مع المتنبي

الشاعر الذي لا نعرفه بشعره، لا يستحق أن يُعرف.

لأن كلام الشاعر هو الصلة الكبرى بيننا وبينه، فإن لم يكن هذا الكلام معبرًا عن نفسه واصفًا لها، ممثلًا لشعورها فليس هو بطائل، وإن كان معبرًا عن النفس مستجمعًا لصفاتها وأطوارها فهو حسبنا من معرفة بالشاعر وترجمة لحياته، لا يزيد عليها التاريخ إلا ما هو من قبيل التفصيل والتفسير، أو من قبيل الحشو والفضول.

لهذا نعتقد أن صديقنا الدكتور طه حسين، قد اعتمد على خير معتمد حين شرع في الكتابة على المتنبي وليس معه غير ديوانه، فإننا إذا عرفنا المتنبي كما هو ماثل أمامنا في قصائده وأقواله لم يبقَ وراء ذلك من حقيقة الرجل، إلا ما يتشابه بينه وبين سائر الناس، وقد يجوز أن يقيم أناس في حلب كما أقام فيها أبو الطيب، وأن يرحلوا إلى مصر كما رحل إليها، وأن تتوارى أنسابهم وأسماء آبائهم وأمهاتهم، كما توارى كل ذلك في ترجمة حياته، ولكن الذي لا يجوز أن يتشابه فيه صاحبنا وغيره من الناس قديمًا وحديثًا هو هذا الديوان أو هو أجزاء هذا الديوان متفرقات أو مجتمعات.

قال الدكتور في ختام الكتاب: «وأكثر من هذا أني أخذت أرى رأيًا ما أظن إلا أن كثيرًا من الناس سيضيقون به ولعلهم أن ينكروه عليَّ، وقد ضقت به أنا وأنكرته على نفسي، ولكني لم أزدد إلا إمعانًا فيه واطمئنانًا إليه وتعجبًا من أني قد انتظرت هذه السن وهذا الطور من أطوار الحياة قبل أن أفطن له، أو أطيل التفكير فيه، وهو أن شعر المتنبي لا يصور المتنبي، وأن شعر الشعراء لا يصور الشعراء تصويرًا كاملًا صادقًا يُمكِّننا من أن نأخذهم منه أخذًا مهما نبحث ومهما نَجِدُّ في التحقيق. وما أريد أن أطيل الاستدلال على ذلك، ولا أسلك إلى هذا الاستدلال هذه الطرق الملتوية التي يسلكها الفلاسفة والعلماء والأدباء أيضًا، وإنما أريد أن ألفتك إلى شيء يسير، وهو إن صوَّر شيئًا فإنما يصور لحظات من حياة المتنبي، كما أن هذا الكتاب الذين بين يديك إن صور شيئًا فإنما يصور لحظات من حياتي أنا لا أكثر ولا أقل.»

وهذا كله صحيح!

ولكنه ينتهي إلى نتيجة غير التي انتهى إليها الدكتور.

ديوان المتنبي وديوان من شئنا من الشعراء لا يصور إلا لحظات من حياتهم، نعم، ولكنها اللحظات التي تعنينا، واللحظات التي نعرفهم بها، واللحظات التي لا شأن لنا بغيرها.

كذلك وجه الإنسان لا يمثل لنا إلا جزءًا يسيرًا منه لا يبلغ نصف معشاره، ولكنه هو الجزء الذي نعرفه به بين عشرات الملايين ممن عاشوا أو يعيشون على هذه الغبراء، ولحظات الحياة التي يمثلها شعر الشاعر إنما هي اللحظات التي تعرفنا به أكمل تعريف مستطاع، فإن هي لم تفلح في تعريفنا به فليس شيء غيرها بمفلح على الإطلاق، ولا سبيل إلى شيء وراء ذلك يعرفه الإنسان عن الإنسان.

وعلى هذا يحق للدكتور أن يطمئن إلى رأيه فلا يضيق به ولا يخشى أن يضيق به الناس، فنحن لا نبغي من المتنبي ولا من غيره إلا هذه اللحظات المعدودات، ولو أننا عرفنا لحظات حياته منذ استهل مولودًا إلى أن لفظ النفس الأخير مقضيًّا عليه، لما زادتنا كثيرًا عن هذا الجزء المحدود الذي حصره لنا الديوان، ولوجدنا بعد أن جمعنا ملايين الملايين من اللحظات أننا لم نعرف بها المتنبي كما نريد أن نعرفه، بل عرفناه تارة حيوانًا يهضم الطعام كما يهضمه سائر الحيوان، وتارة أخرى عروقًا تنبض كما تنبض سائر العروق، وتارة غير هذه وتلك رئتين تتنفسان كما تتنفس سائر الرئات، وقس على ذلك جميع التارات وجميع اللحظات، أما المتنبي الذي نبغيه فسيظل هو المتنبي المعروف في ديوانه بلا زيادة ولا نقصان، أو بزيادة عرضية ونقصان ليس بذي بال.

