الفصل الثامن

قاسم أمين وباحثة البادية: المقابلة بينهما

فباحثة البادية بين النساء المصريات، بل المسلمات، بل الشرقيات عمومًا، لا يقل فضلها في الضرب على مساوئ الأسرة عندنا والحض على وجوب تعليم المرأة لتحرير عقلها وتقويم أخلاقها بالعلم الصحيح عن فضل قاسم أمين في وجوب تحريرها. وإن كانت لم تطلب لها هذا التحرير إلى الغاية القصوى مثله. لأنها لم تطلب إلغاء الحجاب بالكلية، وهو رأي في نظر البعض وجيه.١
الدكتور شبلي شميل
نحن لا نكتب طمعًا في أن ننال تصفيق الجهال وعامة الناس … وإنما نكتب لأهل العلم، وعلى الخصوص للناشئة الحديثة التي هي مستودع أمانينا في المستقبل؛ فهي بما اكتسبته من التربية العلمية الصحيحة يمكنها أن تُحِلَّ مسألة المرأة المكان الذي تستحقه من العناية والبحث.٢
قاسم أمين
حبذا لو تصفح هذا الكتاب النفيس (تحرير المرأة) كلُّ من يغار على وطنه وأمته وساعد مؤلفه في بث آرائه بين الجمهور.٣
المقتطف

للحياة في أبنائها مآرب: تعطي بعضهم نفسًا يكهربها الفكر والعاطفة، وتلقي في أعماقها وديعة النبوغ فيصير بها صاحبها كأنما هو النقطة المركزية التي تتصل بها أسلاك جميع الشعورات والخبرات والفكرات والأعمال. ما طغى ظالم في الأرض إلا اهتزت منه الجوانح حمية وحنقًا. ولا استبدت جماعة بجماعة أو جنس بجنسٍ إلا انطلق صوته يدمدم كالعواصف لأنه صوت انفجرت فيه أصوات من يتوجعون ولا يدرون كيف يتظلمون. ولا ضربت العلل الاجتماعية في بيئة عثوًا إلا وحمل مشراط الجرَّاح ولفائف المؤاسي وقام يبضع يومًا ويضمد يومًا. تنزل به وبجاره نكبة واحدة في آنٍ واحدٍ فيئنُّ الجار كفرد بشري، ويصرخ هو وفي صراخه عويل جميع الذين قضوا وكانوا قبل الموت فريسة اليأس والهوان. وقد تكثر المحن على هذا «السعيد التعس»؛ لأنه كما أن البلسم الشافي لا تجود به الشجرة العطرية إلا بعد أن تقشر ثوبها ويتجرَّح صدرها فتجول حول كلومها اليد الشديدة متلمسة السائل الزكي، كذلك لا تخرج المناداة بالإصلاح القومي والتقويم العمراني إلا من أعماق نفسٍ شقَّقتها نصال الرزايا وجالت يد الألم تجسُّ فيها آثار الجراح بلا شفقة.

تشيخ الأمهات مناولات بناتهن قبس الحياة المنير، ويظل الهاتف العتيد يتنقل محجوبًا بين الأجنحة والمواليد من أهل الدار ونزيلها، والخمول الدهري مخيمٌ على الجماعة إلى أن يجيء وقت اليقظة؛ إذ ذاك يبرز هاتفًا في الناس فيجفلون. فيلقاه بعضهم ساخطًا محتقرًا، وغيرهم ناقدًا متعنتًا، ويصغي آخرون بمسامع النفس والرغبة، وبدهشة الحب والإعجاب، وسواء صمَّت آذانهم جميعًا أم كانوا من المنصتين فإن صدى الصوت يظل مترددًا حول الأفكار والعادات حتى يندمج فيها، فلا يلبث أن يصير الرأي واقعًا والاقتراح إصلاحًا. لماذا يجيء هذا الصوت الفعال من أفراد دون أفراد — مع أن الهاتفين كثير — وفي زمن دون آخر؟ ذلك سر من أسرار الحياة. وللحياة في الأمكنة والأزمنة والأفراد مآرب.

لم يكن قاسم أمين مصريَّ الأصل وإن كان مصريَّ المنبت والبيئة، وتام التمصر وطنية وإخلاصًا. لكن الحياة اختارته ليقول ما لم يقله أحد في مصر الحديثة قبله، وليترك في النشء أثرًا جليلًا لم يكن لغيره. لقد قرأت كتبه بعد «نسائيات» الباحثة في عام واحد (١٩١٤) فبدهيٌّ أن يمتزج ذكراهما في نفسي، حتى إني لا أفكر في الواحد إلا تناسق اسم الآخر ومذهبه في خاطري. وإني لأحسب من واجب الإقرار بالجميل أن أكرِّس له سطورًا في ختام هذا البحث؛ لأنه عمل لغاية سعت إليها الباحثة بعده، وإن كان عمل كلٍّ منهما مدفوعًا بفطرته الخاصة، سائرًا نحو الكعبة المشتركة في طريقين يتحاذيان ويتباعدان على طول المسافة. لقد نفت الكاتبة عن نفسها اتباع مذهب قاسم، والتشيع له، بقولها في ردها على قصيدة شوقي بك:

