الفصل الأول

كيف عرفتها

في مثل هذا الشهر كانون الثاني (يناير) منذ سنوات خمس اجتمعت بباحثة البادية للمرة الأولى. كانت تقضي فصل الشتاء في حلوان، وقد دعتني إليها على غير معرفة سابقة سوى معرفة القلم، بعد أن تبادلت وإياها بعض الرسائل في الصحف السيارة. دعتني على أثر رثائي ساعةً فقدتها يومئذٍ فكتبت تقول: «إني وجدت ساعتك المفقودة والتقطتها. رأيتك ترثينها بحرقة فجئت لأمسح دموعك؛ لأني أحب دائمًا أن أمسح دمعة المحزون. تعالي إليَّ لتأخذيها؛ فإنها أحست بشوقي لرؤيتك فأتت تقدمةً لمجيئك وتعارُفنا. عثرت عليَّ وعثرت عليها لنؤكد لك أنك وجدت الصديقة التي لا تخون.»١

تُرى ما الذي دفعها إلى ذلك؟ أهي النفس العلمية التي لا يفوتها سر من الأسرار ذكرت أنه قدِّر عليَّ أن أحمل القلم يومًا لأبكي المرأة الجذابة وأستخرج أمثولة من كتابات المرأة الخالدة؟

ذهبت إليها والشفق يُضرم ناره في قلب الأفق والسحب قد انقلبت هنا لهيبًا، وهناك أنوارًا، وهنالك ألوانًا. أيُّ نفس لا ترتعش اغتباطًا أمام جلال الغروب؟! والغروب في مصر أبرع جمالًا منه في أي قطر آخر، وهو يبرز على أبدع ما يكون للسائر في قطار حلوان، مشهد رائع لا ينساه حياتَه من رآه مرة واحدة، فيه تبدو الأهرام كأنها ما تحجَّر من فؤاد الأيام وبُعدُها في أطراف الأفق يُكسبها جمالًا غريبًا شفافًا كجمال الأحلام.

على أن اغتباطي بمنظر الغروب في ذيَّاك المساء لم يكن ليلهيني عما ينتظرني من جديد، ولا ليحبس عن ذهني أسئلة تتعاقب على فكر المرء قبيل اجتماعه بشخص غريب. إنما نحن نميل إلى الغريب ونميل عنه في آنٍ واحدٍ. وإذا دنت لحظة موعد ضُرب بينه وبيننا للمرة الأولى فإننا لا ننفك متسائلين على غير إرادة (وغالبًا على غير معرفة) منا: «ترى كيف هو؟ على أي قرار يوقِّع نغمة صوته، وإلى أي الألوان يقرُب لون عينيه؟ كيف يبتسم ويتكلم ويتحرك؟ بل كيف يفتكر، وأي الأفكار متغلِّب عليه، وعلى أي الأساليب تتكون الفكرة في خاطره؟ تُرى هل يتفاهم منا الروحان بلغتهما المختلفة عن لغة الشفاه الإصلاحية، أم نحن الساعةَ ملتقيان ليعلم كل منا أننا لسنا من وطنٍ معنويٍّ واحدٍ، وأن بين مزاجينا هوَّة لا يزيدها التعارف إلا اتساعًا؟»

أسئلة إنما ينحصر الجواب عنها جميعًا في النظرة الأولى التي يتبادلها الغريبان، رجلين كانا أو امرأتين أو رجلًا وامرأة، أو خادمًا ومخدومًا، أو نظيرًا ونظيرًا، أو كبيرًا وصغيرًا. وتلك النظرة تُسفر دائمًا عن إحدى عاطفتين اثنتين تتفاوت من كلٍّ منهما الدرجات: فإما انجذابٌ وإما تقلُّصٌ، والانجذاب مَيلٌ والتقلص نفورٌ.

كنت أتدرج من هذه الأسئلة إلى غامض المعاني التي يحاول علماء النفس استكناهها وأُردفها بهذا السؤال الواضح: «أهذه المرأة التي سأصافحها بعد هنيهة هي الباحثة التي تنشر على الناس أفكارها، أم صدق الزاعمون أن ليس لها من فصولها إلا التوقيع كما هي الحال عند بعض السيدات الشرقيات اللاتي تعمَّدن التظاهر بالتفكير والتحبير؟»

والجواب عن مثل هذا السؤال قد يظهر في نظرة واحدة أو بسمة، أو حركة يأتيها الغريب فيستجلي منها اللبيب حياة ذلك الغريب وقواه الخفية وما يمكنه القيام به من الأعمال. هذا على شرط أن يكون الاثنان من درجة معنوية واحدة أو Attuned كما يقول الإنجليز.

