أول أبريل

في منتصف الساعة السابعة صباحًا وصل علي أفندي خليفة إلى المدرسة التي هو سكرتيرها، كعادته منذ خمسة عشر عامًا، وباشر أعمالَه بالأسلوب الذي تعوَّده وأَلِفه وصار قطعةً من صميم حياته؛ إذ إن كل ساعة من حياته الحكومية كانت تسير على وتيرة واحدة لا تتبدل ولا تتغير، يدخل إلى «حجرة السكرتارية» فيُحيِّي زملاءَه — الكاتب والضابطين — تحيةَ الصباح، ويجلس إلى مكتبِه ثم يحضر عمُّ خليل بالقهوة والماء المثلج، فيمضي في احتسائها وهو يتحدث إلى القاعدين أو يستمع إليهم، ثم يأخذ في فتح الدفاتر ويراجع ويكتب. ثم تخلو الحجرة حين يذهب الآخرون إلى فناء المدرسة لمراقبة التلاميذ وتنظيم صفوفهم، ثم يخفُّ بعد ساعة من الزمن إلى لقاء الناظر لعرض الأوراق واستشارته في بعض الأمور وتلقِّي الأوامر والإرشادات. وإذا جاء اليوم الأول من الشهر ازدحمَت حجرتُه بالمدرِّسين والموظفين وامتلأَت يدُه بالأوراق المالية، فلا يزال يوزِّعها حتى لا يبقى إلا وريقات معدودة يُودِعها جيبه ساعة ريثما يوزِّعها بدوره أشتاتًا على صاحب البيت والقصاب والبدال.

هكذا تدور عجلة حياته فتبدأ من نقطة وتعود إليها، ثم تبدأ وتعود بحيث لو شذَّت عن الخطِّ المرسوم بمقدار ذرة — كأن يتأخر عم خليل بالقهوة دقيقة أو يدق الجرس فيُبطئ الضابط لحظة في مغادرة الحجرة — قلِق واضطرب واهتزَّ رأسه يمنةً ويسرة، مثلُه مثلُ النائم في ظل ساقية دائرة إذا وقف الثور لعلةٍ انتفض مستيقظًا منزعجًا! إلا أن طارئًا من الحدثَين نزل بساحته أخيرًا فبدَّل طمأنينتَه رعبًا وسكينته قلقًا وتفاؤلَه تشاؤمًا، وكان الكاتب يعلم بخبيئته من دون الآخرين؛ لأنه كان أحبَّ الناس إليه وأقربهم مودة إلى قلبه، فلما رآه هذا الصباح دنا منه وفنجان قهوته في يده وسأله همسًا: كيف حالك؟

فأجابه بصوت تُمزِّقه نبراتُ اليأس: يسير من سيِّئ إلى أسوأ.

– ألَا يوجد بصيص أمل؟

– أبدًا .. أبدًا .. لا بيع ولا شراء .. الحركة راكدة، والديون متراكمة، والتجار يطالبون ويلحُّون ولا يعذرون، وبات شبحُ الإفلاس مني قاب قوسين أو أدنى .. فإذا وقع — ولا مردَّ له — خربت خرابًا تامًّا، ودمرت حياتي وحياة أولادي تدميرًا، وهويت إلى أعماق السجون.

فتنهد عليٌّ أفندي من قلب مكلوم، وقال بصوت خافت: لا أمل في النجاة.

فسكت الرجل محزونًا، ثم ذكر أمرًا فسأله: وعمتك؟

– أفٍّ .. أفٍّ .. لا رحمها الله في دنيا ولا آخرة .. إنها تودُّ لو تفقد ذاكرتَها كي لا أخطرَ لها على بال، ولقد انقطعتُ عن زيارتها مضطرًّا منذ حين؛ لأنها لا تراني حتى تصيحَ في وجهي: «ماذا جئت تصنع؟! أنا لم أَمُت بعدُ!» والمرأة تتبرع كلَّ يوم بمئات الجنيهات للجمعيات الخيرية لا حبًّا في الخير، ولكن كي لا تخلفَ لي مالًا بعد موتها المتوقع يومًا بعد يوم.

فهزَّ الرجل رأسه أسفًا، وقال: ليتك يا علي لم ترمِ بنفسك في ميدان التجارة غير المأمون.