نعم، إن الشاعر قد يُغالط في بعض كلامه، بل قد يغالط في جميع كلامه، ولكن المغالطة تكشفه ولا تخفيه، وتعين على معرفته أضعاف ما تعين على جهله: تكشفه على الأقل إنسانًا مغالطًا، وتكشف لنا بعد ذلك طريقته في المغالطة وفي حيلها وأساليبها وأغراضها؛ وتبدي لنا منه صورة يتميز بها بين الصور جهد ما يستطاع التمييز.

فصحيح إذن أن شعر المتنبي إنْ صوَّر شيئًا فإنما يصور لحظات من حياته، ولكن صحيح كذلك أنه إذا صور لنا هذه اللحظات فقد صور لنا كل ما نبغيه، وأوفى ما يبلغه التصوير.

ويقول الدكتور طه في صدر الكتاب: «لا أريد أن أدرس المتنبي، إذن فالذين يقرءون هذه الفصول لا ينبغي أن يقرءوها على أنها علم ولا على أنها نقد؛ ولا ينبغي أن ينتظروا منها ما ينتظرون من كتب العلم والنقد، وإنما هي خواطر مرسلة، تثيرها في نفسي قراءة المتنبي في قرية من قرى الألب في فرنسا قراءة في غير نظام ولا مواظبة، وعلى غير نسق منسجم. إنما هي قراءة متقطعة متفرقة.»

والذي أعتقده أن الدكتور لو تعمد «العلم والنقد» واصطحب المطولات والحواشي والتعليقات لما أضاف في دراسة المتنبي شيئًا هو خير من هذه الخواطر المتفرقة والفروض المحتملة، وأرى أنه قد رجع إلى بعض الكتب المفصلة بعد أن شرع في كتابه على نية غير نية الدراسة العلمية والنقد الممحص الدقيق، ولكنه أحسن بفروضه أكثر من إحسانه بمنقولاته ومروياته، وألمع في هذه الفروض إلى آراء شتى خليقة بالتأمل والمتابعة إلى أقصى وجوهها، ولا سيما كلامه في صلة المتنبي بالقرامطة، وحقيقة الدعوة الدينية والاجتماعية التي كان يدعو إليها، فهذه وأمثالها فروض لم يرسلها الدكتور على أنها وقائع ولا على أنها ترجيحات ولم يعطها من القيمة في معرض الدرس أكثر مما تعطاه الخواطر المحتملة، إلا أنها مع هذا خواطر هادية وليست بالخواطر المضللة، أو هي ظنون في الطريق المؤدي إلى الغاية، وليست ظنونًا في الطريق المنقطع عن تلك الغاية، وهذه هي الإضافة المشكورة إلى ذخيرة الفهم، والأدب، والتفكير، وهي بهذه المثابة أنفَس من إحصاء المعلومات، واستعراض الآراء من هنا وهناك.

•••

ويطول بي القول إن أنا سردت في هذا المقال ما نتفق فيه بعض الاتفاق أو كل الاتفاق، فالرأي إذن أن أُلِمَّ بمواضع الخلاف، وهي غير قليلة في الكتاب، وأكتفي بالإشارة إلى نماذج منها معظمها في الحكم على صناعة المتنبي، أو في الحكم على ذوقه وطبعه، فهي من ثم بمعزل عن جانب الفرض والتاريخ.

روى الدكتور هذين البيتين من شعر المتنبي في صباه:

بأبي من وددته فافترقنا
وقضى الله بعد ذاك اجتماعًا
فافترقنا حولًا فلما التقينا
كان تسليمه عليَّ وداعا

ثم قال: «أعجب الفتى بهذا المعنى، فأراد أن ينظمه وأن يصل إليه، فتكلف لذلك بيتًا ونصف بيت، وأنت ترى مظهر التكلف في قوله: «بأبي من وددته فافترقنا»، فكلمة وددته هنا نابية قلقة مكرهة على الاستقرار في مكانها الذي هي فيه. أراد الصبي أن يقول أحببته فلم يستقم له الوزن، فالتمس كلمة تؤدي له هذا المعنى، وتلائم هذا الوزن فلم يجد إلا وددته هذه.»