فعلامَ أكثرتِ الملا
مة وانضممت لعُذَّلي
وسقيتني من مرِّ قو
لك مثل نقع الحنظل
ونسبتني حينًا لمذ
هب قاسمٍ وأبي علي
تعنين ويلك أنني
أمَّارة بتبذُّل

وهو إنكار يدل أيضًا على أنها لم تنصفه — ولا أجرؤ أن أقول إنها لم تفهمه. وكيف أجرؤ على ذلك وأنا أعتقد — على رغم مني — بأن تأثيره فيها كان عظيمًا، وأنها لم تتناول القلم بشجاعة إلا لأن قلمه أوحى إليها مهيئًا لها في النفوس سبيلًا وواضعًا في الأفكار قابلية واستعدادًا. إنها لمست مثله نقطًا معينة وارتأت إصلاحها تقريبًا على الوجه الذي يطلبه. وهل يمكن ألَّا تنفعل امرأة راقية بكتابات هي الأولى من نوعها، ممن لم يُرد للمرأة وللأمة إلا خيرًا؟ لذلك أعود مجاهرة باعتقادي بأنها ابنته بالفكر والجرأة وتلميذته في المناداة بإصلاح شئون النساء. ولا ينفي ذلك ما بينهما من خلاف زهيد؛ لأن الأستاذ والتلميذ وإن اتحدت كلمتهما، فإن كلًّا منهما يظل جاريًا وراء طبيعته يظهرها وينميها. وأبينُ شاهد على ذلك نجده بين ذروتي الفكر الإغريقي: أفلاطون وأرسطو. فإن كان أفلاطون زعيم الفلسفة الإيديالستية الكمالية الذي لا يبارى فإن التلميذ أرسطو انفصل عن أستاذه حتى صار اسمه مرادفًا لاسم الفلسفة العلمية العملية.

