاول — مجرد محاولة — أن تناقش موضوع الطاو …) فما بالك بمحاولة تطبيق مبادئه في شتى نواحي السلوك؟

إن المتباهي بقوته يطأ مرتقى صعبًا، يصعب على الناس، معه، أن يمحضونه النصح؛ وإذ ينفض من حوله الناصحون، يمضي في طريقه وحده، أما القديسون الحكماء فلا يتنكبون عن المسير بغير رفيق، ثم إنهم تشيخ أعمارهم ولا تهرم أجسادهم، وقد تذوي منهم الحكمة، لكن تبقى أذهانهم متقدة فلا يضلون الطريق. وهكذا، فإن أصعب أمر من أمور إصلاح الممالك يكمن في كيفية التعرف إلى أكبر عدد ممكن من الحكماء بين الناس، في أي بلد من البلاد، وليس في الاعتقاد الفردي عند آحاد الناس بمزاياهم ومواهبهم الذاتية.»

[٦]

ظهر في دولة سونغ فنان ينحت حجر اليشب، فيأتي منه بشبه أوراق التوت أشكالًا فنية رائعة، أجملها ما مهر فيه من نحت استغرق منه ثلاث سنوات حتى انتهى من تصوير قطعة على مثال ورقة شجرة التوت، بدت كأنها صورة حقيقية تفرعت عن سويقة نابتة في أغصانها، وقد سرت في صفحتها عروق تغذيها بنسغ الحياة، فصارت ضاربة إلى خضرة لامعة صقيلة كأنها ابنة الأغصان الحية، التي يحار الناظر إليها فلا يكاد يفرق بينها وبين أوراق التوت الحقيقية، وقد امتلك الفنان ناصية المهارة، فأقام في مملكة سونغ ما شاء له المقام، لا يشغل باله شيء من كدر العيش؛ إذ انهالت عليه موارد الرزق، فاستقرت به أسباب الحياة، ولما سمع ليتزو بأمر هذا النحات، قال: «لو كان ناموس الطبيعة [حرفيًّا: الأرض والسماء] في الخلق يبدع ورقة نبات كل ثلاثة أعوام، لما صارت الأشجار المورقة بهذه الكثرة الهائلة؛ فمِن ثَم كان القديسون يسلمون أمرهم إلى مواهب النماء الطبيعي [كذا] ولا يلقون بالًا إلى أسباب المهارة والحكمة والنبوغ.»

[٧]

اشتد الفقر ﺑ «ليتزو» حتى شحب وجهه وهزل جسده من أثر الجوع، فذهب أحدهم إلى «تسي يانغ» رئيس وزراء دولة جنغ، وقال له: «إن واحدًا من أكثر الناس إخلاصًا وتحققًا بالطاو، من المقيمين بأرضك، وهو المدعو «لي يوكو» [لقب ليتزو] يعاني الفقر المدقع، فهلا بذلت له الرعاية والعون، أم أنك تبغض أهل الطاوية، وكل من ينتسبون إليها؟» وعلى الفور، أرسل تسي يانغ إلى ليتزو بكميات وافرة من الطعام مع أنجد الرسل عنده، فخف ليتزو لاستقبال المبعوث، وشكره واعتذر في أدب جم عن عدم قبول العطية، فغادر الرجل وعاد أدراجه فيما عاد ليتزو إلى غرفته، حيث وجد زوجته مستاءة للغاية، ثم إنها دفعته في صدره وهي تقول له: «قد بلغني أن زوجات وأبناء أهل الطاو ينعمون بحياة هانئة، بيد أننا قد أصابنا الفقر والجوع، وعندما أرسل لنا «تسي يانغ» بمن يواسينا ويطعمنا، قمت معتذرًا في وجه من جاءك، فهل هو قدرنا أن نبقى في هذه الحال دائمًا أبدًا؟» فأجابها ليتزو ضاحكًا: «لم يكن تسي يانغ هو الذي أدرك بنفسه ضرورة إرسال الطعام لنا، وإنما بادر إلى ذلك بعد أن ذهب إليه من كلمه في هذا الأمر، وغدًا عندما يكلمه أحد المتحاملين عليَّ، ويزين له البطش بي؛ (فسيصدقه، كما صدق المدعين من قبل)؛ فلهذا رفضت قبول عطاياه (كي أرفض مساءته غدًا).» وحدث، فيما بعد، أن اضطربت الأحوال في دولة جنغ وهب الناس ثائرين، فانتشرت الفوضى، وذُبح تسي يانغ ذبحًا.

[٨]

كان في عائلة «شيجيا» المقيمة بدولة «لو» ولدان أقبل أحدهما على العلوم، واتجه الآخر إلى فنون الحرب والقتال، فأما الذي برع في تحصيل العلم فقد أوتي موهبةً ونبوغًا استطاع بهما أن يبهر عقل أمير دولة تشي [في زمن الدول المتحاربة، كان يطلق على ملوك الدويلات لقب «جوهو» أي: أمير الدولة] فأسند إليه مهمة إلقاء الدروس على النبلاء وكبار الموظفين، وذهب الذي مهر في فنون الحرب إلى دولة تشو، وأظهر من البراعة ما أثار إعجاب وانبهار العرش الحاكم هناك، فاتخذوه قائدًا عامًّا، وأُسندت إليه مهمة قيادة القوات، فكان من ثمرة ذلك كله أن حظيت عائلة «شيجيا» بالغنى والثراء وارتقت درجات من السؤدد والشرف، بين العائلات الكبرى في الدويلات؛ وإلى الجوار من هذه العائلة كانت تقيم أسرة أخرى (عائلة «مينغ») وكانت قد أنجبت، هي الأخرى، ولدين كأبناء جارتها، وقد برعا كذلك في العلوم والفنون العسكرية، لكن عائلتهما لم تنل شيئًا من المجد والشرف كجارتها، فاشتعل في قلبها الحسد، وراحت تسأل عن الوسيلة التي تمكنها من تحقيق أسباب الرفعة والمكانة الشريفة، فما كان من ولدي عائلة شيجيا، إلا أن أطلعاها على الوسائل الممكنة، وأخبراها بما فيه تمام الفائدة؛ فذهب أحد ولدي عائلة مينغ إلى دولة «تشين» ليعرض على حاكمها ما تفقه فيه من المعارف، عساه يعجب بنبوغه، فما كان من أمير البلاد إلا أن قال له: «ها هي ذي الدويلات تتنافس فيما بينها بقوة السلاح طمعًا في الهيمنة، فالأمر العاجل الآن، بالنسبة لنا، ينحصر في إعداد الجيوش وتخزين الغلال، أما إذا أخذنا بسياسة العدل والإنسانية في إدارة شئون البلاد، فسنكون قد سرنا على طريق الهلاك المحتم.» ثم إن الملك قام بإخصائه، وأعاده إلى وطنه، وذهب النابغة الثاني، في العائلة، إلى دولة «ويه» على أمل أن يقنع أميرها بمواهبه القتالية الفذة، فقال له الأمير: «إن بلادنا محدودة القوة، وقد شاء قدرها أن تقع بين إمبراطوريات ذات نفوذ هائل؛ مما أجبرنا على سياسة مهذبة مع تلك القوى العملاقة، بجانب الحفاظ على علاقات ودية أخوية مع الدول الضعيفة؛ بهدف الحفاظ على الأمن والاستقرار، أما الاعتماد على خطط المواجهة العسكرية، فلن يقود بلادنا إلا إلى الدمار، (واعلم) أننا لن نستطيع أن نتركك تمضي بنفس السهولة التي جئت بها، وإلا تنازلنا لغيرنا عن فرصة الاستفادة بما عرفته عن أحوالنا من معلومات، وهو ما يعرض سلامة البلاد للخطر الداهم.» ثم إنه أمر ببتر قدميه وإعادته إلى دولة لو، فلما عاد الولدان، على هذا النحو؛ فقد فجعت فيهما عائلتهما (أسرة مينغ) وألقت باللوم على جارتها (أسرة شيجيا) فأجابتها هذه قائلة: «إن الفوز دائمًا لمن أدرك الفرصة المواتية والوقت الملائم، فويل لمن أضاع الفرصة وأهدر ما يناسب الوقت والحال؛ وقد علمنا أن ولديكم يملكان من النبوغ مثل ما لدى أبنائنا، لكن نتيجة المسعى عندكم كانت مخيبة للآمال؛ لأن ولديكم انحرفا عن جادة الطريق الصائب (هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى …) فليس هناك صحيح دائم أبدًا، ولا خطأ مستقر على طول الزمان، بل قد تكون الطريقة التي رفضها الناس بالأمس هي أنسب الوسائل النافعة اليوم، وقد يصبح الحل الذي نراه غير مناسب الآن، في لحظتنا الراهنة، أحد أهم الوسائل لتحقيق أبرع الإنجازات غدًا؛ هذا، ولا يمكن القطع بأن ما نأخذ به الآن هو الصواب، وأن ما ندعه هو الخطأ الفاحش. إن انتهاز الفرصة المواتية وتقدير مدى مناسبة التصرف، ومراعاة ظروف التغير ودواعي التبديل، كل ذلك لا يتبع نمطًا ثابتًا، وليس له قاعدة معلومة بدقة، بل هي أشياء تعتمد على المهارة والذكاء والحس السليم؛ وإلا فإن كل حكمة «كونشيو» [كونفوشيوس، كما يُنطق اسمه في الصينية الكلاسيكية] وكل براعة «لوشانغ» في الجندية والقتال، لن تجلب سوى المتاعب والنكبات.» وعندئذٍ، فقد تبددت الريب التي استولت على قلب أسرة مينغ، وزالت آثار الغضب المرتسم على ملامحها، وقال شيوخها: «قد وعينا الأمر جيدًا، ففيما قيل الكفاية التي لا تحتاج للمزيد.»

