الترجمة وتعارف الشعوب (١)١

في عدد مضى من «الجديد» كتبت كلمة عن الترجمة وعلاقتها بتعارف الشعوب، قلت فيها: إن الترجمة تكثر بعد الحروب بين الأمم المتحاربة؛ لعناية كل أمة منها باستطلاع أحوال الأمم الأخرى، واستقصاء ما عندها من بواعث النصر والهزيمة.

ولم أرد في تلك الكلمة أن أحصي أسباب الترجمة كلها، أو أردها كلها إلى المنافسة الحربية ورغبة الاستطلاع، وإنما أردت أن ألاحظ تلك الملاحظة من الوقائع التي صاحبت الحرب العظمى والحروب القريبة التي تقدمتها، ولم أجعل المنافسة أصل المعرفة في جميع أحوالها، بل قلت: إن «الأمر في ذلك مرجعه إلى شعور القلق والحذر الذي يحرض رغبة المعرفة المطبوعة في النفوس ويرسم لها الميول والوجهات» وقلت في موضع آخر: «ولا تحتاج رغبة المعرفة الفكرية عندهم إلى تحريض كثير من دواعي المنافسة وبواعث الخصومة، وهو صريح في أن المنافسة تحرض ولا توجد، وتكون سببًا للرغبة في المعرفة، ولا تنحصر فيها جميع الأسباب.»

وقد عقب الدكتور طه حسين على ما كتبناه فقال بعد مناقشة وجيزة: «أما أنا فألاحظ قبل كل شيء أن العلة الحقيقية الأولى لكل ترجمة ونقل، إنما هي الطبيعة الإنسانية التي تجعل الإنسان حيوانًا اجتماعيًّا كما يقول أرستطاليس في السياسة، وحيوانًا مفكرًا كما يقول أرستطاليس في المنطق، فطبيعته الاجتماعية تضطره إلى أن يتصل بغيره من الأفراد والجماعات، ويشاركهم فيما يفكرون ويشعرون ويتحدثون، وطبيعته المفكرة تضطره إلى أن يبحث ويستقصي ويتعرف حقائق الأشياء.»

كذلك رأى الدكتور طه حسين، ولا خلاف بين رأيه وقولنا: إن رغبة المعرفة مطبوعة في النفوس، وأنها لا تحتاج عند بعض الأمم إلى تحريض كثير من دواعي المنافسة وبواعث الخصومة، فنحن في هذا متفقان ولا اختلاف إلا في الأمثلة التي يريد الأستاذ تطبيقها على غير الوجه الذي تنطبق عليه فيما أراه.

فالأستاذ يقول: «من المحقق أيضًا أن العرب انتصروا على الفرس وعلى اليونان البيزنطيين بعد ظهور الإسلام، كما انتصروا على أمم أخرى، فنقل العرب عن الفرس واليونان كل شيء، ولم ينقل الفرس واليونان عن العرب شيئًا.»

ونظن نحن أن تبادل الترجمة في هذا الجانب لم يكن منتظرًا لسبب واضح، وهو أن التبادل يستلزم وجود المعرفة والحياة الفكرية عند الفريقين، ولم يكن هناك معرفة ولا حياة فكرية عند الفرس واليونان البيزنطيين الذين غلبهم العرب واستولوا على بلادهم. إنما كانت المعرفة لفرس ويونان آخرين هم الفرس واليونان السابقون، وكان أبناؤهم الذين غلبهم العرب غرباء أو كالغرباء عن تلك المعرفة الموروثة، يجهلونها ولا يعنون بها عناية قومية فضلًا عن العناية بأخذ ما عند غيرهم وترجمة الكتب الأجنبية من عربية وغير عربية، فيصح أن يقال: إن العرب أخذوا علوم الفرس واليونان الذين عاشوا قبل ظهورهم ببضعة قرون، وإن الصلة بينهم وبين أولئك الفرس واليونان كانت منقطعة بينهم وبين الفرس واليونان المعاصرين لهم؛ لأنهم كانوا في مذاهب النهضة متفرقين.

من كلامنا في مقالنا الأول يفهم أن الفرق عظيم بين عصرنا الحاضر وعصر الحروب الفرنسية الألمانية، وأن تبادل المعرفة في عصر الحروب الفرنسية الألمانية «لم يكن بهذا الشمول والسعة لعظم الفارق بين عصرنا الحديث، وتلك العصور في حركة الطباعة وانتشار القراءة وسرعة المواصلات.» فالفرق بين عصرنا الحاضر وبين العصور الفارسية اليونانية أولى أن يكون أعظم اختلافًا وأوسع أمدًا، وإن كنا مع هذا نقول: إن الحروب كانت من أسباب الاستطلاع المتبادل حيثما وجدت المعرفة التي يتبادلها الفريقان في الزمن القديم، أو في الزمن الحديث.

ثم يقول الأستاذ: «من غريب الأمر أن هذه النهضة الفارسية التي ظهر فيها تأثر الفرس بالعرب لم تكن حين كان العرب غالبين والفرس مغلوبين، وإنما كانت حين تم الفوز للفرس على العرب، وظفروا بالسلطان السياسي كله في الشرق الإسلامي، فكيف يعلل الأستاذ العقاد هذه الترجمة، بالحب ثم بالبغض، أم بالتنافس والجهاد؟

فالذي نحب أن نذكره هنا أن العرب والفرس كانوا من جهة فريقًا واحدًا يجمعه الدين، وكانوا من جهة أخرى فريقين متنافسين تفرق بينهما العصبية والتراث القديم، فحكم العرب والفرس في الاقتباس والتنافس يختلف من هذه الناحية عن الأمم التي تستقل كل منها بثقافة، وتنظر إلى الأمة الأخرى نظرها إلى العدو الغريب عنها من جميع الوجوه، وحسبنا أن الفرس أخذوا دين العرب وأن العرب أخذوا حضارة الفرس ليكون ذلك دليلًا على أن التغالب باب من أبواب التعارف والاستطلاع، ولا نحسب الأستاذ طه يستطيع أن يعلل الاقتباس الذي اقتبسه الفرس من العرب أو اقتبسه العرب من الفرس بعلة الرغبة في المعرفة التي ذكرها أرستطاليس وحدها دون أن تقترن بها محرضات التغالب بين الفريقين، وإلا فما بال الرغبة في المعرفة لم تظهر إلا في تلك الأوقات التي اقترنت بالتنافس بين الغالبين والمغلوبين.»