– هذا هو الكلام الذي لا جدوى منه .. ومع هذا هل تُنكر أن هذه التجارة هي التي يسَّرت عليَّ أمري وجعلَت عيشي رغدًا، وأعانتني على تربية ستة من الأبناء؟

•••

قبل ثلاثين عامًا كان علي أفندي تلميذًا بالمدرسة الابتدائية يجتهد أن يفوز بشهادتها، وقد جرَّب حظَّه مرات في سنين متتابعة، فخاب مسعاه فيها جميعًا، حتى نفد صبرُه وذوى أملُه. ورأى أبوه أن يفتح له حانوت عطارة في الغورية، لبث فيه عامين يناضل في معترك الحياة، ولكن لم يكن حظُّه في حانوته بأسعد منه في مدرسته، فاضطر إلى إغلاق الدكان، ورجع خائبًا إلى بيت أبيه. وهناك فكَّر في أمر مستقبله طويلًا فوجد أن خير طريقة، أو أن الطريقة الوحيدة الباقية لديه، هي أن يعود إلى نبش كُتُبِه التي نسج عليها العنكبوت، وأن يُجرِّب حظَّه مرة أخرى كتلميذ مجتهد وإن تقدَّم به العمر. وفعل ونجح، ووُظِّف كاتبًا في وزارة المعارف، واطمأن إلى الحياة بعد أن أشرف على اليأس والقنوط، وغبط نفسه على عمله المضمون الرزق، وأحسَّ في أعماق نفسه بفخار الرجولة ونشوة الاستقلال. ولما كان عُرضةً للنقل إلى أقاصي الوطن، آثر — عن حكمة — أن يتزوج. وقد جاب مختلف البلدان في مصر العليا والسفلى إلى أن انتهى به المطاف رجلًا في ذروة الرجولة إلى مدرسته الحالية فتقلَّب في وظائفها جميعًا حتى رقيَ إلى وظيفة السكرتير.

وكان علي خليفة مثالًا للرجل العادي الذي لا يخرج عن المألوف، وأنموذجًا صادقًا للأخلاق المصطلح عليها والعادات والتقاليد التي يجري بها العرف، لا يشذ إلى اليسار ولا يجنح إلى اليمين. وجد كلَّ شيءٍ جاهزًا، فهش له وآمن به واتبعه، معتقدًا مع المعتقدين، مستحسنًا مع المستحسنين، ساخطًا مع الساخطين، فإن عرفت جيله فقد عرفته بغير مخالطة، وأن خبرته فقد خبرت جيلًا أو — وهو الأقرب إلى الحقيقة — خبرت الشطر الجامد من الجيل الذي يفتحه التاريخ إلى ما وراءه من الأحداث التي تخلق التاريخ. ولما تزوج استولت عليه الحياة الجديدة، واستبدت به، وتكشَّفت له حقيقته، فإذا به «رجل بيت» بكل معاني الكلمة، فالبيت مأواه ولذَّته، لا مقهى ولا ملهى ولا سينما ولا حانة ولا أصدقاء ولا هوية ولا أي شيء في الوجود بقادر على أن ينتزعه من أحضان بيته. وحين كان يعيش منفردًا مع زوجة كانت حبيبة وأنيسة وجليسة، فلما انبثت ذريته — بنين وبنات — حابيةً ساعية لاعبة مشرفة على أنحاء البيت، كان له منها الحبيب والهوية والمأوى يسكن إليه.

وكانت الحياة تسير في بادئ الأمر هنيئة جميلة ممتعة، لا يُكدر صفوَها مُكدر، ولا يُظلل صفحتها البيضاء ظِلٌّ من الحزن أو الفكر، ولكنها لم تلبث أن فرضت عليه ضريبتها التي لا تعفي منها أحدًا من بني الإنسان، حتى صارت عنوانًا عليها ورمزًا لها، وباتت الشكوى منها إنكارًا للحياة نفسها وجهلًا فاضحًا بأمرها، فمات أبوه ونما أطفاله صبيانًا وغلمانًا، وهجروا عشَّهم سعيًا إلى المدارس الأولية والابتدائية ثم الثانوية، وتعدَّدت حوائجهم، وتشعَّبت مطالبهم وتضاعفت نفقاتهم يومًا بعد يوم، فانقلب يُسْرُ الحياة عُسرًا، وراحتُها تعبًا، وابتسامتُها تجهمًا، وانسابَت الهموم إلى كل جانب من قلبه، وطفق يردِّد لنفسه أن كلَّ شيء يهون إلَّا أن يشقَى أو يشكوَ هؤلاء الأبناء الأعزة.

وتذكَّر أن له عمة أرملة غنية تعيش بمفردها في بيت كبير تحت رعاية ممرضة، وكان يتجافاها وينفر منها من طول ما بثَّ أبوه في نفسه، ففكَّر في أن يقصد إليها مضطرًّا.

وكانت عمته امرأة في السبعين، مات عنها زوجها — قبل أربعين عامًا — وهما في زهرة العمر ومَيْعة الشباب وخلَّف لها ثروة طائلة وطفلًا وحيدًا، وقد ترك موتُ الزوج في نفس المرأة آثارًا عميقة مروعة تغلغلت في صميم حياتها، ولم تَعفُ مع كرِّ الأعوام ودوران السنين. وأقبلت على العزاء الوحيد الذي بقيَ لها في دنياها تمنحه كلَّ ما في قلبها الحنون من عطفٍ وحَدَبٍ وتضحية، حتى شبَّ طفلًا جميلًا، ونما شابًّا رقيقًا نحيلًا، وبدأَت تفكِّر في أمر زواجه، كي تراه ربَّ أسرة وتسعد بمشاهدة ذريته، إلا أن الأقدار فاجأتها بما لم يقع لها في حسبان، فتردَّى الابن كما تردَّى أبوه العزيز من قبلُ مصدورًا ميئوسًا منه، وقضى بين السعال من جانبه والتنهد والبكاء من جانبها.