•••

هي تكتب كما تتكلم بفطرتها البسيطة، وهو كذلك يكتب كما يتكلم بفطرته البسيطة. إلا أن فطرتها هي نسائية فتنتقد وتنكت وتتألم وتشفق، وترتقي منبرًا خياليًّا تخطب بالإصلاح ثم تضحك وتبكي، وتأتي بجميع الأقوال والحركات التي تجعل المرأة محبوبة كالطفل، بليغة كالشاعر، خلابة كالسحَّار. أما هو … فقلبٌ تُثقله العواطف الطروبة وفكرٌ شغف بالعدل والإنصاف والحقيقة. يحب الخير والصلاح كما أنه يحب اللفتات الحلوة والكلمات اللطيفة. في ثنايا روحه شاعر يُنشد وينوح ساعة يقول:
يشعر العاشق بلذة ساحرة إذا كان محبوبًا وإذا كان غير محبوب، فيجد في ألمه لذة أخرى مشابهة للسكر. «أكثر الناس لا يفهمون من الحب إلا أنه أكلة لذيذة، إذا حضرت أكلوها هنيئًا وإذا غابت استعاضوها بغيرها. والحقيقة أنه إحساس عميق يستولي على النفس كلها ويجعلها محتاجة إلى الاختلاط بنفس أخرى احتياجًا ضروريًّا كاحتياج العليل إلى الشمس والغريق إلى الهواء. نار تُلهب القلب لا يُطفيها البعد ولا يُبردها القرب بل يزيدها اشتعالًا. ومرض يقاسي فيه العاشق عذابًا يظهر باحتقان في مخه وخفقان في قلبه واضطراب في أعصابه واختلال في نظام حياته، يظهر على الأخص في الأكل وفي النوم وفي الشغل، ويجعله غير صالح لشيء سوى أنه يقضي أوقاته شاخصًا إلى صورة محبوبته مستغرقًا في عبادتها ذاكرًا أوصافها وحركاتها وإشاراتها وكلماتها. نظرة في عيون محبوبته تملأ قلبه فرحًا وتجعله يتخيل أنه ماشٍ في طريق مغروس بالورد أو راكب سحابة وطائر في المرتفعات العالية فوق فوق قريب السماء. وفي هذه اللحظة يكون سعيدًا أسعد من أكبر ملوك الأرض، فإذا انقضت عاد إلى ما كان فيه من العذاب والألم.»٤
في هذا المزاج الذي جمع بين الذكاء الفطري والمعرفة المكتسبة والخبرة الواسعة، بين جد رجل القانون ودقة الأديب الطروب يتكوَّن الاحتياج الشديد إلى الإصلاح. لأننا إذا أردنا إصلاحًا في التعليم مثلًا فلا ننتظره ممن لا يحسنون القراءة، وإذا أردنا تعديل القانون وتنقية الأحكام فلا نطلبه من مستبدٍّ قانونه أنانيته. وإذا شئنا تصفية الذوق وتلطيف الشعور فلا نلجأ إلى الطبائع الخشنة والشعائر الضخمة، بل نأمل في الفكر المصقول والعقل الراجح والنفس المتَّقدة عواطف، لتسوق بالناس إلى حب التحسن والرفعة المعنوية. ورقيق القلب نافذ الفكر يتعذَّب بمعاشرة من لا يشبهه، ولا يميل إلا إلى من تفاهم معه، فينتخب أصدقاءه انتخابًا لا يجعله متساهلًا فيه احتياجه المؤلم إلى خلٍّ وفيٍّ. اقرأ كيف يصور قاسم الصديقين:
تأمَّل في مسامرة صديقين تجد أنها كنز سرور لا يفنى. متى تلاقيا يُفرغ كلٌّ منهما روحه في روح الآخر فيسري عقلهما من موضوع إلى موضوع وينتقل من الجزئيات إلى الكليات ويمر على الآمال والآلام والقبيح والحسن والناقص والكامل. كل عمل أو فكر أو حادث أو اختراع يُكسب عقلهما غذاء جديدًا ويفيد نفسيهما لذة جديدة. كل مظهر من مظاهر حياة أحدهما العقلية والوجدانية وكل ما تحلت به نفسه من علم وأدب وذوق وعاطفة تنعكس منه على نفس الآخر فيُكسبه لذة جديدة ويزيد في رابطة الألفة بينهما عقدة جديدة.٥
فإذا كان هذا ما يطلبه من صديقه فماذا تراه يطلب من تلك التي هي زوجته، وقد قيل إن العاقل ينتخب لنفسه امرأة جامعة لكل الصفات التي يريدها في الصديق؟ ماذا يطلب من المخلوقة التي ينفعل الرجل مرغمًا بتأثيرها في كل أدواره، وفي كل خطوة يخطوها سواء شاء أم لم يشأ، ينفعل بتأثيرها غريبة وقريبة، عابرة في سبيله أو شريكة له في حياته؟ ماذا يطلب، وهل عنده ما هو طالب بحق؟ هو يجيب عن هذا السؤال:
وكلٌّ منا يذوق حلاوة الساعات التي تمر به بدون أن يشعر حينما يطول الحديث بينه وبين صديق له وتختلط نفساهما ببعض حتى يذهل كلٌّ عن أيهما يتكلم وأيهما يسمع. فهذا السرور يتضاعف بلا شك، إذا وجد هذا التوافق بين رجل وأمه وأخته أو زوجته. ولكن يحول الآن بيننا وبينهن عدم التوافق بين عقولنا وعقولهن ونفوسنا ونفوسهن؛ ولهذا فإنا نشفق عليهن ونحنُّ إليهن ونعذرهن، ولكن لا تكمل محبتنا لهن؛ لأن الحب التام هو ذلك التوافق، وهو معدوم.٦
هو يعرف المرأة لأنه يعرف الرجل، ويعرفهما معًا لأنه يعرف الطبيعة البشرية. ترى من يستطيع أن يكتب كلمة كهذه إن لم يكن قد خبر أحوال الناس، ونقدهم ثمن كل حرف من حروفها نقطة من أثمن دماء قلبه: «كلما قدرت على أن أقوم بخدمة طلبها مني صديق أسفت على خسارته وعددته عدوًّا جديدًا.» فلا عجب من أن هذا الذي ينفذ بنظره إلى أقاصي الوجدان طائفًا بين ألغاز الميل والنفور يتمكن من لمس تفتت المرائر وإحصاء نبضات القلوب. وأي حدس متيقظ مصيب في هذا البيان: «يوجد أناس متى رأيتهم أو سمعتهم تشعر بنقصٍ في خلقهم كأنهم صُنعوا بغاية السرعة فلم ينالوا حظَّهم من الإتقان المعهود.»٧
وإذا حاولت إجمال شخصيته ووضع عنوان لها ما وجدت أفضل من سطوره الآتية:
يظهر لي أن الارتقاء في الإنسان تابع على الخصوص لجهازه العصبي فأكثر الناس استعدادًا للرقي هم العصبيون الذين تبلغ منهم الانفعالات النفسية مبلغًا عظيمًا وتهتز أعصابهم المتوترة بملامسة الحوادث فيظهر أثرها فيهم بكثرة وشدة، أولئك هم السعداء التعساء الذين يتمتعون ويتألمون. أولئك هم السابقون في ميدان الحياة، تراهم في الصف الأول مخاطرين بأنفسهم يتنافسون فيما بينهم بمصادمة كل صعوبة. من بينهم تنتخب القدرة الحكيمة خيرهم وتوحي إليه أسرارها فيصير شاعرًا بليغًا أو وليًّا طاهرًا أو فيلسوفًا حكيمًا أو نبيًّا كريمًا.٨

أو قاسمًا أمينًا …

لأني أظن على ما أرى من كتاباته وصورته الموضوعة في صدر «كلمات»، إنه إن لم يكن مزاجه عصبيًّا بحتًا ففيه شيء كثير من المزاج العصبي.