والخلاف بيننا وبين الدكتور في طريقة النقد هنا جد بعيد، فنحن نرى من جهة أن أبا الطيب لو أراد أن يقول: «أحببته» بدلًا من «وددته» لاستقام له الوزن مع بعض التجوز الكثير في الشعر المقبول في العروض، ونرى من جهة ثانية أن أبا الطيب كان مستطيعًا أن يستخدم هنا «حببته» الثلاثية بدلًا من أحببته الرباعية، كما استخدمها في قوله وهو شاعر كبير:

حببتك قلبي قبل حبك مَن نأى
وقد كان غدارًا فكن أنت وافيا
فلا ضرورة في الوزن ولا استكراه، وفضلًا عن هذا لا نظن كثيرين يحسبون مع الدكتور أن «وددته» في موضعها من البيتين لا تعبر عن معناها الصحيح، الذي لا تعبر عنه كلمة غيرها، فالمودة هي الكلمة العربية التي تقابل كلمة Tendresse في الفرنسية، وتطابق معناها تمام المطابقة، وهو ذلك الحب الرفيق الذي فيه حنو وشوق وليس فيه عنف ولا اعتلاج، وليست في اللغة العربية كلمة هي أصلح لهذا المعنى من «وددته» التي اختارها الشاعر، وليجرب الدكتور أن يغيرها في كلام منثور فسيعلم أن هذه الكلمة في نظم المتنبي الصبي هي أشبه الكلام بنظم المتنبي الكبير.

ومن المحقق أن «المودة» ومشتقاتها ليست من الكلمات التي يلجأ إليها شاعرنا اضطرارًا، أو لعجز في الوزن والصياغة، فهي مألوفة في قصائده العديدة، وتكاد تكون لازمة له في التعبير عن الحب بشتى معانيه، ونذكر أمثلة على ذلك منها قوله:

وما الخِلُّ إلا من أود بقلبه
وأرى بطرف لا يرى بسوائه

وقوله:

وكل وداد لا يدوم على الأذى
دوام ودادي للحسين ضعيف

وقوله:

وإن بُليت بود مثل ودكم
فإنني بفراق مثله قَمِن

وقوله:

ولما صار ود الناس خَبًّا
جزيت على ابتسام بابتسام

وقوله:

إذا لم تجزهم دار قوم مودة
أجاز القنا، والخوف خير من الود

وقوله:

ولقد منحت أبا الحسين مودة
جودي بها لعدوِّه تبذير

وقوله:

ما لي لا أمدح الحسين ولا
أبذل مثل الود الذي بذله

وقوله:

ولا تطمعنْ من حاسد في مودة
وإن كنت تبديها له وتُنيل

وقوله:

منع الود والرعاية والسؤد
د أن تبلغا إلى الأحقاد

وقوله:

أود من الأيام ما لا توده
وأشكو إليها بيننا وهي جنده

وقوله:

هو الوفي ولكني ذكرت له
مودة فهو يبلوها ويمتحن

وقوله:

سقاني الخمر قولك لي بحقي
وود لم تَشُبْهُ لي بمذق

وقوله:

أقصر فلست بزائدي ودًّا
بلغ المدى وتجاوز الحدَّا

وقوله:

صار ما أوضع المخبون فيه
من عتاب زيادة في الوداد

وقوله:

فما تركوا الأمارة لاختيار
ولا انتحلوا ودادك من وداد

ومثل هذا التكرير لهذه الكلمة جدير بالتسجيل؛ لأنه ذو دلالة نفسية فوق دلالته الصناعية أو اللغوية، فهو يدل على افتقار الشاعر طول حياته إلى الود والأوِدَّاء، حتى قنع بالتزييف والطلاء كما قال:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيًا
وحسب المنايا أن يَكُنَّ أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن ترى
صديقًا فأعيى، أو عدوًّا مداجيا

وهي ظاهرة لا نظير لها في عامة الشعراء.

وعاب الدكتور هذه الشطرة: «أبلى الهوى أسفًا يوم النوى بدني» فقال: «إن أسفًا هنا كلمة لم تأتِ إلا لتقيم الوزن، ونُبُوُّها عن موضعها أظهر من أن يدل عليه.»

