قضية المرأة١

في هذا الأسبوع انقضت عشرون عامًا على وفاة المصلح الكبير قاسم أمين، صاحب كتابي «المرأة الجديدة» و«تحرير المرأة»، وأول من رفع صوته في الشرق القريب بإصلاح المجتمع من طريق إصلاح النساء، وقبيل ذلك بأيام وصل إلي كتاب «السفور والحجاب» لصاحبته الكاتبة الأديبة الآنسة نظيرة زين الدين الذي قصدت به إلى «تحرير المرأة والتجدد الاجتماعي في العالم الإسلامي» وطلبت إلي أن «أحلل الكتاب تحليلًا؛ فما كان فيه خير للأمة أظهرته لها إظهارًا جميلًا، وما كان غير موافق أشير إليه ليبدل تبديلًا.»

فمقال هذا الأسبوع إذن مقدور «لقضية المرأة» وأنا أكتب في هذا الموضوع لأقول كلامًا مداره وفحواه أنها قضية نعرف المدعي فيها، ولكننا لا نعرف المدعى عليه.

وبيان هذا أننا لا نجد المرأة مظلومة في أمة إلا كان الظلم من نصيب غيرها كما هو من نصيبها، بل ربما كان نصيبها هي منه أرفق وأسلم من نصيب غيرها؛ لأن المرأة لا تظلم إلا حيث يكون جهل وعسف، ولن يكون الجهل والعسف في خليقة دون خليقة وفي جهة من الحياة القومية دون بقية الجهات، وقد يعصم المرأة بعض العصمة من طغيان ذلك الظلم أنها تتشفع إلى ظالميها بشفاعة الأمومة والمحبة والقرابة، فيخف وقعه عليها أو يمتزج بالحنان والرحمة، فتأخذ «المرأة» في حياتها البيتية بعض ما حرمه النساء في الحياة القومية، وتصول الأم والزوجة والحبيبة بالسلاح الذي سلبته «الأنثى» في صراع الدنيا، أما الرجال فالظلم الذي يصيبهم لا هوادة فيه ولا ترفيه، والجهل الذي يصيبون به المرأة يضربهم بأيديهم في غير رحمة ولا شفاعة.

لما كانت المرأة تسام الذل والهول كانت الأمم تساق إلى الطاعة والعبادة سوق القطعان، وكان الدين سوط عذاب والملوك آلهة لا يعدلون في ثواب ولا عقاب، ولما كان الظلم شريعة الأمم كانت ضحاياه بين النساء أقل وأهون شرًّا من ضحاياه بين الرجال، فليس للمرأة قضية على الرجل يعدل فيها هو أو يظلم كما يشاء هواه، وإنما الرجال والنساء أصحاب قضية واحدة يشكون فيها الطبيعة تارة والشريعة تارة أخرى، والجهل والفاقة والجمود والمصادفات تارات أخريات، وإذا حكم في تلك القضية لأحد الفريقين فقد حكم للفريقين معًا وخرج الرجال والنساء فائزين من الخصومة! لأن الرجل لن يعرف الإنصاف إذا جهلته المرأة، والمرأة لن تسعد بحق تجور به على حقوق الرجال.

يعجبني من كتاب «السفور والحجاب» أدب جم، واعتدال محمود، ولكني لا أدري لماذا شاءت الآنسة الأديبة أن تجعل مسألة المرأة مسألة دينية تُحَلُّ بالمناقشة في أقوال الفقهاء، وليست مسألة طبيعية اجتماعية تُحَلُّ بالرجوع إلى قوانين الفطرة وشريعة الحياة! وأنا أقول: لا أدري لماذا شاءت ذلك؟ ولعلني أدرك السبب وأعذرها فيه، فإن الجامدين من رجال الدين كانوا ولا يزالون — في سوريا على الخصوص — هم أقوى خصوم المرأة، وأعنف المنكرين لما تنشده من نهوض وتعليم، ولكن أقول مع هذا إن أولئك الجامدين لن يتغيروا بالمناقشة والدليل، وإنه إذا جاء الوقت الذي يصبح فيه الدليل مقبولًا تسيغه عقول لا يحجبها الجمود ولا تشلها العادات، فقد جاء الوقت الذي يصبح فيه الدليل نافلة لا تقدم ولا تؤخر، ويصبح الجمود خصمًا ضعيفًا لا يحسب له حساب: وخير ما نزكي به كتاب «السفور والحجاب» أنه سيعين على تقريب ذلك اليوم ويبلغ أثره من عقول الناشئة البريئة وهي في موقفها بين الجمود والحرية تنتظر من يدفع بها في هذا الطريق ويعدل بها عن ذاك.