كل هذه العناصر النفسية تجمعت فكان أغلبها عنصر القضاء. هو يلاحظ الأشياء ويراقب الحوادث مدققًا ممحصًا ويحكم بفطرته لها أو عليها، وجاءت ممارسة القانون فزادت تلك الملكة ظهورًا. هو قاضٍ في جميع كتاباته يجلس على منصة العدل غير ملتفت كالخطيب، إلى أنه أعلى مكانًا من الجالسين وأنه يجب أن يرفع صوته ليسمع السامعون، بل يجلس جلوسًا طبيعيًّا لأن تلك المنصة مكانه، ويتكلم بلهجة بسيطة. يرى الأشياء حوله فيدوِّنها ويقول: «أعرف قضاة حكموا بالظلم ليشتهروا بين الناس.»ليشتهروا بين الناس٩ ويسمع الأقوال فيسجلها، وهو الخبير بما فيها من رسم نفسية جمهور كبير من الناس، وبما تقيده على قائلها من ونًى فكري واستسلام ذليل: «سئل ح. بك: ما رأيك في كتاب تحرير المرأة؟ فأجاب: رديء!

– هل قرأته؟

– لا.

– أما يجب أن تطلع عليه قبل أن تحكم برداءته؟

– ما قرأت ولا أقرأ كتابًا يخالف رأيي.»١٠
وإذا اهتم بموضوعٍ ما أجرى فيه تحقيقًا يتناول جميع فروعه العمرانية والسيكولوجية والعلمية والوراثية والعائلية والوسطية، فيجاهر بما يراه حقًّا وقد لا يفهمه الآخرون، ولا يخشى لومًا بتسمية العيوب والأمراض بأسمائها. يجاهر غير منتبه للصواعق المنقضَّة عليه ممن لا يُحسنون إلا مضغ كلمات تلقَّنوها يومًا فتجمدت معانيها في أفكارهم وفاخروا باحتكار الحقيقة. إنه يبصر اللفائف البالية الفاسدة على قروح قديمة فيمد إليها يده الجريئة، وبينا العليل يُغلظ القول محتجًّا باسم الدين والأمة والشرف والعائلة ينزع هو تلك الأربطة هادئ الجأش، ويحلل الجراثيم الخبيثة الراكدة عليها فيحصيها واحدًا فواحدًا. إن نظرة المحب تلمع في عين هذا الآسي. ولا يروعه ضجيج الساخطين، بل يصمت عالمًا بأن التمدد أول أدوار الشفاء، وإذا تكلم قال بسذاجة:
نحن نعلم أن رجلًا يعيش في عالم الخيال يكتب في مكتبه على ورقة أن ليس على النساء إلا أن يقرن في بيوتهن خاليات البال تحت كفالة وحماية الرجال. نفهم ذلك على الورق؛ لأن الورق يحتمل كل شيء.١١
وكما أن الطبيب منه ودودٌ كذلك القاضي مفكر. هذا يصغي إلى أقوال الشهود ويجمع حيثيات حكمه في حين أن ذاك يغوص في نفس المتهم ويقلب صفحات حياته حتى يصل إلى كلمة الاستهلال، حتى يصل إلى أمه، نعم أمه؛ كيف كانت؟ وكيف ربت هذا المسكين؟ وعلى أي وجه تربَّت هي قبل أن تلتقي بالذي صار فيما بعد أبًا له؟ ويتسلسل بحثه إلى نساء أخريات، وإلى جميع النساء، فيرى حالتهن كما هي، ويعذر الذي يناقضه في الرأي لأنه لم يرَ ما رأى هو. فلا يجد ذاك صعوبة في أن يحكم على المرأة بالانزواء في المنزل. وإنما:
يجد الصعوبة رجل اعتاد أن يحلل النظريات ويختبرها بقياسها إلى الواقع، فإنه إذا أراد مثلًا أن يحصل لنفسه رأيًا فيما هي حقوق النساء التي نحن بصددها يجب عليه أولًا أن يسوق نظره إلى الوقائع التي تمر أمامه. أعني أن يطبق نظريته على الواقع ويتصورها في ذهنه منفذة ومعمولًا بها في قرية، ثم في مدينة، ثم في إقليم، وتتمثل أمامه النساء في جميع أعمارهن وأحوالهن وطبقاتهن فيراهن بنات ومتزوجات ومطلقات