انتهى كلُّ شيء، وأقفرَت الدنيا من الأمل والعزاء، وماتت حية، ودفنَت مع ولدها الحبيب كلَّ ما ميَّزها الله به عن الأحجار الجامدة، وصدَق عليها كلُّ ما وصفها به أخوها من قبل وما يصفها به ابنُه الآن؛ فهي المرأة العجوز القاسية المجنونة التي تكره الخلق وعلى رأسهم أقاربها، وتسيء الظن بكل من يتقرب إليها، وتخال أيَّ زائر طامعًا في أموالها، وتقضي حياة الكبر طريحةَ الفراش مريضة القلب تسهر عليها ممرضةٌ في بيتها المهجور كأنها مومياء في أحد معابد الكرنك الحزينة.

هذه هي عمته التي قصد إليها بعد أن اشتدَّت وطأةٌ الحاجة عليه، وقد استقبلته استقبالًا باردًا جافًّا، فلم يأنس في نفسه الشجاعة أن يفاتحها فيما جاء من أجله، وبرح بيتها أشد بؤسًا مما طرقه.

وقلَّب مسألته على جميع الوجوه فلاحَ له أن يشتغل بالتجارة وهو حلٌّ لا بأس به، ولكنه شديد الخطورة بالنسبة لموظف حكومي. ولكنه لم ييأس واستعان بالكتمان والخفاء وبخبرته التجارية التي اكتسبها في أول عهده بالحياة العملية، فاتَّجر في العطارة ونجحت تجارته، وأقبلت عليه الحياة رغدة، ولكن حال النجاح لم تدُم، فساءت الأمور وركدت السوق النافقة، فجزع واشتد جزعه، ولعبت يداه في الدفاتر بغير الحق، ولم ينفعه تلاعبه شيئًا، وسارت الأمور من سيِّئ إلى أسوأ، واضطر — تحت تأثير الخسران — إلى زيارة عمته مرات وفاتَحها — على رغم تردُّدِه — في طلب المعونة، ولكنها كانت أشدَّ عليه من حظه ومن الأقدار جميعًا، فرفضت أن تمدَّ له يدًا أو أن تُعيرَه أُذنًا صاغية. وفي ذلك الوقت بلغت الأمور شدة الفيضان الذي لا يكون وراءه إلا الانفجار والهلاك؛ فالعمة في أشد حالات الشذوذ وسوء الطبع والمرض، وعلي أفندي على شفا جرف هارٍ من الخراب والدمار، والتجار متذمرون جزعون، يطالبون ويلحفون ويطبعون على آذانهم فلا يسمعون، وقد عيَّنوا له أول أبريل كآخر منزع في قوس صبرهم، فإن لم يُسدِّد دَينه ويسوِّ حالته أشهر إفلاسه، وليكن ما يكون بعد ذلك من رَفْتِه من وظيفته أو إيداعه السجن .. كل هذا ينتظره في أول أبريل! وما بينه وبين أول أبريل إلا أيام معدودات .. وقد نفدت حيلتُه وسُدَّت في وجهه المنافذ! .. ثم ماذا يكون من أمر هذه الأسرة التي هي ثمرة حياته ومحيا آماله؟! هذه الأسرة التي تعيش سعيدة مطمئنة غافلة عما يُهددها من الشقاء والبأساء، اللهم إلا ربتها الصابرة القانتة التي تشارك الزوج أحزانَه، وتُبادله همومَه، وتكتم في قلبها الكبير ما لو أطلقَته لأحرق الدنيا بأسرها من شدة ما به من هول، ولأحرق أول ما يحرق هؤلاء الأبناء السعداء الذين يمرحون سادرين كالأفراخ اللاعبة الغافلة عن القط الرابض لها من قريب .. وذكر في شدة حزنه أبناءَه، فهرعوا إلى مخيلته في صورة تفيض حياة وجمالًا. وكان حسين ومحمد في المدرسة الثانوية فتيَين ناميَين يحملان طلعة والدهما ورِقَّة أمهما، وهمام وحافظ وياسين في المدرسة الابتدائية وهم حياة البيت يحيَا ويمتلئ هرجًا ومرجًا ما داموا فيه، ويسكن سكون المقابر إذا غابوا عنه، وزينب أو زوزو في المدرسة الأولية هوية الأسرة ولعبتها، صبوحة الوجه، سوداء العينين، مرسلة الشعر، كانت بنتًا بين ستة ذكور كالياسمينة وسط باقة من الورد الندي، حبيبة إلى كل قلب، عزيزة على كل نفس، حتى لكأن هذه الأسرة لم يتزاوج فيها الوالدان ويولد الأبناء إلا ليهيئوا المقام لزوزو؛ حيث كانت حُسن الختام ونقطة الانسجام.