[٩]

كان «أونكو» أمير دولة جين، قد جهز جيشًا وعبأ قوات (تحت شعار التحالف مع الدويلات) وقصد إلى دولة «ويه» لمهاجمتها (وكان قد صادف في مسيرته القون «النبيل» «تسيشو») فما إن رآه النبيل حتى انطلق ضاحكًا، واستلقى على قفاه من كثرة الضحك، فسأله أونكون عما أثار كل هذه القهقهة، فرد عليه قائلًا: «أضحكني ما تذكرته بشأن أحد جيراني؛ إذ اصطحب امرأته لزيارة أختها، فصادف على الطريق امرأة حسناء تجمع دودة القز، فوقعت في عينيه موقعًا حسنًا، فغمز لها وقصد إلى مغازلتها، فما التفت وراءه وجد أحدهم يغازل امرأته (من وراء ظهره)» وهنالك أدرك القون أونكو مغزى كلامه على الفور، وأصدر أوامره بوقف الزحف واستدار بقواته عائدًا إلى الوطن، فلم يكد يبلغ الحصون الحدودية، حتى اكتشف أن المنطقة الشمالية، من أرض بلاده، قد وقعت تحت الاحتلال.

[١٠]

تفشَّت السرقة في دولة جين، وعاث اللصوص فسادًا في طول البلاد وعرضها، غير أن الرجل المسمى ﺑ «شيونغ» كان قد أوتي مهارة التعرف على اللصوص بمجرد النظر إلى وجوههم، فما هي إلا نظرة فاحصة في ملامح الواحد منهم حتى يستدل على حقيقة أمره، فكان أمير دولة جين يكلفه بالذهاب لفحص المشتبه فيهم، ولطالما صدع بالأمر، وباشر العمل حتى اهتدى إلى كشف السارق، ولو كان مندسًّا بين مائة ألف فرد.

ولم يتمالك الأمير نفسه من الإحساس بالفرحة وهو يقص هذا الأمر على مسامع «أونزي» أمير دولة جاو، قائلًا له: «من حسن حظي أن عندي عاملًا من العمال يكفيني مؤنة القضاء على اللصوص أينما كانوا بأرضي، ولم تعد بي حاجة لكل تلك المجموعات من أفراد الأمن المتعقبين للمجرمين.» فقال له أونزي: «أراك تشغل نفسك في كل الأحوال، بالقبض عليهم بعد اكتشافهم والتعرف عليهم، لكنك لم تمنع وقوع السرقة نفسها، ولم تقضِ عليها، أما بالنسبة ﻟ «شيونغ» فلست آمن عليه المكيدة، وسوف يئول أمره إلى أوخم العواقب.» ولم يمضِ وقت طويل حتى اجتمع بعض جماعات اللصوص، خفية، وتساروا فيما بينهم قائلين: «هو ذا نهرب إلى أغوار الجبال، أو إلى أقصى بقعة من الأرض؛ بسبب هذا اﻟ «شيونغ».» ثم إنهم كمنوا له واختطفوه وقطعوا رأسه. فلما ترامت الأخبار بذلك إلى أمير جين، ألجمته الدهشة، وأرسل من فوره في استدعاء أونزي، وقال له: «قد حدث ما توقعته تمامًا وقُتل شيونغ، فبماذا تنصح للقضاء على اللصوصية قضاء مبرمًا؟» فأجابه أونزي قائلًا: «هناك مثل سائر يعرفه الناس في دولة جو، مفاده: «أن من يبحث عن السمك المختبئ في القيعان يبوء بالخسران، ومن يقتفِ آثار المختبئين في الأغوار، يلقَ أسوأ مصير» فإذا أردت، حقًّا، أن تقضي على اللصوص في دولة جين، فاستعمل الشرفاء من الولاة، واجعل كلمة القديسين هي العليا، وانشر مواعظهم في الآفاق، وحرض العامة على أطيب العادات ومهد الطريق لتقاليد الخير، واجعل القبح مكروهًا في النفوس وبغيضًا إلى الضمير، فيكبر عند الناس مأتى الإثم، وترتدع الأيدي من تلقاء نفسها عن السرقات والجرائم.» وهنالك أصدر حاكم جين أمرًا بتعيين «سويهو» رئيسًا للإدارة الحكومية، فلما سمع اللصوص بذلك، طفقوا يرحلون في الخفاء (بعيدًا) إلى دولة تشين.

[١١]

كان كونفوشيوس عائدًا بموكبه إلى دولة «لو»، بعد أن غادر دولة «ويه»، فبينا هو على الطريق؛ إذ تراءى له أن يميل إلى جانب النهر ليستريح الموكب قليلًا، ثم إنه راح يتلفت حوله ويقلب النظر في المشاهد الطبيعية البديعة، وتعلقت عيناه بمنظر الشلالات التي كانت تتساقط من ارتفاع يكاد يبلغ عشرين أو ثلاثين «جانغ» [«جانغ» يساوي نحو ثلاثة أمتار ونصف المتر] حتى كانت الدوامات تتقلب وتحوم بتيارات النهر مسافة تبلغ تسعين «لي»، وفي تلك الأثناء لاحظ كونفوشيوس وجود أحد السباحين عند الشاطئ يستعد للنزول إلى الماء المتقلب الفوار، فصرخ فيه الفيلسوف الحكيم محذرًا إياه من مغبة السباحة وسط تلك الدوامات العنيفة، قائلًا له: «كيف يمكنك أن تخوض المياه تحت شلال يتساقط من ارتفاع ثلاثين جانغ ودوامات تدور بمياه النهر مسافة تسعين لي، لست أرى الأسماك والسلاحف الكبرى قادرة على السباحة هنا، ولا أظن التماسيح تجد مستقرًّا لها وسط هذه الظروف، فكيف بك تجازف بعبور النهر (برغم كل هذا)؟» فنظر إليه السباح غير مكترث لكلامه، وقفز إلى النهر، ثم جال فيه وسبح طولًا وعرضًا، وعاد آخر المطاف وطلع إلى الشاطئ، فذهب إليه كونفوشيوس وكلمه قائلًا: «لا جدال في أنك سباح ماهر، بلغت أبرع مستويات المهارة، فما هو الأساس الذي ساعدك في الوصول إلى هذه الدرجة من النبوغ والعبقرية؟» فأجابه الشاب قائلًا: «الأساس الوحيد الذي اعتمدت عليه في نزولي إلى الماء، كما رأيت، هو الثقة والتسليم، ذلك هو المبدأ الذي أغطس به في جوف النهر وأخرج به إلى الشاطئ؛ (هو المبدأ القائم على …) منتهى الصدق مع النفس والإذعان لكل الظروف المحيطة بي وسط الدوامات العاتية، فالتسليم يدع كل جارحة مني متطابقة، بكل إخلاص، لكل ذرة في النهر، بل لكل موجة ودوامة وتيار جارف، (حتى صار كياني) جزءًا لا يتجزأ منها جميعًا، فلا تربكني الوساوس ولا يداخلني من تشويش الأفكار شيء؛ فلذلك أغوص وأطفو وأخرج إلى البر، مثلما رأيت منذ قليل.» وعندئذٍ التفت كونفوشيوس إلى تلاميذه قائلًا لهم: «احفظوا ما شهدتم الآن، تلك هي الدوامات الصاخبة لم تقف عقبة في طريق الإخلاص والصدق، فما بالكم بالإنسان نفسه.»

