آراء لسعد في الأدب١

في هذا الأسبوع — أسبوع سعد — لا حديث إلا عنه، ولا بحث إلا في سيرته وأعماله، وعبرة حياته ومماته، وليست مقالة هي ألصق بموضوع هذه المقالات من كلام نخصه بسعد وبطائفة من آرائه وأقواله، فإن العظماء أيًّا كانت مناحي عظمتهم، ومواطن تفكيرهم هم موضوع قديم للأدب والتاريخ، ومادة لا تنفد للنقد والدراسة، وإن سعدًا كان الكاتب البليغ والخطيب المبين كما كان السائس الخبير، والزعيم الكبير، فالأدب بعض جوانبه وإحدى مشاركاته، وله فيه آراء صائبة ونظرات نافذة قلما يهتدي إليها أدباؤنا المتفرغون للكتابة أو المتخذون منها صناعة ورياضة، وربما جهل بعض الذين بهرتهم جوانب سعد السياسية أن له يدًا في إصلاح الكتابة من أسبق الأيادي بالتجديد في الآداب العربية، فقد كان هو وصديقه الشيخ محمد عبده يقومان على تحرير «الوقائع المصرية» وتصحيحها قبل سبع وأربعين سنة، وكانت هذه الصحيفة يومئذ مفتوحة لأقلام الأدباء والمنشئين غير مقصورة على القوانين والأنباء الحكومية كما هي اليوم، فعملا فيها على تحرير العبارات، وتقويم الأساليب وإدخال القصد والدقة في المعاني والألفاظ، فأفادا في هذا الباب أحسن ما يفيد كاتبان في ذلك الزمان، وبدءا عهد للكتابة العربية لم يسبقهما إليه سابق في هذه الديار. يعرف لهما هذا الفضل من اطلع على مقالات سعد الأولى التي أعاد البلاغ نشرها من سنتين مضتا، فإن الأسلوب الذي كتبت به تلك المقالات يقارب أسلوب العصر في العلم والأدب، ويخلو من عيوب ذلك العصر الذي كان التكلف والتلفيق ديدن كتابه ومنشئيه، فكأن سعدًا سبق الكتابة العصرية بجيل كامل، وكان طليعة التجديد من خمسين سنة، وليس هذا السبق على الآداب العربية بقليل.

ونحن لم نرد بهذا المقال أن نفصل الكلام في مكان سعد من البيان والأدب، فإن لهذا البحث مادة لم نستجمعها وسيجيئ أوانها وأوان الكتابة من كل ناحية من نواحي هذا الفقيد العظيم. إنما أردنا أن نروي عن الفقيد آراء مسموعة في البيان وما إليه، تشف عما أوتيه رحمه الله من حصافة الذهن، وقرب المتجه، إلى الحقيقة بغير تعسف ولا إجهاد، فما كان يدور كلامه على الأدب مرة إلا سمعنا منه قولًا أصيلًا، ونقدًا مسددًا، يحصر فيه غرضه أوجز حصر وأوفاه، وكان من عادته رحمه الله أن يخاطب كل فريق فيما يألفون وما يعرفون، فربما جلس إليه الفلاحون السذج فيحادثهم عن الزرع والقلع وصناعة الألبان، وغلات الحبوب كأنه واحد من صغار الأكارين، طلاب القوت من هذه الصناعة، ويلوح عليه الاغتباط بعلم هذه الأشياء كأنه مطالب بعلمها وعملها مأجور على حذقها وإتقانها، وربما جلس إليه التجار فيسألهم عن الرواج والكساد والغلاء والرخاء، ويأخذ من خبرتهم ويعطيهم من نفيس الرأي ما هو عازب عنهم، وعلى هذه السنة كان يخالطنا في الأدب، وما إليه كلما اجتمع لديه فئة من أهل الأدب أو الصحافة، ويبدي في توجيه كل بحث يتولاه تلك المهارة التي تسايرت بها الأمثال في مجلس النواب.

•••

كان يوم عيد، وكان في مجلسه رهط من الأدباء والمعنيين بالأدب، أذكر منهم جعفر ولي باشا وزير الحربية، وهو كثير الاطلاع على منظوم العرب ومنثورها، والشيخ المنفلوطي وأساتذة لا أعرفهم، وجرى الحديث في أساليب بعض الكتاب فقال رحمه الله: إنني أتناول أسلوب هؤلاء الكتاب جملة جملة، فإذا هي جمل مفهومة لا بأس بها في الصياغة، ولكني أتتبع هذه الجمل إلى نهايتها فلا أخرج منها على نتيجة، ولا أعرف مكان إحداها مما تقدمها أو لحق بها! فلعل هؤلاء الكتاب يبيعون ﺑ «المفرق» ولا يبيعون بالجملة!