فماذا يكون من أمر هذه الأسرة من بعده، بعد أن يُرفتَ من وظيفته ويُزجَّ به في السجن؟ أواه! دون ذلك ويمكن المستحيل وتقع المعجزات والخوارق!

ولم يجد مناصًا من أن يذهب مرة أخرى إلى عمته علَّها تلين بعد طول التصلب والصلف والقسوة، فسار في طريقه إليها — وكانت تُقيم على مدى منه قريب في شارع محمد علي — مهمومًا متضايقًا يعمل ألف حساب لتلك الزيارة الاضطرارية الثقيلة.

يا لله من هذه المرأة! ما لَها لا تموت؟ إن حياتها فرضٌ ثقيل عليها وعليه، وإنها كالبنيان المتهدم ينعق فيه ناعق الخراب والمرض. ورغم هذا فذيول الحياة لا تزال متشبثة بها. إن سعادة نفوس عزيزة رهن بموتها فلِمَ يُبقي الله عليها؟ والمضحك المؤلم أنها قد تموت فجأة بداء قلبها بعد اليوم الأول من أبريل بساعات معدودات أو بعد القضاء عليه وعلى أسرته القضاء المبرم. وقد ينفذ هذا القضاء العجيب كما ينفذ أمثاله كل يوم وكل حين مما تحتار في تعليله العقول، وقديمًا وقف موسى الكليم حياله جزعًا لا يستطيع معه صبرًا! وطرق الباب ودخل حيث قابلته الممرضة بابتسامة صفراء ذات معنى، فسألها: كيف حالها؟

فأجابته ببرود: بخير.

ووصل إلى مسمعه صوتٌ رفيع مبحوح دلَّت بشاعته على أنه يخرج من فمٍ خربٍ يسأل: مَن الذي تُكلمين يا عائشة؟

فارتجف جسمه، وسرَت فيه قشعريرة مثل مسِّ الكهرباء، وتردد، وجمد، ثم كزَّ على أسنانه ودخل إلى الحجرة وهو يقول: أنا علي .. كيف حالكِ يا عمتي؟

فدمدمت، وقالت بتأففٍ وتبرُّمٍ: علي!

فحنى رأسه ووقف صامتًا، وعادت هي إلى سؤاله قائلة: هل جئت حقًّا لتطمئن على صحتي؟

– نعم.

– وهل يهمُّك أمرُ صحتي؟

– طبعًا.

– إذن لم تخلط السؤال عنها بسؤال شيء آخر؟

فضرب كفًّا بكفٍّ، وقال بصوت حزين: لا تظني بي الظنون. فقد عشتُ دهرًا لا أسألكِ شيئًا ثم …

– ولم تكن تريني وجهك بتاتًا .. ولم تكن صحتي أمرًا يهمُّك السؤال عنه.

– بالله أعيريني أُذنًا صاغية .. لقد شرحت لكِ أحوالي .. أنا مهدد بالخراب بين لحظة وأخرى. اصرفيني عن ذهنكِ، واذكري أبنائي البؤساء وما ينتظرهم من شقاء.

– لم أرَ أبناءَكَ طول حياتي.

فآلمَته لهجتُها التهكمية، وحميَ رأسه بنار الغضب، ولكنه لم يكن في حال يأذن له بإعلان ما يُبطن، فنظر إليها نظرةَ النمر الواقع في الشَّرَك، وقال وهو يجهد أن يجعل صوته هادئًا: إذا منعتِ عني يدكِ دُمرتُ لا محالة.

وهنا هبَّتْ قاعدةً في فراشها وصاحَت في وجهه: في داهيةٍ!

– عمتي …

– لستُ عمةً لأحد.

– لا تكوني هكذا.

– هكذا أنا .. اغرُب عني. ولا تُرني وجهك مرة أخرى.

وحاول أن يقول شيئًا، ولكن لم يسعفه الكلام، فجمد لحظة؛ حيث هو ملتهب العينين، مُحمى الرأس، مرتعش الأطراف، ثم غاب عن ناظرَيها .. ولقيَ في الخارج الممرضة واقفة تُنصت، فقابلته بنفس الابتسامة، وقالت: ككل مرة؟!

فهزَّ رأسه غاضبًا، وقال: إنها شرُّ ما في الوجود .. إنني أعجب كيف يؤاتيكِ الصبر على معاشرتها؟

– إني أقوم بواجبي .. وهي على كل حال لا تعاملني نفس المعاملة.

وتوقف لحظة، لا يدري ما ينبغي أن يفعل، فلاحَت منه التفاتة إلى مائدة صغيرة رصت عليها زجاجات الدواء، فتنهد، وقال بغير وعي: لو يتأخر عنها الدواء دقيقة!

ولم تكن المرة الأولى التي تسمعه فيها الممرضة يقول هذا القول؛ فارتاعت لتكراره، ورددت قوله مرتعبة: لو يتأخر عنها الدواء دقيقة!