[١٢]

ذهب «بايكون» [أحد كبار المسئولين بدولة تشو] إلى كونفوشيوس، وسأله قائلًا: «هل للمرء أن يناقش أسراره مع الجار؟» ولم يجبه كونفوشيوس بشيء، فسأله بايكون ثانية: «فماذا لو ألقيت بحجر (الأسرار) في قيعان الماء؟» فأجابه الشيخ الحكيم قائلًا: «هنالك يستطيع أي غواص في دولة» أو «أن يستخرجه من أعماق النهر.» فقال له: «فماذا لو صببت الماء في الماء؟» (ماذا، يعني، لو ألقيت بالأسرار في قرار مكين لا سبيل للوصول إليه أبدًا) فأجابه كونفوشيوس، قال: «إذا ما اختلط في المجرى ماء نهر «تسي» مع ماء بحر «شنغ» فلن يعجز الساحر «آيا» أن يميز كل قطرة من الأخرى بمجرد التذوق بطرف اللسان.» فقال بايكون: «لا أظن المرء قادرًا على أن يناقش الأسرار مع جاره، أليس كذلك؟» فرد عليه الحكيم قائلًا: «ولماذا يعجز المرء عن ذلك أصلًا؟ المهم، في المسألة كلها، أن تبرز معاني الكلمات، ولا شيء أكثر من ذلك! من حاز المعنى فقد استغنى عن الكلمات (أما علمت أنه …) لا مفر للصياد من أن تبتل ملابسه، ولا لمن ساق الخيول من أن يجري حتى تنقطع أنفاسه، وكلاهما مرغم على ما أصابه، لم يكن له غُنية عنه؛ وهكذا، فلم تكن أروع الكلمات بحاجة إلى أسلوب وخطابة وبلاغة تعبير في فنون المقال، ولا كان السلوك القويم بحاجة إلى إطار من المجاملات والشكليات. (واعلم أيضًا أنه …) لم يحصل الأغبياء إلا على أطراف الأوراق المعلقة في الهواء (وإن بدا أنهم وصلوا إلى الذروة … كلا لم يصلوا إلى شيء … بل) إنهم قد خسروا الجذور الراسخة في الأعماق.» لكن بايكون لم يكن ليفهم المغزى الكامن في كلمات كونفوشيوس، فتعجل استقصاء المعاني الشكلية، وكان من جراء ذلك أن تفشت الفوضى في جنبات دولة تشو، (ولما لم يعد من الممكن السيطرة على زمام أوضاع منفلتة، فقد …) اضطر بايكون أن يدلف إلى الحمام، ذات يوم، ويشنق نفسه.

[١٣]

كان «جاوشيانزي» قد جهز حملة عسكرية تحت إمرة «شين جيموزي» [أحد كبار رجال دولة جين] وذلك لشن غارة على منطقة «داي»، فكان النصر حليف هذه الحملة، خصوصًا وقد بسطت لواءها على قلب المنطقة وجانبها الأيسر، وسارع «شين جيموزي» بإيفاد رسول إلى جاوشيانزي، حاملًا إليه أنباء النصر، فبلغه الخبر وهو جالس إلى طعامه، فما كاد الرسول ينهي إليه الخبر، حتى بدت على وجهه علامات القلق، فسأله مساعدوه وقد أخذتهم الحيرة قائلين: «إن احتلال منطقتين كبيرتين في صبيحة نهار، أمر يبعث على السعادة، فلماذا تجلس هكذا، مقطب الجبين؟» فأجابهم بقوله: «مهما انغمرت الشواطئ بالمد، فسرعان ما يأتي الانحسار بعد أيام قلائل؛ وكذلك الزوابع والسيول لا تطول أكثر من عدة ساعات من النهار، ثم إن شمس الظهيرة لا تلبث غير ساعة. والآن، فلم يعد لدى آل جاو من كرم الأخلاق فائض يمنحون به العطايا للناس (يقصد عائلته الحاكمة) فبالرغم من احتلال مدينتين في هجوم مباغت أثناء النهار، فقد تأتي النكبة بأسرع مما يتوقع إنسان.»

وعندما سمع كونفوشيوس بما دار في هذه الوقائع، قال: «عسى آل جاو (يقصد جاو شيانزي) أن يحوز الظفر العظيم، فالقلق على ما هو متوقع من تطور الأحداث هو أول طريق النجاح والازدهار في اليوم والغد. إن التلهف على عاجل الفرح هو بداية الفشل والانهيار؛ فالانتصار، بحد ذاته، ليس أمرًا صعبًا ولا مستحيلًا، لكن الأصعب من النصر هو تدعيم قواعد الانتصار؛ فالقائد الحكيم هو من استفاد بهذا المعنى في تقوية أسس انتصاره، فيورث السعادة إلى أجيال تلو أجيال من بعده. كم حازت دويلات (لها وزنها …) مثل: «تشي» و«تشو» و«أو» و«يوي»؛ المزيد من الانتصارات المدوية، لكنها بادت جميعًا وزالت من صفحة التاريخ، لا لشيء سوى لأنها فشلت في إدراك ضرورة تدعيم ما حققته من النصر. ليس إلا ملك حكيم تحقق بمنهاج الطاو، هو وحده الذي يستطيع أن يثبت قواعد انتصاره.»

كان كونفوشيوس يملك من القوة ما يمكنه أن يرفع بيديه المزاليج والبوابات الضخمة التي تقوم على مداخل المدن الكبرى، لكنه لم يكن مستعدًّا أن يبذل قدرًا من هذه القوة لمواجهة نفسه والكشف عن صدره أمام الناس. وكان «مو تسي» [فيلسوف المذهب «الموهي» أحد الاتجاهات الفكرية الكبرى في العصر القديم] يستطيع أن يقوم على حماية المواقع الدفاعية وأن يرد هجوم أعدائه، وأن يقنع كبار البنائين بإقامة السلالم الكبرى التي أتاحت اقتحام الأسوار والمدن الحصينة. لكنه (برغم كل ذلك) لم يتح للناس أن يلمسوا شيئًا من الإنجازات العسكرية، ولذلك نقول بأن المهارة في تدعيم الانتصار تنبع من القدرة على مواجهة عناصر القوة الذاتية والنظر إليها بوصفها نقاط ضعف كامنة.

[١٤]

كان في دولة سونغ رجل يحب الخير والعدل، وظل ردحًا من الزمن حريصًا على انتهاج كل وسيلة طيبة تنبع من تقديره لمعاني العدل والإنسانية، وفوجئ ذات يوم، بأن إحدى البقرات التي كان يربيها في حظيرته الملحقة بمنزله، وكانت سوداء اللون، قد ولدت عجلًا أبيض، فأسرع إلى كونفوشيوس يستطلع رأيه في هذه الواقعة العجيبة، فقال له الشيخ الحكيم: «تلك علامة مبشرة بالخير، وأرى أن تقدم هذا العجل الأبيض قربانًا للرب.» فلم ينقضِ عام حتى كان والد هذا الرجل قد أصيب بالمرض في إحدى عينيه، ثم تدهورت حالته، فتلفت عينه ولم تعد تبصر؛ وحدث أن البقرة السوداء ولدت عجلًا آخر أبيض اللون، فطلب الوالد المريض من ابنه أن يقصد إلى كونفوشيوس، ثانية، ويسأله عن سر هذه الأعاجيب، فقال له ولده: «لكني لما ذهبت إليه في المرة الفائتة كانت النتيجة أنك فقدت إحدى عينيك، فما الداعي أن أذهب إليه مرة أخرى؟» أجابه أبوه قائلًا: «كلام القديسين قد لا يصدق في المرة الأولى، لكنه بالتأكيد تثبت صحته فيما يأتي من الزمان، ولئن كنا نجهل مغزى كل تلك الوقائع، إلا أني أرى من الأوفق أن تذهب إليه هذه المرة أيضًا؛ عساك تفيد من سؤالك إياه خيرًا.» وذهب الرجل إلى كونفوشيوس وأطلعه على الواقعة الثانية، فما كان من الحكيم إلا أن قال له: «وهذه أيضًا بشرى طيبة.» ثم إنه أمره بأن يقدم العجل الأبيض قربانًا للسماء، وعاد الرجل إلى بيته وحكى لأبيه ما حدثه به القديس الحكيم، فقال الأب: «فعليك، إذن، بما نصح لك به.» وبعد سنة أصيبت عين الرجل نفسه، مثلما حدث لأبيه، وساءت حالة البصر حتى عميت العين عن النظر.

وحدث فيما بعد من وقائع الزمان أن قامت دولة تشو بمهاجمة دولة سونغ وأحكمت حصارها حول عاصمتها [وقعت تلك الغارة في عام ٥٩٤ق.م.] واضطر الأهالي، تحت الحصار الطويل، أن يأكلوا جيفة ذويهم، وصار من المعتاد أن تستخدم بقايا الهياكل العظمية وقودًا في الأفران، وجرى العرف بأن يصعد الأقوياء من الرجال فوق الأسوار للقيام بواجب الخدمة العسكرية. وفي تلك الأثناء كانت نسبة الجرحى والقتلى قد تجاوزت مقدار النصف من إجمالي عدد المحاصرين، وقد أعفت السلطات بيت الرجل صاحب البقرة وأبيه من المشاركة في مجهود الدفاع العسكري؛ لعدم لياقتهما، جراء فقدان البصر؛ وإذ انتهت المعارك وانفك الحصار، عاد بصيص من النور لعيني الرجل وأبيه المريضتين، ثم إنهما شُفيا تمامًا، فيما بعد، مما أصاب عينيهما.