•••

وصلت إليها وقد تزركش رداء الليل بوشي الكواكب، ثم نشرتُ في الغد وصف زيارتي في إحدى الصحف الفرنساوية٢ فأستعين الآن ببعض ما جاء في ذلك المقال؛ لأني كتبته تحت تأثير المقابلة الأولى. وهاك وصف غرفة الاستقبال:

قضينا ساعة ونيِّفًا في غرفة الاستقبال، واللون المتغلب في تلك الغرفة هو الأحمر العقيقي، تتخلله نقوش خضراء فستقية ومزيج ألوان أخرى تبدو واهية الخطوط تحت نور الكهرباء. ولم يكن ثمة ما يخبر عن عبوس الحجاب الإسلامي في تلك «الفيلا» الأوروبية، بين أثاث دقيق الصنعة ومقاعد فصِّلت على أحدث طرز، مع ما نشر على الطاولات النحيفة القوائم من الأشياء الفنية الصغيرة التي لا اسم لها وهي من صنع عمال المغرب أو مَن قلَّدهم من عمال المشرق الحاذقين.

كان هتافها الأول هتاف ترحيب وكلمتها الأخيرة كلمة حب. واستغرقت الوقت بين طرفي الزيارة مناقشة ودِّيَّة في بعض ما عالجته الباحثة من الموضوعات كتعليم البنات، والحجاب، والسفور، وكانت تحدثني بصوت أغنِّ الرنين تملؤه لهجة الواثق مما يقول، المعتقد بصلاح فكره، العالِم أن آراءه مفيدة كل الفائدة لو كان لها الناس تابعين. وإذا وجدت الكلمة العامية ركيكة إذا ما عُبِّر بها عن بعض المعاني، استعملت الكلمة اللغوية مكانها بنطقٍ عربيٍّ فصيحٍ مستشهدةً بأبياتٍ شهيرةٍ وحِكَمٍ سائرةٍ تعزيزًا لآرائها، وعلى وجهها هيئة المحقق الجادِّ وفي عينيها نظرة بعيدة. وإذْ نحن على هذه الحال إذا بقريبة لها قد هبطت علينا من الصعيد على غير انتظار. وكانت باحثة البادية سبقت وقالت لي حين وصولي: «رغب بعض صديقاتي في المجيء للتعرف بك، على أني أردت أن نكون وحدنا في اجتماعنا الأول.»

ولكنها لم تُبدِ انزعاجًا بل ظهر السرور في وجهها وتحولت المرأة المفكرة دفعة واحدة امرأة ضحاكة كأنما لم تكن هي التي كانت منذ هنيهة تستشهد بالمعري والمتنبي. وقد ذكرت ذلك في مقالي الفرنساوي:

«جاءت قريبتها من الفيوم فأخذتا تتكلمان عن أشياء يعرفانها وتهمهما معًا. ذكرتا الأقارب والأصدقاء والصديقات والجارات والمعارف وهما تحلفان تارة بالله وطورًا بالنبي محمد مشتركتين في الضحك والتنكيت بين جملة وأخرى. الزائرة تحدَّث عن الديار والباحثة تستزيدها من التفصيلات عن نساء الحي والمواشي والخياطة المصدورة والحمَّى المتفشية في البلد، ثم اتفقتا في الثناء على البقرة الحلوب، وهبط صوتهما إلى قرار الأسف لذكر البقرة الصغيرة المتوفاة في الأسبوع السابق. فقلت وقد أسفت لأسفهما: «أماتت تلك البقرة المسكينة؟»»

أجابت باحثة البادية: «ماتت والله! وكنت أحبها كثير قوي.»

ولكن لا يغرننا هذا الانقلاب السريع من جليل المعاني إلى تافهها، ولا تخدعننا هذه الضحكة الشبيهة بضحكة فتيات المدارس. إن لهذه المرأة كما لكلٍّ من الأفراد النوابغ شخصيات متعددات تظهر كلٌّ منها في حينها. وهاك وصف ضحكتها في المقال الفرنساوي السابق ذكره:

إنها تضحك بسرعة وسهولة وفي صوتها رنين كرنين أصوات الأطفال، تضحك بكل قواها كمن يضحك من قلب لم يخالطه بعدُ معنى الكآبة ولم تنزل بساحته وطأة الهموم. وما أشد ما يسرُّ السامع بهذه الضحكة المملوءة طيبةً وذكاءً، ولولا أن خيالات الفكر والكآبة تتمايل على جبهتها السمراء الجميلة لتساءل المرء أهو في حضرة امرأة ذاقت طعوم اللوعة والألم؟ …

نعم إنها التاعت وتألمت. أقول ذلك وإن لم أرها يومًا إلا بين مظاهر السعادة والهناء، بل لم أقابلها مرةً إلا وهي صبيحة الوجه، طليقة المحيَّا، برَّاقة العينين، والبسمة تلعب على شفتيها. لكن هذه كلها ستائر تنسدل على حركات الحياة الحقيقية حاجبةً عن النواظر معانيها العميقة. وهل في وسع من ذاق مرارة الفكر وحلاوته أن يكون سعيدًا بالمعنى الذي يقصده البشر؟ وإذا فرضنا أنه حاز السعادة على ذلك القياس المألوف، أتكفي هذه السعادة الاصطلاحية لحمايته من لهيب الألم النفسي؟