وما الذي تنشده المرأة الشرقية؟ إذا كانت تنشد التعليم والحرية التي ترفعها عن مكان السفيهة المحجور عليها طول حياتها، والتي تليق بأمهاتنا وزوجاتنا وبناتنا، فعجيب وايم الحق أن يوجد في الناس من ينكر عليها هذا الأمل، ويزعمه مطلبًا يطول فيه الخلاف وتتباعد الآراء! والذي يلوح لنا من كتاب «السفور والحجاب» أن صاحبته المهذبة لا ترمي إلى أبعد من ذلك ولا تريد إلا أن تقيم الدليل على أن الحجاب المطلق «أمنية» لا وجود لها في عالم الواقع إذا نظرنا إليها كأنها العاصم من الغواية والمانع من الرذيلة، وإن سفورًا لا يسف إلى التبذل خير من حجاب لا يعصم رجلًا ولا امرأة، وما عصم قط النساء والرجال في عصور الخالفين ولا في عصور المتقدمين، وأراها بليغة موفقة حين تقول: «ليت شعري هل يخطر في البال أن في العالم سافلًا ينظر إلى محارم غيره نظرة سوء ومحارمه إلى جانبه؟ أو لا يخطر ببال الرجل حينئذ مهما كان دنيئًا أن نظرته السيئة إلى محارم غيره إذن ضمني منه لغيره في أن ينظر إلى محارمه مثل نظرته تلك؟ وهل تخافون يا سادتي خورًا في نفوسكم ومروءتكم وآبائكم وآدابكم إلى هذا الحد، فنجتنب مثل هذه الاجتماعات الشريفة ونحن ندعي أننا أشرف الناس؟»

وسواء سمينا ما في الكلام من الإقناع بلاغة أو حقًّا، فالأمر المشاهد الغني عن البرهان هو أن الحجاب كما يتخيله الجامدون لم يتحقق قط في زمن قديم ولا حديث، وأن الدول الإسلامية الغابرة — كالدولة العباسية في الشرق والدول الأندلسية في المغرب — قد بلغت فيها الحرية حد الإباحة لأنها أخذت شر ما في الحجاب وشر ما في السفور، وغلبتها قوانين الحياة فواجهتها برياء يتردد بين الحجاب والسفور، ولم تواجهها بصراحة سافرة وطبع مستقيم؛ فالحجاب على ما يتخيله الجامدون وهم لم يوجد ولن يوجد ولا فائدة من المغالاة في التعلق به غير هذا العوج الذميم، الذي تبتلى به العقول والأخلاق من مغالطة الحقيقة، وهي لا تغالط إلى زمن طويل.

•••

على أن في كتاب الآنسة الأديبة فصلًا في سياق فصول كثيرة عنوانه «المرأة أصلح من الرجل في الفطرة عقلًا. هو يرجحها بالقوة الجسدية، وهي ترجحه بالنفس العاقلة المرضية» ويجري كل ما في هذا الفصل على المعنى الذي ينطوي في عنوانه، ومؤداه أن المرأة أسلم فطرة، وأسمى روحًا، وأصح عقلًا، وأن الرجل أقوى جسدًا وأصلب مراسًا، وأنه ما تغلب على المرأة وحرمها العلم والحرية إلا بهذه القوة الجسدية.

فلو كان كل ما في هذا الفصل أنه تسلية تقال أو «تحية صالون» لما كان فيه من بأس ولا كان غريبًا عما قاله الرجال، ويقولونه من تحيات وصلوات رفعوا بها المرأة إلى سماء الأرباب والملائكة، ومنحوها السيادة والسلطان على القلوب والعقول والأجسام، ولكنه تحية قد تنقلب إلى عقيدة وعقيدة قد تنتهي إلى مزاعم لا تريح المرأة ولا تريح الرجل، ولا تمضي على سواء الفطرة ومطالب الاجتماع، فماذا يضيرنا أن نخرج من «الصالون» قليلًا إلى محراب الحقيقة؟ بل ماذا يضيرنا أن نستبقي قانون الصالون هنيهة لنحيي به الحقيقة وهي «سيدة» أيضًا! وهي أكبر من جميع «السيدات» في السن وأولى منهن بالمجاملة والتمليق؟