[١٥]

كان في دولة سونغ لاعب يتجول في الشوارع يعرض على الناس الألعاب البهلوانية، وبدا للرجل أن يعرض أمام الملك «يوانجون» حاكم دولة سونغ بعضًا من مهاراته العجيبة، فسمع جلالة الملك بذلك، واستقدمه إلى القصر ليشاهد فنونه وألعابه، فقدم له اللاعب عرضًا يشتمل على مشهد غريب حيث جاء بغصنين طويلين من أغصان الشجر، بلغا ضعفي طول قامة الإنسان، فألصق واحدًا منهما بإحدى ساقيه، اليمنى ثم اليسرى على التوالي، وراح يهرول مرتكزًا عليهما وهما كالطوالتين تحملانه، وقد ارتفع جسده عاليًا في الهواء، بينما راح يلوح ويرمي بسبعة سيوف قصيرة واحدًا تلو الآخر، فكانت تطير في الهواء، وهي تلمع بنصالها في حركات بهلوانية أثارت دهشة وإعجاب الملك يوانجون الذي تكرم على اللاعب الجوال بشيء من عطاياه السخية [حرفيًّا: أعطاه كسوة من حرير ومبلغًا من المال] وبلغت أخبار هذه الحادثة مسامع لاعب آخر من المتجولين في الشوارع، ممن قد مهر في اللعب بالإوز الطائر، وهي عروض متواضعة القيمة والمهارة بشكل عام، وأراد أن يعرض على الملك شيئًا من ألعابه، فلما علم جلالته بذلك استشاط غضبًا وقال لمن حوله: «قد جاءني أحد أولئك الحواة، من قبل، يعرض عليَّ ألعابه المسلية، ومع أن مثل هذه العروض لا تحمل قيمة بحد ذاتها، وليس لها مضمون أو فائدة محددة، إلا أنها صادفت هوًى في نفسي ووجدت فيها نوعًا من التسرية، فمنحت الرجل شيئًا من المال وانتهى الأمر، ولا بد أن هذا المتسول الآخر قد سمع بما حدث لصاحبه، فجاء طامعًا في الحصول على شيء مماثل.» وأصدر يوانجون أمرًا بالقبض على اللاعب المتجول تمهيدًا لإعدامه، غير أنه لم يمضِ في الاعتقال سوى شهر واحد ثم أفرج عنه وأخلى سبيله.

[١٦]

تكلم «موكون» أمير دولة تشين مع «بولي» [أحد أشهر خبراء الخيول في دولته] فقال له: «أراك قد كبرت في السن وبلغت من العمر عتيًّا (ولا أريد أن أسند إليك المزيد من المهام …) أفلا يمكن أن أعهد إلى أبنائك وأحفادك بمن يختارون لي أجود الخيل؟» فأجابه بولي قائلًا: «أجود الخيل يمكن التعرف عليها باستقراء ملامحها وبنيتها الجسدية وأحوالها البدنية الظاهرة؛ أما بالنسبة لخيول السباقات فأظن أن فصائلها قد انقرضت منذ زمان بعيد، أو أنها هربت من هذا العالم واختفت في أقصى أطراف الأرض؛ ذلك أن مثل هذا النوع من الجياد (يخيل إليك وهو يجري …) أن حوافره تكاد تلمس الأرض، أو لعلها لا تلمس من الأرض شيئًا؛ لأنها تركض فلا يثور وراءها الغبار، ولا أجد في أبنائي ولا أحفادي من يملك الخبرة والمهارة في انتقاء هذا الصنف من الخيل. ومِن ثَم فقد تجد فيهم من يعينك على اختيار الأنواع الجيدة فقط، لا النادرة المثال، ومع ذلك، فإن أحد أصحابي، ممن يعمل بائعًا متجولًا، يحوز رصيدًا طيبًا من معرفة لا تقل عن خبرتي في تجارة الخيول، وهو مشهور جدًّا ويدعى «جيوفانكاو»، وأرى أن ترسله ليشتري لك ما تريد من الخيول الممتازة. وبعد ثلاثة أشهر عاد الرجل (جيوفانكاو) إلى موكون ليقول له: «وجدنا النوع المطلوب من الجياد في منطقة تسمى ﺑ «شاتشيو»، فسأله موكون: «فما صفتها إذن؟» فأجابه قائلًا: «هي فرس كميت، من أحسن ما رأيت في حياتي.» فأرسل موكون من يأتي بها إليه، فلما عادوا بها نظر إليها فإذا هي جياد (ذكور) لونها أسود فاحم، فتغيرت نفسه للغاية وأرسل في طلب بولي، فلما مثل بين يديه قال له: «يؤسفني أن أبلغك أن الرجل الذي رشحته، بوصفه خبير خيول، لم يستطع التعرف على لون الخيل ولا التمييز بين ذكورها وإناثها، فكيف حدثتني عن خبرته في انتقاء أجود فصائل الخيول؟ فتنهد بولي وهو يجيبه قائلًا: «أهو قد بلغ إلى هذه الدرجة (الرفيعة) إذن؟ فاسمح لي، يا سيدي، أن أقول لك بأنه قد وصل إلى أقصى مستويات الخبرة في تقييم الخيول حتى تجاوزني بمائة ألف درجة أو يزيد؛ ذلك إنه سدد إلى الخيل نظرة ثاقبة انكشفت له منها بواطن أسرار ولطائف علم مكنون، فكان أن بلغ جوهر أنقى الحقائق، فالزم التصديق فيما أشار عليك به، فهذا رجل نافذ النظر من وراء حجب وأستار وكثائف غيهب منسدل، على مناقب الفهم، فلا يوزن بميزانه إلا راجح القوة الباطنة، ولا يستوقفه سفور ضلالات الظاهر، فلا بد أنه راقب سرًّا لطيفًا، فمنع نفسه من أن ينظر إلى ما لا داعي أن يوقف النظر عليه من اللون الظاهر وجنس الدابة وما إلى ذلك، بل انصرف بكليته إلى مكمن المواهب، ورد نفسه عن الوقوف عند ما لا فائدة ولا ضرورة للوقوف عنده، وأستطيع الآن القول بأن جيوفانكاو قد استخدم أقصى طاقته ومقدرته في اختيار أعظم الخيول طرًّا، وأكرمها منبتًا وأجودها عنصرًا.» وبالفعل، فقد حقت نظرة جيوفانكاو إلى الخيل، واتضح أنها فصيل نادر المثال.

[١٧]

تكلم الملك «تشوانغ»، حاكم دولة تشو، إلى «جانهي» وسأله قائلًا: «ما السبيل إلى الأسلوب الأمثل في إدارة شئون الممالك وإصلاح أحوال البلاد؟» فأجابه قائلًا: «لست أحيط علمًا إلا بما يصلح شأن الفرد وتقوم به أمور الذات الإنسانية، أما أحوال البلاد وسياسة الممالك، فذلك موضوع لست أفقه فيه شيئًا.» فقال له الملك تشوانغ: «(فيما يتصل بشئون العرش، فأظنني …) أعرف الآن كيفية تقديم القرابين في المعابد، والقيام بشئون الحكم وتدبر أحوال الممالك، لكني أريد (أن أتقدم خطوات أبعد …) أن أعرف الطريقة التي تضمن الحفاظ على مراسم الطقوس، وتدعم قوة البلاد.» فقال له محدثه: «عمومًا، فلم أسمع في حياتي عن امرئ صَلُح نفسًا وبدنًا واستقامت أحواله، ثم إذا تولى شئون البلاد أفسدها وتسبب في تخريبها؛ كما لم يحدث، في عمري كله، أن رأيت من فسدت روحه وقبحت نفسه، ثم قام على أمر الممالك فأصلح شأنها ونهض بدعائم التطور والقوة فيها؛ ولذلك فالأساس كله يكمن في إصلاح النفس؛ وبعد، فلست أريد أن أخوض في تقديرات (أخرى) غير ذات قيمة.» وعندئذٍ قال له الملك: «هذا هو القول السديد!»