وأرامل. ويراهنَّ في البيت وفي المدرسة وفي الغيط وفي الدكان وفي الأماكن الصناعية. ويقف على سلوكهن مع أزواجهن وأولادهن والأجانب. ثم يعرف البلاد التي للنساء فيها شأن غير ما لنسائنا في بلادهن، وكيف أنهن يستعملن حقوقهن، والنتائج التي ترتبت على هذا الاستعمال. ويقف على حالة المرأة في الأزمان الخالية والتقلبات التي طرأت عليها. «فإذا توفر ذلك كله لم يتيسر له أن يحكم في المسألة حكمًا قاطعًا. لأنه يعلم أن رأيه قائم على مقدمات ظنية فلا تكون نتائجها إلا تقريبية؛ لذلك تراه دائمًا على طريق البحث. لا يركن إلى ما وصل إليه جهده إلا ليضعه قاعدة لعمل مؤقت. ولا يأنف من تعديل رأيه بحسب ما يقتضيه الحال ويظهره العمل.»١٢
لا يستطيع المرء أن يكون «قاضيًا» عادلًا أكثر مما يظهره قاسم أمين في هذه الفقرة. وإنك لتجد هذه النزاهة والأمانة والإنصاف في كل ما كتب؛ لذلك هو يخفي العواطف وينساها ما استطاع؛ لأنها — كما يقولون — تحول بين الفكر والعدل. ويظل متكلمًا بعقله، مناديًا بالهدوء والرزانة والسير على القواعد العلمية والانتفاع بالمشاهدات الاجتماعية، ووجوب ضبط الانفعالات على الدوام. وعلى رغم ذلك فإن نفَسه لا يفتر أبدًا حتى إذا وصل إلى فكرة لمست من قلبه مكانًا حساسًا أرسل كلمات تشبه في مؤاساتها لمسة التدليل والتحبب على جبهة رضيع عزيز:
أليس من الغريب ألَّا يوجد رجل بيننا يثق بامرأة أبدًا مهما اختبرها ومهما عاشت معه؟! أليس من العار أن نتصور أن أمهاتنا وبناتنا وزوجاتنا لا يعرفن صيانة أنفسهن؟! أيليق ألَّا نثق بهؤلاء العزيزات المحبوبات الطاهرات وأن نسيء الظن بهن إلى هذا الحد؟!١٣
وفي وسط كل هذه الأبحاث الجدِّيَّة، الخالي معظمها من التأثر والشعور، يشعر القارئ بأن قلب الرجل ليس بعيدًا، أن قاسمًا أحب المرأة حبًّا جمًّا. وقد خط لها رسمًا يشرِّفها في هذه الألفاظ الوجيزة: «كلما أردت أن أتخيل السعادة تمثلت أمامي في صورة امرأة حائزة لجمال المرأة وعقل الرجل.»١٤ امرأة يجد فيها:
لطف الشمائل ورقَّة الذوق، وبهاء الفطنة، ونفاذ العقل، وسعة العرفان، وحسن التدبير، والحذق في العمل مع المحافظة على النظام فيه، ونظافة الباطن والظاهر، وحنو القلب، وصدق اللسان، وطهارة الذمة، وعظم الأمانة، والإخلاص في الولاء، ونحو ذلك من الفضائل المعنوية التي ترجُح عند العقلاء على جميع المحاسن الجسدانية.١٥
هذا هو مثله النسائي الأعلى، وبهذا المثل القاطن جوارحه يسير في سبيل الحياة مراقبًا المرأة المصرية في خبرته القانونية، وفي العائلة والاجتماع والأمة جميعًا. فماذا يجد؟ يجد ما يدفعه إلى كتابة كل ما كتب في سبيل إصلاحها، يجد ما يجعله يقول في التمهيد لكتاب «تحرير المرأة»:

أكتب هذه السطور وذهني مفعم بالحوادث التي وردت عليَّ بالتجربة وأخذت بمجامع خواطري. ولا أريد أن أذكر شيئًا منها؛ لعلمي أنها ما تركت ذهنًا حتى طافت به ولا خاطرًا حتى وردت عليه. فإن مثار هذه الحوادث جميعها شيء واحد، هو المرض الملمُّ بجميع العائلات، لا فرق بين فقيرها وغنيها ولا بين وضيعها ورفيعها.