وعندنا أن الطريقة المثلى لتحقيق الكلام الذي تجيء به ضرورة الوزن أن نحذف الكلمة وننثر البيت وننظر بعد ذلك إلى قوة المعنى وقوة الأثر، فإن بقيت للمعنى قوته وبقي له أثره؛ فالكلمة المحذوفة حشو لا موجب له غير إقامة العروض، فهل «أسفًا» في الشطرة التي عابها الدكتور من الكلمات التي يصدق عليها هذا القياس؟ لا نظن، بل هي كلمة تتعلق بها كل قوة البيت كما تتعلق بها نغمته الموسيقية ودلالته في الشعور؛ بسبب البلى يوم النوى وهو الأسف والحسرة.

وأنكر الدكتور على المتنبي قوله:

حاشى لمثلك أن تكون بخيلة
ولمثل وجهك أن يكون عبوسا
ولمثل وصلك أن يكون ممنعا
ولمثل نَيْلِك أن يكون خسيسا

فقال: «ولست أدري بأي امرأة أراد المتنبي أن يشبب في هذين البيتين؟ وما أرى إلا أنه كان يشبب بمن لا يَحْسن التشبيب بها من النساء، فالمرأة التي ترتفع عن البخل، ويرتفع وصلها عن التمنع، ليست خليقة بالشعر إلا حين يقصد إلى هجائها.»

وأنا لا أبرئ المتنبي من «قلة الذوق» في كثير من شعره، ولكنني لا أحسب هذين البيتين بين الشواهد على قلة ذوقه؛ لأنه قد بين فيهما أن نيل صاحبته غير خسيس، فهو إذن ليس بالنيل المبذول لجميع الناس، ومتى كان كذلك وكان نيلًا موقوفًا على صاحبها فأي ضير على هذا الصاحب أن يلومها على البخل ويطمع منها في المزيد؟

والدكتور يعتقد أن المتنبي دخل في طور جديد من نظمه بقصيدته التي أولها:

أزائر يا خيال أم عائد
أم عند مولاك أنني راقد

لأنه كما قال: «يصرع في القصيدة الواحدة مرة أو مرتين، أما في هذه القصيدة فهو يصطنع التصريع مرات.»

ولو رجع الدكتور إلى البائية التي مطلعها:

بأبي الشموس الجانحات غواربا
اللابسات من الحرير جلاببا

لوجد فيها غير المطلع خمسة أبيات مصرعة، وهي مما نظم في عهد الشباب.

والدكتور يرى أن المتنبي كان يشير إلى اعتقال كافور إياه في مصر، حين قال يمدح أبا شجاع:

وإن تكن محكمات الشكل تمنعني
ظهورَ جَرْيٍ فلي فيهن تصهال

فهو كما قال الدكتور: «لم يستطع أن يخفي تأذيه بهذا السجن الذي يمسكه في الفسطاط» وهذا هو «الشكل المحكم» الذي عناه في البيت المتقدم.

وعندنا أن التفسير الشائع لذلك البيت أصح وأدل على ما عناه الشاعر: وهو أنه لم يستطع من جزاء أبي شجاع إلا أن يمدحه بالكلام، إذ لم يكن لديه جزاء المال والحطام، وكأنه في هذه الحالة جواد مقيد لا يملك غير الصهيل ولو أنه يقصد حبس كافور إياه لكان معنى البيت أنه يصهل ويمدح أبا شجاع؛ لأنه لم يستطع الجري من سجن كافور! وليس المدح بمستقيم على هذا المعنى.

•••

أما أخلاق الشاعر فموضع الخلاف عليها بيني وبين الدكتور أنني أقرَب إلى جانب العذر وأن الدكتور أقرب إلى جانب الملام، فهو لم يتهم الرجل بخلق ليس فيه، ولكنه لم يطلب له العذر حيث تتضح معاذيره، ولم يزل يشتد في تفنيده، ويجتهد في اتهامه حيث يكون الاضطرار أغلب على الرجل من الاختيار.