[١٨]

تحدث شيخ بلدة «كوشيو» مع «سونشو» فقال له: «كثيرًا ما يعاني المرء ثلاث معضلات، أتعرف ما هي؟» فتساءل سونشو، مستفهمًا عن تلك المعضلات الثلاث، فأجابه شيخ كوشيو قائلًا: «أن يحوز المرء درجة اجتماعية عظيمة، فيخشى شر الحسد، وأن يترقى في المنصب (الرفيع) فيثير توجس جلالة الملك وأن تزداد أمواله [حرفيًّا: رواتبه] فتثور ضده ثائرة البغض والكراهية.» وعندئذٍ أجابه سونشو بقوله: «لكني كلما ارتقت مكانتي الاجتماعية، تضاءلت تطلعاتي؛ وكلما اتسع نفوذي وسلطاتي (ذات الشأن) ازددت حذرًا وفطنة؛ وكلما تنعمت ثراءً، بسطت يدي عطاءً ومنحةً، أفليست تلك طريقة مناسبة للتخلص من المنغصات التي أشرت إليها؟»

[١٩]

اشتدت وطأة المرض على «سونشو» حتى كاد أن يقضي نحبه، فعهد إلى ولده بوصيته قائلًا: «(اعلم أنه …) كم من مرة حاول أمير دولة «تشو» أن يهب لي إحدى الإقطاعيات، دون أن يجد مني موافقة، فإذا مت، فسيحاول أن يمنحك هذه الإقطاعية، فاحذر أن تقبل إقطاعًا تتطلع إليه الأفئدة ويأمل في الحصول على النفع منه الآملون؛ أما منطقة «تشين تشيو» الواقعة على الحدود بين دولتي «تشو» و«يوي» فأحوالها مختلفة؛ إذ ليس من طامع فيها ولا متربص بها، فهناك أهالي دولة تشو الذين يعتقدون بأنها مهبط الأرواح (القدسية … ويتبركون بها، لهذا السبب …) وهناك، من ناحية أخرى، أهالي المنطقة المجاورة (من سكان دولة «يوي») ممن طال بهم العهد وهم يقيمون طقوس العبادات فيها (… لما يعتقدونه من التبرك بهذه المنطقة المقدسة …) وهكذا، فقد تدوم الأوضاع، على هذا النحو، بين الفريقين أمدًا طويلًا دون أي تغيير؛ فلا يثور طمع الطامعين.» وبعد أن توفي سونشو، أراد أمير دولة تشو إهداء الإقطاعية الكبرى إلى ولد المتوفى، فاعتذر عن قبولها، راجيًا أن يتكرم الأمير بأن يمنحه إقطاع «تشين تشيو» فمنحه الأمير ما سأل، فصارت الأرض له ولأحفاده من بعده، حتى يومنا هذا.

[٢٠]

كان «نيو تشوي» من أعظم علماء منطقة «شاندي»، فبينما هو في طريقه مسافرًا، ذات يوم، إلى «هاندان» [عاصمة دولة جاو، في زمن الدول المتحاربة] قطع عليه الطريق، في منطقة «أوشا»، عصبة من اللصوص وسلبوه كل ما يملك حتى ملابسه وأمتعته ودوابه، ولم يتركوا له شيئًا، فلم يسعَ «نيو تشوي» (بعد أن فقد ركوبته وأمتعته) إلا أن يمضي في طريق سفره، على قدميه، خالي الوفاض. ونظر اللصوص فرأوه يسرع في طريقه منشرح الصدر، غير عابئ بما وقع له من السرقة والنهب، فأسرعوا في إثره وسألوه عن السبب في عدم اكتراثه وسيره المتمهل هكذا، فأجابهم قائلًا: «إن أهل العلم لا يحزنون على ما يقوم به أمر أبدانهم، بل يصرفون النظر دومًا إلى ما ينصلح به شأن عقولهم ونفوسهم [حرفيًّا: لا يعدون خسارة ما يستر الأبدان مضيعة لما تزينت به عقولهم واتشحت به نفوسهم من أردية الفهم والوعي] فقالوا له: «عجبًا، وتتكلم مثل الحكماء أيضًا!» ثم إنهم تناجوا فيما بينهم، قائلين: «إن رجلًا يتكلم بفم الحكمة مثل صاحبنا هذا، ربما يكون قد التقى بملك دولة جاو، وكلمه فأرسله عينًا على خفايانا؛ ليستقصي أحوالنا، ولا يسلم الأمر من أن يكون مسلطًا علينا في أمور نعجز عن مدافعتها، والرأي أن نقتله ونأمن شره!» ثم لم يلبثوا أن تحلَّقوا به وقتلوه شر قتلة. فلما سمع أهالي دولة يان بما وقع من أمر تلك الحادثة، اجتمعت قبائلها، فتناصحت فيما بينها، واتفق أمر الناس جميعًا على أن … «من يصادف لصوص الطريق، فلا ينبغي له أن يتصرف على منوال الرجل المقتول نيو تشوي!» واجتمعت آراء الكافة على هذه النصيحة، ثم لم يمضِ وقت طويل، حتى كان شقيقان من أهالي دولة يان مسافرين إلى دولة تشين، فلما بلغا مضيق «هانكو» أطبقت عليهما زمرة قطاع الطريق، فتذكَّرا مناصحة القوم بعضهم بعضًا، وما تواصوا به فيما بينهم، فشمَّرا عن أكمامهما مدافعين عن أنفسهما، شاهرين السلاح في وجه المجرمين، لكنهما لم يلبثا أن خارت قواهما في مواجهة زمرة حاشدة، فتراجعا وأذعنا بتسليم أمتعتهما وأموالهما، على أن يُخلى لهما سبيلهما، ويمضيا في طريق السفر، فنهرهما اللصوص في غضب قائلين: «كنتما في غناء عن ملاحقتنا، وقد أمنتما حياتكما وادخرتما طاقتكما، لكنكما مضيتما في إثرنا، فعرفتما دروبنا وكشفتما مواقع أقدامنا، واللص لا يعبأ بالحق والعدل والإنسانية، أتظنان اللص مدفوعًا بالأخلاقيات الكريمة؟» ثم إنهم ذبحوهما ذبحًا، وقتلوا من كانوا يسيرون في ركابهما.»

[٢١]

كان «يو تسي» أحد أغنياء الزمان، وكان منزله بدولة «ليانغ» محتشدًا بمظاهر الثراء والرفاهية، وقد عمرت خزائنه بالذهب والأموال والديباج، مما لا يحصى له عد، واشتملت مقتنياته على ما لا يقدر بمال من الأمتعة والأثاث والتحف النادرة، وقد بنى فوق داره علية تطل على الطريق، رصت في جنباتها الآلات الموسيقية، يضرب على أوتارها العازفون، وقد صفت فوق الموائد كئوسًا من خمر مصفًّى، لذة للشاربين. وفي الأركان جلس المتقامرون متحلقين حول موائد النرد. والسعادة تتقافز في عيونهم والبشرى تتحلق فوق أحجار متراصة تتجاذبها فرص الحظ الجميل، وكوكبة من لاعبي الووشو يتقاطرون على العلية من فجاج شتى، يصعدون إلى الصالة الكبرى، واحدًا وراء الآخر، وبين تارة وأخرى، تنطلق صيحات هنا وهناك، صيحات فوز مجلجلة في ركن الرماية، بعد ضربات مسددة في قلب الهدف، وصيحات تزدحم فوق رقعة الشطرنج الممتدة تحت عيون تتلهف على نقلات ناجحة متتالية [لعبة قمار قديمة، على مثال الشطرنج، حيث تقسم أحواض المياه إلى جداول صغيرة تسبح فيها الأسماك كيفما استحثها اللاعبون].

وذات يوم، وبينما كان الجميع غارقون إلى الأذقان في ألوان من الترف واللهو في الصالة العلوية، حلقت فوق الرءوس طائرة ورقية مجنحة وسقط منها فأر ميت فوق رأس أحد لاعبي الووشو، فضج غاضبًا، وصاح فيمن حوله، متوعدًا: «هو ذا «يوشي» قد طال به عهد الغنى والثراء حتى تطاول علينا وقصد إلى الاستهزاء بنا (والفرجة علينا …) وأرى أننا إن لم نثأر لأنفسنا، الآن، مما أحدثه بإلقاء الفأر الميت على رءوسنا، فسوف يصول ويجول بمقارعتنا وتجريسنا وسط الناس، فإن لم نسارع إلى تأديبه، فلن نرفع رءوسنا من المذلة، بعد اليوم، فلنتفق على رأي واحد، ونقوم عصبة واحدة، فنستأصل شأفته ونقطع دابره ونقضي عليه وعلى كل من وما يمت إليه بصلة، فلا تقوم له من بعد، قائمة أبدًا.» ووافق الموجودون جميعًا على رأي ذلك اللاعب الشجاع. فلما حل مساء اليوم المضروب له الأجل المحدد، اجتمع الحشد وساروا بالعزم على يد رجل والحد، فجمعوا الرماح وآلات القتال وهجموا بغتة على يوشي، فلم يغادروا منه ومن أهل بيته أحدًا إلا نكلوا به وجندلوه، فأمسى يوشي وأهله أثرًا بعد عين.»