ويرى يومًا فتاة صغيرة يعجبه منها الذكاء والجمال، فيشير على والدها بتعليمها، ويجيب هذا بأنها تتعلم إدارة المنزل، وهذا يكفي. فيشفق قاسم على هذا الصلف والجهل وينطلق مفسرًا.
يعني هذا الأب العنيد بإدارة المنزل أن بنته تعرف شيئًا من صناعة الخياطة وتجهيز الطعام واستعمال المكوى وما أشبه ذلك من المعارف التي لا أنكر أنها مفيدة بل لازمة لكل امرأة. ولكني أقول ولا أخشى نكيرًا أنه مخطئ في توهمه أن المرأة التي لا يكون لها من البضاعة إلا هذه المعارف يوجد عندها من الكفاءة ما يؤهلها إلى إدارة منزلها؛ ففي رأيي أن المرأة لا يمكن أن تدبر منزلها إلا بعد تحصيل مقدار معلوم من المعارف العقلية والأدبية. «والحقيقة أن إدارة المنزل صارت فنًّا واسعًا يحتاج إلى معارف كثيرة مختلفة. فعلى الزوجة وضع ميزانية الإيراد والمصروف بقدر ما يمكن من التدبير حتى لا يوجد خلل في مالية العائلة. وعليها مراقبة الخدم بحيث لا يفلتون لحظة من مراقبتها، وبغير هذا يستحيل أن يؤدوا خدمتهم كما ينبغي. وعليها أن تجعل بيتها محبوبًا إلى زوجها فيجد فيه راحته ومسرته إذا أوى إليه، فتحلو له الإقامة فيه ويلذ له المطعم والمشرب والمنام، فلا يطلب المفر منه ليمضي أوقاته عند الجيران أو في المحلات العمومية. وعليها — وهو أول الواجبات وأهمها — تربية الأولاد جسمًا وعقلًا وأدبًا» … «ومن المعلوم أن الطفل لا يعيش من طفولته إلى سن التمييز إلا بين النساء» … «والأم الجاهلة ليس في استطاعتها أن تصبغ نفس ولدها بصبغة الصفات الجميلة؛ لأنها لا تعرفها» … «قد صار من المقرر عندنا أن الأمهات لا يفلحن في تربية الأولاد حتى صار من المثل في الحطة ورداءة السيرة أن يقال فلان تربية امرأة.»١٦
بل هو يذهب إلى أبعد من أن يحصر وظيفة الزوجة في إدارة المنزل وتربية الأطفال، هو يريد زوجة تقاسمه أفراحه وآلامه وكلامه وسكوته. يريد منها أختًا لروحه فيشكو ويقول:
إن الرجل أحيانًا (ولست أدري هل كل رجل كذلك) يفهم بكلمة ويود لو يفهم بالإشارة. يسكت في أوقات ويتكلم في أخرى ويضحك في غيرها. «له أفكار يحبها ومذهب يشغله وجمعية يخدمها ووطن يعزه. له لذائذ وآلام معنوية؛ فيبكي مع الفقير ويحزن مع المظلوم ويفرح بالخير للناس. وفي كل فكرة تتولد في ذهنه وإحساس يؤثر على أعصابه يود أن يجد بجانبه إنسانًا آخر فيشرح له ما يشعر به ويتسامر معه» … «فإذا كانت امرأته جاهلة كتم أفراحه وأحزانه عنها، ولا يلبث أن يرى نفسه في عالم وامرأته في عالم آخر. ومن ثم تبتدئ عيشة لا أظن أن الجحيم أشد نكالًا منها. عيشة يرى كلٌّ منهما فيها أن صاحبه هو العدو الذي يحول بينه وبين السعادة» … «والزوجة المصرية — مهما كانت — لا تعرف من زوجها سوى أنه طويل أو قصير، أبيض أو أسود. أما قيمة زوجها العقلية والأدبية وسيرته وطهارة ذمته ورقَّة إحساسه ومعارفه وأعماله ومقاصده في الوجود وكل ما تصاغ منه شخصية الرجل منا ويصير به إلى أن يكون محترمًا محبوبًا ممدوحًا في أمته، فهذا لا يصل إلى عقلها شيء منه. وإن وصل فلا يؤثر على منزلته في نفسها. وعلى هذا أول من يجهل الرجل زوجته. فكيف يظن أنها تحبه؟!» … «أبغض الرجال عندها من يقضي أوقاته في الاشتغال في مكتبه. كلما رأته جالسًا منحني الظهر مشغولًا بمطالعة كتاب غضبت منه ولعنت الكتب والعلوم التي تسلب منها هذه الساعات وتختلس الحقوق التي اكتسبتها على زوجها. ومن هذا يتولد على الدوام نزاع لا ينتهي إلا بنزاع جديد ولا يدري الزوج المسكين ماذا يصنع إذا أراد الجمع بين هذين العدوين: الزوجة والعلم» … «ومن البديهي أن الرجل الذي يكون هذا حاله ينتهي بفقد كل استعداد للعمل؛ لأن الرجل يطلب راحته وهي في يد امرأته ولكنها تبخل بها عليه.»١٧