إن تقرير عامل من عوامل التعارف أو الاستطلاع لا يمنع ملاحظة الفروق بين العصور، ولا يمنع ظهور ذلك العامل بمظاهر مختلفة في الشرق والغرب، والزمان القديم والزمان الحديث، والفروق بين عصرنا هذا والعصور الغابرة كثيرة منها:
  • أولًا: أن الثقافة لم تكن عالمية في العصور الغابرة، حتى يتيسر التبادل فيها بين كل غالب وكل مغلوب، كما يتيسر ذلك بين أمم الثقافة الحديثة، أو أمم الثقافة الأوربية على الأقل، كالإنجليز والألمان والفرنسيين والطليان ومن إليهم، فعند كل أمة من هذه الأمم ثقافة مصبوغة بلونها ممزوجة بتاريخها وخصائص وطنها، يجوز أن يحصل فيها التبادل عند التنافس بينها وتنبيه الشوق إلى المعرف والاستطلاع في أبنائها فيها، أما الأمم القديمة فقد كان توزيع الثقافة فيها جاريًا على غير هذا الوضع الذي نراه في زماننا الحديث، فكانت الأمم المتحضرة عرضة لغارات الهمج الذين لا ثقافة عندهم ولا حضارة، وكانت الغلبة للهمج في بعض الأحيان فلا يلبثون أن يظفروا بالأمم المتحضرة حتى يأخذوا مما عندها ولا يستطيعون أن يعطوها مما عندهم؛ لأن ما عندهم هو العدد الكثير والصبر على المكاره والإقدام على المخاطر وليس هذا من الحضارة ولا هو مما يمنح ويعار.
  • ثانيًا: أن الغلبة في الزمن القديم كانت مرادفة للسيادة في كل حال، فمن غلب أمة فقد سادها واستولى على ملكها، فإما عاش معها عيشة المحتقر المترفع، الذي لا يتنزل إلى محاكاتها في شيء من الأشياء وإما تغلغل فيها واختلط بها مع الزمن لغة ودينًا ونسبًا فاستغرقته واحتوته، وبطلت بينهما المنافسة والنزاع، وفي كلتا الحالتين لا يجري تبادل المعرفة على النمط الحديث ولا بد من مظهر له غير المظهر الذي لاحظناه من آثار الحرب العظمى أو الحروب بين الفرنسيين والألمان من جهة، والفرنسيين والإنجليز من جهة أخرى.
  • ثالثًا: أن الدين كان عنصرًا قويًّا من عناصر الثقافات التي نشأت بعد المسيحية والإسلام وأن الوطنية كانت كثيرًا ما تختفي في أطواء الدين، فتتفق الأجناس المختلفة في عقيدة واحدة وينقلب النزاع على الوطن إلى التضامن في النحلة الدينية، ويمشي هذا إلى جنب ذاك فتزول الحدود بين الأجناس أو تختفي ما تيسر لها الخفاء.
  • رابعًا: أن المطبعة جعلت الرغبة في القراءة حاجة من حاجات الرجل العصري، فاهتمامه بأمة مقرون بالرغبة في القراءة عنها والقراءة لكتابها، ويزيد هذه الرغبة علمه بأن العلوم والحالات النفسية لها دخل عظيم في الغلبة والهزيمة، وهو ما لم يكن مطردًا مقررًا في الزمن القديم.

فهذه الفروق بين عصرنا والعصور الغابرة خليقة أن تتناول التعارف الذي تجر إليه الحروب بشيء من التعديل والتغيير، وإن كانت لا تلغيه ولا تبطل حقيقته التي تعمل عملها المستطاع من وراء جميع الفروق.

•••

وقد استطرد الأستاذ طه حسين إلى السؤال عن الوسيلة التي تتكفل فيها الترجمة بتعارف الشعوب وتعاطفها، فقال: «على أن المسألة التي تستحق العناية ليست هي تعليل الترجمة وبيان ما يدعو إليها، فالترجمة ظاهرة اجتماعية قديمة باقية، وإنما هي مقدار ما تستطيع الترجمة أن تحققه من هذه الفكرة القيمة التي يسمو إليها أصحاب الأخلاق وعشاق المثل العليا، والتي جعلها الأستاذ العقاد عنوانًا لفصله وهي «تعارف الشعوب». نعم، وهي التي يمكن أن تتخذ لتكون الترجمة سبيلًا واخمة مأمونة تلتقي فيها الشعوب المختلفة، فتأتلف ويحب بعضها بعضًا ويعطف بعضها على بعض، ويتحقق بينها التعاون الصحيح في جميع فروع الحياة. كم أحب أن أقرأ في هذا رأي الأستاذ العقاد.»

وإني لأحب كذلك أن أعرف رأي الدكتور طه في هذا، أما رأيي فيه، فسأفرد له المقال الآتي اتقاء الإطالة في هذا المقال.

١  ٣٠ سبتمبر سنة ١٩٢٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