فنظر إليها بسرعة مرتجفًا، والتقَت عيناهما لحظة؛ فلمع بينهما ما يُشبه البرق، ثم خرج مهرولًا وهو ينتفض من هول ما خطر على باله، وهبط السلم مسرعًا كأنما يفرُّ فرارًا.

•••

وجاء اليوم الأول من أبريل، والأيام تسير في دائرتها المفرغة غير عابئة بما تحمل للناس من مسرات وأهوال، لا اختلاف في هذا بين يوم التطير أو يوم التفاؤل، ولم يكن هذا اليوم جديدًا في العام ولا جديدًا في حياة علي أفندي، ولكن خُيِّل إليه هذا الصباح أنه يستقبله لأول مرة في حياته، بل عجب؛ كيف أمكن أن يوجد كبقية الأيام؟ وكيف أمكن أن يأخذ مكانه الطبيعي بين أيام السنة؟ وهو يحمل له نذير الخراب ولأسرته الشقاء والفناء!

أواه! إن موعده مع التجار أصيل هذا اليوم، ولدى هذا الأصيل يتقرر مصيره. وإنه ليعلم علم اليقين أي طريق هو موليها بعد حين قليل .. بعد ساعات سريعة الجريان.

ومع هذا فها هو ذا يجلس إلى مكتبه يرتشف القهوة، ويُقلب الأوراق، ويشترك في الحديث مع هذا وذاك، وكل من حوله منصرف إلى عمله، والتلاميذ في الفناء يضجون ويلعبون، والحجرة هي هي، والمدرسة هي هي، والدنيا هي هي، كأن شيئًا لن يحدث وكأن دمارًا مروعًا لا يوشك أن ينزل بحياة أسرة كبيرة؛ فيذروها ذرَّ الرياح!

والمضحك بعد هذا أن يقال: إن الإنسان حيوان عاقل، وهل يستطيع إنسان أن يردَّ بنور عقله قضاءً يعجز الحيوان عن ردِّه لانعدام عقله؟ ها هو ذا لا يستطيع أن يصرف عن نفسه دمارًا يعلم به قبل وقوعه، وكم غير هذا الدمار — مما يجهل — قريب لا يستطيع حِياله تصريفًا. حقًّا إن الحياة مأساة مؤلمة مضحكة، ما الذي ينبغي أن يُفعل؟ .. إنه يطرح على نفسه هذا السؤال للمرة المائة والألف، ولا يملك إلا تكراره وترديده كالمخبول .. وقد سمع فجأة صوتًا يقول: حان الميعاد.

فارتجف جسمه وانخلع قلبه في صدره .. الميعاد .. إنه لا يفكر إلا في ميعاد واحد، ولكن الصوت استطرد مرة أخرى ضاحكًا: الساعة تدور في الحادية عشرة، فهيا إلى الوزارة لإحضار المرتبات.

حقًّا إن اليوم يوم المرتبات، ينتظره آلاف غيره بفارغ الصبر؛ فكيف ينسى هذا؟ وخرج متثاقلًا مهمومًا يولِّي وجهَه شطر الوزارة، وعلى حين فجأة، وبغير تمهيدٍ واعٍ اصطدم فكرُه الشارد المتوزع في محيط الشقاء بفكرة وامضة، فتنبهت حواسه، وشعَّ من عينَيه بريقٌ خاطف، وأحاط به الرعب الذي مسَّه حين التقَت عيناه بعينَي الممرضة في بيت عمته بالأمس القريب. لاحَت له هذه الفكرة في لحظة سريعة جنونية، رآها كمَن يفتح عينين ناعستين في الظلام فتلمحان على غير توقُّع شبحَ شيطان ناري، يهدد ثانية ثم يختفي تاركًا خلفه الصرع والجنون. وقد جنَّ بغير شك، واستولت عليه الفكرة بقوة مارد مستبد. أي رعب، أي شر، أي مصيبة، أي اتجاه، أي فكرة نيرة، أي خلاص، أي دمار، أي هول، إنها تحمل جميع هذه المتناقضات إلى نفسه المضطربة المريضة، وإن من اليأس ما يعجز عن قلقلة ذرة من الرمال، ومنه ما يزحزح الجبال، وقد جرَى منطقُه المحموم في طريق ذي عوج: إذا سرق كان جزاؤه المحتوم الرفت والسجن، ولكن إذا لم يسرق لم ينجُ لا من الرفت ولا من السجن .. إلا أن النتيجة مع السرقة تختلف، فهو بها يستطيع أن يكسب التجار ويُنقذ تجارته فيضمن لأسرته — وأسرته هي قطب تفكيره — حياة رغدة سعيدة، بل إنه ينوي ما هو شر من هذا وأعظم رعبًا، إنه ينوي أن يراود الممرضة — بسلطان المال — على …! حقًّا إن هذا فظيع مخيف .. ولكنَّ تأخيرَ الدواء لحظة كفيلٌ بالقضاء على تلك المرأة الشريرة، التي تقع من حياته موقع الزائدة الدودية الملتهبة .. حقًّا إنها جريمة نكراء ولكنها مضمونة العاقبة وعادلة من الوجهة الإنسانية .. ونفاذها يضمن لأسرته أرغد العيش وأطيبه. وهَبْ أن الممرضة أبَت عليه تحقيق غرضه فلن يضيرَه إباؤها شيئًا، وتبقى بعد هذا تجارته، وهذا شيء مؤكد. نعم، إن السجن لا مفر منه، ولكنها سنوات سوف يقضيها — مع الاطمئنان على أسرته — صابرًا ويخرج بعدها كي يتمتع بعيشة هانئة ثرية في مكان سحيق .. كل هذا واضح بيِّن ولا بد من تنفيذه بدقائقه، وليكن بعده ما يكون.