هذه حالة المرأة فكيف يصلحها ويجعلها نافعة لنفسها ولغيرها؟ ما الذي جعل الرجل أفضل اليوم منه البارحة؟ وعلى أي شيء تنتصب أركان العمران؟ أمر أصبح شغله الشاغل فحمل قلمه ونظر إليه كمن ينظر إلى الأمل الوحيد في الدنيا وجرى به على القرطاس المطيع، ذلك القلم الذي قال فيه خليل مطران:

يدكُّ القبيح ويبني المليح
رجوعًا إلى سنَّة الراسم
يشعشع نورًا إذا ما انبرى
يسيل بماء الدُّجى الفاحم

باحثة البادية تُصلح كامرأة، وقيل إن المرأة أكثر تشبثًا بالماضي. وقاسم أمين يُصلح كرجل؛ أي يرسل نظره أبدًا إلى الأمام. هي تسير بتحفظ بين تشعب الأفكار الجديدة والآراء المستحدثة، وكلما خطت خطوة التفتت إلى الوراء لتتثبَّت من أنها تابعة السبيل الذي يربط الأمس بالغد. وكلما جاءت بتبديل في النصوص الاصطلاحية حاولت سبكه في قالب الاعتدال مع مراعاة العادات المألوفة ما أمكن. هي كثيرة التحذُّر في إصلاحها، عملية متواضعة في مطالبها، لا تبتعد فِترًا واحدًا عن حدود بيئتها وإن حامت فوقها بما أوتيت من شجاعة وذكاء. إلا أنك حينما تسمعها صارخةً كثيرًا ما تظن أنها تفعل لتؤكد لك أنها غير خائفة، ولك أن تقدِّر كذلك أنها تصرخ لتسمع صوتًا إنسيًّا — وإن كان صوتها — يبعد عنها الرعب والوجل في وحدتها الفكرية. أما قاسم فلا يصرخ ولا يخاف ولا يرتعش. في فكره مقدار الكمال الكافي لاختطاط النظريات، وفي أصالة رأيه وحزمه من الجدارة ما يحوِّل النظريات إلى ما يطابق الواقع، بل هي الواقع بعينه. وله جناحان يدفعان به إلى نقطة إدراكية يشرف منها على الماضي والحاضر والمستقبل وعلى جميع البيئات والأمم والتواريخ. فيضع هناك كرسي القضاء — كرسيه — ويجلس متأملًا مقابلًا بين شعبٍ وشعبٍ وعصرٍ وعصرٍ، باحثًا في كل آنٍ وزمانٍ عن تلك السعادة الحلال المتمثلة له في صورة امرأة «حائزة لجمال المرأة وعقل الرجل.» وبين زرافات النساء المارة أمامه تستوقف خاطره امرأة بلاده: أمه وأخته وزوجته وابنته، أولئك اللاتي أوجدتهن الطبيعة صديقات لحزنه وأنسه. وكأني به يناديهن فيلبين النداء بطيئات متسكعات تعبات. ويدنين فيرى عليهن غشاءً يمنع عنهن نور الشمس ونور الحياة: الحجاب!