[٢٢]

كان «يوان جينمو» المقيم بشرق البلاد قاصدًا طريق السفر إلى إحدى المناطق النائية؛ إذ وقع مغشيًّا عليه وهو على الطريق؛ لقلة ما تبلَّغ به من الزاد، فلمحه أحد لصوص السابلة بمنطقة «خفو»، وكان قاطع الطريق يدعى «تشيو»، ثم إنه أتى بوعاء من الماء وبلل فيه كسرات الخبز وأطعمه إياها، فأفاق يوان جينمو، قليلًا، وفتح عينيه وسأل مُطعمه قائلًا: «من أنت؟ وماذا تعمل هنا؟» فأجابه، قائلًا: «أنا من قاطني هذه الناحية التي يقال لها «خفو»، واسمي «تشيو».» فعاد يوان جينمو يسأله، في دهشة: «هه؟ ألست قاطع طريق فيما يبدو؟ فما شأنك بنجدتي وتقديم الطعام لي؟ إن شريفًا صافي النفس والقلب مثلي، لا يجوز له أن يقرب شيئًا من طعامك.» وهكذا، فقد انكفأ المسافر المسكين بجسده منبطحًا على بطنه واعتمد على يديه، يريد أن يتقيأ ما بجوفه، فتجشأ من دون أن يلفظ الطعام من فيه، فجاهد نفسه بأقصى ما يستطيع، فاختنق، ولم يتمالك أن خر على الأرض جثة هامدة، وفاضت روحه.

ولئن كان الرجل ابن بلدة خفو قاطع طريق، فإن الطعام الذي بحوزته كان بريئًا من تهمة السرقة؛ وبناءً على ذلك، فإن الاعتقاد بأن الخبز الذي يحمله السارق متهم بالرذيلة، ومأخوذ بجريرة حامله؛ مما يستوجب رفض الاغتذاء به، وتبديد آخر رمق من الحياة، (… مثل هذا الاعتقاد …) يعد مجرد تصور مغلوط وإدراك فاسد وخلط معيب بين الأسماء والحقائق [حرفيًّا: التسمية والجوهر].

[٢٣]

كان «جوليشو» وزيرًا في بلاط الملك «آوكون» حاكم دولة «جيو»؛ ولأنه نقم على الملك عدم تقديره لخصاله الطيبة فقد قدَّم استقالته، وقنع بالاعتكاف في كهف عند شاطئ النهر، وصار كلما جاء الصيف يأكل من ثمر أشجار الشاطئ، وفي الشتاء يأكل ثمر شجر البلوط والكستناء، وحدث أن ظروفًا عصيبة ألمت بالملك آوكون، فقرر جولشيو أن يخرج من عزلته ويغادر أصدقاءه من الزهاد؛ ليضع نفسه تحت خدمة الملك المأزوم، وقرر أن يبذل كل جهد ممكن في سبيل خدمة مولاه (حتى لو بلغ به الأمر إلى التضحية بنفسه) فالتف حوله المعتكفون وقالوا له: «لكنك اعتذرت عن عدم العمل عنده بزعم أنه لم يقدِّر فيك صفاتك الجليلة ولم يحسن تقدير مركزك، فكيف تعود إليه اليوم عازمًا على أن تبذل له أقصى ما استطعت من البذل والفداء، ألست بذلك تخلط بين تقديره وعدم تقديره لك بصورة غير مفهومة؟» فأجابهم جوليشو بقوله: «ليس الأمر هكذا، وإنما قدمت له استقالتي لأني تصورت أنه لا يبذل التقدير اللائق لي ولخصالي ومؤهلاتي، لكني اليوم، إذ أذهب إليه لأبذل له كل جهد ممكن؛ فلأني تبينت حقًّا أنه عاجز عن إدراك الحقائق التي تمكنه من إجراء مثل هذا التقدير. وأستطيع التأكيد بأني سأبذل كل جهدي بل إني مستعد للاستشهاد، وغايتي من ذلك أن أندد بالملوك الذين يعجزون عن تقدير مزايا وزرائهم في قادم الأيام … أن يبذل المرء نفسه لأجل الذين يقدرون مزاياه، وينأى بالبذل عمَّن ينكرون عليه موهبته» … ذلك هو المبدأ والمعيار الذي يقتدي به المتشيعون لطريق الحق والعدل.»

ومع ذلك، فيمكن القول بأن جوليشو كان مستعدًّا للبذل والتضحية؛ لأنه هانت عليه نفسه من جراء ما امتلأت به روحه من المرارة والكراهية.

[٢٤]

قال يانغ شو: «من يصنع (للغير) معروفًا فلن يعدم النفع، ومن يصب على الناس جام غضبه ومر ضغينته، فسوف يجلب على نفسه شر البلاء، فوقائع العالم ليست إلا مرآة تعكس للنفس ما يظهر منها، خيرًا كان أو شرًّا.

ليس سوى النوايا المخلصة والضمائر الصادقة، هي وحدها التي تنطبع في جوهر الإدراك الفعلي، فمِن ثَم، ينفق الحكماء جل انتباههم وحذرهم لكل ما ينم عن نفوسهم من مشاعر، وما يصدر عن أفواههم من كلمات.»

[٢٥]

فُقدت شاة كانت في حظيرة أحد جيران يانغ شو، فجمع الجار حشدًا من الناس للبحث عنها، ثم إنه استأذن يانغ شو في أن يستعين بخادمه في عملية البحث عن الشاة الضالة، فقال له يانغ شو: «عجبًا، أتطلب كل هؤلاء الناس للبحث عن شاة واحدة؟» فأجابه جاره قائلًا: «لا بأس فالطرقات كثيرة والدروب متفرعة.» فلما عاد الباحثون سأل يانغ شو جاره قائلًا: «هل وجدتم ضالتكم؟» فأجابه: «قد ضاعت الشاة.» فسأله: «وكيف تضيع بعد كل ما فعلتم؟» فأجابه: «الدروب متفرعة، وفي كل طريق فرعي، منحنى لدرب آخر يتفرع منه، فلما تعددت الطرق، وتفرعت الدروب؛ تحيرنا في أي اتجاه نطلب ضالتنا، فلم نلبث أن عدنا.» وهنالك تغير وجه يانغ شو، واعتراه القلق وتبدت في ملامحه الحيرة، واكتسى وجهه حزنًا وصمت دهرًا لا ينطق بشيء، بل إنه بقي طوال يومه واجمًا مقطب الجبين، واستغرب تلاميذه هذا الحال منه، فكلموه وقالوا له: «ليست الشاة إلا داجنًا حقير الشأن ثم إنها ليست تخصك، يا سيدي، فما لك تطرق حزينًا لأجلها كل هذا الوقت؟» وبقي يانغ شو صامتًا لا يرد عليهم بشيء، فلما وجدوه عازفًا عن أن يطلعهم على فحوى الأمر (وينير قرائحهم بشيء من العلم، في هذا الموضوع …) مضوا إلى شئونهم إلا «منسون يان» [تلميذ يانغ شو]، الذي خرج من عند أستاذه الصامت ليلتقي بزميله «شن دوزي» [تلميذ الفيلسوف الحكيم] ليقص عليه ما حدث، فما هي إلا بضعة أيام حتى كان التلميذان كلاهما يدخلان على أستاذهما يانغ شو، يطلبان إليه المشورة في أمر عرض لهما، وقالا للفيلسوف الساكت: «كان ثلاثة أشقاء يطلبون العلم في سالف الزمان، بين دولتَي «تشي» و«لو»؛ وقد درسوا على يد أستاذ واحد علم «المبادئ الكونفوشية» ثم عادا إلى بلدهم، فسألهم أبوهم قائلًا: «أخبروني عما درستموه من علم المبادئ.» فقال له ولده الأكبر: «إنما هو علم يدعو المرء إلى الاعتناء بجسده، وصرف الانتباه إلى تطهير البدن، على أن يكون الاهتمام بما يشاع عنه من سمعة طيبة بين الناس أمرًا ثانويًّا (في المقام الثاني).» وأجابه الابن الثاني: «إنما تقضي مبادئ الخلق القويم بأن يبذل المرء حياته في سبيل الحصول على سمعة طيبة جديرة بالثناء.» وقال له الولد الأصغر: «تعلمت من مبادئ الكونفوشية ضرورة الاعتناء بصحة جيدة والحفاظ على سمعة طيبة.» وهكذا، تباينت أقوال ثلاثتهم، بل تضاربت إلى حد بعيد، مع أنها كانت تنبع كلها عن أصل كونفوشي واحد؛ فكيف تفرق بين الصواب فيها من الخطأ؟» فقال يانغ شو: «قيل في الحكايات إن رجلًا يقيم بشاطئ النهر كان يجيد السباحة وفنون العوم، فاتخذ من دفع القوارب، على صفحة الماء، مهنة يعمل بها؛ وذلك لكي يعبر بالناس بين الشاطئين، فكان يربح من عمله الشيء الكثير [حرفيًّا: يربح ما يمكنه من الإنفاق على مائة فرد] وعلى هذا، فقد قصده كثير من الراغبين في تعلم فن السباحة، وحملوا له الأحمال الثقال من الطعام؛ عساه يوافق على أن يدربهم على العوم، لكن ما حدث هو أن نصفهم تقريبًا قد غرق في الماء. فالمشكلة هي أنهم كانوا يريدون التدرب على العوم لا الغطس، فالمرء قد يقرر أمرًا ما؛ طلبًا للفائدة، ثم تقع له نتائج مخيبة للآمال، لم تكن في الحسبان، وعمومًا، فانظروا في هذه المسألة، وتساءلوا عن وجه الصواب والخطأ فيها».»