واستلم المال واستقل «تاكسي» وقال للسائق بصوت حاول ما استطاع أن يجعله هادئًا: إلى شارع محمد علي. نعم إلى البيت لا إلى المدرسة؛ حيث يجد متسعًا للتفكير والتدبير. كم هو مرتعب خائف، إن أسنانه تصطك، وأطرافه تنتفض، وأجفان عينَيه تتصلب، وريقه يجف، وأنفاسه تُبطئ وتثقل كأن يدًا جبارة تخنقه.

ووصلت السيارة إلى شارع محمد علي. ودَّ لو لم تصل إليه أبدًا. وكان قد دبَّر الأمرَ كلَّه في عقله، ولكنه شعر في تلك اللحظة بأنه في حاجة إلى معاودة التفكير مرة أخرى من مبدئه، كأنه لم يطرقه بعد. وهنا اعترضَت الطريقَ عربةٌ كبيرة عرقلت حركة المرور؛ فاضطر السائق إلى إيقاف السيارة، فنظر إلى الأمام ليستطلع ما هنالك فرأى العربة وإلى جانبها شرطي يُهدد سائقها، رباه! لقد أرعبه مشهد الشرطي، وأثلج دمه في عروقه، وهمَّ أن يأمر السائق بالرجوع .. وعلى حين فجأة سمع صوتًا يناديه قائلًا: بابا!

فالتفت مذعورًا فرأى زوزو واقفة على سلَّم السيارة، ووجهها الجميل قريب منه، وكانت تُمسك بحقيبتها في يدٍ وتعالج بالأخرى الباب لتدخل إلى أمها. فلما كان لها ما أرادت جرَت إليه فرِحة مسرورة، فمنعها بيده وسألها بسرعة ولهجة جافة: لِمَ أنتِ هنا؟

– أنا آتية من البيت؛ حيث كنت أتناول غدائي وذاهبة إلى المدرسة.

– حسن .. حسن .. هيَّا إلى المدرسة بسرعة لئلا تتأخري.

– انتظر، عندي لك خبرٌ سارٌّ .. هل تشتري لي شيكولاتة نسلة إذا قلته لك؟

– ليس الآن .. هيَّا .. هيَّا.

– عمتي!

فجمد لسانه في فمه، ونظر إليها نظرة غريبة؛ ففرحت البنت لأنها لفتَت انتباهه إليها وقالت: ماتت.

– ماتت عمتك!

فرَّت هذه العبارة من فمه في صراخ مدوٍّ .. فازداد فرح الفتاة، وقالت: نعم .. هذا ما قالته لي حميدة «الخادمة» لما سألتها عن تغيُّب ماما على غير عادتها.

وصرف زوزو بعد أن وعدها خيرًا، وأمر السائق وهو يلهث بالذهاب إلى المدرسة، نعم، إلى المدرسة ليُسلم بدوره الأمانة إلى مستحقيها. لقد أتاه الفرج دفعة واحدة. لقد أُنقذ بعد أن تدلَّى جسمه في الهاوية، أُنقذ من الإفلاس والخراب والسرقة والجريمة والسجن. رباه! إنه لم يُقدِّر هذا، ولم يحلم به أبدًا وما كان في مكنة مخلوق مهما رسخ إيمانه أن يُقدِّر هذه النهاية أو يحلم بها .. فالحمد لله .. الحمد لله!

وانصرف من المدرسة سريعًا قاصدًا بيت «المرحومة»، ووجده كما تعوَّد أن يراه هادئًا ساكنًا لا صوت ولا نحيب .. فطرق الباب ثم دخل، وقابلته الممرضة، وكانت محافِظة — برغم كل شيءٍ — على هدوئها، وقد سألته منكِرة: أجئتَ مرةً أخرى؟

فنظر إليها دهشًا، وقال: ما أغرب سؤالكِ! .. ألست على كل حال ابنَ أخيها؟!

واجتاز بها مسرعًا إلى حجرة المتوفاة .. فرآها مستلقية على ظهرها ورأسها مائل نحوه، مفتحة العينين، بل رآها — وهو الأدهى — تنتصب قاعدة، وتشير إليه بيدها الضعيفة مهددة، وتصيح في وجهه: كيف تجرؤ؟ كيف تتجاسر؟ ألم أطردك طردًا؟ اخرج .. اغرب عن وجهي.