ولكن لا تنقمنَّ على الألم؛ فهو مغذي الذكاء ومهذب الشعور، ومنبه الإدراك إلى معانٍ جمَّة وأساليب فكرية كثيرة. إنما صاحب العواطف القوية شقيٌّ إذا ما ذكرنا أن هذه العواطف تعذبه في كل حين وتظل هامسة له بالشكوى حتى في أعذب ما يناله من لحظات السعادة النادرة. لكن هذا العذاب بعينه هو ممزِّق غشاء الجهل والأنانية عن بصر فريسته، وهو مستنزل الوحي على فؤاد نهشته براثنه حتى أدمته. هو مفجِّر ينابيع النهى. هو يعطي القلم قوة تبدع من الكلام سيوفًا وبروقًا، ويحبو اللسان بلاغةً تمتلك القلب لأنها تخابره مباشرة بلا وسيط. وماذا عسى ينفع الحديث إن لم يكن مصدره القلب؟! وما هي قيمة الإصلاح إن لم يكن ناشئًا عن إدراكٍ تكوَّن ليس في العقل وحده بل في العواطف المسحوقة وما تُنبِّه إليه من احتياج كثير؟! ونظرة الكاتب إن لم يطل فيها خيال القلب المتوجع ليست إلا بالنظرة الباردة القاصرة التي لا تنفُذ إلى ما وراء قشرة الظواهر، ويظل باب النفس، باب الحقيقة، أمامها مغلقًا مجهولًا!

إن مزاج باحثة البادية العصبي الصفراوي وجنسها النسائي، وقوة عواطفها وحدة ذكائها، كل ذلك كان مشتركًا في تكوين طبيعتها السريعة الانفعال وواضعًا فيها قابلية شديدة للألم واستعدادًا كبيرًا لمشاهدة الأشياء والحوادث من وراء غشاءٍ قاتم. اقرأ كل ما كتبته تجد أنينًا متواصلًا يخترقه من أوله إلى آخره. وذلك الأنين الذي يكاد يكون رِكزًا ينقلب ساعة الوجع الشديد زئيرًا وعويلًا.

هذا المزاج النسائي وهذه الذاتية الأدبية، وهذه الكاتبة التي لم تدوِّن أفكارها (على ما يظهر لي من لهجة فصولها) إلا تحت التأثير وفي ساعة الانفعال، هي ما أقصد درسه في هذا البحث الذي قسمته إلى أجزاء ستة هي: المرأة، والمسلمة، والمصرية، والكاتبة، والناقدة، والمُصلحة؛ لأن في هذا التقسيم تسهيلًا كبيرًا لتفصيل الصفات الأدبية والمميزات الكتابية. وسنرى في الفصول الآتية كيف تبرز «الباحثة» قيمة في كل جزء من هذه الأجزاء. ولنا من كتاباتها ما يسند إليه الرأي ويستخرج منه التعليل، بل لنا منها ما يبعث بالأشعة إلى تلك الصفحات التي كُتبت عن البيئة المصرية ولها، فيمكننا أن نقدِّر باحثة البادية قدرها ونحب من وراء حجب الموت تلك الذاتية النادرة التي مرت في الحياة كحلم جميل.

أعترف بأني في حاجة إلى بعض المجاهدة لأتغلب على نفسي مبعدة من أمام ناظريَّ خيالها البسَّام، ومحاولة نسيان المرأة كما عرفتها؛ كيلا أتأثر إلا بفكر الكاتبة المنشور على الصفحات البيضاء خطوطًا سوداء. غير أني أعود فأقول إن التأثر بمعرفة المرء الشخصية ليس بالأمر المذموم، بل هو غزير الفائدة؛ لأن الذين يعرفون كاتبًا خارج فصوله يستعينون بتلك المعرفة على قدر تلك الفصول، ويستخرجون من أحاديثه الشفاهية ما يؤيد أقواله الكتابية ويعززها. وإني لشاكرة «للمقتطف» اقتراحه، فهو الذي أوحى إليَّ كتابة ما أراه الآن عليَّ واجبًا مقدسًا.

فلتحضر الروح العزيزة جلساتٍ أكون فيها وحدي منفردة للبحث في آرائها واستخلاص درر معانيها، ولتقُد يدها الروحية القادرة يدي الجسدية الحائرة لأُثبت ما تريد إثباته، ولتُنر حكمتها المكتسبة من ديار الخلود فكري الراغب في إدراك ما تعمدته من المقاصد، والساعي في تحديد غاية قصوى رمت إليها وهي ترى فيها كل الخير لإصلاح الشئون.

١  «الساعة المفقودة»، نُشرت في المحروسة.
٢  نُشر في جريدة «البروجر» الفرنساوية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