بيد أن «دوزي» خرج من عنده، دون أن يقول كلمة، فعاتبه على ذلك زميله «منغ سونيان» قائلًا: «لماذا كنت تطرح عليه أسئلة متعرجة وملتوية حتى إنه كان يرد عليك بأسلوب أكثر غموضًا والتواءً؟ أنا، بصراحة، لم أعد أفهم حقيقة الأمر بينكما.» فأجابه شين دوزي، فقال: «لما تعددت الدروب المتفرعة عن الطريق الرئيسي، شردت الشاة، فضلَّت الطريق؛ وإذ تعددت مناهج الدرس فقد تحير الدارسون وأنفقوا عمرهم بددًا. (ومن المسلم به أن …) كل العلوم تقوم على قاعدة واحدة والمبادئ العلمية ليست محل خلاف، ومع ذلك فقد اختلفت النتائج إلى حد بعيد، فلا مفر، إذن، من العودة إلى طريق واحد وأصل ثابت تنبع منه شتى الآراء ووجهات النظر؛ ادخارًا لطاقة الحياة. (والعجيب أنك، أنت نفسك، من …) أكثر التلاميذ وعيًا ونبوغًا، ومع ذلك، (وللأسف الشديد …) فإنك تعجز عن فهم المعنى المضمر في كلام أستاذك وهو يضرب الأمثال لما يريد أن يقوله، في حين أنك ألصق الجميع بأفكاره، وأحرصهم على استبصار معانيه!»

[٢٦]

خرج «يانغ بو» [الشقيق الأصغر ﻟ «يانغ شو»] مرتديًا ثوبًا أبيض، فتصادف وهو بالخارج أن سقط المطر مدرارًا وتلطخت الشوارع بالأوحال، فما كان منه إلا أن خلع ثيابه البيضاء، ولبس رداءً أسود، فلما عاد إلى منزله، آخر المطاف، إذا بكلبه الرابض لدى الباب، ينكره (وهو في الرداء الأسود) ويتلقاه بالنباح، فغضب يانغ بو، وزجره وجرى وراءه يريد أن يركله، فقال له يانغ شو: «دع الكلب، لا تضربه، فلست بأعقل منه؛ وافرض أن كلبك هذا الأبيض قد سبقك إلى الشارع، ثم عاد بعد ساعات أسود اللون مغبرًا، أما كنت تنكره أنت أيضًا!»

[٢٧]

قال يانغ شو: «قد يترفَّع فاعل الخير عن طلب الشهرة، لكنها تأتيه من حيث لا يطرق إليها سبيلًا، وقد تتعفَّف الشهرة عن استقصاء أوجه النفع، لكن منافع كثيرة تنهمر على ساحة المشاهير؛ وقد تنأى المنفعة الذاتية عن جدل الخصومة، لكن ألوانًا من النزاعات والتعقيدات تعلق بذيل المصالح الشخصية رغم أنفها، فمِن ثَم وجب على العاقل أن يفكِّر وينتبه كثيرًا قبل كل مرة يقدم فيها على فعل الخير.»

[٢٨]

ادعى أحد فقهاء الطاوية، فيما مضى من الزمان، أن لديه سرًّا من أسرار العلم يحول بينه وبين الموت، فترامت الأخبار بذلك إلى أمير دولة يان، فأرسل من يجتهد في تحصيل تلك الأسرار من الشيخ الفقيه، غير أن الأمور لم تسِرْ على ما يرام، وكان أن توفي الرجل المدعي امتلاك أسرار الخلود، وانزعج أمير دولة يان لهذا الخبر بشدة، وأصدر أمرًا بإعدام الرجل الموفد من عنده لتلقي أسرار البقاء الأبدي، لكن وزيره (الذي كان موضع حفاوته وتقديره) كلَّمه في هذا الأمر قائلًا: «ليس في الدينا كلها شيء أفزع للناس من الموت، فالجميع يحرصون على الحياة، وإذا كان الشخص الوحيد الذي ادعى معرفته بأسرار الخلود قد مات، فأنى له أن يُبقي على حياتك إلى الأبد؟»

وتراجع الأمير عن قرار الإعدام، ثم قيل إن واحدًا من طلاب علم الخلود، ويدعى «تشي تسي» ما سمع بوفاة فقيه الأسرار الأبدية، صرخ جزعًا وراح يدق صدره بعنف (… علامة الأسف والحزن) في حين أن ولد أحد الأثرياء لما تناهى إليه الخبر سخر من تشي تسي، وقال له: «كنت تريد دراسة أصول البقاء الأبدي، غير أن الفقيه العارف بأسرار العلم قد مات، ومع ذلك، فها أنت تصرخ باكيًا، وتطرق آسفًا حزينًا، وأظنك لم تدرك المغزى الأساسي والهدف الأصلي من دراستك واهتمامك بهذا العلم.» ورد عليه رجل من العامة يدعى «هوزي»، فقال: «لست أتفق معك في الرأي، فقد يتقن العلوم والأسرار من لا يعمل بها، فهذا أمر معلوم وشواهده كثيرة، وقد تجد أحدهم ماهرًا في تطبيقات العلوم والمعارف، دون إلمام بنظرياتها ومبادئها، والأمثلة موجودة وبغير حصر، وقد بلغني أنه كان في دولة «ويه» واحد من أنبغ الرياضيين، عاش عمرًا طويلًا يتفقه في الحساب والرياضيات، فلما حانت ساعة وفاته، دنا من ولده وألقى عليه صيغة رياضية (موجزة وعلى نمط مسجوع؛ ليسهل حفظها) فحفظها الابن عن ظهر قلب، وظل يرددها في كل حين، دون أن يعي منها شيئًا، أو يحاول الاستفادة التطبيقية منها، ولما تلقى عنه أحدهم تلك الصيغة الرياضية وراح يتأملها ويجري بها العمليات الحسابية، بلغ مرتبة تكاد تفوق ما وصل إليه الرياضي المتوفى؛ فإذا صحت تلك الأخبار، فلماذا لم يترك لنا ذلك الفقيه العارف بأسرار البقاء علمًا يشهد على صحة دعواه؟»

[٢٩]

اعتاد أهالي «هاندان» في ليلة رأس السنة الجديدة، إطلاق أسراب من الحمام المطوق في سماء المدينة تكريمًا (للنبيل الماجد) «جيانزي»، وبالطبع، فقد كان مثل هذا الاحتفال يلقى منه شديد العرفان، ومن جانبه، فلم يكن يتأخر، أيضًا، في كل احتفال عن تقديم المكافآت السخية والهدايا الثمينة لأعداد وفيرة من الأهالي، حتى نزل على البلدة، ذات يوم، ضيف عابر، وسأل عن سبب كل تلك الاحتفالات والمكافآت، فذكر له جيانزي أصل هذا التقليد قائلًا: «إطلاق الحمائم، في ليلة رأس السنة [السنة الصينية، الموافقة لموسم الربيع] إنما هو احتفال رمزي يشير إلى الاعتراف بقيمة وفضل الحياة، فإطلاق الحمام، في مغزاه الأصلي تعبير عن الانعتاق من الأسر، والانطلاق إلى أفق الحياة.» فرد عليه الضيف قائلًا: «لكن الناس يتسابقون سباقًا عنيفًا في اصطياد وجمع الحمائم [حرفيًّا: جمع تلك الطيور الضئيلة المسكينة] ولا بد أن يسفر ذلك التزاحم عن قتل ما لا يحصى عدده من الطيور، فماذا لو أبقيت على الجميع حياته وحظرت على الأهالي تلك العادة البغيضة، فمنعتهم من أسر الحمائم مطلقًا، وأمرت من أسر منها شيئًا، أن يطلقه (أليس هذا أرحم بالحياة؟) فمتى كان الإحسان، يا سيدي، تعويضًا عن القسوة! [حرفيًّا: إن العطف، يا سيدي، لا يمكن أن يكون تعويضًا عن الوحشية!]» فأجابه جيانزي قائلًا: «الحق معك … وكذلك ينبغي أن يكون التقدير!»