إن الامتياز بالفطرة والروح لا بد أن تكون له سمات ظاهرة، ولا تخرج هذه السمات عن عالم الواقع أو عالم الفنون أو عالم العلوم، وفي جميع هذه العوالم لا نرى أثرًا لامتياز المرأة على الرجل بالفطرة المبدعة والروح السامية والعقل السليم، بل نرى على نقيض ذلك أن الأديان والفلسفات والجمال الذي يبتكره الشعراء والمصورون، والمعارف التي يستنبطها العلماء، إنما كانت من عمل الرجل وحده أو كان حظ المرأة منها أقل من القليل، ولا يقال: إن الرجل قد غلب المرأة بقوة جسده فحرمها الابتكار في الأديان والفنون والعلوم، وانفرد بمزايا الفكر والنفس لأنه أقوى في الجسد وأصلب في الرأس، فإنه ما كان ليغلبها لو كانت كل ميزته عليها قوة جسده وصلابة مراسه، وما كان ضعفها أو أسرها ليمنعها الإبداع في الفن كما أبدع فيه العبيد الأرقاء من الرجال المستضعفين، وهل يتساوى الآن أبرع الطهاة وأبرع الطاهيات في الأجر والتفنن والإتقان؟ كلا! وذاك مع أن المرأة صاحبة هذه الصناعة منذ وجدت، والرجل واغل فيها لا يشتغل بها إلا في الأحايين.

لا يا سيداتي! إن فضيلة المرأة الكبرى أنها متممة للرجل، وليست بمنافسة له في ميادين العمل والجهاد، وإنها لن تتممه بصفات العمل والجهاد، وإنما يتم هو بها، وتتم هي به إذا قابلته بصفات غير هاتيك الصفات: بالحنان والرحمة، والعزاء والاستجاشة، التي تحيي فيه الرجل وتحيي فيها المرأة، وتبلغ بهما معًا أقصى التمام، وما برحت نهضة المرأة بخير ما طلبت حقها وعرفت أن حقها هذا لن يناقض حقوق الرجال، أما حين تطلب الحرية لتتحدى بها الرجل وتتمرد عليه، فهي فاشلة، وهي خاسرة، وهي نادمة في خاتمة المطاف.

إن نهضة المرأة في العالم لم تخل من نقمة تميل بها إلى التمرد والمناجزة، وتلقي في بعض النساء الجامحات أن العناية بمرضاة الرجل مهانة لا تليق بالحرائر الناهضات، كأن الرجل لا يعمل لمرضاة المرأة ولا يشغل باله بالتجمل لها والظفر بحبها وإعجابها، وكأن المرأة لا تكون حرة إلا إذا كانت «رجلًا» تلبس كما يلبس الرجال وتصنع ما يصنعه الرجال، ولا تدع لهم من فضل إلا تطاولت إليه وادعت القدرة عليه، وهي لا تكون رجلًا ولا تود أن تكونه، ولا هي تعني نفسها بمحاكاته إلا من قبيل «البروز» الذي هو ضرب من الزينة وطبيعة راسخة من طبيعة الأنوثة.

كذلك نمقت الحرية التي تجني على حياء المرأة؛ لأننا لا نفهم معنى الأنوثة بغير معنى الحياء، فكل أنثى حيية مستعصمة حتى في النبات وحتى في الحشرات وحتى في الحيوان، وكل أنثى تقوم في حرم من الأنوثة لا تعوضها منه الحرية ولا السرور، فالرجل لا تقتل رجولته الحرية التي يسعى بها إلى المرأة، ولكن المرأة تقتل أنوثتها وجمالها كل حرية تجني بها على طبيعة الخفر والحياء.

وكتاب «السفور والحجاب» ينشد الحرية المصونة، ويدعو المرأة لتصبح امرأة كاملة لا لتصبح رجلًا في كل شيء، فهو دعوة مباركة ونداء رخيم مسموع، وهو خليق أن يكون حجة من أجمل الحجج في قضية المرأة الناهضة، بل في قضية الرجال والنساء على أسباب الجهل والجمود، وإنها لقضية ناجحة لا محالة، ولا يكون نجاحها في نهاية الأمر إلا نجاحًا لهؤلاء وهؤلاء.

١  ٤ مايو سنة ١٩٢٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