وما من شك في تهور المتنبي وطمعه فهما خليقتان من خلائقه المشهورة. بيد أن الشك كل الشك في استحقاقه اللوم؛ لأنه ترك سيف الدولة ورحل إلى كافور، وما أنصفه الدكتور ولا استوضح عذره حين قال: «إن الذين يقرءون شعر المتنبي وهذه الحكم البالغة والأمثال السائرة التي يرسلها إرسالًا، ويكيلها كيلًا يُخدعون عن الشاعر، فيظنون به الفطنة والحكمة والذكاء، ولكن الذين يتدبرون سيرته، ويقرءون فخره ومدحه وهجاءه، يعرفون طبيعة الشاعر ويردونه إلى مكانه الحقيقي من خصال الرجل الذكي اللبق، وإلا فكيف نفهم أن ينفق المتنبي تسعة أعوام يمدح فيها الأمير الحمداني، ويعيب فيها خصومه من أهل مصر والعراق، ثم يظن بعد ذلك أن المصريين يعدونه صادقًا ويبذلون له الآمال والأماني، وهم يأخذون أنفسهم بالوفاء له والاطمئنان إليه. مهما يكن من شيء قد انخدع المتنبي لكافور، وأقبل مستسلمًا له متهالكًا عليه واثقًا به.»

ولو شاء الدكتور لما حار في فهم هذا أقل حيرة، ولفهم أن صاحبنا مكره لا حيلة له فيما صنع، وأنه لم يكن له بد من قصد كافور، بعد أن هَمُّوا بقتله في جوار سيف الدولة مرة، وبعد أن رخص سيف الدولة في قتله مرة أخرى، وبعد أن شجوا رأسه بمحضر الأمير مرة ثالثة، وبعد أن علم أن ذهابه إلى بغداد أو الكوفة غير مأمون ولا مأمول، فليكن بعد ذلك كله أحكم الحكماء وأصدق الطامعين، فما هو إلا مدفوع على الرغم منه كما قال «ومدفوع إلى السقم السقيم.»

وما من شك كذلك في بخل الرجل وحرصه الشديد على المال، ولكننا نجور عليه ولا شك إذا زعمنا أنه بلغ بالبخل حد الإجرام والاستهانة بالنفس البشرية، وأن الشيء الخطير حقًّا كما قال الدكتور: «هو إقدام المتنبي على القتل في سبيل ما كان يسرق هذا العبد من متاعه، فذلك لا يصور بخله وحرصه على المال فحسب، وإنما يصور ما هو شر من هذا. يصور استهانته بالحياة الإنسانية، واستباحته الدم الإنساني في سبيل متاع يقوَّم بالدراهم والدنانير، وأقل ما يوصف به هذا الإثم أنه لا يصور نفسًا شاعرة متحضرة رقيقة الحس متأثرة بالفلسفة، فضلًا عن الدين الذي لا يبيح دماء الناس في مثل هذه الصغائر، ولو أن حياة المتنبي كلها خلت من النقائص والعيب لكانت هذه الحادثة وحدها خليقة أن تسبغ عليها لونًا أحمر قانيًا يبغضها ويبغض صاحبها إلى الناس.»

كلا! إن المتنبي لا يستحق كل هذا، وإنه لم يقتل ذلك العبد بخلًا وحرصًا على دراهم ودنانير، وإنما قتله خوفًا على حياته، وخشية من تمادي الشر، واجتراء عبيده على اغتياله بعد اجترائهم على سرقة ماله، وأي مناص للمتنبي من هذه الفعلة، وهو هارب من السلطان متفرد في البوادي متعرض للانتقاض، ولا حارس له ولا مطالب بدمه غير أولئك العبيد الذين بدءوا يطمعون في ماله، واحتاجوا أسرع الحاجة إلى الزجر والصرامة والتخويف؟! إنما الوجه أن نلتمس حادثًا آخر أقدم فيه المتنبي على القتل، وهو آمن مستقر في سربه خشية على الدراهم والدنانير. أما فعلته هذه فهي فعلة الناجي بنفسه الخائف من سطوة لصوصه، ولا ملامة على من يفعلها مكرهًا في شرع القانون ولا في شرع الأخلاق.

ولقد أطلنا ولا حدَّ للكلام في نقائض المتنبي، ونقائض الآراء في شعره وطباعه. فلنقل موجزين إنه رجل ذو فضائل وذو عيوب، وأنه شقي بفضائله في ذلك الزمن الموبوء أكثر من شقائه بعيوبه، وما من أحد يسمع قوله بل صرخته:

أما في هذه الدنيا كريم
تزول به عن القلب الهموم
أما في هذه الدنيا مكان
يُسرُّ بأهله الجار المقيم
تشابهت البهائم والعِبِدَّى
علينا والموالي والصميم
وما أدري أذا داءٌ حديث
أصاب الناس أم داء قديم

إلا رأى من ورائها بليته بالناس أعظم من بليتهم به، وظلمه للناس دون ظلمهم إياه، واستحقاقه للعذر أكبر من استحقاقه للملام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