[٣٠]

أقام الماجد «تيان» المقيم بدولة تشي مأدبة جنائزية على روح أجداده، فعمرت ساحة قصره بمئات الضيوف الذين جاءوا يحملون إليه هداياهم من السمك والإوز، واستقبلهم بحفاوة ثم تنهد قائلًا: «ما أكرم السماء بالبشر، أنبتت لهم حقولهم ألوانًا من المزروعات [حرفيًّا: أنبتت لهم الحبوب الخمسة] وأجرت الأسماك في الأنهار والإوز في الحظائر، طعامًا مريئًا.» وهنالك، هتف له الحاضرون بالتحية، وصفقوا له تصفيقًا حادًّا. ووقف صبي من آل «باو» في أقصى الفناء، وكان حدثًا لا يتجاوز عمره الثانية عشرة، وصاح قائلًا: «ليس الأمر على نحو ما ذكرت يا سيدي؛ فكل الأشياء في السماء والأرض، ذات وجود مماثل لوجود البشر، سواءً بسواء، وليس في حق الوجود تفرقة بين بشر أو غيرهم من باقي الكائنات؛ فليس هناك رفيع أو وضيع، وإنما يتسلط بعضهم على بعض، بمقدرة جسمانية أو ذهنية متفوقة، فيأكل القوي الضعيف، ويتسلط الغالب على المغلوب، فلم يوجد كائن لأجل كائن آخر، ولم يعِش مخلوق ليشبع نهمة مخلوق غيره، وإنما يتناول الناس بأفواههم طعامًا يجدونه مستساغًا، فكيف يمكن القول بأن السماء أوجدت لهم الطعام، وبأي برهان تقول هذا؟

ثم إن البعوض والحشرات تلدغ الإنسان وتمتص دماءه، والوحشي من الذئاب والنمور تلتهم لحم بني البشر، أفلا يقال، إذن، إن السماء خلقت دم الإنسان لغذاء الحشرات والبعوض، وصنعت لحم البشر؛ لتأكله الأسود والنمور، يلتهمونه مريئًا؟»

[٣١]

كان في دولة «تشي» رجل فقير يقضي سحابة نهاره في شوارع المدينة يتسول الطعام، فأبغضه المارة والسكان، وضاقوا ذرعًا بملاحقته لهم، وأمسكوا أيديهم عن الإحسان إليه، فما كان منه إلا أن قصد إلى مأوى الخيل، في ضيعة النبيل «تيان» ليعمل مساعدًا لسائس الخيول في الضيعة، وصار يعيش على الكفاف، لكن الناس سخروا منه قائلين: «هو ذا الشحاذ يطلب قوت يومه عند سائس الخيل، يا للعار!» لكن الشحاذ نفسه كان يقول: «أسوأ العار، في الدنيا كلها، أن يتسول المرء طعامه، فإذا كنت أعد التسول شيئًا مقبولًا، فهل أنظر إلى العمل مع السائس باعتباره أمرًا مشينًا؟»

[٣٢]

كان أحد المتسكعين في شوارع دولة سونغ يجمع، من الشوارع، بقايا الصكوك النقدية التي ألقى بها المارة على قارعة الطريق، ثم يعود إلى بيته، آخر اليوم، فيخرج حصيلة نهاره من تلك السندات النقدية (القديمة المهترئة) ويحسب الأرقام المدونة عليها، بمنتهى الدقة، ويدونها (في الأوراق) ثم يقول لجاره: «قد أوشكت على الدخول إلى دنيا المال والثراء، قريبًا جدًّا.»

[٣٣]

كانت الشجرة العالية أمام البيت [حرفيًّا: شجرة البارسول الصيني] قد جفت أغصانها وذبلت جذورها، فجاء الجار الكهل لصاحب المنزل الذي انتصبت أمامه الشجرة، وقال له: «إن أبقيت على شجرة ذابلة كهذه، فلن يجيئك الحظ السعيد أبدًا.» فسارع الرجل إلى قطع الشجرة من جذورها، فجاء الكهل إليه ورجاه أن يعيره بقاياها ليستخدمها حطبًا جافًّا للوقود، فحزن الرجل، صاحب الشجرة المقطوعة، وقال في نفسه: «لم يكن جارنا المسن يكترث إلا لمصلحته، يوم أن اقترح عليَّ قطع الشجرة، (فهل أخسر شجرة، حتى لو كانت ذابلة …) لأكسب جارًا خبيثًا ماكرًا؟»

[٣٤]

كان رجلٌ قد فقد فأسه، وبقي يتطلع، في شك، إلى ولد جاره، وهو يظن أنه سرقها، وكلما رآه ماشيًا على الطريق، بدا له أنه السارق، وكلما تفرس في ملامحه، رأى فيها وجه اللص الذي سرق فأسه، وكلما سمعه يتكلم، بدا له أنه كلام لص استولى على الفأس؛ فكانت حركاته وسكناته وقعوده وقيامه، وكل شيء فيه، يشير إلى أنه اللص ولا أحد سواه.

فما هي إلا أيام، حتى كان الرجل يحرث أرض السهل الجبلي، فعثر على الفأس المفقودة، فكان بعدئذٍ، كلما رأى الولد، ابن جاره، وتفرس في ملامحه وحركاته وسكونه وكل أحواله، لم يجد في شيء منها أثرًا يقطع بأنه لص، بأي حال.

[٣٥]

كان «بايقون شنغ» [أحد أحفاد الملك بينغ آل تشو] يتأمل بعمق شديد، ما أثير بشأن احتمالات التمرد والعصيان، وبينما هو مستغرق في تأمل الأفكار على وجوه شتى، كان اجتماع الديوان الملكي قد انفض، فوجد نفسه وحيدًا، وبيده المنخس الذي يسوق به حصانه، ويبدو أنه انقلب في يده، دون وعي منه، فصارت الذؤابة الحادة مصوبة إلى وجهه، فخدشته فسالت من خده الدماء غزيرة، وسقطت على الأرض، دون أن ينتبه إلى أنه أصيب بجرح نازف، فلما ترامت الأنباء بذلك إلى (المسئولين في …) دولة جنغ، قالوا: «إذا كان قد ذهل عن الجرح في وجهه، فسوف يذهل عن أشياء كثيرة (ذات شأن)!» ذلك أنه بتركيزه الشديد وانشغاله التام بالأفكار الدائرة في رأسه، يمكن أن يتعثر في وتد ناشئ بجوار جذع شجرة، أو يقع في حفرة عميقة، أو يرتطم رأسه بغصن متدلٍّ من شجرة مائلة، كل ذلك ممكن حدوثه، في أي وقت، دون أن ينتبه إلى ما يقع له.

[٣٦]

قيل في حوادث الزمان الغابر إن أحد أهالي دولة «تشي» كان مولعًا بالذهب، وتاقت نفسه إلى الحصول عليه بكل وسيلة، وكان أن استيقظ ذات صباح فارتدى أحسن ثيابه وخرج يمشي وسط الناس، في أبهى مظهر، حتى وصل إلى سوق المدينة، ثم دلف إلى أول متجر للذهب صادفه في طريقه، والتقط من أمام البائع قطعة مرصعة بالذهب ومضى بها، سريعًا، إلى خارج المتجر. وفي الحال أمسك به الشرطي واقتاده إلى المخفر، حيث سأله: «أبلغت بك الجرأة أن تسرق الذهب، جهرةً، والعيون إليك شاخصة، والناس حولك ينظرون؟» فأجاب قائلًا: «كنت، ساعة أن مددت يدي إلى طاولة المتجر، أنظر بكل انتباه، لكني لم أرَ أحدًا من الناس هناك، قد نظرت وتأملت جيدًا، لكني لم أرَ سوى الذهب.»

١  هذا هو الباب الأخير من كتاب ليتزو، وينصرف محتواه إلى محاولة الاستدلال على صحة ما سبق طرحه في الأبواب والفصول السابقة، أو بمعنًى آخر: محاولة الوصول إلى نتيجة منطقية بعد تطور سردي للقضايا التي سبق له تناولها في الأبواب السبعة، والعنوان، هنا، يتكون من مقطعين: «شوه» بمعنى «مناقشة»، و«فو» أي: «البرهان»؛ أو بمعنى أدق «البرهنة على صحة الأشياء». وفي عبارة واضحة، فالمؤلف يريد، في هذا الباب، أن يقول بأن «كل الأفكار والتصرفات تحتاج دائمًا إلى الاستدلال على صحتها، وهذا الاستدلال لا يجري عبثًا، وإنما يهدف، أساسًا، إلى البحث عن مدى مطابقة كل فعل وقول ﻟ «أصول ومبادئ الطاو». ويحتوي هذا الباب على ثلاثين أمثولة وحكاية خرافية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