والظاهر أن المرأة تأثرت من الغضب الذي تملَّكها فجأة، فسقطت على المخدة من الإعياء والجهد وصدرها يرتفع وينخفض. ووقف أمامها مبهوتًا جامدًا كالتمثال، ذاهلًا لا يستطيع كلامًا ولا حركة؛ كأنه ينظر إلى شبح مرعب لا إلى امرأة عجوز منهوكة القوى. وما أحس إلا يدَ الممرضة تسحبه إلى الخارج، فاستسلم لها طائعًا، وغادر البيت دون أن ينبس ببنت شفة.

وقطع الطريق إلى بيته والذهول مستولٍ عليه، وكان البيت يُخيم عليه السكون — كعادته — إذ الأولاد في المدرسة. فظنت زوجُه لأول وهلة أنه آيبٌ من مكان عمله كعادته اليومية، ولكنها ما لبثت أن طالعت ما يكسو وجهه من آيات التجهم والذهول، فتملَّكها الروع والذعر، وظنت أن ما تشفق من حدوثه، وترجو الله آناء الليل وأطراف النهار دفْعَه قد وقع، وفزعت إلى سؤاله وهي أكره ما تكون للسؤال: ما بالك؟

فسألها بدوره بامتعاض: أين زوزو؟

– لعلها في الطريق إلى البيت .. فصاح بغضب: هذه الطفلة الشريرة؟

– زوزو شريرة؟

قابلتني في الطريق منذ ساعتين، وكذبت عليَّ الشيطانة قائلة إن عمتي ماتت.

فضربت المرأة صدرها بيدها، وقالت بدهشة: كيف تجرؤ؟ من أين لها هذا الكذب؟ هذا أمر عجيب .. بل إنه أعجب شيء أسمعه في حياتي .. لعل البنت وهي تسمعنا دائمًا — نتمنى على الله موت عمتك — أرادت …

ولم تُتمَّ حديثها إذ دق الباب ودخلت زوزو. وما إن رأت والدها حتى رمَت حقيبتها وجرت نحوه ضاحكة، وقفزَت إلى حِجره وأحاطت بيدها عنقَه، ثم قالت وهي لا تسكت عن الضحك: هل اشتريت لي الشيكولاتة كما وعدت؟

فنزع يدها الصغيرة عن رقبته بشيء من العنف، وحدجها بنظرة قاسية، ثم سألها بخشونة وهو يدفعها عن حجره: كيف تكذبين عليَّ؟

قالت وهي لا تكفُّ عن الضحك، وإن بدأت تُدرك صعوبة الاستيلاء على الشيكولاتة: في أي يوم نحن: إني أسألكِ كيف تكذبين عليَّ؟

– اليوم أول أبريل .. وقد علمت أنه يجب على الناس أن يكذبوا فيه .. وهكذا قالت لي بثينة، وقد سألت «أبلة» فأمَّنت على ما قالت بثينة، ولكنها نبهت عليَّ أن أختار كذبة سارة كي لا أوذي أحدًا .. وقد اخترت لك أحسن كذبة!

فقطب وجهه، وقال لها بشدة: لعنة الله عليكِ وعلى أول أبريل .. هل يصدق الناس طول العام كي يلهوا بالكذب في أول أبريل؟!

وهنا فقط أدركت زوزو أنها أخطأت، وأن والدها غاضب عليها حقًّا، وأنها فقدت كلَّ الأمل في الشيكولاتة، فكفَّت عن الضحك، وعلا محيَّاها الارتباك، واحمرَّت وجنتاها من الخجل، ونظرت إلى أمها تستغيث بها. أما أبوها فقد قام متثاقلًا، ودلف إلى حجرته حزينًا كئيبًا ينوء بالهم والفكر. ولحقت به زوجُه وانتبذت ركنًا من الحجرة في صمت ووجوم. وقفت ترمقه بعينَين كئيبتَين وقلبها يُحدِّثها بدنو شر مستطير، ولكنها لم تجرؤ على تمزيق هذا الصمت الغليظ. انتهى الأمر وخابت المحاولة الأخيرة وآذن الخراب بالوقوع.

هل ينتحر ويضع حدًّا لهذه الحياة القلقة المنغصة؟ فقد اضطرب عقله بهذه الفكرة الهائلة لحظة، ولكنه تغلب عليها وفندها قائلًا لنفسه: «إذا انتحرت فمَن للأولاد؟» .. ولم يجد أمامه سوى الاستسلام والنزول عند حكم المقادير.

وظل الصمت مخيمًا يزهق النفوس، والمرأة واقفة حيث هي، وهو قاعد على الكنبة مسندًا رأسه إلى كفَّيه، وقد ظهر رأس زوزو من الباب لحظة ولاحَت عيناها تدوران بين والدَيها، ثم ارتدت مسرعة، فارة مضطربة.