لهذه الكلمة دويٌّ مرعب في نفسه كما لدوي أبواب السجون في مسمع من حكم عليه بالسجن المؤبد ظلمًا. فيمسك بهذا الحجاب ويقلب معانيه من جميع الوجوه، ويدرس تاريخ نشأته وتأثيره في الشعوب التي اقتبسته ثم نبذته، ويحلل أسبابه ويتبصر في نتائجه، ويراجع أقوال الكتاب العزيز والحديث الشريف وعادات القوم، فيقرر بعد البحث والتعليل أنه ليس إسلامي الأصل ما دام أنه استعمل عند أمم سبقت الإسلام، وأنه ليس واجبًا على المرأة المسلمة ما دام أن ليس في الشرع نص صريح يأمر به. هو في نظره أثر من آثار الهمجية الأولى، بل هو «أقصى وأفظع أشكال الاستعباد؛ ذلك لأن الرجال في عصر التوحش كانوا يستحوذون على النساء إما بالشراء وإما بالاختطاف.» ويتابع قائلًا:
فلما بطل حق ملكية الرجال على النساء اقتضت سنة التدريج أن تعيش النساء في حالة وسط بين الرق والحرية، حالة اعتبرت فيها المرأة أنها إنسان لكنه ناقص غير تام. أُكبرَ على الرجل أن يعتبر المرأة التي كانت ملكًا له بالأمس مساوية له اليوم، فحسُن لديه أن يضعها في مرتبة أقل منه في الخليقة. وزعم أن الله لما خلق الرجل وهبه العقل والفضيلة وحرمها من هذه الهبات. وقال: إنه «يلزم أن تعيش غير مستقلة تحت سيطرة الرجل، وأن تنقطع عن الرجال وتحتجب بأن تقصر في بيتها وتستر وجهها إذا خرجت؛ حتى لا تفتنهم بجمالها أو تخدعهم بحيلها، وأنها ليست أهلًا للرقي العقلي والأدبي فيلزم أن تعيش جاهلة» … «وذلك هو السر في ضرب الحجاب وعلة بقائه إلى الآن» … «ولما كانت تهمة المرأة بنقصان العقل هي الحجة التي اتخذها الرجال لاستعبادها وجب علينا أن نبحث في طبيعة المرأة لنعلم إن كانت كما يقال أحط من طبيعة الرجل أم لا» … «ولا ريب أن المرأة اليوم أحط من الرجل في الجملة، ولكن علينا أن ننظر هل هذه الحالة طبيعية لها أو ناشئة عن طرق تربيتها» … «لأن الرجال اشتغلوا أجيالًا عديدة بممارسة العلم فاستنارت عقولهم وتقوت عزيمتهم بالعمل، بخلاف النساء فإنهن حُرمن من كل تربية، فما يشاهد الآن بين الصنفين من الفروق هو صناعي لا طبيعي. لا نريد بهذا التساوي أن كل قوة في المرأة تساوي كل قوة في الرجل وكل ملكة فيها تساوي كل ملكة فيه، ولكنا نريد أن مجموع قواها وملكاتها تكافأ مجموع قواه وملكاته، وإن كان يوجد خلاف كبير بينهما؛ لأن مجرد الخلاف لا يوجب نقص أحد المتخالفين عن الآخر» … «وبعبارة أخرى يوجد مذهبان أحدهما ينصح للناس بالتمسك بالحجاب والثاني يشير عليهم بإبطاله» … «فأي المذهبين يتفق مع مصلحتنا وتتوفر به منافعنا؟ أما الحجاب فضرره أنه يحرم المرأة من حريتها الفطرية ويمنعها من استكمال تربيتها. ويعوقها عن كسب معاشها عند الضرورة. ويحرم الزوجين من لذة الحياة العقلية والأدبية. ولا يأتي معه وجود أمهات قادرات على تربية أولادهن. وبه تكون الأمة كإنسان أصيب بالشلل في أحد شقَّيه» … «وأما الحرية فمزاياها هي إزالة جميع المضار التي تنشأ عن الحجاب، وسبق ذكرها. وضررها الوحيد أنها في مبدئها تؤدي إلى سوء الاستعمال، ولكن مع مرور الزمن تستعد المرأة إلى أن تعرف مسئوليتها وتتحمل تبعة أعمالها وتتعود على الاعتماد على نفسها والمدافعة عن شرفها حتى تتربى فيها فضيلة العفة الحقيقية التي هي ترفع النفس المختارة الحرة عن القبيح، لا خوفًا من عقاب ولا طمعًا في مكافأة ولا لوجود حائل ليس في الإمكان إزالته، بل لأنه قبيح من نفسه.» وبالجملة فإن «المرأة لا تكون ولا يمكن أن تكون وجودًا تامًّا إلا إذا ملكت نفسها وتمتعت بحريتها الممنوحة لها بمقتضى الشرع والفطرة معًا ونمت ملكاتها إلى أقصى درجة يمكنها أن تبلغها. والحجاب على ما ألِفناه مانع عظيم يحول بين المرأة وارتقائها، وبذلك يحول بين الأمة وتقدمها.»١٨

كما يخطئ من لم يعرف من قاسم أمين سوى أنه ينادي برفع الحجاب، وهو الأمر الذي اشتهر به! وأنه يريد للمرأة الحرية المطلقة بلا قيد ولا شرط، وهو ما يقوله الذين لم يقرءوا كتبه! إنه من أكثر من أعرف محافظةً على أنثوية المرأة ومنزلتها في العائلة والأمة، وإن أنصفها في غير هذا الدور.

١  انظر باب التقاريظ في «النسائيات»
٢  المرأة الجديدة.
٣  في تقريظ كتاب «تحرير المرأة».
٤  كلمات «قاسم أمين».
٥  تحرير المرأة.
٦  كلمات «قاسم أمين».
٧  كلمات «قاسم أمين».
٨  كلمات «قاسم أمين».
٩  كلمات قاسم أمين
١٠  كلمات قاسم أمين
١١  المرأة الجديدة.
١٢  المرأة الجديدة.
١٣  المرأة الجديدة.
١٤  المرأة الجديدة.
١٥  المرأة الجديدة.
١٦  تحرير المرأة.
١٧  المرأة الجديدة.
١٨  تحرير المرأة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