قال الشيخ المنفلوطي: يغلب يا باشا أن يشيع هذا الأسلوب بين الصحفيين الذين يكلفون ملأ الفراغ، ولا تتيسر لهم المادة في كل موضوع.

فابتسم الباشا وقال للشيخ: إنك يا أستاذ تتكلم عن الصحفيين وهنا واحد منهم. ثم التفت إلي وقال: ما رأيك يا فلان؟ قلت: هو ما يقول الشيخ المنفلوطي، مع استدراك طفيف قال: ما هو؟ قلت: إن هذا الأسلوب هو أسلوب كل من يتصدى لملأ فراغ لا يستطيع ملأه، سواء كتب في الصحافة أو في غير الصحافة، وعاد الشيخ المنفلوطي فقال: إن فلانًا — يعنيني — لا يحسب من الصحفيين؛ لأنه من الأدباء. قال الباشا: أوكذلك؟ ثم تفضل بوصف موجز لأسلوب كاتب هذه السطور ليس من حقنا نحن أن نرويه.

واستطرد الكلام إلى الإيجاز والإطناب، فقال الباشا: إن الإيجاز متعب لأنه متبٌّ يحتاج إلى تفكير وتعيين، ولكن الإطناب مريح؛ لأن القلم يسترسل فيه غير مقيد ولا ممنوع، وقص علينا قصة رجل كتب إلى صديق له رسالة مسهبة، ثم ختمها بقوله: «اعذرني من التطويل فليس لدي وقت للإيجاز» وعقب عليها بقوله: إن هذا الاعتذار قد يبدو عجيبًا لمن لم يمارس الكتابة، أما الذين مارسوها فهم يعلمون صعوبة الإيجاز وسهولة التطويل.

وجاء ذكر المحسنات والشغف بها فقال رحمه الله: إن المحسنات حلية، والشأن فيها كالشأن في كل حلية. ينبغي أن تكون في الكتابة بمقدار، وإلا صرفت الفكر عنها وعن الكتابة، وعندي أن المقال الذي كله محسنات، كالحلة التي كلها قصب لا تصلح للبس ولا للزينة.

•••

وكنا عنده يومًا وفي المجلس صروف، وحافظ، ومكرم، فجاء ذكر كتاب حديث فقال الباشا: إن عيب صاحبه كثرة الاستعارة، ثم قال ما أظن صاحبه يريد ما يقول؛ لأن الذهن الذي يملك معناه يملك عبارته بغير حاجة كثيرة إلى المجاز؟

قلت: يا باشا، إن الاستعارة ما برحت دليل الفاقة في المال واللغة.

قال: هذا معنى حسن، ولذلك أنت لا تستعير! ومضى يقول: إنني أفهم الاستعارة للتوضيح والتمكين، ولكني لا أفهم أن تكون هي قوام الكلام كله، وكل استعارة عرفت، وكثر استعمالها أصبحت كلامًا واضحًا، وذهبت مذهب الأفكار المحدودة؛ لأن الذهن يطلب الاستعارة ليستعين بها على التحديد، فإذا وصل إلى التحديد كان في غنى عن الاستعارة وعن المجاز؟

•••

وسألني مرة: هل تخطب يا فلان؟

قلت: قد تعودت إلقاء الدروس في التاريخ، وأدب اللغة، وفي الإلقاء شيء من الخطابة. قال: نعم، ولكن الخطابة تبادل وإلقاء الدروس يأتي من ناحية المعلم، ولا يشاركه فيه تلاميذه، إلا أن تكون مشاركتهم بسرعة الفهم وحسن الإصغاء.

وهنا ذكرت أن الرئيس كان أكثر ما يتدفق في خطبه، عندما يتعدى التبادل بينه وبين سامعيه حد الشعور إلى المجاذبة بالكلام، فإذا سئل ونوقش قليلًا تفتح في القول، وأخذ من طوالع الملتفين به ما يوحي إليه فنون المقال المناسب لذلك المقام، وكان أسرع ما يكون إلى الإفاضة إذا تكلم أمامه المتكلمون، وأحسنوا التعبير والإلقاء، فإذا أجابهم بعد ذلك جمع أغراضهم كلها، وتأهب للكلام كما يتأهب الفرس الكريم للإيفاض في مجال السباق.