ولبثَا على حالهما لا يشعران بفوات الوقت حتى تيقظَا فجأة على طَرْق الباب، ووصلت إلى مسمعَيهما أصوات الأولاد وهم يدخلون واحدًا واحدًا، يتقدمهم ضجيجهم وجلَبتهم، وقد دبَّت الحياة في البيت وتحوَّل في ثانية إلى سوق، وعلا صياح من هنا وصراخ من هناك، وسمعت أصوات تنادي، وأخرى تسب وتلعن، وثالثة تنشد بعض الأناشيد المدرسية، ورابعة تسأل عن ماما وبابا. ثم طرق الباب مرة أخرى بعنف، ودخل شخص ما، وساد صمت عجيب. ترى مَن القادم؟ لقد دقَّ قلب الرجل بعنف واعتدل في جلسته، وعيناه تتساءلان، ونظر إلى الباب كأنه يتوقع سقوط صاعقة .. ورأى حسينًا يدخل مسرعًا، وسمعه يقول باضطراب: بابا .. يقولون إن عمتي توفيت!

فقام الرجل كالمجنون وحدج ابنَه بنظرة هائلة، فقال الابن: حضرت الممرضة الآن حاملة هذا الخبر .. وها هي ذي واقفة تسأل عنك .. تفضلي إلى هنا يا سيدتي.

•••

في ساعة متأخرة من ليل ذاك اليوم — يوم أول أبريل — جلس علي أفندي إلى جانب زوجه وكانت لا تزال في ثوب الحداد، وقد آوى الأبناء إلى الفراش وخيم السكون على البيت.

كانت المرأة صامتة، ولكن كان وجهها راضيًا مطمئنًا، وبالها مستريحًا، وقد ولَّى عنها الذعر الذي لازمها أيامًا خالتها دهرًا طويلًا.

وكان علي أفندي يشعر شعور إنسان خطَا قدمًا بغير وعي، وإذا به يرى صاعقة تنقضُّ على المكان الذي كان يشغل .. قد كان السجن والرفت والدمار منه قاب قوسين أو أدنى، وها هو ذا يطمئن إلى مجلسه بين أسرته آمنًا بمنجاة من كل دمار، يستقبل من الغد حياة رغدة مترفة، فكم بالحياة من معجزات!

وعلى رغم كل هذا لم يكن سعيدًا تمام السعادة، ولم يصفُ ذهنه كل الصفاء واستمر في تأملات عميقة. لقد عاش طول عمره حياة راكدة راتبة، أما الساعات القلائل — القلائل! — الأخيرة فقد ابتليَ فيها بما لم يُبتلَ به في عمره الطويل المديد؛ إذ أثارت نفسه وعقله وجعلت من بحيرة نفسه الآسنة محيطًا مضطربًا عاصفًا.

لقد خلَّصه الله من العذاب، ولكن هل يستحق الخلاص وهو الآثم الشرير الذي همَّ أن يقارف السرقة والقتل؟ ثم عمته المرحومة؟ إنه يدرك حالتها الآن بغير العقل الذي كان يصورها له ويعطف عليها بعد أن أمسى عطفه وقسوته لديها سيِّئَين، فقد عاشت بائسة حزينة تجتر الهموم والآلام، وكانت حياتها فرضًا ثقيلًا عليها وعلى الآخرين. نعم! كانت قاسية شديدة فوق كل احتمال، ومع هذا فكيف كان يمكن أن تكون غير ما كانت؟ ومَن يخلو من جانب بل من جوانب كريهة؟ أليس هو في أعماقه قاتلًا سارقًا مدلسًا؟ وما هو إلا صورة تتكاثر وتتعدد فتكوِّن عالم الناس .. ومع هذا فلا يجوز أن ينسى أن هذا الشر غالبًا ما ينكشف عن ضعف وجهل وبؤس، كما انكشف شذوذ عمته عن ترمُّل وثكل، وكما ينكشف تخبطه وسوء نواياه عن محبة فائقة لأبنائه الأبرياء، وقد أذن الله فعالج الشر والبؤس برحمته، والرحمة أسمى حلم في الوجود، ولكنه لا يستطيع أن ينسى أيضًا أنها سبقت هنا بكذبة ابنته وبموت عمته، فكيف يكون الموت والكذب من ممهدات الرحمة؟

حقًّا إنه مهما ادَّعى التأمل فسيبقى أمامه ما يعجز عقله ويربكه. وإذا كان أمر الدنيا على هذا النحو فلن يمنع الدمع الذي تبعثه مآسيها إلى العين الابتسام من اعتلاء الشفتين، ولقد ضاق صدرُه وأرقه السهاد فهتف من أعماقه: مَن لي بزوزو الآن؟ .. فإن ابتسامتها العذبة ونظرتها الطاهرة ويدها الصغيرة لحقيقة بأن تصرف عني أفكار هذا الليل وتسكب في قلبي الطمأنينة والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