وقال لي وقد دخلت عليه يومًا على أثر أيام توالت فيها خطبه وجهوده: أسمعنا مما عندك؟ قلت: إنما جئت أسمع من الرئيس.

قال: ولكن الرئيس يريد أن يكون اليوم سامعًا! ثم ضحك وقال: لا المغني يحق له أن يطلب الطرب، ولا الخطيب يحق له أن يطلب الكلام، أليس كذلك؟ وأخذ يتحدث عن الكاتب والخطيب ومزاج كل منهما فقال: إن الكاتب تناسبه العزلة، ويخاطب قراءه من وراء حجاب، فلا يراهم ولا يرونه، أما الخطيب فالاجتماع ميدانه ولرؤيته السامعين أثر في نفسه يستجيشه ويهيب بملكته.

ثم قال: إن الكتابة أصبحت تتعبني أكثر من الكلام. قلت: يا باشا إن بياناتك خطب مكتوبة، قال: نعم. إذا أمليتها كانت كالخطب، وإذا كتبتها استحضرت موقف الخطابة.

على أن الأمر الجدير بالملاحظة في خطب الرئيس وبياناته، أنك تقرأ خطبه فتجد فيها دقة علمية لا تجدها في أقوال الخطباء، وتقرأ بياناته فتجد فيها رنة بيانية لا يعنى بها في خطبه، وتعليل ذلك عندي أن محضره المهيب الجذاب يغنيه في موقف الخطابة عن الرنة الحماسية، فيحرص على التدقيق وأنه يحب أن يودع بياناته روح الخطابة على البعد، فيكون الخطيب فيه أيقظ من الكاتب والمتحدث، فهو يعنى بالدقة حين يخطب ويعنى بالنغمة حين يكتب، أو هو خطيب في كتابته، وكاتب في خطبه، يعطي كليهما في وقته ما هو أحوج إليه من تمحيص أو تنغيم.

•••

ولم يكن رحمه الله يتكلم كثيرًا عن الشعر والشعراء. همس لي مرة كأنه يمزح: «كلام في سرك. أنا ليس لي الشعر» وقال مرة أخرى: «إنما أحب الشعر السهل الواضح المبين، أما الشعر الذي يحوجني إلى التنجيم فلا أستطيبه» وكان يرى أن شعر الحكمة أفضل الشعر وأعلاه، ويقرأ المتنبي ويحفظ له أبياتًا كثيرة، ويستشهد بها في بعض الأحاديث، ولما لقيته آخر مرة عرض بعض ما يخشاه وكأنه لم يكن راضيًا عن أناس يعملون باسمه ما لا يروقه فقال: «لو بغير الماء حلقي شرق» وكررها مرتين.

ولما كتبت الفصلين اللذين نشرا في المراجعات عن المنفلوطي، وفرقت بين الكاتب والمنشئ، ورفعت منزلة الكتاب على منزلة المنشئين، ناقشني دولته في هذا التفريق وهذه التسمية، فقال: إن الإنشاء فيما يبدو له هو أغلى من الكتابة؛ لأنه خلق وإبداع ولا يشترط في الكتابة أن تكون كذلك، فالمنشئ كاتب وزيادة، والكاتب قد يأتي بشيء من عنده وقد يأتي ببضاعة غيره، قلت: إنما عنيت يا دولة الرئيس الاصطلاح، ولم أعن الأصل في وضع اللغة، والإنشاء عندنا هو تمرين التلاميذ على صف الكلام، وتنميق الألفاظ، فهو بهذا المعنى دون الكتابة في مراتب الأدب، والذي ينشئ يحفل بلفظه وتنضيده، أما الذي يكتب فلديه معناه يفرغه في القالب الذي يؤديه، فأجاب دولته: ما أحوج الاصطلاح إذن إلى تغيير أو تفسير.

•••

هذه وغيرها مما لا يحضرني الآن ملاحظات مسموعة من سعد، لو أضيفت إلى ما كتب أو ما تكلم به في هذا المعنى لاجتمع منها مذهب في الأدب، يضاف إلى مذهبه في السياسة ومشاركاته في الثقافة العامة، وهي مشاركات لا يكمل درس هذه الشخصية النادرة بغير الإحاطة بها من جميع النواحي.

١  ٢ سبتمبر سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